الحمد لله لا يحصى له عدد ولا يحيط به الأقلام والمدد |
..................... وأحمد الله منه العون والرشد |
حمداً لربي كثيراً دائماً أبداً في السر والجهر في الدارين مسترد |
ملء السماوات والأرضين أجمعها وملء ما شاء بعد الواحد الصمد |
ثم الصلاة على خير الأنام رسول الله أحمد مع صحبٍ به سعدوا |
وأهل بيت النبي والآل قاطبةً والتابعين الألى للدين هم عضدُ |
والرسل أجمعهم والتابعين لهم من دون أن يعدلوا عما إليه هدوا |
أزكى صلاةٍ من التسليم دائمةً ما أن لها أبداً حدٌ ولا أمد |
والله أسأل منه رحمةً وهدى فضلاً وما لي إلا الله مستند |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المؤمنون! من المشاهد المعقول الملموس المحسوس؛ بل والمنقول، أن النعيم لا يدرك بالنعيم، والنار تحرق وتنضج، وحيث يوجد النور يوجد الدخان، ولا ينال الخبز حتى يسيل العرق، ويعظم الجهد والنصب والأرق، والسم أحياناً يعمل عمل الترياق:
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر |
ودون الشهد إبر النحل، ومن رام اللآلئ زج بنفسه البحر، واللآلئ تحطم لترفع في التاج والنحر، وما العز إلا تحت ثوب الكد.
نعيم الأشواق بعد ذوق مُرَّ الأخطار في القفار، بقدر العنا تنال المنى، وربما تصح الأبدان بالأدواء، ولا يدرك الشرف إلا بالكلف:
ولا يفرس الليث الطلى وهو رابض |
ولم يجعل التبر حلي الفتاة حتى أُهين وحتى كسر |
لن يدرك البطال منازل الأبطال، وعند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال.
والسيل حرب للمكان العالي |
ولا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه.
والمجد لا يشرى بقولٍ كـاذبِ إن كنت تبغي المجد يوماً فانصبِ |
ولذة الراحة لا تنال بالراحة، والجنة حفت بالمكاره، ولا يدرك السادة من لزم الوسادة، والموت في سبيل الله سعادة وشهادة.
جهاد المؤمنين لهم حياةٌ إلا إن الحياة هي الجهاد |
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال |
قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] ويقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ويورد ابن القيم -رحمه الله- حول هذه المعاني كلاماً قيماً مضمونه: "إن الخيرات واللذات والكمالات لا تنال إلا بحظٍ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسرٍ من التعب، وقد أدرك عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة، فاتته الراحة وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق والصعاب، تكون اللذة والفرح".
ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه إلا وراء الهول من عبابه |
من يعشق العلياء يلق عندها ما لقي المحب من أحبابه |
فلا فرح لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة؛ قاده ذلك لسعادة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم إنما هو صبر ساعة.
وكلما كانت النفوس أشرف، والهمة أعلى، كان تعب ونصب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، والله المستعان! وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله.
كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسرٍ من التعب |
وقفوا على هام الزمان رجالا يتوثبون تطلعاً ونضالا |
وحي السماء يجيش في أعماقهم ونداؤه من فوقه يتعالى |
باعوا النفوس لربهم واستمسكوا بكتابه واستقبلوا الأهوالا |
اقتحمتهم الأعين أول ما خرجوا من الصحراء فاتحين، فلما اشتبكوا مع فارس والروم، جثا التاريخ يسجل ويروي ويقول:
قومٌ كرام السجايا أينما ذكروا يبقى المكان على آثارهم عطرا |
أخلاقهم عما يشين نقيةٌ ونفوسهم عما يعيب مكفكفة |
ما استعبدتهم شهوةٌ تدعو إلى الصفراء والبيضاء لا والزخرفة |
ليسوا بأسرى الأرغفة |
ليسوا بأسرى الأرصدة |
ليسوا بأسرى الأشربة |
.. الأطعمة |
.. الألبسة |
قوم إذا جدَّ الوغى كانوا ليوث الملحمة |
ملأٌ لقد ملأ الإله صدورهم نوراً فكانت بالضياء مزخرفة |
جديرٌ بنا -معشر المسلمين- أن نقف على استعلائهم على شهواتهم ومكاره أنفسهم في سبيل مرضاة ربهم، علَّنا نقتبس قبساتٍ من ضوئهم، وومضات من شعاعهم، لتنهض همة مقعد، وتُشحذ عزيمة زمن؛ في عصر أخلد فيه إلى الأرض، وغُلبت المادة، وعبد الدرهم والدينار من دون الله الواحد القهار، فحيهلاً بهم.. فقد صوت حاديهم: أن الله لا يزال يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، والنعيم لا يدرك بالنعيم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم أُسداً تخلف بعدها أشبالا |
بأن كريمات المعالي مشوبةٌ بمستودعات في بطون الأساود |
قال سعد : [[فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدة، فاستضلعنا بهما، وقوينا عليهما]] اعتادت أجسادهم وانسجمت مع حياة الفقر والشدة وخشونة العيش، فأصبح القلب والجسد في ألفة لهذه الحياة، أيقنوا بالنقل أن الابتلاء مع الصبر والاحتساب كفارة للخطايا فـ(ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكانوا بحق:
صبراً على خوض المكاره أنفسٌ لا تستكين وأعظم لا تضطرب |
قال سعد : [[إلا مصعب بن عمير ، فقد كان أترف غلامٍ بـمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا، لم يقوَ على ذلك ]] ظل عدم الإلفة والانسجام واضحاً في حياة مصعب مكة لؤلؤة ندواتها ومجالسها، مالُ الأم بين يديه يتصرف به كيف شاء، حتى إذا ما أسلم لله واستسلم منع هذا كله. يقول سعد
والله معاشر المؤمنين ما كان من يريدهم على غير دينهم إلا كالقائل لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح، فهيهات لا براح، لاقى ما لاقى من أمه وقد كان فتاها المدلل، أفلت منها، وهاجر إلى الحبشة.
