إسلام ويب

تفسير سورة النساء (82)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جاءت هذه الآيات تكذيباً لليهود الذين زعموا أنه لم يوح إلى أحد من البشر غير موسى عليه السلام، فذكر الله عدداً من الأنبياء والرسل، ثم أخبر نبيه عن وجود آخرين لم يقصهم عليه أرسلهم سبحانه إلى أقوامهم، وفوق ذلك أخبره أنه كلم موسى تكليماً، فأسمعه كلامه بدون واسطة، فكيف ينكر اليهود ذلك كله، وقد بعث الله الرسل مبشرين لمن آمن بالجنة، ومنذرين من أشرك وكفر بالنار.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.

    وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:163-166].

    تقرير الوحي الإلهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات الخمس الكريمة ترد على أهل الكتاب دعاواهم بأن الرسول النبي الخاتم محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بنبي ولا رسول، وادعوا أنه ليس هناك من يشهد له بالنبوة ولا بالرسالة، أما الأنبياء الصادقون قبله فقد كانوا يتواجدون في الوقت الواحد أو في البلد الواحد فيشهد هذا لهذا، وهذا الذي يدعي النبوة ليس هناك من يشهد له بأنه نبي أو رسول، فجاءت هذه الآيات تبطل تلك الدعاوى وتجتثها من أصولها، وحسبنا أن يشهد الله عز وجل له، ثم أبعد شهادة الله تطلبون شهادة؟! ما قيمة شهادة العباد بالنسبة إلى شهادة رب العباد؟! فهيا بنا نتدارس هذه الآيات تدبراً وتأملاً.

    قوله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163]، هذا إخباره تعالى عن نفسه، إِنَّا ، أي: رب العزة والجلال والكمال، أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ، أي: هذا القرآن الكريم، وهذه الشرائع وهذه الأحكام وهذه الآداب، فهل كنت يا محمد تعلم شيئاً من ذلك؟ وهل كان أحد يعرف أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم -قبل أن نبأه الله بعد أن بلغ الأربعين من السنين من عمره- سيكون رسولاً؟ إذاً من أوحى إليه بهذا القرآن؟! إنه الله تعالى، وليس هذا ببدع ولا بغريب، إذ أوحينا إليك كما أوحينا إلى الرسل والأنبياء من قبلك، فأية غرابة في هذا الباب ما دام أن الله عز وجل يوحي إلى الأنبياء والمرسلين وأنتم تعترفون بذلك؟! فلمَ إذاً ينفى الوحي عن النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم؟!

    نبذة مختصرة عن نبي الله نوح عليه السلام

    كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ [النساء:163]، وقد علمنا ومن حقنا أن نعلم أن نوحاً كان أول رسول حمل الرسالة إلى البشرية وهي متورطة في الشرك والآثام، وأما ما قبل نوح وهما إدريس عليه السلام وشيث من ولد آدم، فما كانوا في أمم أشركت بالله عز وجل غيره وعبدت سواه، وكسلت وهبطت حتى ينقذها الله بنبوة ورسالة، أما نوح عليه السلام فحسبنا أنه أرسل إلى قوم يعبدون خمسة تماثيل، وهذه التماثيل الخمسة هم في الواقع عباد صالحون، وهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، إذ قال تعالى حاكياً قولهم: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ [نوح:23]، أي: لا تتركن، آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، فهؤلاء قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا عباداً صالحين، فلما ماتوا وضعوا على قبورهم تماثيل تمثلهم بحجة الرغبة في العبادة والطاعة والإقبال على الله تعالى، والتوسل والاقتداء بهؤلاء الصالحين، لكن مع مرور الزمان جاء جيل ظنهم أنهم آلهة وعبدوهم من دون الله تعالى، ولهذا حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من كل عمل من شأنه أن يتولد عنه الشرك والعياذ بالله.

    نبذة مختصرة عن نبي الله إبراهيم وأبنائه عليهم السلام

    وأما إبراهيم عليه السلام فهو أبو الأنبياء، وعامة أنبياء بني إسرائيل من ولد إبراهيم عليه السلام، ومعنى إبراهيم باللغة السريانية: الأب الرحيم، وقد كلفه الله بأوامر فنهض بها فاستوجب بذلك الإمامة، ولنقرأ قول الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، ونذكر من هذا أنه كلفه بأن يذبح ولده إسماعيل قرباناً لله رب العالمين، فما تردد في ذلك أبداً، بل أطاع ربه ووضع طفله إسماعيل بين يديه ليذبحه تقرباً إلى ربه عز وجل.

