إسلام ويب

تفسير سورة التغابن (1)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعرف الله عز وجل عباده في هذه الآيات بجلاله وكماله، ويعلمهم سبحانه كيفية عبادته وتوحيده، والحياء منه وتمجيده سبحانه فهو المطلع على ما تبديه الألسن وما تكتمه الصدور، ثم يذكرهم جل وعلا بما حل بالسابقين من الأمم والأقوام الذين كذبوا الرسل وكفروا بالرسالات، فأذاقهم الله الوبال في الدنيا، وما ينتظرهم أشد وأنكى في الآخرة والمآل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    ها نحن الليلة مع سورة التغابن المكية المدنية، فأولها مكي، أي: نزل بمكة، وآخرها مدني، أي: نزل بالمدينة، فهيا بنا نصغي إلى هذه الآيات الست مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    بسم الله الرحمن الرحيم: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:1-6].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [التغابن:1]، هذا خبر، يخبر تعالى عباده بأنه يسبح له ما في السموات من الملائكة، والأرض من الإنسان والجان والحيوان والله العظيم. فقال: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ [التغابن:1] من الملائكة، وَمَا فِي الأَرْضِ [التغابن:1] من الإنس والجن والحيوانات. والتسبيح يكون بلسان القال كالجني والآدمي، والملائكة يسبحون الله بألسنتهم، وأما الحيوانات وهذه الموجودات فتسبح بلسان حالها. وبيان ذلك: لما تقف أمام جمل أو بعير ففكر من أوجد هذا الجمل، وأعطاه هذا الجسم الكريم، وستعلم أنه والله لن يكون إلا أكرم الكرماء، وأعلم العلماء، وأرحم الرحماء، وهكذا في كل حيوان أو حتى شجرة، فضلاً عن الكوكب، فهو يشهد أنه لا إله إلا الله، وأن الله خالقها ومدبر أمرها، وهو الذي يصرفها كيف يشاء، ويصرف كل المخلوقات.

    وقال هنا: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [التغابن:1]، ولم يقل: ومن في الأرض؛ لأن في الأرض حيوانات ما تنطق، ونباتات وأشجار.

    معشر المستمعين! ونحن نسبح الله عز وجل عندما نفتتح الصلاة بتكبيرة الإحرام، فنقول: الله أكبر، ثم نقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيره. هذه أول ما نفتتح العبادة بها. وإذا صلينا الفريضة قلنا: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين. فهذه تسع وتسعون تسبيحة، وختام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، خمس مرات في اليوم مع كل فريضة.

    ثم نقول في الورد الصباحي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، ومثل ذلك ورد المساء: سبحان الله وبحمده مائة مرة. ووراء ذلك هناك من التسابيح والأذكار الشيء العجيب. هؤلاء المؤمنون.

    والكافرون لا يسبحون الله بلسان مقالهم، ولكن يسبحونه بلسان حالهم؛ إذ هم موجودون مخلوقون مربوبون، والذي خلقهم ووهبهم سمعهم وأبصارهم وأعطاهم عقولهم هو الله. فهم يسبحون الله بلسان الحال، وصدق الله العظيم في قوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [التغابن:1].

    ثم قال تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [التغابن:1]. وهذا خبر ثان. فالملك لله، وليس لفلان، ففلان كان غير موجود ثم يموت ويصبح غير موجود، فالملك لله، فهو خالقه وموجده والمتصرف فيه، والمدبر له، فالملك لله، والحمد له، فهو الخالق الرازق المدبر، المحيي المميت، الضار النافع، وهو الذي نحمده بألسنتنا وأفعالنا، وأما غيره فلا يحمد، بل الذي يحمد بحق هو الله صاحب هذا الإنعام، وصاحب هذا الخير، وصاحب هذه البركات. فهو الذي خلق ورزق وأعطى، وأضر ونفع. هذا هو الله الذي له الملك وله الحمد، ويحمده من في السماوات ومن في الأرض.

    ثم قال تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]. وهذا خبر ثالث. فهو يخبر تعالى أنه على كل شيء يريده قدير، ووالله لا يعجزه شيء أبداً. وإن قلت: كيف؟ فارفع رأسك إلى الشمس فهي أكبر من الأرض مليون ونصف مليون مرة، وستعرف أن الذي أوجدها هو الله، فهو لا يعجزه شيء، والسماوات السبع الطباق سماء فوق سماء الأرضون كذلك هو الذي أوجدها. فهو إذاً على كل شيء قدير. ومن هنا ارغبوا في دعائه وادعوه واسألوه؛ فإنه لا يعجزه شيء، بل وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن...)