ارتدى المرقع البالي خشناً، وقد كانت ثيابه كزهور الحديقة نظرة وألقاً، خرج من النعمة الوارفة إلى شظف العيش والفاقة .. يأكل يوماً ويجوع أياماً، لكن روحه المتأنقة في سمو العقيدة، المتألقة بنور الله جعلت منه إنساناً يملأ العين إجلالاً.
فقال: ما كنت لا أبدأ بأحدٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.
إيهٍ مصعب !!
إذا لم تجد في الشباب الإباء ففضل عليهم ضعاف النساء |
والله ما فكر مصعب يوماً أن يرجع عن إيمانه بعد إذ أنقذه الله من الكفر، علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن غمسةً في الجنة تنسي كل بؤسٍ وشدةٍ وشقاء، وموضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، فهان عليه ما يلقى، كيف وهو يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياً يوحى: {إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وأن المرء يبتلى على قدر دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة}.
وكان صلى الله عليه وسلم مع ذلك لا يخشى عليهم الشدة والفقر، فيقول كما صح عنه في المتفق عليه: {والله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} ينبه صلوات الله وسلامه عليه إلى أن الاستقامة على الدين غالباً لا تكون مع حياة الترف والسرف، لأن هذا النوع من الحياة يورث القلوب قسوةً وجفاء، وقلَّ من يشكر عند الرخاء..!
ضجعة.. يغط في النوم ما يغط، حتى إذا ما أفاق على صيحة لم يزل يرددها ترديد الببغاء..
لو اطلع الغراب على رؤاهم وما فيها من السوءات شابا |
استنوق وخضع وتأنث!
وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب |
همه ما يأكله، وقيمته ما يخرجه .. يذكر اليوم وينسى الغد، أشباحٌ بلا أرواح، جسومٌ بلا رءوس، والسبب الترف بغير هدف.
نوم الغداة وشرب بالعشيات موكلان بتهديم المروءات |
يستغيث المستضعفون والمحرومون في الأرض، فلا يُهب لنصرتهم، ومن أعظم الموانع الترف.
حقوق الله تنتهك، وحدوده تتجاوز، وأوامره تضيع، ويطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم قصصاً وروايات ونظماً ونثراً، ثم لا يهب لإنكار المنكر، ومن أعظم الأسباب الترف.
يركن إلى الظلمة، والداعي هو الترف..
يحارب الله -جلَّ وعلا- بالربا، والداعي هو الترف..
تثقل الكواهل بالديون، والداعي هو الترف..
يؤكل بالدين، والداعي هو الترف..
يجلس الواحد ريان شبعان متكئاً على أريكته، حتى إذا ما طلب منه نصرة دينه، أو كلف بمهمة، أو عوتب في استغراقه في لهو؛ اندفع كالسهم مردداً: (يا
سقطت فئةٌ من شباب الأمة في أوحال المسكرات والمخدرات.. وعلى رأس الأسباب الترف.
امتلأت البيوت بالخدم والسائقين .. والداعي هو الترف.
ترفٌ شائع، وحقٌ ضائع، والسبب الترف، قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16].
أما إن الاستقامة التامة لا تكون بالترف، وإنما بالقصد القصد: ( والله ما الفقر أخشى عليكم ) ذاك قول المصطفى نبيكم صلى الله عليه وسلم.
يقول سعد رضي الله عنه: [[ولقد رأيتني مرةً قمت أبول من الليل، فسمعت تحت بولي شيئاً يجافيه، فلمست بيدي، فإذا قطعة من جلد بعير، فأخذتها وغسلتها حتى أنعمتها، ثم أحرقتها بالنار ورضضتها، فشققت منها ثلاث شقائق، فاقتويت بها ثلاثاً]] ثم لم يكن إلى الرضا والتسليم والصبر الجميل!
مصابرٌ حيث تجيش الأنفس عرضٌ نقيٌ وأديم أشوس |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
محمد النبي أخي وصهري و حمزة سيد الشهداء عمي |
و جعفر ذاك من يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي |
بنت محمدٍ سكني وزوجي منوطٌ لحمها بدمي ولحمي |
وسبطا أحمدٍ ولداي منها فأيكمُ له سهم كسهمي؟ |
يقول: [[والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ قلت: اغرب عني]].
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى |
جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور، ولم يزالوا وقفاً لله.. مدركين أن النعيم لا يدرك بالنعيم.
يخرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس لينتظر ما تجود به أيدي المحسنين، كما يفعل بعض أبناء المسلمين، من يستعفف يعفه الله، ومن أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، وإن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 3].
يقول علي رضي الله عنه: [[ وأنا في عوالي المدينة وإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً -طيناً جافاً- تريد بله بالماء، فأتيتها فقاطعتها، واتفقت معها على أجرة كل ذنوبٍ بتمرة -يعني: كل دلوٍ بتمرة- قال: فنزعت ستة عشر دلواً على معاناة شدة الجوع -والجوع يضعف القوة كما تعلمون- قال: حتى مجلت يدي وتورمت من العمل، فأتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها، فقلت بكفيَّ هكذا بين يديها -يعني: بسطهما يريد الأجرة- قال: فعدت لي ست عشرة تمرة، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأخبرته بما جرى، فأكل معي من ذلك التمر]] فياله من حبٍ ووفاءٍ، ونكرانٍ للذات، فهو على ما به من شدة الجوع، وما قام به من العمل الشاق؛ قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معه، ولم تطب نفسه إلا بذاك.
تأمل شمسهم ومدى ضحاها تجد في كل ناحية شعاعا |
إذا أسد الشرى شبعت فعفت رأيت شبابهم عفوا جياعا |
المجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمةٍ فما أعلاها |
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يداني في الفخار أباها |
أما أبوها فهو أكرم مرسلٍ حادي النفوس إذا تروم هداها |
و علي زوجٌ لا تسل عنه فما أزكى شمائله وما أنداها |
دايونه كوخٌ وكنز ثرائه سيفٌ غدا بيمينه تياها |
انطلقت رضي الله عنها إلى أبيها صلى الله عليه وسلم، فلم تجده، فأخبرت عائشة رضي الله عنها بما أرادت، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته عائشة بمجيء فاطمة وبطلبها، فجاء في بعض الروايات أنه قال: {لا والذي نفسي بيده ما دام في الصفة فقير} لا يحابي أقاربه صلوات الله وسلامه عليه حتى ولو كانت ريحانته، على حساب من هم أشد حاجةً وفقراً ممن لا مال له ولا أهل، حاشاه صلوات الله وسلامه عليه..