    واليهود والنصارى لا يجحدون نبوته، إذ الكل يؤمن بإبراهيم نبياً ورسولاً، وإسماعيل هو ابن إبراهيم الخليل، وهو ابن هاجر التي أهداها ملك مصر إلى سارة زوج إبراهيم وابنة عمه، فتسراها إبراهيم فأنجبت له إسماعيل، ثم بعد فترة أنجبت له إسحاق، وإسحاق هو ابن سارة وقد ولد بعد إسماعيل، قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، ويعقوب هو ابن إسحاق، وهذه تسمى بالبشرى المزدوجة، أي: بشره بولد يولد له ويكبر ويتزوج ويولد له ولد آخر، وهذا لا يقدره عليه إلا الله تعالى.

    بيان من هم الأسباط عليهم السلام

    وأما الأسباط فهم أحفاد يعقوب عليه السلام، والأسباط جمع: سبط، والحقيقة هو ابن الابن، وهؤلاء الأسباط كانوا اثني عشر رجلاً، وكانوا أنبياء، واليهود يعرفون هذا ويؤمنون به.

    نبذة مختصرة عن نبي الله عيسى عليه السلام

    وأما عيسى عليه السلام فهو روح الله وكلمته، وعبد الله ورسوله، وقد أراد الله عز وجل أن يخلق هذا المخلوق على خلاف سنته في تواجد بني آدم وتكاثرهم في الأرض، فأمر الله تعالى ملكه جبريل عليه السلام أن ينفخ في كُمِّ درع أم عيسى مريم عليها السلام، وبالفعل نفخ في كم الدرع فسرت النفخة -وهي روح- فدخلت في جوف مريم عليها السلام، وما هي إلا أن هزَّها الطلق وألجأها إلى مكان لتلد فيه تحت نخلة في قريتهم التي كانوا بها، فكان عيسى بكلمة التكوين، أي: كن، فكان، والذي عليه أكثر أهل العلم: أنه ما مكث في بطنها أكثر من ساعات، وتجلت حقيقة أنه عبد الله ورسوله في أنه وهو يرضع قالت لهم أمه: اسألوه، فأنطقه الله فقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33]، ثم قال الله تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:34]، وقد أنزل الله عليه الإنجيل، والإنجيل بعد التوراة، إذ إن بني إسرائيل كانوا يعيشون على التوراة التي أوحاها الله إلى موسى الكريم منذ قرون، لكن الله نسخ بالإنجيل بعض الأحكام التي كانت في التوراة، وأقر أحكاماً أخرى، وأضاف أيضاً إلى ذلك أحكاماً أخرى، لكن لا منافاة بين التوراة والإنجيل.

    وقد ولد عيسى في بيت لحم، وأخذ الخصوم يحاربونه، بل أدى بهم الحال إلى أن عزموا على قتله، وبالفعل حاصروه في بيته ورفعه الله تعالى من روزنة البيت وألقى الشبه على رئيس الشرطة الذي دخل ليخرجه، فلما تباطأ دخلوا عليه فألقوا القبض على ذاك الشرطي أو المسئول وظنوه عيسى، فأخذوه وصلبوه وقتلوه، وهم مختلفون هل هو عيسى أو لا؟ أما عيسى فقد رفعه الله تعالى إليه، قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158].

    وقد آمن بعيسى عليه السلام بعض الصلحاء والمعروفين بالحواريين، وأحداثهم في سورة المائدة وفي غيرها، والشاهد عندنا: أن عيسى رفع إلى الملكوت الأعلى، والحواريون نشروا دعوته التوحيدية الإسلامية في جنوب أوروبا، وانتشرت الدعوة الإسلامية التي جاء بها عيسى عليه السلام، فكاد اليهود ومكروا فبعثوا بولس، وأخذ يتقرب إلى الحاكم المسيحي، واستطاع أن يفسد الديانة المسيحية كما كانت على عهد عيسى، حتى قيل: لم يعبد النصارى ربهم عبادة حقيقية تزكي نفوسهم وتؤهلهم للجنة إلا سبعين سنة، ويدل لذلك أن الإنجيل الآن هو خمسة أناجيل، بل قد عبثوا بالإنجيل فقسموه إلى أكثر من خمسة وثلاثين إنجيلاً، ثم بمرور الأيام والفضيحة اجتمعوا وحولوا الخمسة والثلاثين إلى خمسة أناجيل.

