إسلام ويب

تفسير سورة النساء (78)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بين الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حال يهود وأنهم قوم بهت جاحدون، فلا يؤمنون لنبي من أنبياء الله بسبب تعنتهم وكثرة أسئلتهم ومطالبهم، وهم حين سألوا رسول الله أن ينزل عليهم كتاباً كاملاً فيه ذكر أسمائهم، ذكر الله له أن هذا سجية من سجاياهم، فهم قد سألوا موسى أكثر من ذلك، حيث سألوه أن يريهم ربهم جهرة، فعاقبهم الله على ذلك، ثم اتخذوا العجل وأشركوا بالله، ثم عاقبهم الله على ذلك، وهم مع ذلك يظهرون تمردهم في كل مرة بسبب خسة طباعهم ودناءة نفوسهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:153-154].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كلام الله عز وجل موجه إلى مصطفاه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك ليعزيه بذلك ويسليه حتى لا يعجب من كفر اليهود به وبما جاء به، ولا يعجب من حربهم له وخداعهم وغشهم له، ومؤامراتهم على قتله، فإنهم أهل للخبث والشر والفساد، وهذه هي حالهم من عهد آبائهم وأجدادهم إلا من رحم الله تعالى.

    فتأملوا الآيات ونحن نتلوها مرة أخرى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:153-154].

    سؤال أهل الكتاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء

    معاشر المستمعين والمستمعات! قول ربنا جل ذكره: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ [النساء:153]، من المخاطب بهذه الآيات؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما المراد بأهل الكتاب؟ هذا اللفظ يشمل النصارى واليهود، لكنه هنا خاص باليهود، إذ هم أهل كتاب، كما نحن والحمد لله أهل أعظم كتاب على وجه الأرض، والمراد بكتابهم هو التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى حاوية للشرائع والقوانين والآداب، وما يتوقف عليه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

    يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ [النساء:153]، أي: يطلبون منك يا رسولنا، أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء:153]، وبالفعل فقد قالوا: لن نؤمن لك نبياً ورسولاً حتى يُنزل الله عليك كتاباً من السماء كاملاً جامعاً، وحينئذ تكون هذه آية نبوتك ورسالتك، وتكون أسماؤنا في ذلك الكتاب وما نطلبه، فعلقوا إيمانهم على مستحيل، ولو أنهم قالوا: لن نؤمن فقط فممكن، أما هذا الطلب فإنه أمر عجب، وكأنهم أوحوا إلى العرب المشركين بمثل هذا، إذ قال تعالى عن المشركين العرب: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:90-92]، فقد كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى يوحون إلى المشركين ويعلمونهم.

    كما أن المشركين قالوا: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32]، أي: لماذا ينزل آيات وسوراً؟ وهذه كلها من إيحاءات اليهود، أما العرب فقد اضطربوا أن يسألونهم بوصفهم أهل كتاب وعلم، فيقولون لهم: قولوا له كذا وكذا؛ لأن همَّ اليهود ألا ينتشر الإسلام، وليبقى الجهل حتى تظهر دولة بني إسرائيل.

    سؤال أهل الكتاب لنبي الله موسى أن يريهم الله جهرة

    ثم قال تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153]، أي: أكبر من إنزال الكتاب، فقد سألوه وطلبوا منه أن يريهم الله جهرة بلا حجاب ولا واسطة، فيشاهدونه بأعينهم! هذه الأعين التي ما شاهدت الملائكة إلى جنبهم، فكيف تستطيع أن تشاهد الله عز وجل وتنظر إليه؟! وهذا لو كان كسؤال موسى لربه فلا بأس به، إذ موسى عليه السلام لما كلمه ربه وسمع كلامه في جبل الطور قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، اشتاقت نفسه لرؤية الله وهو يسمع كلامه وهو بين يديه، فقال: رَبِّ [الأعراف:143]، أي: يا رب، أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فأجابه الله تعالى بقوله: إنك لن تراني [الأعراف:143]، أي: لا تقدر على رؤيتي ولا تستطيعها، ولكن لتطمئن نفسك وتهدأ، انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، أي: جبل من جبال الطور، فتجلى الرب عز وجل للجبل فاندك وأصبح غباراً، وما إن رأى موسى الجبل وقد تحلل حتى صعق مغمىً عليه، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، ثم قال الله تعالى له: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144].