تقول فاطمة : {فجاء إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما! فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، ثم قال: ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتماني؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضجعكما؛ فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم} فما تركاها بعد رضي الله عنهما وأرضاهما.
معشر المسلمين! إن القلوب إذا عمرت بذكر الله، هانت عليها المصائب، وسمت في أفكارها المطالب، وأصبح أصحابها يستعذبون الشدائد في سبيل الله، ويرون أنها أبواب خير لرفع رصيدهم من الحسنات، وخفض رصيدهم من السيئات كما يقول صاحب التاريخ الإسلامي مواقف وعبر .
يا لله! عليٌّ يؤجر نفسه لامرأة على تمرات، وفاطمة تطحن بالرحى وهي من سيدات الأمهات، إنه شظف العيش في هذه الأسرة الكريمة، يصحبه الرضا والتسليم، والصبر الجميل، وما ضرهم يزول ويزولون:
قد تجوع الأسد في آجامها والذئاب الغبس تعتام القتب |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
فليفهم يا أبناء الجيل! ويا فتاة الإسلام! هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فرعٌ طاب أصله، وزكى غرسه
هي أسوة للأمهات وقدوةٌ يترسم الركب المنير خطاها |
جعلت من الصبر الجميل غذائها ورأت رضا الزوج الكريم رضاها |
فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها |
بلت وسادتها لآلئ دمعها من طول خشيتها ومن تقواها |
في روض فاطمةٍ نما غصنان لم ينجبهما في الكائنات سواها |
فأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب ؟ |
هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب ؟ |
كلا، يا بنت الإسلام!
فلتحذري من دعاة لا ضمير لهم من كل مستغربٍ في فكره خرب |
أسموا دعارتهم حريةً كذباً باعوا الخلاعة باسم الفن والطرب |
هم الذئاب وأنت الطعم فاحترسي من كل مفترسٍ للعرض مستلب |
أختاه! لست بنبتٍ لا جذور له ولست مقطوعةً مجهولة النسب |
أنت ابنة الطهر والإسلام عشت به في حضن أطهر أمٍ من أعز أب |
يروح إذا راح في المعسرين وإن أيسر الناس لم يوسر |
أما والله ما كان يغدى عليه بالجفان ولا يراح، ولا تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحُجَّاب، بل يجلس على الأرض، ويوضع طعامه على الأرض .. يلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده..
يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه بيده، أعرض عن الدنيا بقلبه، أمات ذكرها من نفسه، لم يتخذ منها رياشاً، لم يعتقدها قراراً، لم يرج بها مقاماً، لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه صلوات الله وسلامه عليه.
والله الذي لا إله إلا هو للإيمان فيها كالجبال؛ فيها، وفي جنباتها، وفي نواحيها:
بنى لنا العز مرفوعاً دعائمه و شيد المجد مشتداً مرائره |
فما فضائلنا إلا فضائله ولا مفاخرنا إلا مفاخره |
ولما أمر الوليد بن عبد الملك بهدم تلك الحجر لإضافتها إلى المسجد النبوي ما رئي يومٌ كان أكثر باكياً من ذلك اليوم، يقول ابن المسيب رحمه الله: "والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ أهل المدينة، ويقدم القادم من الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر وقد ألهاهم التكاثر".
ويقول أبو أمامة رضي الله عنه: [[يا ليتها تركت فلم تهدم حتى يفصل الناس عن البناء، ويروا ما رضي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده!]].
ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما ثبت عند أبي داود وصححه الألباني رحمهم الله: {مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطاً لي أنا وأمي، فقال: ما هذا يا
نَفَس من الأنفاس هذا العيش إن قسناه بالعيش الطويل الثاني |
لا يبتغي الدنيا ولا أحسابها ولربه في كل أمرٍ قد رغب |
عرضت عليه عروشها فأذلها بإبائه وأبى الزعامة والذهب |
وإذا أتاه المال جاد به كما صبَّت حمولتها فأفرغت السحب |
وروى البخاري في صحيحه رحمه الله: أن عائشة رضي الله عنها قالت لـعروة : [[يا بن أختي! إن كنا لننتظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال؛ ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قال
هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أيها السامعون!
بيت من الطين بالقرآن يعمره وهو الإمام لأهل الفضل كلهم |
طعامه التمر والخبز الشعير وما عيناه تعدو إلى اللذات والنعم |
وروى الترمذي بإسنادٍ صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يومٍ وليلة ما لي ولـ
لن تهتدي أمة في غير منهجه مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم |
وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: {دخلت عليَّ امرأةٌ من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءةً مثنية، فرجعت إلى منزلها، فبعثت إليَّ بفراشٍ حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قلت: فلانة الأنصارية؛ دخلت عليَّ فرأت فراشك فبعثت إليَّ بهذا، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه، قالت
ويقول أنس رضي الله عنه: [[ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرقعاً أو مرققا، ولا شاةً سميطاً مشويةً قط حتى لحق بربه، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير؛ يبيت الليالي المتتابعات وأهله لا يجدون عشاء]].
باعوا الذي يفني من الخزف الـ خسيس بدائمٍ من خالص العقيان |
تقول عائشة رضي الله عنها: [[والذي بعث محمداً بالحق ما رأى منخلاً، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبض، يقول عروة رحمه الله: فكيف كنتم تأكلون الشعير أي أماه؟! قالت: كنا نقول: أف، أي: ننفخه فيطير ما طار من نخالته ونعجن الباقي]] وهم خير القاصي والداني، ولا ضير:
الجوع يطرد بالرغيف اليابـس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي |
وفي صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: {لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى من شدة الجوع ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه}.