    إذاً: الذي مكر بالمسيحيين هم اليهود، ولا زالوا إلى اليوم يمكرون بأي دين يظهر؛ لأنهم يريدون أن يكونوا هم أهل الدين فقط، كما قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى سينزل من الملكوت الأعلى في آخر أيام هذه الحياة، وإنا لمنتظرون، وسوف ينزل فيحكم ويملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً، ولكن العلامة المؤكدة له ولظهوره أن تتغير أحوال المسلمين، ويحكمهم إمام صالح اسمه محمد بن عبد الله المهدي، وينزل عيسى والمهدي يؤم ويحكم هذه الأمة، وإذا نزل عيسى فقد أغلق باب التوبة، فالمؤمن مؤمن، والكافر كافر، والبار بار، والفاجر فاجر؛ لأنها العلامة الكبرى من علامات قيام الساعة.

    نبذة مختصرة عن نبي الله أيوب عليه السلام

    وأما أيوب عليه السلام فقد ذكر تعالى قصته وأنه مرض ثمانية عشر سنة، ثم سأل ربه بتلك الدعوة: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، فاستجاب الله له وكشف ضره.

    نبذة مختصرة عن نبي الله يونس عليه السلام

    وأما يونس عليه السلام فقد قال فيه نبينا: ( لا تفضلوني على ابن متَّى )؛ لأن يونس باللغة السائدة إن صح التعبير فشل في الدعوة وما استطاع مقاومة المعاندين والمشركين من قومه، فما كان منه إلا أن تركهم وخرج من بلادهم، ولم يثبت كثبوت محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك خاف الرسول على أصحابه من أن يقولوا: إن يونس قد ضعف أو أن يونس كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تفضلوني على يونس بن متَّى )، ولما ملَّ يونس وسئم من عناد قومه وانصرافهم عنه ومقاومتهم لدعوته ترك البلاد وخرج، فلما وصل إلى شاطئ البحر صادف السفينة تريد أن تقلع فركب معهم، والتدبير لله عز وجل، ولما أصبحوا في البحر قال ربان السفينة: إن الشحنة أو الحمولة ثقيلة، فخيروا أنفسكم، إما أن تسقطوا واحداً منكم وإما أن تغرقوا كلكم، فأقرعوا فيما بينهم فخرجت القرعة على يونس، قال تعالى مصوراً ذلك: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، فما كان منهم إلا أن ربطوه بحبل ورموه في البحر، فأمر الله سمكة من السمك العظيم أن تفتح فاها ليدخل يونس في بطنها، وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:139-142]، ثم أخذ يسبح: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلما سمعت ملائكة العرش صوت يونس في قعر البحر وفي بطن الحوت شفعوا له عند الله تعالى، فأمر الله تعالى تلك السمكة أن تلفظه على شاطئ البحر، وكان قد نضج لحمه من حرارة بطن الحوت، إذ إن من يمكث كذا يوماً أو أسبوعاً في بطن الحوت فإن لحمه سيتهرى، وبعد أن ألقته السمكة على الشاطئ شاء الله أن ينبت عليه شجرة اليقطين، وذلك لتصبح كمستشفى خاصاً بنبي الله يونس، وتعرفون ورق الدباء؟ إذ إنه ورق ناعم والذباب لا يقع عليه، كما سخر الله له واحدة من الغزلان تأتي بنفسها وتدني بثديها ويرضع منها، فهذا غذاؤه وهذا دواؤه حتى تماثل للشفاء، ولنقرأ ذلك: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات:145-146]، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب اليقطين، أي: يحب ثمره وهو الدباء، وكان يلتقطها من حافتي القصعة، وهي ناعمة حقيقة، ولا ألذ منها إذا أُحسن طبخها.