    لكن سؤال اليهود ليس كسؤال موسى، وإنما أرادوا به التعجيز والتحدي، أي: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، أما بدون ما نرى الله بأعيننا فلا نصدقك بأنك رسول ولا نؤمن بك.

    أخذ الصاعقة لبني إسرائيل عند سؤالهم لموسى أن يريهم الله جهرة

    ثم قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153]، والصواعق معروفة، وتسمعونها وتشاهدونها مع البرق والأمطار، فهم اشترطوا للإيمان أن يروا الله تعالى، فأدبهم الله عز وجل بهذه الصاعقة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، ثم رد الله تعالى إليهم حياتهم، وقد فعل الله بهم هذا بظلمهم، إذ (الباء) للسبب، أي: بسبب ظلمهم، فما هو ظلمهم؟ الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فأي ظلم أعظم من تقول: يا شيخ! إن كنت مؤمناً فاسأل الله أن ينزل المطر علينا الآن؟ فهم يسألون ويطلبون فقط من باب التحدي والعناد والمكابرة، وذلك حتى لا يذعنوا للإسلام ويدخلوا فيه، فهذا هو الظلم بعينه، ولذلك أخذهم الله به، ولو شاء لأماتهم وأراح الحياة منهم.

    اتخاذ بني إسرائيل للعجل في غياب موسى عنهم

    قال تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153]، فهم قد خرجوا مع موسى عليه السلام إلى جبل الطور ليأتيهم بالدستور الذي يحكمهم به، وهذا قد تم لهم يوم أن خرجوا من الديار المصرية، وأغرق الله فرعون وجنده، ونجاهم مع موسى وأخيه هارون، واجتازوا البحر، ومن عجائبهم: أنهم في طريقهم وهم قرابة ستمائة ألف مروا بقرية من القرى، فوجدوا أهلها يعبدون عجلاً، أي: عاكفين عليه، فقالوا: يا موسى! اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:138-139]، فانظر إلى العجب! لما استقلوا من سلطان فرعون، وموسى وهارون يقودانهم، في الطريق مروا بهذه القرية فوجدوها مشركين عاكفين على صنم، فقالوا: اجعل لنا يا موسى إلهاً كما لهم آلهة! فأي عقول هذه؟! أكثر من أربعين سنة وموسى يحاور فرعون وهم يسمعون الحجج والبراهين، وأعظم حجة وأعظم برهان أنه شق بهم البحر فنجوا وأغرق الله فرعون وملأه وكانوا أكثر من مائة ألف مقاتل، ثم بعد هذا يقولون: اجعلنا لنا إلهاً كما لهم آلهة! قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، وهو كذلك، إذ الجهل آفة عظيمة.

    ثم مشوا ونزلوا منزلاً فقال لهم موسى: أنا عندي موعد مع ربي بجبل الطور، وذلك لآتيكم بالدستور والقانون الذي أحكمكم به؛ لأنهم قد استقلوا، فقد كان فرعون يحكم وينفذ أحكامه، فلما استقلوا فلا بد من دستور، وهذه اللطيفة رددناها في هذا المسجد مئات المرات، وقد قلنا: أيام ما كان المسلمون يستقلون يوماً بعد يوم، وكل سنة أو سنتين يستقل الإقليم الفلاني من إندونيسيا إلى موريتانيا، ما هناك شعب أو إقليم استقل ثم طالب بدستور السماء وقانون الله لعباده، وإنما يأتون بدساتير وقوانين المشركين الكافرين، بينما موسى الكليم عليه السلام ما إن استقل بنو إسرائيل حتى قال: اجلسوا هنا، وأنت معهم يا هارون، وذلك حتى آتيكم بالدستور الذي أحكمكم به.