يبيت والجوع يلقى فيه بغيته إن بات أعداؤه بطنى من التخم |
ما أمسى عند آل محمدٍ صاع بر، ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة في تسع أبيات.
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو الجهد والجوع كما في البخاري ، فبعث إلى نسائه جميعاً، فقلن: {والله ما معنا إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: من يضم، أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله} خرج وهو لا يعلم هل يجد لضيفه طعاماً في بيته أو لا يجد؛ كان يرجو رضا الله ورسوله وثواب الآخرة .. قطع الطريق مع ضيفه في فرحٍ وسرور .. قرع الباب، وسلم على أهل الدار، وقال في صوت المبشر لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، فقالت: مرحباً بضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحدٌ أكرم أضيافاً منا! والله الذي لا إله إلا هو ما معنا إلا عشاء الصبية، فاحتال الكريم -والكريم له حيل ولطائف- وقال: "هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك" إذا أرادوا العشاء، يجوع البيت كله، ويطعم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا عليهم لو جاعوا ليلةً وآثروا بطعامهم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فكل سعيٍ سيجزي الله ساعيَه هيهات يذهب سعي المحسنين هبا |
هيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، وقدمت طعامها، ثم قامت كأنها تصلح السراج فأطفئته، انطفأ السراج، وبدأ الضيف يأكل في الظلام، يمد صاحب البيت يده إلى الصحفة ويرفعها وهو لا يتناول شيئاً.. لا يشك الضيف أنهما يأكلان .. أكل الضيف مطمئناً، وشبع وظن أن صاحب البيت شبع أيضاً، لكنه لم يرفع لقمة إلى فيه، وكان الظلام عوناً له على ذلك.
قام الضيف وغسل يده، وحمد الله، ودعا لمضيفه، وقام صاحب البيت فغسل يده ليريه أنه كان يأكل معه، بات الضيف شبعان ريان، وبات البيت كله طاوياً مسروراً شاكراً؛ لقيامه بما يجب نحو ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الليل عسعس، والصبح قد تنفس، وغدا صاحب البيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ذاوياً، مسروراً شاكراً، وظن أن قصة الليل سرٌ من الأسرار لا يعلمه إلا الله ثم هو مع زوجته، لكن الذي يعلم السر وأخفى قد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما أوحى من خبر تلك الليلة، فقال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: {لقد ضحك الله الليلة من صنيعكما، أو عجب من فعالكما، وأنزل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]}.
معاشر المؤمنين! حينما يؤمن الإنسان إيماناً حقاً، فإن جواذب الإيمان ترفعه من الالتفات إلى الدنيا على أنها مقصدٌ وغاية، وتقصره على اعتبار أنها بلغةٌ ووسيلة كما هو حال رسوله.
فما يسبح الإنسان في لج غمرةٍ من العز إلا بعد خوض الشدائد |
ويا بن الإسلام!
فما أحذو لك الأمثال إلا لتحذو إن حذوت على مثال |
تريد التمر دون غراس نخلٍ ولا حتى لجذع النخل هزا |
إذا رمت العلا من غير بذلٍ فنم واحلم وكل لحماً وأرزا |
إذا لم تكسبك التقوى ستعرى وإن حلوك ديباجاً وخزا |
يدخل عمر رضي الله عنه -كما هو في الصحيح- على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عليَّةٍ قد اعتزل نساءه، مضطجعا على حصير، قد أثر الحصير في جنبه، متكئاً على وسادة من جلدٍ حشوها ليف، فلما رآه عمر لم يملك نفسه، وجثا، وهملت عيناه رضي الله عنه وأرضاه، وقال: {صفوة الله من خلقه وخيرته أنت فيما أرى، وفارس والروم يعبثان بالدنيا وهم لا يعبدون الله، ادع الله فليوسع على أمتك يا رسول الله! فاحمرَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب ؟ أو في هذا أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاحمد الله يا
هون عليك ولا تولع بإشفـاق فإنما مالنا للوارث الباقي |
حتى نلاقي ما كل امرئ لاقي |
كابد الجوع صلوات الله وسلامه عليه، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونةٌ عند يهودي على طعامٍ أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه، وجبيت له الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً ولا ديناراً، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة.
وراودته الجبال الشم من ذهبٍ عن نفسه فأراها أيما شمم |
صبروا قليلاً فاستراحوا دائمـاً يا عزة التوفيق للإنسان! |
يقول أبو هريرة : [[ولقد رأيتني وإني لأخرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة
إن كان يشقى ويلقى دونه تعبا فإنما الراحة الكبرى لمن تعبوا |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه كما في البخاري : [[لقد رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصفة ما منهم رجلٌ عليه رداء .. إما إزارٌ وإما كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته، فإذا كانت الحقائق، كانوا هم الرجال]].
فمن الطعام بتمرة سودا اجتزوا وبشملة شهبا من الأدراع |
ومن يطعم النفس ما تشتهي كمن يطعم النار جزل الحطب |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
ما أمةٌ غفلت عن نهجه ومضت إلا تهيم بلا هديٍ ولا علم |
هذه حالهم معشر المؤمنين! ولكم أن تسألوا: هل قعدت بهم هممهم؟ هل تنازلوا عن مبادئهم؟ كلا. والله! إنهم لا يعيشون لأنفسهم، إن الذي يعيش لنفسه، قد يعيش مستريحاً، لكنه يعيش حقيراً ويموت حقيراً، أما من تحمل عبء تعبيد الناس لله رب العالمين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فماله وللنوم.. وماله وللراحة .. ماله وللفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح، وقد تهيأ للسباق، ورفعت له أعلام السعادة؟
وليس من أعد للاستفراخ كمن هُيئ للسباق..
خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد |
كانوا مع الشدة قد أوقفوا حياتهم لله؛ فاعلين متفاعلين في إخراج الأمة من غثائيتها إلى ربانيتها، لتكون خير أمة أخرجت للناس:
هزئوا بكل كريهةٍ ندبوا لها لله واستحلوا على الكره العطب |
إن تلق واحدهم تجده بمسجدٍ حملاً وكالليث الهصور إذا ركب |
تموين السرية وهم ثلاثمائة جراب تمرٍ فحسب.