    ولما تماثل للشفاء عاد إلى قومه، فوجدهم ينتظرونه بفارغ الصبر، قال تعالى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:145-148]، فلم تؤمن أمة بكاملها إلا أمة يونس، إذ ما من أمة بعث الله فيها رسولاً أو نبأ نبياً إلا آمن البعض وكفر البعض إلا أمة يونس فقد آمنوا عن آخرهم، وكان عددهم مائة ألف وزيادة، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:148]، أي: إلى نهاية آجالهم وإلا استوجبوا العذاب، وقال العلماء: لما خرج يونس من بلادهم تجلت سحب سوداء في سماء تلك المدينة، فنصح بعض المصلحين في تلك الأمة أن العذاب قد قرب، وأن عليهم أن يتوبوا إلى الله تعالى، وأن يصرخوا بين يديه، فتقول الروايات: أبعدوا الأطفال عن أمهاتهم ليصرخوا وليبكوا، وحتى الحيوانات أبعدوا صغارها عن كبارها، وضجت البلاد كلها بالبكاء لله عز وجل، فتقشعت تلك السحب وآمنوا، وهذا تدبير من رب العزة والجلال، فعاد يونس فإذا بهم يستقبلونه بحفاوة ويقبلونه.

    نبذة مختصرة عن نبي الله هارون عليه السلام

    وأما هارون فهو أخو موسى عليه السلام، وقد ولد قبل موسى بسنة أو بسنتين في العام الذي كان لا يقتل فيه ذكور بني إسرائيل من قبل جنود فرعون، والسبب في ذلك: أن السحرة أو رجال السياسة قالوا لفرعون: إن دولتك أو سلطانك سيكون زوالها على يد هذه الفئة من بني إسرائيل؛ لأنهم أولاد الأنبياء، ولا بد وأن يكون لهم يوم يملكون، وقد حصلت أيضاً تجربة وهي أنه لما قدم موسى إلى فرعون وهو يحبو، فإذا به يحاول أن يقف فمسك بلحية فرعون وجذبها، فتطير فرعون وقال: إذاً هذا هو، وهم بذبحه، وهذا مبين في سورة القصص، فشفعت له آسية وقالت: جربه أو امتحنه، فامتحنوه فجاءوا بطبق فيه جمر وآخر فيه تمر، وقالوا: إن تناول التمر فهو واع وبصير وقد أراد إهانة فرعون بجذب لحيته، وإن تناول الجمر فهو صغير لا يفرق ولا يميز بين الحسن والقبيح، فأخذ الجمر وألقاها في فمه فكانت سبب لُكنة لسانه، ولما كبر موسى وحمل الرسالة عابه فرعون بهذه اللكنة، إذ لم يكن فصيحاً.

    وعلى كلٍ لما أصدر فرعون أمره بقتل ذكور بني إسرائيل قام رجال الدولة وقالوا: ستنتهي اليد العاملة إذا قضينا على بني إسرائيل كلهم، فمن الرأي أن عاماً نقتل وعاماً نعفي، ففي عام الإعفاء ولد هارون، وفي عام القتل ولد موسى، فأوحى الله تعالى إليها بما بينه في كتابه العزيز: أن ضعيه في التابوت وألقيه في اليم إلى آخر القصة.

    إذاً: هارون هو أخو موسى وشقيقه، وموسى هو الذي سأل ربه أن ينبئه ويرسله معه، وقد استجاب الله عز وجل له، وخلف موسى في بني إسرائيل أيام ذهابه إلى المناجاة، ومات في التيه في صحراء سينا قبل موسى، وقد اتهم اليهود موسى بقتل أخيه، وهذه من أخلاقهم إلى الآن.

    نبذة مختصرة عن نبي الله سليمان عليه السلام

    وأما سليمان عليه السلام فهو ابن داود عليه السلام، وهو أحد ثلاثة الذين ملّكهم الله المعمورة من أقصاها إلى أقصاها، وهم: ذو القرنين، وسليمان، وبختنصر، كما أنه أوتي من الكمالات ما لم يؤتها غيره، ومنها: أنه يفهم نطق الطير، قال: وعُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، فإذا صاح الطير فإنه يعرف ما يقول، وهذه من أعظم الكرامات والمعجزات، وعُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل:16].

    ومما يذكر عن فهمه للطير أنه سئل مرة عن صياح صرد وهو طائر معروف إلى الآن، فقال لهم: يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب، وهي كلمة حق، أي: لدوا أيها الوالدين من الرجال والنساء للموت، إذ لو لم نلد ماذا سيأخذ الموت؟ والذين يبنون العمارات والمنازل إنما يبنونها لتكون خراباً وإن بلغت عنان السماء، بل والله لا بد وأن تئول إلى خراب، وكانت هذه موعظة عجيبة من هذا الطائر.