    ما يلزم عباد الله المؤمنين عند تمكينهم في الأرض

    وأزيد أمراً أو فضيحة: لما أخذنا نستقل من إندونيسيا إلى موريتانيا، كان عبد العزيز قد أسس هذه الدولة وأقامها على دستور الله عز وجل لعباده، وهذا الدستور هو في آية من كتاب الله فقط، لا ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، قال الله عز وجل في سورة الحج المدنية المكية: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، بمعنى: استقلوا وحكموا، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فـعبد العزيز رحمة الله عليه ما إن حكم حتى أقام الصلاة كما أمر الله، أي: أقامها كما أمر الله إقامة حقيقية، فلم يبق مواطن لا يصلي، بل ولم يبق مواطن يمر بالمسجد والناس يصلون، أو دكاناً أو مقهى أو مصنعاً مفتوحاً والناس في الصلاة، وعندنا على هذا شواهد وهو أن كبار السن كانوا يقولون: كان أهل القرية يقرءون أسماء الذين صلوا في صلاة الصبح، فإن غاب أحدهم قالوا: ائتوه إلى بيته، فإن كان مريضاً عودوه، وإن كان غائباً احموا دياره، وإن كان الشيطان قد تمرد به أو عبث به فائتوا به.

    ومن لطائف الحديث ولا بأس أن نذكرها: أن الهيئة إذا أذن المؤذن تنتشر في الأسواق وفي الشوارع وفي الأزقة، فإذا ضبطت مدبراً عن المسجد معرضاً عنه فبالعصا ترده إلى المسجد، وقد يكون على غير وضوء، فشاع في بين أهل الحكايات وأهل البلاد: صلاة سعودية لا وضوء ولا نية! يعني: أن هذا الذي دفعته الهيئة للصلاة ليس متوضئاً ولا يريد أن يصلي، لكن يجب عليه أن يصلي.

    وعلى كلٍ أقام عبد العزيز ورجاله الصلاة، فكانت تقام كأنهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالغني كالفقير، والعالم كالجاهل، والبعيد كالقريب، ولم لا وهو عبد العزيز يحدثكم من عرفه، فقد كان يقوم الليل ويبكي ويتملق بين يدي الله طول حياته، فكيف لا يأمر بإقامة الصلاة؟!

    واسمع إلى علة وفائدة إقام الصلاة، إذ قال عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، أي: يأمر الله رسوله وأمته معه بإقامة الصلاة، لم يا الله؟ ما فائدة هذا يا رب؟ الجواب: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والله العظيم! إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى [العنكبوت:45]، أي: صاحبها ومقيمها، عَنِ الْفَحْشَاءِ [العنكبوت:45]، وهو كل ما قبح واشتد قبحه من الاعتقاد الباطل والقول السيئ والعمل الفاسد، وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والمنكر وهو كل ما يخالف رضا الله عز وجل.

    وقد كررنا هذا القول آلاف المرات وقلنا لهم، وأنا آسف أننا نتكلم وليس بيننا من يبلغ أبداً، فقلنا لهم: هيا نمشي إلى المحافظ في أي بلد إسلامي، وندخل عليه ونقول: يا سيادة المحافظ! أعطنا قائمة بأسماء المخالفين للقانون أو لنظام اليوم أو هذا الأسبوع، فهذا سرق وهذا ضرب فلاناً وهذا فعل كذا وكذا، وهم الآن في السجن، وقد أقسمت غير ما مرة، والذي نفسي بيده! لن يوجد بين أولئك المساجين المجرمين المخالفين نسبة أكثر من (5%) من مقيمي الصلاة، ومن عداهم فتاركون للصلاة، بل في أي بلد إسلامي ادخل إلى الحكومة واسألها: أعطونا قائمة بأسماء المخالفين للقانون، سواء بالخيانة أو بالخبث أو بالظلم أو بالشر، فلا نجد أكثر من (5%) من مقيمي الصلاة، وخمسة وتسعون إما تاركو الصلاة وإما مصلون، والله يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، وبالتالي كيف يتحقق الأمن؟ كيف يتحقق الاطمئنان؟ لما تكون النفوس طاهرة زكية.

    وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فكوَّن عبد العزيز رحمة الله عليه هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرضى والمصابون بصداع الكفر يتألمون ويتقززون ويكرهون الهيئة كراهية عجيبة، وقد سمعنا هذا بآذاننا.