كان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.
حزمٌ وحسن قيادة وإدارة، إذ لو تركهم وشأنهم لفني زادهم في وقتٍ قليل، ثم تعرضوا للهلاك.
فقيل: كيف تصنعون بتمرة؟ قالوا: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل..
صبٌر عظيمٌ على الجوع إلى حد الاكتفاء بتمرة واحدة يوماً وليلة.
يقول أحدهم: وما تغني تمرة؟ قال: قد وجدنا فقدها حين فنيت..
ثم فقدوا الأكل كله حتى التمر، فصاروا يعيشون على أوراق الشجر، وأي شجر؟ إنه السمر .. إنه الخبط .. خشن شديد لا يكاد يبلع، قال: فكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله حتى قرحت أفواهنا، فسميت السرية بسرية الخبط، قال: وانطلقنا على ساحل البحر..
لا يجدون تمراً، ولا شجراً .. ولا شيئاً، قد نفد زادهم، واشتد جوعهم، فهل فكروا في العودة إلى المدينة قبل أداء مهمتهم يا معاشر المؤمنين؟
هل تضجروا وسخطوا على قائدهم إذ لم يزودهم سوى جراب تمر؟
كلا والله، إنهم رجالٌ أعدوا إعداداً تربوياً لتحمل الشدائد التي يطيقها البشر ولو بمشقة عظمى، أيقنوا وآمنوا بقول الله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:120-121].
وبينما هم على ساحل البحر إذ رفع لهم كهيئة الكثيب الضخم، قال: فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة : ميته؟ لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال، ونقتطع منه الفدر والقطع كقدر الثور، ثم أخذ منا أبو عبيدة رضي الله عنه ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعيرٍ معنا فمر من تحته.
لا إله إلا الله! هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11] هذا رزق الله: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الملك:21].
قال: وتزودنا من لحمه وشائق، ولم نلق كيداً والحمد لله، ثم قدموا المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذاك رزقٌ أخرجه الله لكم}.
إنها كرامة الله لأوليائه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قلنا: نعم، فأرسلنا إليه منه فأكله صلوات الله وسلامه عليه}.
يا عبد الله! حينما يكون الإيمان قوياً يتضاءل مفعول هموم الدنيا على النفس فتأتي بالعجائب كما سمعت:
من يؤثر الحق يبذل فيه طاقتـه ومن يكن همه أقصى العلا يصل |
لا شيء يقعد آمال النفوس إذا خلت من الضعف واستعصت على الكسل |
هذا مجالك فاركض غيـر متئدِ وإن رأيت المنايا جُوَّلاً فجلِ |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
إنه فرحٌ عظيم كما هي عادة الصغار بالفرح بالثوب الجديد، لكنه لا يعدل فرحه بالإسلام، يقول: فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين.
فالعمر لا يقاس بالأعوام والعقل لا يقاس بالأجسام |
هذا عمرو يا بن الإسلام! يؤم قومه وهو ابن سبع سنين؛ فما قدمت لدينك يا بن عشرين .. يا بن ثلاثين .. يا بن أربعين .. يا بن خمسين .. يا بن ستين؟
هل نشرت علماً؟
هل أنفقت في الخير مالاً؟
هل غيرت منكراً؟ أم أنك تتهرب وتلقي باللائمة على غيرك إيثاراً للسلامة والدعة والراحة؟
اعلم: النعيم لا يدرك بالنعيم، وابن السبع شاهد، إيهٍ عمرو كذا يفعل الأسد بن الأسد:
بلغت لسبعٍ مضت من سنيك ما يبلغ السيد الأشيب |
فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا |
وكم رجلٍ ترى فيه صبيا وكم من صبيةٍ وهمُ رجال |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
إنها النفوس الشريفة.. لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، ولو كان في ذلك أذاها، إذ النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن يجد يجد، والنفس إن تعبت.. فربما راحة جاءت من التعب.
خرجوا يوم بدر لا يريدون القتال، إنما يريدون الغنيمة، فإذا الغنيمة غير الغنيمة، فاشتدت العزيمة بعد المشورة يوم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أشيروا عليَّ أيها الناس؟} فإذا العزيمة في أوجها وفي قوتها، فإذا بقائل المهاجرين يقول: امض لما أراك الله يا رسول الله، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
وإذا بقائل الأنصار يوقظ المشاعر، ويدفع المتردد إلى الإقدام، وينبه الغافل إلى النصرة ولو كان الثمن النفوس، فيقول: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
وتنفرج أسارير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل المذهبة، ويقول: { سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم}.
خرجوا -معاشر المؤمنين- لغنيمة دنيا، فأصابوا الدنيا والأخرى
أسد جياعٌ إذا ما وثبوا وثبوا |
واليوم من عمر أسود الأجمِ بألف عامٍ من حياة الغنم |
عش ساعةً في لجج البحار ومت شهيد الحق في التيار |
الموت في الوغى وفي الميدان ولا حياة الأسر والهوان |
الفراشة.. تبذل الحياة رخيصة في لذة لمحةٍ تطوف بها حول السراج، وحالها:
أنال بها شرفاً في الجهاد وأصبح من بعد هذا رمادا |
أحب احتراقي بنار اشتياقي ولا أرتضي عيشة الخاملين |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
هؤلاء الأصحاب.. كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب، ولقد كان أحدهم يمسي لا يجد عشاءً إلا قوتاً، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله، ثم يتصدق ببعضه وهو أحوج ممن يتصدق عليه وحاله:
إذا كان بعض المال رباً لأهلـه فإني بحمد الله مالي معبدُ |
وماذا على ظهره؟ والله ما على ظهره سوى خرقة، والغنى غنى النفس.