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2]. هذا خبر رابع. وهو تعالى يقول فيه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ [التغابن:2]. والذي أخبر به هو الله، فهو يخبر بأن الله هو الذي خلقنا، ولا أحد ينكر هذا، ولا أحد يرد هذا الخبر، بل ليس هناك إلا الإذعان والانحناء والانكسار. فوالله لا خالق إلا هو، فهو الذي خلقكم وأوجدكم بعدما لم تكونوا شيئاً أبداً. فقد كنا عدماً لا وجود لنا، وهؤلاء الجالسون قبل مائة سنة ما كان واحد منهم موجوداً، ثم خلقنا، فاحمدوه واشكروه، واعترفوا له بإرادته ونعمه وخلقه لكم.

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2]. وهذا هو الواقع. واليابان والأمريكان والصين والعالم وأوروبا فالكفار مليارات، والمؤمنون كذلك أعداد كبيرة، وهو الذي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2].

    ولما يريد تعالى أن يخلق الولد في رحم أمه يكتب الملك كافر أو مؤمن .. شقي أو سعيد، وهذا منقول من اللوح المحفوظ من كتاب المقادير. وكتاب المقادير هو الكتاب الذي كتب الله فيه كل شيء قبل أن يوجد السموات والأرضين، فضلاً عن الملائكة والإنس والجن. فكتاب المقادير لا يوجد مخلوق إلا وهو مكتوب فيه، فإن كان سيكفر فهو مكتوب كافر، وإن كان سيؤمن فهو مكتوب مؤمن، فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2].

    وهذا الكافر كفره له سببه وهو كذا وكذا، وهذا المؤمن له سبب، وهو كذا وكذا، فهذا شقي وهذا سعيد، فهذا شقاوته سببها كذا وكذا، وهذا سعادته سببها كذا وكذا والله العظيم، فقولوا: آمنا بالله. هذا هو الله الذي يطلب من البشرية كلها أن تقول: لا إله إلا الله، فلوت أعناقها وقالت: لا. فالإله ليس حجر يعبدونه، ولا إنساناً في بطنه الخرء يعبدونه، ولا حيواناً، بل الإله الحق هو الذي خلق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، وهو قدير على كل شيء، هذا هو الإله الحق،. فارفع صوتك وقل: أشهد أن لا إله إلا الله، ووالله ما كذبت في هذا، ووالله لا يوجد إله حق إلا الله، فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للحياة إلا هو. فهو الذي كتب في كتاب المقادير أبو جهل كافر، وعلي بن أبي طالب مؤمن، فهذا مكتوب في كتاب القضاء والقدر، ولما تأتي الأيام وتمر الأعوام والسنون ويأتي الإنسان يأتي كما هو كما في الكتاب المكتوب، وهذا معنى قوله تعالى: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2]. لأنه خلق الجنة والنار قبل أن يخلقنا، وللجنة سكان وللنار سكان، وسكان النار هم الكافرون، وسكان الجنة هم المؤمنون، وأعدادهم معدودة. وفي الحديث: ( أول ما يقوله الله لآدم: يا آدم! خذ من ذريتك بعث النار ) فيأخذ تسعة وتسعين واحداً إلى جهنم، ويبقى واحد فقط إلى الجنة.

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2]. ومعنى هذا: لا تسرق .. لا تفجر .. لا تكذب .. لا تخن .. لا تلوط .. لا تسب .. لا تشتم، فإنك بين يدي الله، فما تعمل عمل إلا والله ينظر إليه، وعليم به قبل أن تعلمه أيضاً، ويعلم أنك ستعمل كذا. إذاً: فراقبوه واحذروه، وخافوه واستحوا منه، ولا تخرجوا عن طاعته، ولا تتبدلوا ولا تتغيروا عما أنتم عليه من الإيمان والإسلام؛ فإن الله معكم ينظر إليكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم...)

    قال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ [التغابن:3]. فالذي خلق السموات والأرض هو الله، وليس هناك من يقول: بنو فلان، ولا يوجد من يقول هذا، وليس هو إلا الله فقط. والماديون الطبيعيون يقولون: الطبيعة. وهذا هروب فقط، فهم والله على علم ويعلمون أن الله هو خالقها، ولكن الهروب من عبادة الله وطاعته والالتزام بعبادته يحملهم على أن يقولوا: الطبيعة؛ حتى يصرفوا الناس عن عبادة الله، وإلا فالمشركون قبل الإسلام أيام نزول هذه الآيات كانوا في كل مكان يؤمنون بالله، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]. وهذا توارثوه من آدم، فالبشرية تعرف أنها مخلوقة، وخالقها هو الله، ولكن زين لها الشيطان عبادة الهوى والشهوات فعبدت غير الله.

    وقوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ [التغابن:3]. فليس هناك لهو ولا باطل ولا عبث، ولا غير ذلك.

    وقد خلق السموات والأرض لعباده؛ ليعبدوه فيذكروه ويشكروه. هذا هو السر. فقد خلق الله هذه الدنيا من أجل أن يذكر فيها ويشكر، وخلق آدم وأهبطه إلى الأرض، وجعل ذريته تتناسل؛ من أجل أن يعبد فقط.

    ثم يقول تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [التغابن:3]. فهو الذي صورنا في أرحام أمهاتنا تصويراً عجيباً. فإذا أردت أن تعرفه فقف الآن مكاني وانظر، فلن تجد اثنين لا يفرق بينهما، مع أن العينين والأنف والشفتين والرأس واللحية والشارب كله واحد، ومع ذلك فلن تجد اثنين لا يفرق بينهما، بل لو تجتمع البشرية كلها فلن تجد اثنين لا يفرق بينهما. ولا يقوى على هذا إلا الله، ولا يمكن لمصور أن يصور هذا غيره. ولهذا كان المؤمنون إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، ويخرون على الأرض خوفاً وحياءً من الله.

    فهو الذي قال: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [التغابن:3]. وانظر إلى صورة الكلب، ولا أحد يرضى أن يكون لونه كلون الكلب، أو كلون القط، أو كلون الخنزير، أو كلون البعير، أو كلون النعجة أو التيس. فلا أحد يرغب في هذا، ولكنه هو أحسن تصويرنا، كما قال: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن:3]. وقبل كل ذلك فالمرجع إليه، فنحن عائدون إلى الله، وبعدما نقضي آلاف السنين في الدنيا نعود إلى الله في الآخرة في الحياة الثانية.

    ولا ننسى أنه صور أول من صور آدم، ولكن خلقه من طين، ولم يخلقه في الرحم كما خلقنا وصورنا في الأرحام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون...)

    قال تعالى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [التغابن:4]. فالله يعلم ما في السماوات وما في الأرض من الذرة إلى المجرة، فحركتي هذه والله إنه عليم بها، واجتماعكم هذا والله إن الله به لعليم، وعودتكم إلى منازلكم والله إنه بها عليم، فهو يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [التغابن:4]، أي: وما في الأرض.

    وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [التغابن:4]، أي: يعلم ما تسرونه في ما بينكم من الأخبار والأحاديث والأمور، وما تعلنونها بين الناس. وهو عليم بذات الصدور، وما في الصدر والسر والعلن لا نعرفه نحن، بل لا يعلمه إلا الله، وإن أسر أناس شيئاً أو أخفوه أو أعلنوه لم يعرفه الغير، بل لا يعلمه إلا الله، فهو يعلم اجتماعاتكم وأحاديثكم، وما تقومون به وما تفعلون، وفوق ذلك فهو عليم بما في صدوركم من الأسرار والنيات والعقائد.

    وسبحان الله! فهذه الآيات كلها التي تدارسناها تقرر لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذه حجج وبراهين قاطعة استعرضها الله بيننا. إذاً: فلا ننفي وجود الله، ولا نثبت إلهاً مع الله، ولا نعبد غير الله، ولا نطيع إلا الله. وقد نزل هذا البيان وهذا القرآن على محمد بن عبد الله، فهو والله لرسول الله، فمحمد رسول الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم...)

    قال تعالى الآن بعد البيانات العجيبة يخاطب المشركين من مكة: ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم يا أهل مكة؟ وما عرفتم أن الله أرسل هوداً لعاد؟ وأرسل صالحاً لثمود؟ وأرسل موسى لفرعون؟ وما إلى ذلك، فعندكم أخبار الأمم السابقة التي أرسل فيها الرسل، فلم تنكرون رسالتي. فقد جاءتكم الأخبار بأن الله أرسل رسلاً نوحاً وإبراهيم، ويوسف وموسى وعيسى، فهم يعرفون هذا بالأخبار، وينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التغابن:5]؟ أي: كفروا من قبل بتوحيد الله ورسالة رسوله من قوم نوح إلى ما شاء الله من الأنبياء والرسل.