    مرة أخرى: يقول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، وسادوا وحكموا، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، وكالصلاة الزكاة، فلم يأمر بها إقليماً أمراً حقيقياً عند استقلاله، ولم تجبى الزكاة سواء كانت من الأموال الناطقة أو الصامتة، وإنما أعرضوا إعراضاً كاملاً عن الله وقانونه في عباده، بينما أقام عبد العزيز دولته وجلب الزكاة من الشعير والتمر والشاة والغنم والذهب والفضة، وكل ذلك استجابة لأمر الله وطاعة له.

    والشاهد عندنا: أننا أخذنا نستقل بلداً تلو البلد، وهم يسمعون ويشاهدون الأمن والطهر الذي تحقق في هذه الديار بعدما كانت جاهلية جهلاء، فقد كان الحاج يؤخذ ويسلب نقوده وهو في طريقه إلى مكة، والشجر والحجر يعبد بالباطل كسائر بلاد العرب والمسلمين في تلك الظلمة، فتحقق توحيد وطهر وأمن لم تكتحل به عين الدنيا إلا أيام القرون الثلاثة، وقد عرف هذا المسلمون، لكن للأسف لما يستقل القطر يأتون بدستور من فرنسا أو إيطاليا أو أسبانيا أو بريطانيا! لم؟! إن الذي سيسألون عنه يوم القيامة وهو المفروض المحتوم شرعاً: أنه كان ينبغي أنه ما استقل إقليم إلا ويجيء رجاله من أهل الحل والعقد والمعرفة إلى عبد العزيز ويقولون: ابعث لنا قضاة ووالياً نائباً عنك في ديارنا الإسلامية التي استقلت اليوم وتحررت من دولة الكفر وسلطان الكافرين، فماذا تقولون؟ والله لهذا الواجب، ولو فعل المسلمون هذا لكانت اليوم الخلافة الإسلامية، لكنه الجهل ومرض النفوس وعدم البصيرة، إذ تستطيعون أن تستقلوا وأنتم حفنة من الناس بين العالم؟ انضموا إلى دولة الإسلام، وهذا الكلام الذي تسمعون والله الذي لا إله غيره! لواجبنا، وما كان يصح أبداً لإقليم أن يستقل ودولة القرآن قائمة وينفصل عنها، ومن ثَمَّ أعرضنا فأعرض الرحمن عنا، فما انتفعنا باستقلالاتنا ولا فزنا بسيادتنا، بل هبطنا إلى الحضيض، ولا نلوم إلا أنفسنا، قال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76]، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160]، فعلنا وفعلنا.

    نعود فنقول: ما إن استقل بنو إسرائيل من دولة الاستعمار الفرعونية حتى ذهب موسى يأتي بالدستور والقانون حتى يحكمهم بشرع الله عز وجل، فلما ذهب ما الذي حصل؟ قال تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [النساء:153]، إذ إن موسى عليه السلام عهد إلى أخيه هارون عليه السلام بأن يرعى بني إسرائيل ويبقى معهم حتى يرجع موسى بدستوره، وما زال موسى عند ربه في جبل الطور بسيناء حتى أوحي إليه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:83-84]، أي: لمَ استعجلت وأتيتنا يا موسى وتركت قومك في صحراء؟ قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه:84-86]، أي: تألم وتحسر، إذ كيف ترك أخاه مع بني إسرائيل فإذا بهم في ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو أربعين يوماً وإذا بهم يعبدون العجل؟ ولا عجب! وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، فوجدهم يعبدون العجل، كيف ذلك؟ قالوا: إن بني إسرائيل يوم أن خرجوا من مصر كان جبريل على فرس يتقدمهم ليدلهم على المخرج الذي يخرجون منه، فكان السامري يشاهد فرس جبريل كلما وضع حافره على الأرض ورفعها نبت النبات الأخضر تحتها، فأخذ من ذلك التراب في صرة واحتفظ به على أن يكون له أثر، ولما استقر بنو إسرائيل بعد نجاتهم وذهاب موسى قال السامري لنساء بني إسرائيل: من كان لديها حلياً استعارته من القبطيات فلا يحل لها أن تأخذه بدون حق، والآن لا يمكن أن يرد هذا الحلي إلى نساء الأقباط، فاجمعوه عندنا نحرقه ونتخلص منه، وكانت فتيا إبليسية في نطاق العلم والمعرفة، فجمع الحلي ثم صهره وصنع منه عجلاً من ذهب وفضة، ثم قال لهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، وكلاً يعرف الأمة الجاهلية، فالآن قد وجدت أمثال هذه بين العرب والمسلمين، فقد عبدوا القبور والقباب، فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، فعبدوه، فصاح فيهم هارون وبكى، وما استطاع أن يفعل شيئاً خوفاً من تفرقة الأمة وتقاتلها وتعاديها لبعضها البعض، فسكت عليه السلام، لكن الجهل وظلمته غمتهم.