إن الغني هو الغني بنفسه لو أنه عاري المناكب حافي |
ما كل ما فوق البسيطة كافياً فإذا قنعت فكل شيء كافي |
أيها المؤمنون! هؤلاء الصابرون حينما تحولت حالهم إلى الرخاء، كيف كان حالهم؟ أطغوا حين استغنوا؟أتكبروا وبطروا وجمعوا فمنعوا؟
لا والله الذي لا إله إلا هو، لم يتكبروا ولم يأشروا ولم يبطروا؛ بل كانوا الشاكرين حقاً، الخائفين من انفتاح الدنيا عليهم، فضحوا بها من أجل الثابت الباقي الدائم، وحالهم:
تالله ما عقل امرؤٌ قد بـاع ما يبقى بما هو مضمحلٌ فاني |
فكل بساط عيشٍ سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا |
لا تركنن إلى القصور الفاخرة واذكر عظامك حين تمسي ناخرة |
وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل يا رب! إن العيش عيش الآخرة |
أيقنوا أن النعيم لا يدرك بالنعيم، فلما أقبلت عليهم الدنيا أعرضوا عنها، وخافوا أن تكون طيباتهم عجلت لهم.
فقد تنجو النفوس بأرض جدبٍ ويهلك أهله المغنى الخصيب |
لقد تذكر عبد الرحمن ذلك الفتى المنعَّم الذي صاغه الإسلام، فتقدم حين نادت المغارم، وذهب للقاء ربه قبل مجيء المغانم، اختاره الله ليموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم على يديه:
أسيد الذي تنزلت الملائكة لتلاوته القرآن، وسعد الذي اهتز لموته عرش الرحمن، فخشي عبد الرحمن ألا يدرك ما أدركوه، لما يرى من نعم الله عليه، وقد اشتاق لهم، إيه عبد الرحمن !
رفقاً بها فشوقها قد ساقها يا حبذا الوادي الذي قد شاقها |
ألا ما أرخص الحب إذا كان كلاماً! وما أغلاه حين يكون قدوة وذماماً! حال أم المؤمنين ومن معها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبك مقرونٌ بأنفاسي |
ولا جلست إلى قومٍ أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جُلاسي |
ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ إلا رأيت خيالاً منك في الكأس |
وكل امرئ يهفو إلى من يحبه وكل امرئ يصفو إلى ما يناسبه |
ولما أقبلت عليهم الدنيا، خضعوا لله وخشعوا، فسخروها فيما يرضي الله، واستعاذوا بالله أن تفتنهم.
عتبة بن غزوان رضي الله عنه يقول:[[كنت سابع سبعةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما لنا من طعامٍ إلا ورق الشجر، حتى قرحت أفواهنا، وما منا أحدٌ اليوم إلا وأصبح أميراً على مصرٍ من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً]].
تواضع لما زاده الله رفعةً وكل رفيعٍ قدره متواضع |
جلالة قدرٍ في خمول تواضع إن التواضع للمعالي سلم |
وأولو التواضع يخشعون فيرفعوا |
من أهداف عمر رضي الله عنه حين قدم الشام أن يزور بيت أميره ليثلج صدره برؤية مظهرٍ نادرٍ من مظاهر احتقار الدنيا الفانية، فقال أبو عبيدة : [[وما تصنع عندي؟ إن تريد إلا أن تعصر عينيك، قال: لا بد، فدخل
دنوت تواضعاً وسموت مجداً فشأناك انخفاضٌ وارتفاع |
كذاك الشمس تبعد أن تُسامى ويدنو الضوء منها والشعاع |
هاهو طلحة -رضي الله عنه- يأتيه مال من حضرموت قدره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته تلك يتململ قد جافاه النوم، فقالت له زوجته: مالك أبا محمد ؟ قال: تفكرت منذ الليلة فقلت: ما ظن عبدٍ بربه يبيت وهذا المال في بيته!
الله أكبر! أهل الدنيا يتململون ويأرقون ويقلقون في كيفية تصريف المال لتتضخم الثروة، وتحصل السعادة الوهمية بتزايد المال، كما يقول صاحب كتاب التاريخ مواقف وعبر ، أما طلحة فيتململ من تكاثر المال عنده خشية أن يحاسب عنه يوم القيامة، مع أنه -والله- ليس إلا الحلال المحض، والله ما هو من رشوة ولا ربا، ولا حيلة ولا غش ولا شبهة، حاشاه رضي الله عنه وأرضاه، لكنها تربية محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت عنه كما في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: {يا
و طلحة قبسٌ من ضوئه ولا يتخلف عن ضوئه: ما ظن عبدٍ بربه يبيت وهذا المال في بيته، فقالت زوجه الوفية الصادقة: فأين أنت من فقراء أخلائك، إذا أصبحت فادع بجفانٍ وقصاعٍ فقسمه فيهم، ونم قرير العين أبا محمد .
الله أكبر! ما أعظم التفكير! وما أبلغ المشورة! وما أصدق السلوك!
لها نفس تحل بها الروابي وتأبى أن تحل بها الوهادا |
فقال لها: رحمك الله! والله إنك لموفقة بنت موفق.
إنها الزوجة الصالحة يا بنت الإسلام! أكبر عونٍ لزوجها على فعل الخير.
إن المعروف المألوف أن تحاول الزوجة أن تتوسع مع ذويها بالمال، فإذا وُجدِت من تكسر هذا المألوف وتشير على زوجها وتدله إلىالخير، فغاية التوفيق والرشاد والسداد، أيقظت في نفسه دوافع الخير التي يملك منها رصيداً ضخماً، فأثنى عليها وهي للثناء أهل، ألا من هي يا معشر المؤمنين؟
إنها أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها.. ولا غرابة! فإن أباها أمام عينها قد خرج من ماله كله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله} رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بيتهم غدوةً وعشياً، فنمت وترعرعت في ذلكم الجو المتمثل للحياة الآخرة في ذهنها في وضوح، تفكيراً وسلوكاً وشعوراً وانتماءً.. فلا غرابة!