    إذاً: فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التغابن:5]. فيا أهل مكة! قد جاءتكم أخبار من قبلكم، وما هو مصيرهم، فقد أهلكهم الله ودمرهم بسبب تكذيبهم لرسلهم، وعدم توحيدهم لربهم. فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التغابن:5]، أي: ذاقوا الوبال والوباء، والبلاء والعذاب في الدنيا، ولهم عذاب الآخرة الدائم الأبدي. فلهم عذاب كفرهم وشركهم، واستهزائهم وسخريتهم برسل الله، كما قال تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التغابن:5] آخر في الآخرة قبل الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا...)

    قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [التغابن:6]، أي: كانت تلك الأمم عاد وثمود والمؤتفكات وغيرها تأتيهم رسلهم بالحجج والبراهين، فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن:6]؟ وهذا استهزاء وسخرية، أي: كيف يهدوننا بشر؟ ولم ما يبعث الله ملكاً من الملائكة؟ فهذا كفر الكافرين. فهم قد قالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا [التغابن:6] وأعرضوا، والعياذ بالله. فأنزل الله بهم عذابه. فأرسل على قوم عاد ريحاً فقط سبع ليال وثمانية أيام، فما بقي منهم أحد، وأمهل ثمود ثلاثة أيام فقط الأربعاء والخميس والجمعة، وما بقي أحد، وهكذا.

    وهكذا يقول تعالى: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا [التغابن:6]، أي: بهذه الكلمة. وَتَوَلَّوْا [التغابن:6] وأعرضوا عن قبول الدعوة. وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن:6] عنهم. وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6]. فدمرهم، فهو ليس في حاجة إليهم أبداً، وانتهى وجودهم. فيا أيها العرب! أما تؤمنون بهذا؟

    وهكذا يقرر تعالى للمشركين في مكة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه الإله الحق.

    وخلاصة هذا كله: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فمن قال: لا إله إلا الله فليعبد الله، ومن قال محمد رسول الله فليحبه وليمش وراءه، لا أن يقول: لا إله إلا الله وهو يعبد ألف معبود، فلا قيمة لكلامه لا إله إلا الله، ولا يقول: محمد رسول الله وهو ما يمشي وراءه ولا يقلده ولا يتبعه في شيء، حتى في الأكل باليمين، فهذا ما آمن برسول الله.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.

    [ من هداية الآيات:

    أولاً: تعليم الله تعالى عباده وتعريفهم بجلاله وكماله؛ ليؤمنوا به ويعبدوه؛ ليكملوا ويسعدوا في الحياتين بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله ] فهذه الآيات كلها تقرر معنى لا إله إلا الله، فعلى البشرية أن تؤمن بربها الحق، وتعبده بما شرع لها أن تعبد، فإن أطاعت واستجابت سعدت في الدنيا وفي الآخرة، وإن تكبرت واستكبرت وأعرضت هلكت في الدنيا وفي الآخرة في عذاب أبدي، وهو جهنم وبئس المصير.

    [ ثانياً: تقرير عقيدة القضاء والقدر، إذ المؤمن مؤمن، والكافر كافر، مكتوب ذلك في كتاب المقادير، ثم يظهره تعالى في عالم الشهادة قائماً على سننه في خلقه ] فقد قال تعالى: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2]. فقد كتبنا في كتاب المقادير: فلان مؤمن وفلان كافر، وكفره بسبب كذا، ويكتب له، وإيمانه بسبب كذا، ويكتب معه. هذا كتاب القضاء والقدر، فالآية تقرر القضاء والقدر.

    [ ثالثاً: وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه ] والحذر منه والخوف منه [ لأنه عليم بذات الصدور ] وهذا يلزمنا طاعته، واتباع ما أمرنا به، وترك ما نهانا عنه، إذ كنا المؤمنين.

    [ رابعاً: توبيخ من يستحق التوبيخ، وتأنيب من يستحق التأنيب ] فقد قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ [التغابن:5]. فهذا توبيخ للمشركين وتأنيب لهم.

    [ خامساً: التكذيب للرسل والكفر بتوحيد الله ] وطاعته [ موجب للعقوبة ] والشفاء [ في الدنيا والعذاب في الآخرة.

    سادساً: تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثباتها؛ لأن شأنه شأن الرسل من قبله ] فقد نزل هذا الكلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله، ولا يدعي أحد أنه ليس كلام الله. وقد تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة منه وما استطاعوا. فهذا كلام الله، والذي نزل عليه لن يكون إلا رسول الله، فلهذا محمد والله لرسول الله، فيجب الإيمان به وحبه، واتباعه والمشي وراءه، وإلا فلا نجاة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755906460