    والشاهد عندنا في قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153]، فأي بينة أعظم من أن ينفلق البحر أمامهم؟ ومما يلغز به فيقال: ما هي الأرض التي لم تر الشمس منذ أن كانت إلا مرة واحدة؟ إنها هذه الأرض التي انفلق عنها البحر إلى فلقتين كالجبل من هنا وهنا، وهي جافة ويابسة والشمس طالعة فيها، ثم مع هذا يعبدون غير الله ويطلبون موسى أن يجعل لهم إلهاً!

    عفو الله عن بني إسرائيل عبادتهم العجل

    ثم قال تعالى: فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ [النساء:153]، ولكن بالتوبة، فقد تابوا توبة قاسية، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة:54]، وهذا بأمر الله عز وجل، فقد اصطفوا صفين وتقاتلوا، فيقتل الأب ابنه والابن أباه، ودارت المعركة فسقط من بينهم أربعون ألفاً، فهذه هي التوبة الشديدة، فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54]، فكانت هذه عقوبة عبادة العجل، عبادة غير الله تعالى، ومنذ أربعين أو خمسين سنة وقبل هذه الحركة الإصلاحية في العالم كان المسلمون في ديارهم أسوأ من بني إسرائيل، ووالله بعيني أرى النساء عاكفات على القبور، جاثمات على الركب في كل بلاد العالم الإسلامي، وقلَّ من يدعو الله وحده، بل لا بد من يا الله! يا رسول الله! يا رب! يا سيدي فلان! فكانت جاهلية عمياء من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؛ لأننا بشر وتستطيع الشياطين أن تضلنا إذا حرمنا النور الإلهي، وأبعدنا عن كتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا والله لمن كيد اليهود ومكرهم بالمسلمين، فقد حولوا المسلمين إلى جاهليات، وما زالوا يعملون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

    وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:153]، وذلك لما قتل من قتل منهم، وتاب من تاب منهم، كان موسى قد أعطاه الله قوة وسلطان، فكان يؤدبهم ويرغمهم على عبادة الله وتوحيده وعبادته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم...)

    قال تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:154].

    رفع الله للطور فوق رءوس بني إسرائيل لما امتنعوا عن التعهد بالعمل بما في التوراة

    وقوله تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154]، لما زلت أقدامهم ووقع الذي وقع قال لهم موسى: أعطوني أربعين رجلاً منكم من خياركم أذهب بهم إلى الله ليتوب عليكم، فأخذ منهم عدداً من خيار رجالهم، وانتهوا إلى جبل الطور، وسمعوا الله يخاطب موسى ويكلمه، فقالوا: إذاً أرنا الله جهرة، أرنا وجهه حتى نراه، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق أنهم يطبقون ما في التوراة أو الوصايا العشر، والعهد هو الحلف على أنهم لا يفرطون في شريعة الله لا بقليل ولا بكثير في هذا الذي قد حواه هذا الدستور، فكانت منهم زلة، ومن عجائبها: أنهم لما رفضوا أخذ العهد والميثاق، رفع الله الطور فوق رءوسهم، ثم قال لهم: تقبلون أو ينزل الجبل على رءوسكم؟ قال تعالى مصوراً ذلك المشهد العظيم: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171]، ولما خروا ساجدين كانوا ينظرون بعين وأخرى على الأرض، وإلى الآن فهذا سجودهم في بيعهم ومساجدهم، ومع هذا وافقوا وأعطوا عهدهم وميثاقهم، وما هي إلا أيام ونقضوه! ولا عجب فهم ينقضونه إلى اليوم.