إذا أوقدت نارها بـالعراق أضاء الحجاز سنا نارها |
فهمها في العلا والعز ناشئة وهم أترابها في الحلي والذهب |
لما أصبح طلحة دعا بالجفان والقصاع، فقسمها بين فقراء المهاجرين والأنصار، وبعث لـعلي -رضي الله عنه- بجفنة، فقالت زوجته أم كلثوم رضي الله عنها: أبا محمد أما لنا فيه من نصيب؟ قال: شأنك بما بقي، فإذا هي صرةٌ بألف درهم
لا يألف الدرهم المضروب صرتهم لكن يمر عليها وهو منطلق |
لا إله إلا الله! ينفق في يومٍ واحد ستمائة وتسعةً وتسعين ألفاً، والله ما أخذها من طريق شبهة؛ ناهيك عن أن يأخذها من طريقٍ حرام! لكنه علم أن النعيم لا يدرك بالنعيم، فلكل سلعةٍ ثمن، وسلعة الله غالية .. سلعة الله الجنة: {من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل}.
كنز المحامد والتقوى دفاتره وليس من كنزه الأوراق والذهب |
يا موسراً عضواً في جسد أمةٍ كلها جراح .. يتيمها في المحافل يذاب ويمسخ ويبكي، وشيخها ينوح، وأرملتها تئن، وأسيرها جريح، وجاهلها يتيه..
من عمق أنين اليتامى، وصريخ الثكالى، ونشيج المكلومين والحيارى..
من بين أسرٍ تشتت بعد شمل، وجمعٍ تفرق بعد جمع، منزله الفضاء، وسقف بيته سماء الله، أو قطع السحاب..
من أسى نائمٍ على أزيز قاذفات، ومستيقظٍ على دوي انفجارات، لا يرحم الرحمن من لا يرحم.
إن المعركة -معشر المؤمنين- ليست سياسية ولا اقتصادية ولا عنصرية، إنها معركة عقيدة في صميمها، إما كفر وإما إيمان .. إما جاهلية وإما إسلام، والمال سلاحٌ في هذه المعركة معشر الموسرين، فأنفقوا من مال الله الذي آتاكم، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم..
خصصوا من كسبكم في كل شهرٍ جزءاً معلوماً، لنصرة مظلوم .. لكفالة يتيم .. لتفريج كرب مكروب .. لتعليم جاهل .. لقضاء دين مسلمٍ غارم .. لإعفاف شاب .. لهداية ضال.. لطباعة كتاب .. لتوزيع شريطٍ نافع، بشيء يجري عليك بعد الممات: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
السير حثيث.. لا منجد ولا مغيث.. فبادروا بالصدقة المواريث، ولا تيمموا الخبيث .. حركوا هممكم وأزعجوا، وحثوا عزائمكم وأدرجوا، وآثروا الفقير بما تحبون: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]
أيها المثري ألا تكفل من بات محروماً يتيماً معسرا |
أنت ما يدريك لو راعيته ربما قدمت بدراً نيرا |
ربما قدمت سعداً ثابتاً يحكم القول ويرقى المنبر |
ربما أيقظت منهم خالداً يدخل الغيل على أسد الشرى |
كم طوى البؤس نفوساً لو رعت منبتاً خصباً لكانت جوهرا |
كم قضى اليتم على موهبة فتوارت تحت أطباق الثرى |
إنما تحمد عقبى أمره من لأخراه بديناه اشترى |
يا رجال المال! هذا وقتكم آن أن ينفق كلٌ ما يرى |
يا بن الإسلام! أيها الموسر! اجعل كنـزك في السماء، فإن قلب المرء عند كنزه، مالُك ما قدمت .. الباقي ما أنفقت، الزائل ما أبليت وأفنيت وأبقيت وأقنيت.
فبادر وبادر بدون انتظار إذا كنت أهلاً لخوض البحار |
فلا يعقر الكلب من يرحمه ولا يصرع النمر من يطعمه |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
يا معشر المؤمنين! ويا معشر الموسرين! أما إنه ليس القصد ألا يملك الإنسان الدنيا قطعاً، ولكن القصد ألا تملك الدنيا الإنسان، فلا تتحول الوسائل إلى أهداف، فنعم المال الصالح للعبد الصالح، نعم. العبد الصالح:
فترى الدنيا انطوت في كفه ليس منها ذرة في قلبه |
قال رستم في كبرياء وصلفٍ وغرورٍ للمغيرة: "لقد كنتم إذا قحطت بلادكم استغثتم بناحيتنا، فأمرنا لكم بشيء من التمر والشعير ورددناكم، حتى إذا ما طعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، واستظللتم بظلالنا، دعوتم أصحابكم وأتيتم! ما حالنا وحالكم إلا كرجلٍ له حائط عنبٍ فيه جحر، فجاء ثعلب فدخل من هذا الجحر ليأكل من العنب، فقال صاحب الحائط: وما ثعلب واحد.
دعوه يأكل، فخرج الثعلب فدعا الثعالب جميعاً، فأتت ودخلت من مدخله، حتى إذا صارت كلها في الحائط سد عليها الجحر، ثم قتلها جميعاً، أو إنما مثلكم أيضاً كذباب رأى العسل، فقال: من يوصلني إليه وله درهمان، فلما وصل إليه سقط فيه، وجعل يطلب الخلاص والنجاة، ويقول: من يخلصني وله أربعة دراهم، نعلم أنه ما أخرجكم إلا الجوع، فارجعوا ونفرض لكلٍّ منكم كسوةً وطعاماً، ونملك عليكم من يرفق بكم، إنا لا نشتهي قتلكم ولا أسركم".
فقال المغيرة في عزة المؤمن: [[لا والذي لا إله إلا هو ما هذا الذي أخرجنا، ولكن الله رزقنا على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم حبةً تنبت في أرضكم، فلما ذاقها عيالُنا، قالوا: لا صبر لنا عنها، أنزلونا أرضها لنأكل منها، فجئنا -والله الذي لا إله إلا هو- لنطعمها أو نموت دونها، أفبعد أن أوهنا ملككم، وأضعفنا عزمكم نرجع عنكم، لا والله حتى تعطوا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، أو تُسلموا وتَسلموا]] حاله:
فاكفف ودع عنك الإطالة واقتصر وإذا استطعت اليوم شيئاً فافعلِ |
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظل |
فاستشاط غضباً في رعبٍ، وقال: "والشمس لأقتلنكم غدا" قال المغيرة : [[ستعلم ونعلم]] فقال: "لا صلح بيننا وبينكم" ويدب الرعب في قلب هذا الكافر، وإذا به بعد ليالٍ يتخفف مما عليه من السلاح أمام جند الإسلام الذين طمعوا في نعيم الآخرة، فيرمي بدرعه ورمحه وسيفه، ثم يرمي بنفسه في النهر، ويسحب من النهر لتفلق هامته بالسيف، ثم يرمى تحت أقدام خيل المسلمين لتدوسه بأرجلها، والمكبر يكبر: الله أكبر .. الله أكبر!