    نبذة مختصرة عن نبي الله داود عليه السلام

    وأما داود عليه السلام هو أبو سليمان عليه السلام، وقصته موجزة في سورة البقرة، وهو أنه كان في جيش يقوده طالوت لقتال جالوت، وذلك أن بني إسرائيل لما استعمروا وشردوا وطردوا كما هي حالهم في وقت مضى، سألوا الله عز وجل بواسطة نبي من أنبيائهم أن يملك عليهم رجلاً يجاهدون معه ويستردون ملكهم ويعودون إلى ديارهم، وهذا مبين بإجمال في سورة البقرة، قال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [البقرة:248] الآية، ثم جاءهم الأمر من الله بأن فلاناً هو الذي سيقودكم، فحملهم الكبر وقالوا: كيف يحكمنا هذا ويقودنا ولم يؤت كذا وكذا من المال والجسم، فألزمهم الله بقبول ولايته، وذلك أنه أعطاهم آية يندهشون أمامها ويسلمون له، وهذه الآية هي أن الملائكة تأتيهم بالتابوت من أرض بابل بالعراق التي احتلها العدو، وبالفعل جاء التابوت وفيه آثار موسى وهارون، فما كان منهم إلا أن سلموا له، أي: سلموا بقيادة طالوت لهم، ومشى معهم ليحارب من احتل بلادهم، وامتحنهم في الطريق ليرى الصابر من العاجز الجزع الذي لا يقاوم ولا يقاتل، فقال لهم: سوف نمر بنهر فلا تشربوا منه، ومن أُلجئ واضطر إلى الشرب فلا يزيد على غرفة يغرفها بيده، وما إن وصلوا إلى النهر حتى أكبوا عليه كالبهائم، ولم ينج إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً على عدة أهل بدر، والباقون قال لهم: أنتم لا تصلحون للقتال، فعادوا منهزمين قرابة أربعين ألفاً، وقاتل طالوت بثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وانتصر، وسبب الانتصار هو أن جالوت خرج من جيشه يطالب المبارزة، وكان جباراً من الجبابرة، فنادى طالوت: من يبارزه؟ من يبارزه؟ فما استطاع أحد أن يخرج إليه، فخرج إليه داود وكان شاباً صغيراً، فتقاتلا فنصره الله على جالوت، ومن ثم رفعه الله تعالى، وأصبح ولي عهد ثم أصبح هو الملك، وأوحى الله إليه ونبأه وأرسله.

    ومما أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن داود أنه كان يأكل من عمل يده، وكان يصوم يوماً ويفطر يوم، ومع هذا كان لا يقعد عن الجهاد، وقد كان ينسج الدروع، قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ [الأنبياء:80]، أي: لتحفظكم من عدوكم، وهنا يروى أن لقمان الحكيم عليه السلام مر بداود وهو عند منزله ينسج الدروع للقتال ويبيعها، فوقف لقمان وهم أن يسأله لماذا هذه؟ أو ماذا تصنع بها؟ فأدركته الحكمة فسكت، فلما فرغ داود من نسج الدرع أخذ يقيسه على جسمه، ثم قال: نعم لبوس الحرب أنتِ، فقال لقمان عليه السلام: الصمت حكمة وقليل فاعله، إذ لو ما صمت وسأل كان أهان نفسه وأذلها، وسأل عما لا يعنيه ولا حاجة له به، لكن لما صبر وصمت وآثر الصمت على النطق استفاد العلم بدون ما سأل.

    كما أن داود عليه السلام حكم فترة من الزمن، ولما توفي ولى ولده سليمان، وهناك أيضاً حادثة أشير إليها وهي أن سليمان كان أمام المحكمة وهو طفل يلعب مع الأولاد، فاختصمت امرأتان في طفل لهما، فلم خرجتا من مجلس القضاء سألهما سليمان: بم حكم أبي؟ قالوا: حكم بكذا وكذا، والقضية هي أن امرأتين نامتا في مكان ما، فجاء فاختطف ذئب أو حيوان فأخذ أحد الطفلين لهما، ولما استيقظت إحداهن وجدت أن طفلها غير موجود، فضمت إليها طفل جارتها، وقالت: هذا ولدي، فبكت الأولى وترافعا وتقاضيا عند الملك داود، فحكم بالطفل للكبرى اجتهاداً، إذ الصغيرة لا يمكن أن تصدق، ثم كيف تلد وهي لازالت صغيرة؟ بينما الكبرى معقول أن تكون هي أمه، فقال سليمان لأبيه: اذبح هذا الولد، فالتي ترضى بذبحه ليست بأمه، فلما قال: هاتوا الولد ليذبح، صاحت الأم وقالت: لا يذبح، إنه ليس بولدي، بينما الأخرى قدمته ليذبح، إذ لو كان طفلها وفلذة كبدها فإنها لا تعطيه ليذبح.