    أمر الله لبني إسرائيل بأن يدخلوا الأرض المقدسة ساجدين وحالهم مع هذا الأمر

    وقوله تعالى: وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154]، وهذا قد تم على عهد يوشع بن نون عليه السلام، ونعود قليلاً فنقول: كانت مدة بقاء بني إسرائيل في صحراء سيناء أربعين سنة، وسبب هذا التيه ذنوبهم ظلمهم وإعراضهم، وذلك لما خرج بهم موسى-والدستور معه-إلى أرض القدس أرض الأنبياء والمرسلين، وهو معهم في طريقهم إلى أرض القدس، وكان يملكها العملاقة الجبابرة، فاختار موسى عليه السلام من بني إسرائيل اثني عشر رجلاً من خيرتهم، وبعث بهم عيوناً وجواسيس إلى دولة العمالقة ليقوموا قوتها، ويطلعوا موسى وقومه على ما لديهم من قوة واستعداد للحرب، ومع الأسف ذهب أولئك الاثني عشر رجلاً وانهزموا، إذ إنهم رجعوا -كأنهم فاقدوا العقول-فمنهم من يقول: هذا العملاق، أو هذا الجبار أخذني ووضعني في جيبه، ووضعني بين أولاده يضحكون عليَّ ويلعبون بي، كيف نقاتل هؤلاء؟! وآخر يقول: هؤلاء القوم لا نستطيع أن نصل إليهم، والمهم أنهم هزموا بني إسرائيل هزيمة مرة.

    لكن قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، أي: أن الرجلان الحكيمان قالوا لهم: ما هي إلا أن تفاجئوهم وتدخلوا عليهم باب المدينة، فماذا قال بنو إسرائيل؟ قالوا: إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون! فكيف يخرج العدو من دياره بدون حرب وقتال ثم بعدها تدخل أنت؟! ثم قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، أي: ما نستطيع أن نقاتل هؤلاء العمالقة، ولا أن ندخل تلك البلاد، فاذهب أنت وربك فقاتلوهم! فهل هذه الكلمة يقولها من عرف الله تعالى؟! ثم قال موسى عليه السلام لما رأى ذلك منهم: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]، فقد فسقوا وخرجوا عن طاعة الله ورسوله، فرد الله عليه فقال: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]، وفعلاً في خلال أربعين سنة وهم يحملون أمتعتهم ويمشون في صحراء سيناء، فإذا جاءت القيلولة نزلوا، ثم يواصلون المشي مرة أخرى في الصحراء، فإذا جاء الظلام نزلوا، وهم هكذا في متاهات صحراء سيناء أربعين سنة حتى توفي موسى وهارون عليهما السلام .

    فماذا نقول عن هؤلاء اليهود؟! هاهم الآن يديرون كفة الناس، ومن قبل قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:24-26]، وتوفي موسى وهارون عليهما السلام في خلال هذه الفترة، وقد بلغ بهم الحد أن قالوا: إن موسى هو الذي قتل هارون!

    والشاهد عندنا أنه بعد أن توفي موسى وهارون عليهما السلام قادهم يوشع بن نون، وهو فتى موسى وخادمه أو تلميذه الذي كان يلازمه، وقد عهد إليه بحكم بني إسرائيل، فقادهم يوشع بن نون بعد نهاية الأربعين السنة التي كتبها الله عليهم بأن يتيهوا في تلك الصحراء، وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه في مساء الجمعة ولم يبق على غروب الشمس إلا ساعات، إذ لو غابت الشمس لا يحل لهم أن يقاتلوا، إذ السبت مكتوب عليهم، فلا يصح منهم قتال أبداً، فرفع يوشع رأسه إلى الشمس وقال: يا شمس! أنت مخلوقة وأنا مخلوق، أنت مربوب وأنا مربوب، أسألك بالذي خلقك أن تقف في مكانك، فوقفت الشمس وقفة كاملة، فخاض المعركة ودخل تلك البلاد قبل غروب الشمس واحتلها.