على ترانيم تكبيراتنا سقطت رايات كسرى وذاق الموت ساسان |
عافوا المذلة في الدنيا فعندهم عزُّ الحياة وعز الموت سيان |
لا يصبرون على ضيمٍ يحاوله باغٍ من الإنس أو طاغٍ من الجان |
القمة مرهقة؛ تكلف صاحبها عناء الصعود، وشق الصفوف، وبذل المجهود، وموطأ الأرض تدوسه أقدام الأسود والقرود واليهود، والبحر الواسع الأمواج فيه تلتطم؛ لكنها تنفرج عن حلية الخرد الخود:
وما قدر اللآلئ وهي درٌ إذا لم ينفلق عنها المحار |
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
الثبات على دين الله نعيم، ولا يدرك بالنعيم .. العلم نعيم ولا يدرك بالنعيم، تبليغ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلق نعيم .. الفضيلة نعيم .. كبح النفس عن الهوى نعيم .. الإحسان إلى الخلق نعيم .. ضبط الجوارح بالوحي نعيم.. ضبط المكاسب بالوحي نعيم .. ضبط الولاء والبراء بالوحي نعيم، والنعيم لا يدرك بالنعيم، والنعيم والملك الكبير على الحقيقة ثَمِّ في دار النعيم، والنعيم لا يدرك بالنعيم.
والله لو كان لأحدنا ألف ألف نفس، وألف ألف روح، وألف ألف عمر، فبذل ذلك كله في ذلكم المطلوب العزيز لكان قليلا، ولئن ظفر به من بعد ذلك لكان غنماً عظيماً وفضلاً كبيراً.
والله الذي لا إله إلا هو؛ لو أن رجلاً يجرُّ على وجهه من يوم ولدته أمه إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله لحقره يوم القيامة .. يوم يرى عياناً عظيم نواله وباهر عطائه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ما المجد زخرف أقوالٍ لطالبـه لا يدرك المجد إلا كل فعال |
كلٌ له غرضٌ يسعى ليدركـه والحُر يجعل إدراك العلا غرضا |
أي شباب الإسلام! خذوها فصيحةً صريحة.. لا تستتر بحجاب، ولا تتوارى بجلباب، علتنا التي أعيت الأطباء، واستعصت على الحكماء، هي وهن العزائم، وضعف الإرادة والأخلاق، فلنداو الأخلاق بالقرآن تصلح وتستقم، ولنأسُ العزائم بالوحي تقوى وتشتد كما يقول الإبراهيمي:
فاحذها تسرِ فوق السماء يا غر سماوات أخر |
وفوق هذا المجد في دنياك مجد ينتظر |
يا أيها الجيل! نريدك جيلاً طاهراً تقياً نقياً، إن كان في الحرب فهو في صولته كأسد الشرى، وفي السلم في وداعته على أوليائه كغزال الحمى، يجمع بين حلاوة العسل لأوليائه، ومرارة الحنظل لأعدائه، كما يقول إقبال .
إن تكلم كان رقيقاً رفيقاً، وإن جد في الطلب كان شديداً حثيثاً، وكان مع ذلك عفيفاً نزيهاً .. آماله ومقاصده جليلة، ومع ذا غني القلب في الفقر .. فقير الجسم في الغنى .. غيورٌ في العسر .. كريمٌ في اليسر .. يظمأ إن بدا له في الماء مِنَّة، ويموت جوعاً إن رأى في الرزق ذلة.
فإن المال قد يأتي ويمضي وأنت وما ملكت إلى ارتحال |
إن قابل في سيره صخوراً وجبالاً كان شلالاً، وإن مر على الحدائق كان عذباً سلسالاً، يجمع بين جلال إيمان الصديق وحزم عمر ، وحياء عثمان ، وشجاعة وقوة علي ، وصدق سلمان ، وأمانة أبي عبيدة .
فكن مثل الصحابة أهل دنيا وآخرة وعباد وغزا |
كالشمس إذا غربت في جهةٍ أشرقت في أخرى، فهي لا تزال مضيئة طالعة، تغشى البلاد شرقاً وغرباً، موقنٌ أن النعيم لا يدرك بالنعيم.
فشد الرحل أيها الجيل! وقرب المطية، ولا تخش لذع الهواجر ولو كنت في شهري ناجر، ولا يهولنك بعد الشقة، وخيال المشقة، فالنعيم لا يدرك إلا بحظٍ من المشقة.
فانهض بإقدامٍ على الأقدام إن كنت للعلياء ذا مرام |
شقوا الزحام إلى العليا واقتحموا أخطارها إنما العليا أخطار |
اشقوا لتحيوا حياة العز أو تردوا حوض الردى فالردى يحمى به العار |
إذا لم تمض في وقت الحر الشديد، فستضطر إلى المضي في البرد الشديد، فابدأ المسير إلى الله أيها الجيل! والنعيم لا يدرك بالنعيم.
إلهي..
إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب |
وفيك وإلا فالكلام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب |
فيا فالق الإصباح والحب والنوى ويا قاسم الأرزاق بين العوالم |
ويا كافل الحيتان في لج بحرها ويا مؤنساً في الأفق وحش البهائم |
ويا محصي الأوراق والنبت والحصى ورمل الفلا عداً وقطر الغمائم |
إليك توسلنا بك اغفر ذنوبنا وخفف عن العاصين ثقل المظالم |
وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا من الزيغ والأهواء يا خير عاصم |
ودمر أعادينا بسلطانك الذي أذل وأفنى كل عاتٍ وغاشم |
ومنَّ علينا يوم ينكشف الغطاء بستر خطايانا ومحو الجرائم |
وصل على خير البرايا نبينا محمدٍ المبعوث صفوة آدم |
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر