إسلام ويب

تفسير سورة المائدة (51)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أفرط النصارى في رفع عيسى عليه السلام حتى اتخذوه إلهاً من دون الله، ويوم القيامة يوقفه الله عز وجل ويسأله -سؤال المبكت للنصارى على فعلهم- عن صحة ما فعلوه من تأليهه وعبادته من دون الله، وموقفه عليه السلام من ذلك، حتى يقيم الحجة على النصارى الكاذبين، ويرفع مقام نبيه الصادق الأمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع خاتمة سورة المائدة المباركة، الميمونة، نودعها في ليلتنا هذه وعسى الله أن يردنا إليها إن أطال أعمارنا مرة أخرى، وهو على كل شيء قدير، ومعنا خمس آيات، فهيا نتلوها متدبرين، متفكرين، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:116-120].

    قول ربنا: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ [المائدة:116]، أي: اذكر يا رسولنا، يا خاتم أنبيائنا، يا محمد صلى الله عليه وسلم، اذكر: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة:116]، وذلك في عرصات القيامة، ما هو في هذه الحياة، وذلك يوم يبعث الله الخلائق.

    وما قال: وإذ يقول الله، وإنما: اذكر إذ يقول الله، فهذا أمر متحقق مقطوع الوجود يعبر بالماضي عنه لا بالمضارع، ومثله: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وهو قيام الساعة.

    تبكيت الله للنصارى بسؤاله لعيسى عليه السلام عن تأليههم له

    اذكر وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة:116]، قال له مستفهماً إياه ليبكت النصارى وليذلهم ولتقوم الحجج أمام العالم الموجود عليهم: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ [المائدة:116]، وحاشا عيسى أن يقول ذلك، ولكنه التوبيخ والتقريع والتأنيب لأولئك الذين ألهوا عيسى وأمه وعبدوهما من دون الله، أما عيسى فقد تقدم خبره: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، هذا فيه تقريع وتأنيب وإقامة الحجة أمام العالم والمخلوقات يومئذ على هؤلاء عبدة المسيح، وعلى الكافرين به من اليهود، ولو كانت الهداية بيد الإنسان لما وجد يهودي ولا نصراني يسمع هذه الآيات إلا قال: آمنت بالله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لكن الله يدخل في رحمته من يشاء.

    رد مزاعم النصارى في نفي تأليههم لمريم عليها السلام

    أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ [المائدة:116]، من أم عيسى؟ مريم البتول العذراء، ويوجد الآن من يقول: نحن ما ألهنا مريم ، ووالله! لقد ألهها مئات بل ملايين منهم، والله أخبر وهو العليم الخبير، والله! لقد اتخذوها إلهاً مع الله، وإن لم يتخذها هؤلاء الفلانيون فهؤلاء اتخذوها، وهم اثنتان وسبعون طائفة.

    واتخاذهم لها إلهاً بمعنى: أنهم عبدوها، يقدسون اسمها ويرقصون ويدعون ويستغيثون به، هذا هو التأليه، هذه هي العبادة، فالذين ضلوا من أمة الإسلام عندما يقدسون الأولياء ويدعونهم ويستغيثون بهم ويرفعون أصواتهم أليس ذلك هو التأليه والعبادة؟ والله! إنه لهو التأليه والعبادة، يقولون: ما ألهناهم أبداً، ما اتخذنا عبد القادر إلهاً مع الله. ووالله! لقد اتخذتموه إلهاً ما دمتم تستغيثون به، تقولون: يا راكب الحمراء.. يا مولى بغداد.. يا سيدي عبد القادر وأنت في الغرب والشرق، تدعونه دعاء الله وتقولون: ما عبدناه؟ أية عبادة أعظم من هذه؟ وتقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر ، هذه البيضة لسيدي عبد القادر ، والمرأة تريد أن تنتج الدجاجة فتأتي بالبيض الملقح وتضع عشر بيضات تحت الدجاجة وتعلم على واحدة بالفحم الأسود وتقول: هذه لسيدي عبد القادر ؛ حتى يبارك الجميع ويخرج الدجاج، من إندونيسيا إلى موريتانيا هذا هو الحال، هبطت هذه الأمة أكثر من ثمانمائة سنة.

    والشاهد عندنا في تأليههم لعيسى ومريم ، ولا يقل قائل: ما ألهنا مريم ؛ فقد عبدتموها، ما قلتم فيها: إله، بل قلتم: أم الإله، ولكن دعاؤها والاستغاثة بها والذبح لها والركوع والانحناء وتعليق صورتها هذه هي العبادة، هذا هو التأليه. والشاهد عندنا أنه قد يقول قائل: ما ألهنا مريم. والله يقول -وقوله الحق- في عرصات القيامة: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116].

    جواب عيسى عليه السلام عن سؤال ربه عز وجل

    فقال عيسى: سُبْحَانَكَ [المائدة:116]، تنزيهاً لك وتقديساً عن أن يعبد معك غيرك، ما يكون لي أبداً وليس من شأني أن أقول ما ليس لي بحق، وهل لي من حق في أن أعبد أنا؟ فهل أنا خلقت، هل أنا رزقت، هل أنا أمت، هل أنا أحييت؟ كيف يكون لي حق العبادة، إذ العبادة تكون بالحق؟ فالذي خلقك ورزقك وحفظ حياتك وأوجد الكون كله هذا يستحق عبادتك، أما الذي لا دخل له فيك أبداً فكيف تعبده؟

    مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116]، كوني أقول للناس: ألهوني أو ألهوا أمي ما عندي حق بهذا، إنما يعبد الله عز وجل بحق إيجادنا وحفظنا وامتداد حياتنا وخلق الحياة كلها من أجلنا، هذا يستحق أن يعبد، أما الذي ما خلق ولا رزق ولا أمات ولا أحيا ولا أصح ولا أمرض فكيف يعبد؟ بأي حق؟

    ثم قال: إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة:116]، من باب الفرض والتقدير، والعالم كله يسمع في عرصات القيامة، إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ [المائدة:116]، أي: هذا القول، وهو أني قلت للناس: ألهوني ووالدتي، إن كنت قلته فأنت تعلمه، وزيادة أنك تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [المائدة:116]، إن كنت أخفي شيئاً ولا أظهره فأنت تعلم ما في باطن نفسي، وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، فسرك لا أعرفه وأما سري أنا فإنك تعرفه، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]، هذا التذييل: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]، الغيوب كلها أحاط بها علم الله عز وجل، وكيف لا وهو خالقها، من النملة إلى كوكب السماء، كل الخلق مخلوق لله، ألا يعلم من خلق؟ أيخلق الشيء ولا يعلمه؟ كيف يقع شيء ويقال: غاب عن الله وهو خالقه؟

    مَا قُلْتُ لَهُمْ [المائدة:117] يا رب إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117]، الذي أمرتني أن أقوله لهم قلته، والذي ما أمرتني أن أقوله ما قلته، أنا عبدك ورسولك، والذي أمره الله أن يقوله هو: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117]، (أن) التفسيرية، أي: اعبدوا الله ربي وربكم، هذا الذي قلته، هذا الذي أمر الله به عيسى وأمر به رسوله محمداً وكل المرسلين، كل رسول يقول للناس: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117]، فكيف نعبده؟ أي: عظموه وأطيعوه وأحبوه وخافوه وارهبوه، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117]، وهو: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117]، اعبدوه بتعظيمه وإجلاله وإعظامه والرهبة منه والخوف، وطاعته فيما يأمر وفيما ينهى.

    وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117]، لما كنت حياً بينهم موجوداً فيهم كنت شاهد على ما يقولون وما يعملون، فلما توفيتني توليت أنت ذلك، هذه التوفية هي توفيته الأيام التي كتب له أن يعيشها في الدنيا، ثم رفعه إلى الملكوت الأعلى، تقول: وفيت فلاناً دينه: أعطيته حقه، وفيته ما وعدته به، فالله عز وجل وفى عيسى ما كتب له أن يعيش في الدنيا آمراً ناهياً رسولاً في بني إسرائيل ثلاثاً وثلاثين سنة ثم رفعه، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [المائدة:117] وفيتني أيامي التي كتبتها لي. وسوف ينزل عما قريب ويعيش إن شاء الله ثلاثين سنة أخرى، وهو الذي يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، هذه الأخبار شاهدة صادقة والذي ينكرها يكفر، وفي القرآن الكريم: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61]، ذكر أن عيسى علم على الساعة، ساعة نهاية هذه الحياة، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61].

    إذاً: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ [المائدة:117] بعد ذلك أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117]، هو مطلع وعالم بحالهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)

    ثم قال عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118]، والمالك لهم، والسيد عليهم، أنت خالقهم، ومن يعترض على الله؟ إذا كنت تملك شاة تريد أن تذبحها فهل هناك من يقول: لا تذبحها؟ أنت المالك، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118]، وأنت المالك لهم فافعل ما تشاء، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، العزيز: الغالب الذي لا يمانع في مراده، والحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه، فهو تعالى يغفر للمذنبين غير المشركين، يغفر للمذنبين الذين أذنبوا من غير المشركين، أما الذين ماتوا على الشرك والكفر فهم آيسون قانطون، والله أخبر في غير آية، ورسله صرحت بذلك، فعيسى نفسه قال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، والتحريم: المنع الكامل.

    إذاً: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118]، من يعترض عليك؟ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، تقدر على ذلك وتغفر لمن يستحق المغفرة؛ لأن الحكيم يضع الشيء في موضعه.

    إذاً: فبنو إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى وجد منهم المسلمون المؤمنون كالحواريين وغيرهم، وفيهم المذنبون، فهؤلاء يغفر لهم ويرحمهم، أما من كفروا وماتوا على الشرك والكفر فهم آيسون قانطون، وهذا مجرد اعتذار من عيسى لربه وتفويض الأمر إلى الله، يقول: أنا كنت معهم كذا وكذا، وقد دعوتهم إلى ما أمرتني به، ثم توفيتني وأنت بعد ذلك الرقيب الشاهد عليهم، فإن تعذب عبادك وإن تغفر فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، موقف عظيم يقفه عيسى، وكيف لا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهذا أين يتم؟ في عرصات القيامة، في الساحة العظمى حين يأتي الرب ويحكم بين الناس.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ...)

    فأجابه الرحمن فقال تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، أهل الإيمان والعمل الصالح، الصادقون في إيمانهم وصالح أعمالهم في هذا اليوم ينفعهم صدقهم، والكاذبون المشركون والعابثون يا ويلهم، هذا اليوم يوم اجتماع الخليقة لفصل القضاء، يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، فادعوا الله أن نكون منهم؟ فاللهم اجعلنا منهم.

    والصادقون: جمع صادق، الصادق في إيمانه وفي عمله، لا ريب ولا شك ولا شيء يختلج في النفس، صدقه كامل وسلوكه كامل وتام.

    إذاً: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، بيان ذلك: قال تعالى: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [المائدة:119]، من أعلن عن هذا النعيم؟ الرب تبارك وتعالى، الله الذي قال هذا، يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [المائدة:119] بلا نهاية.

    وأنهار الجنة أربعة، هذه الأنهار تجري تحت الأشجار والقصور، قال تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [محمد:15]. ‏

    فوز الصادقين برضوان الله

    ثم ختم تعالى هذا الإنعام بما هو أعظم من الجنة ونعيمها: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، نعيم الجنة مهما كان لا يساوي رضا الله عز وجل.

    وقد مثلنا لإخواننا حتى يفهموا -وكلنا عوام وأشباه عوام- فقلنا: أنت ينزلك شخص منزله ويكرمك بالطعام والشراب وهو ساخط غضبان عليك، مكشر في وجهك عابس مقطب الجبين، فهل ستسعد؟ ستمل هذا النعيم مهما كان، لكن إذا كان راضياً عنك، يبتسم في وجهك ويناديك بأحسن أسمائك وإن قل الطعام والشراب فأنت في رضا وفي سعادة، فلهذا كان رضا الله أعظم نعيم الجنة، ولهذا ختمه بقوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]. والنعيم الآخر هو أن يكشف عن وجهه الحجاب ويريهم وجهه الكريم فتغمرهم فرحة ما عرفوا مثلها قط.

    رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]، قال تعالى: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، ما قال: هذا الفوز العظيم؛ لأنه عال، فلذلك قال: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، ما هو الفوز بالشاة والبعير والمرأة والولد والوظيفة والمنصب، فما هذا بشيء، الفوز العظيم: أن تنجو من عذاب الله وتدخل الجنة دار الكرامة مع أولياء الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، بيان ذلك: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، ومن أدخل النار وأبعد عن الجنة فقد خاب وخسر، فمن منا يرغب في أن يفوز؟ كلنا ذاك الرجل. فما الطريق؟ الطريق هو أن نعمل في صدق على تزكية نفوسنا وتطهير أرواحنا؛ لقوله تعالى في قضائه وحكمه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، هنا تقرير المصير ليوم القيامة.

    يا أمة الله! اعملي على تزكية نفسك. وإن قلت: كيف أزكيها؟ فاسألي أهل العلم يعلموك، وإن كنت تريدين الخبر الآن فآمني بالله وبكل ما أمر الله بالإيمان به، ثم اعملي الصالحات التي هي الصلاة وما إليها من العبادات، وابتعدي عما يدسي نفسك من الشرك والمعاصي، وإن زلت قدمك وسقطت على ذنب فعلى الفور اصرخي بكلمة: أستغفر الله.. أستغفر الله وأتوب إليه، ولا تزالين تبكين وتدعين حتى يزول ذلك الأثر، وحافظي على هذا حتى الوفاة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير)

    ثم قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ [المائدة:120]، كل شيء لله، الجنة والنار والكفار والمؤمنون والعوالم كلها لله؛ إذ هو خالقها وموجدها، كان الله ولم يكن شيء منها، فله ملك السماوات والأرض، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يزكي من يشاء ويضل من يشاء.

    وعلمنا أن مشيئته تابعة لحكمته، ما هي مشيئة هوجاء كمشيئتنا، إذ هو الحكيم، يشاء رحمة عبد أقبل عليه واطرح بين يديه يبكي بين يديه.

    لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ [المائدة:120] من خلائق، أما الملائكة فقد عرفنا، فالسماوات السبع تئط بالملائكة.

    وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، ما من شيء أراده إلا قدر على إيجاده، فلهذا ادعه واسأل ما شئت مما هو خير لك، فالله لا يعجزه شيء، لكن لا تتنطع وتغل في الأسئلة تقول: يا رب! ارزقني أولاداً صالحين وأنت لم تتزوج وعندك المال وأبيت أن تتزوج، هذا السؤال بدعة وباطل، تقول: يا رب! فقهني في الدين وأنت في المقاهي، ولا تجلس أبداً بين عالم تتعلم عنه، فكيف يفقهك في الدين؟

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    ولنستمع إلى الشرح الذي هو في التفسير زيادة لعلمنا.

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ معنى الآيات: يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر لقومك وَإِذْ قَالَ اللَّهُ [المائدة:116] تعالى يوم يجمع الرسل ] في عرصات القيامة [ ويسألهم: ماذا أجبتم؟ ويسأل عيسى بمفرده توبيخاً للنصارى على شركهم: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [المائدة:116]، أي: معبودين؟ يقرره بذلك، فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزهاً ربه تعالى مقدساً: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116]، ويؤكد تفصيه] وخروجه [ مما وجه إليه توبيخاً لقومه: إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة:116] يا ربي، إنك تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [المائدة:116]، فكيف بقولي وعملي ] إذا عملت؟ فهو من باب أولى، [ وأنا وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، إلا أن تعلمني شيئاً، لأنك أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:116-117] أن أقوله لهم، وهو: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [المائدة:117]، أي: رقيباً، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [المائدة:117] برفعي إليك كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة:117]، ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117]، أي: رقيب وحفيظ.

    إِنْ تُعَذِّبْهُمْ [المائدة:118]، أي: من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [المائدة:118]، أي: لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ [المائدة:118] الغالب على أمره، الْحَكِيمُ [المائدة:118]، الذي يضع كل شيء في موضعه، فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده.

    فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلاً: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا سواه، ونفعه لهم أن أدخلوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبداً، مع رضا الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد، ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، إنه النجاة من النار ودخول الجنات.

    وفي الآية الأخيرة يخبر تعالى أن له مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ [المائدة:120] من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ].

    هداية الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.

    ثانياً: براءة عيسى عليه السلام من مشركي النصارى وأهل الكتاب.

    ثالثاً: تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية ]، فالنفس الزكية يرحمها والخبيثة يعذبها.

    [ رابعاً: فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح: ( عليكم بالصدق؛ فإنه يدعو إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) ]، والعياذ بالله.

    [ خامساً: سؤال غير الله شيئاً نوع من الباطل والشرك ]، طلب شيء من غير الله ممن لا يملك ذلك شرك والعياذ بالله تعالى؛ لأن غير الله لا يملك شيئاً، [ ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟ ].

    أقول: الذين يسألون الموتى والغائبين والأحجار والكواكب والأنبياء هؤلاء يسألون من لا يسمع دعاءهم ولا يجيب نداءهم، فهذا السؤال شرك والعياذ بالله، وهم مؤلهون لمن سألوه ودعوه، أما أن تسأل أخاك وهو إلى جنبك أو على مقربة منك ويسمع صوتك ويقدر على أن يعطيك فلا بأس، أذن الله لنا في هذا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، لكن كونك تأتي إلى خربة من المباني ما فيها أحد وتقف عند الباب: يا أهل الدار! أعطونا، أغنونا، أشبعونا؛ فإنك تضحك الناس عليك؛ لأن الدار ما فيها أحد، هي خربة من الخرائب، فالذي يقف أمام قبر علي أو فاطمة أو الرسول ثم يقول: يا رسول الله.. يا فلان! أعطني؛ والله لقد أشرك في عبادة الله؛ لأن الذي تدعوه معناه: أنك أعطيته منزلة الله، أصبح يسمع ويرى ويقدر على أن يعطي ويمنع وهو غائب عن الناس، فكيف يصح هذا؟

    فالله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وأن يوفقنا وإياهم لما فيه حبه ورضاه.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767491850