    وهناك حادثة أخرى وهي حادثة الزرع، وقد قال الله فيها كما في سورة الأنبياء: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، والشاهد عندنا هو أن سليمان تربى في حجر داود، وكان من أنبياء الله ورسله.

    بيان المراد بالزبور في قوله تعالى: (وآتينا داود زبوراً)

    وقوله تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163]، والزبور هو الكتاب، وهو مأخوذ من الزبر الذي هو الكتب، والزبور مائة وخمسون سورة، وليس فيه حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هو حكم ومواعظ، والتوراة هي التي تطبق ويحكم بها وتنفذ أحكام الله فيها، أما الزبور فهو كتاب فقط فيه عظات وحكم فقط، وكان داود عليه السلام إذا قرأه بصوته الحسن يلتف حوله الإنس والجن والطير والحيوان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك ...)

    وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].

    وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [النساء:164]، أي: ورسلاً أرسلناهم يا نبينا وقصصنا عليك قصصهم في القرآن الكريم.

    وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]؛ لأنه لا فائدة من ذكر قصصهم، إذ لا يستفيد منها شيئاً، مع أن هناك أمماً في شرق أوروبا وفي الصين وفي اليابان وفي مناطق بعيدة ما أوحى الله تعالى على نبينا من شأنهم شيئاً، إذ ليس هناك فائدة في ذلك، لكن الجهات القريبة من الجزيرة هي التي ينتفع أهل القرآن بمعرفة قصصها، وإلا ما من أمة إلا وقد نبأ الله فيها وأرسل إليها رسولاً، بل ما خلت أمة من نذير قط، لكن الذي ذكر تعالى لنا هذه المنطقة حول الشرق الأوسط، أما الرسل الذين أرسلوا خارج الشرق الأقصى أو الغرب الأبعد فما ذكر تعالى عنهم شيئاً، ولكن نؤمن إيماناً يقينياً أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير، ولهذا قال تعالى: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]؛ لأنه لا فائدة في قصصهم والتحدث عنهم؛ لأن العرب واليهود وغيرهم ما عرفوا هؤلاء ولا سمعوا عنهم، فما يستفيدون من قصصهم والحديث عنهم.

    ثم قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وهذه حجة أخرى، إذ إن اليهود يعترفون بأن موسى عليه السلام الكليم قد كلمه الله كفاحاً بلا واسطة في جبل الطور، وهذا الذي كلم موسى تكليماً لا يرسل نبياً آخر محمداً ويوحي إليه، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، و(تكليماً) مصدر لتأكيد الكلام لا مجرد إيحاء وإعلام سريع، وإنما كان كلاماً حقيقة، ويدل لذلك أنه لما سمع موسى كلام ربه قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فلولا أنه سمع كلام الله حقيقة ما كانت تتطلع نفسه إلى رؤية الله عز وجل، أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، فعجز عن رؤية الجبل لما تهدم وتحطم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ...)

    رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165].

    رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء:165]، أي: مبشرين أهل الإيمان وصالحي الأعمال، ومنذرين أهل الشرك والذنوب والآثام، وعلة ذلك: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فلولا الرسل الذين يُرسلون لكان لأهل البلاد حجة يوم القيامة ولقالوا: يقولون: ما جاءنا من نذير، وبالتالي فكيف نعبدك؟ ما بلغنا أمرك ولا نهيك، فلمَ تؤاخذنا؟ إذاً فلقطع هذه الحجة ما خلت أمة إلا وأرسل الله فيها رسولاً أو بعث فيها رسولاً، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وحتى الأمم التي تُهلك وتدمر، ما دمر الله أمة ولا قرية ولا أهلك بلاداً إلا بعد إقامة الحجة عليها، أو قبل أن يرسل الرسول ويدعوهم ما أهلك الله أمة لا بالجوع ولا بالمرض ولا بغير ذلك.

    وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165]، غالباً قاهراً لا يمانع فيما يريد أن يفعله، وحكيماً في كل أفعاله، إن أعطى لحكمة، وإن منع لأخرى، وإن أعز لحكمة، وإن أذل لحكمة، لا يصدر أبداً أمره إلا مع حكمة مسلَّمة لا ينازع فيها العقلاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ...)

    لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166].

    لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ [النساء:166]، يا بني إسرائيل! يا من أنكرتم على محمد نبوته ورسالته، وقلتم: من يشهد له؟! فمثلاً داود شهد لسليمان، ويحيى شهد لزكريا، ومحمد من يشهد له؟ لا أحد، إذاً تريدون من يشهد له؟ الله هو الذي شهد له، أبعد شهادة الله تطلبون شهادة؟! إن شهادة البشر كلهم لا تساوي شهادة الله؛ لأن الله عليم حكيم.

    لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، أنك أهْلٌ لهذه الوظيفة، وأنك متهيئ لحمل هذه الرسالة، وَالْمَلائِكَةُ [النساء:166]، أيضاً، يَشْهَدُونَ [النساء:166]، أبعد شهادة الملائكة تطلبون شهادة؟ إن جبريل هو الذي يأتي بالقرآن، فكيف لا تُقبل شاهدته؟! وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    نسمع بعد هذه البيانات موجز لهذه الآيات فلنتأمل.

    معنى الآيات

    قال الشارح: [ روي أن اليهود عليهم لعائن الله لما سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم في الآية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحياً، وقالوا: لم يوح الله تعالى إلى غير موسى ]، أي: لما نزلت الآيات الأولى وأبطلت حجتهم، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160] إلى غير ذلك، ذكر أربعة أو خمسة عيوب من عيوبهم، فقالوا: ما نسلم أن هذا يوحى إليه، إذ ما أوحى الله إلا إلى موسى فقط.

    قال: [ فرد الله تعالى عليهم بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] ]، فأي حجة بقيت لهم؟ قال: [ فذكر عدداً من الأنبياء، ثم قال: ورسلاً، أي: وأرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل، أي: قص عليه أسماءهم وبعض ما جرى لهم مع أممهم، وهم يبلغون دعوة ربهم، وأرسل رسلاً لم يقصصهم عليه، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليماً، فأسمعه كلامه بلا واسطة، فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشر من شيء، وقد أرسلهم تعالى رسلاً مبشرين من آمن وعمل صالحاً بالجنة، ومنذرين من كفر وأشرك وعمل سوءاً بالنار، وما فعل ذلك إلا لقطع حجة الناس يوم القيامة، حتى لا يقولوا: ربنا ما أرسلت إلينا رسولاً، هذا معنى قوله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، أي: بعد إرسالهم، وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا ، غالباً لا يمانع في شيء أراده، حَكِيمًا [النساء:165]، في أفعاله وتدبيره.

    هذا بعض ما تضمنته الآيات الثلاث، أما الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166].

    فقد روي أن يهوداً جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغهم أنه رسول الله صدقاً وحقاً، ودعاهم إلى الإيمان به وبما جاء به من الدين الحق، فقالوا: من يشهد لك بالرسالة إذ كانت الأنبياء توجد في وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض، وأنت من يشهد لك؟ فأنزل الله تعالى قوله: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ [النساء:166]، يريد بإنزال الكتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة ]، أي: كيف ينزل عليه الكتاب وما هو برسول ولا نبي؟ لا يعقل هذا أبداً.

    قال: [ وبكل ما تحتاج إليه البشرية في إكمالها وإسعادها، إذ حوى هذا الكتاب أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمعت أن تأتي بمثله، أليس هذا كافياً في الشهادة لك بالنبوة والرسالة؟ بلى، والملائكة أيضاً يشهدون، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166]، فلا تُطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون ].

    هداية الآيات

    قال: [ من هداية الآيات: أولاً: تقرير مبدأ الوحي الإلهي ]، أي: تقرير وجود وحي يوحيه الله تعالى إلى من يصطفي من الناس، فما من نبي إلا وأوحى الله إليه، ومعنى الإيحاء: الإعلام السريع الخفي يقع في قلب الرجل فيفهم عن الله تعالى ما طلب منه، إذ إن الله يعد الإنسان إعداد خاصاً بتطهير روحه وتزكية نفسه، ثم يلقي إليه بذلك الحكم أو المعنى فيجده في نفسه وهو موقن بأن هذا كلام الله تعالى، كما تسمع أخاك يكلمك فلا تشك أبداً في أنه كلمك، والله عز وجل قد كلم موسى وكلم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كفاحاً، أي: وجهاً لوجه، إلا أن نبينا في الملكوت الأعلى وموسى في الملكوت الأسفل، كما أنه كان سبحانه يبعث بالملك فيكلمه نيابة عن الله.

    والشاهد عندنا: تقرير مبدأ الوحي، والوحي قد انقطع، إذ آخر من يوحى إليهم الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.

    قال: [ ثانياً: أول الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.

    ثالثاً: إثبات صفة الكلام لله تعالى ]، إذ الله يتكلم، فقد كلم موسى، وكلم محمداً، وكلم من شاء أن يكلم من أنبيائه ورسله، وصفة الكلام صفة كمال لا صفة نقصان، لكن لا يخطر ببالك أن كلام الله ككلامك، إذ الله عز وجل سميع بصير، فهل يخطر ببال عاقل أن سمع الله كسمع المخلوق أو بصره كبصر المخلوق؟ مستحيل أبداً.

    ودائماً اجعلوا هذه الظلة على رءوسكم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فاذكر يد الله، وقدم الله، وكلام الله تعالى، وكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربنا، ولكن لا يخطر ببالك شيء اسمه يشبه كلام الله أو ذات الله أو صفات الله، إذ سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

    قال: [ رابعاً: بيان الحكمة في إرسال الرسل، وهي قطع الحجة على الناس يوم القيامة ]، فلو سئلت: لم يرسل الله الرسل؟ لكان الجواب: من أجل ألا يحتج الناس يوم القيامة لما يأتي الحساب والجزاء فيقولون: ربنا ما أرسلت إلينا رسولاً، لم تعذبنا؟ فإرسال الرسل من أجل قطع الحجة على البشر يوم القيامة، وهذا الوجه الأول، والوجه الثاني: إرسال الرسل من أجل هداية الخلق وإصلاحهم وإكمالهم وإسعادهم، لا لمجرد العبادة فقط.

    قال: [ خامساً: شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته ] وتذكرون شهادة الله لنفسه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، فهذه شهادة الله عز وجل لنفسه، وهو أعلم بنفسه وبخلقه وكائناته أنه لا إله إلا هو، لكن لو قيل لك: كيف عرفت أنه لا إله إلا الله؟ فأيسر جواب أن تقول: لأن الله قد شهد بذلك، وملائكته شهدوا بذلك، وأهل العلم شهدوا بذلك، فكيف لا أشهد أنا؟ هل أنا أعلم منهم؟

    مرة أخرى: هذه الجملة: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، أكبر حجة لك إذا سئلت: كيف شهدت أن لا إله إلا الله؟ فتقول: أنا شهدت ذلك بشهادة الله وبشهادة ملائكته وأنبيائه ورسله؛ لأن أهل العلم هم الأنبياء والرسل، فهل تقبل شهادة بعد شهادة الله تعالى؟

    قال: [ خامساً: شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته ]، إذاً فكيف يكفر به النصارى أو اليهود، والله يشهد له بأنه نبيه ورسوله فقال: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ [النساء:166]؟!

    قال: [ سادساً: ما حواه القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة ]، أي: أن القرآن قد حوى العلوم والمعارف بكل فنونها وأصنافها، وأعظمها التاريخ البشري، فهل صاحبه لا يكون رسولاً؟! يأتيك ورقة من رجل مكتوب فيها كلمة فتصدق أن هذا قد بعثه فلان، فكيف إذاً بصاحب هذا الكتاب العظيم الجليل وتقول ما هو برسول؟! كيف يعقل هذا الكلام؟! ولكن الشهوات والأهواء والأطماع والعادات السيئة ودفع الشياطين لهم، جعلهم ينكرون الحق، وليس بعجيباً هذا ولا غريباً، والهداية بيد الله تعالى.

    فاللهم اهدنا، اللهم اهدنا، وخذ بأيدينا إلى رضاك يا رب العالمين.

    وصلى الله على سيدنا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755944796