    إذاً: أمرهم هنا بأمر الله تعالى أن يدخلوا باب المدينة متطامنين لا في عنجهية وعنترية، بل لابد من تطامن ولين وسجود، وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154]، يقال: سجدت الشجرة، إذا مال غصنها، وسجد البعير رأسه، إذا عكفه، فالسجود ليس شرطاً أن يكون على الجبهة والأنف، وإنما هو لين الجانب وطمأنينة الرأس، ولذلك أمرهم الله أن يدخلوا متواضعين شكراً لله وامتناناً له سبحانه وتعالى، وبما أعطاهم ووهبهم، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، أي: احطط عنا خطايانا يا ربنا التي ارتكبناها، وأصابنا ما أصابنا بسببها، لكن لخبثهم ومكرهم دخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون: حنطة أو حبة شعير في كذا.

    وهنا من لطائف هذه الآيات: كيف دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؟ بعد أن حورب ثمان سنوات، وأخرج من دياره، وأخرج إخوانه معه، ثم فتح الله تعالى عليه مكة ودخلها في السنة الثامنة من الهجرة، دخل وهو على القصواء ولحيته تضرب في قربوس السرج أو في سرج راحلته، وذلك تواضعاً لله عز وجل، وامتثالاً لأمر الله في بني إسرائيل: ادخلوها سجداً، فهل عرفتم كيف دخل؟ تطامناً وتواضعاً لا مثيل له أبداً.

    واسألوني عن إخواننا العرب المسلمين لما يستقلون ماذا يفعلون؟ أمور فاضحة ما نستطيع أن نذكرها؛ لأنهم ما عرفوا الله ولا سلكوا هذا السبيل، وما بلغهم كيف دخل الرسول مكة، ووجد أهل مكة وجبابرتها وعتاتها وقد أذعنوا وانقادوا وطأطئوا رءوسهم وجلسوا حول الكعبة ينتظرون حكم الله تعالى فيهم، فناداهم: ( يا معشر قريش! ماذا ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، ولم يأمر بقتل أحد إلا بأربعة أنفار لباطلهم وشرهم وظلمهم وفسادهم، ونحن الآن أيما ثورة وانقلاب تحدث في بلد إسلامي يذبحون بعضهم بعضاً كالحيوانات.

    نهي الله لبني إسرائيل عن الصيد في يوم السبت وتحايلهم على الشريعة

    وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [النساء:154]، وأصل (لا تعدوا): لا تعتدوا، وقرأ نافع: (لا تَعَدَّوا) بالتضعيف، أي: بإدغام التاء في الدال، فهما قراءتان سبعيتان، وهنا تعالى ذكر السبت، فأي سبت هذا؟ إليكم قصته: تعرفون أن أفضل الأيام هو يوم الجمعة، فهو اليوم الذي خلق الله فيه آدم عليه السلام، وهو اليوم الذي أهبطه إلى الأرض، وهو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، وله فضائل أخرى تعرفونها، وهذا اليوم قد عرض على اليهود، وذلك على لسان يوشع بن نون فرفضوا، وقالوا: نستريح يوم السبت، فصرفهم الله قبل كل شيء بأقداره، وصرفتهم الشياطين عن يوم الجمعة، فكتب الله عليهم يوم السبت أنه يوم عبادة ويوم ترك للعمل، وبالتالي فيجب أن يتركوا العمل إذا دخلت ليلة السبت، ويقبلون على الله عز وجل، فلعبت بهم الشياطين وزينت لهم صيد الحوت والسمك في يوم السبت، قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ [الأعراف:163]، أي: يعتدون، فِي السَّبْتِ [الأعراف:163]، فكيف يصنعون بفتاواهم؟ قالوا: نلقي بالشباك في الليل فتمتلئ بالسمك ونأخذها يوم الأحد وهي مملوءة، وهذه هي الفتاوى التي ضلت بها أمم، إذ يفتي بها مغرضون ومبطلون وضلال من علمائهم ورجالهم.

    وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:154]، فما كان منهم إلا أن احتالوا على الشريعة وصادوا السمك، وحصلت لهم محنة كبيرة نذكرها في قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]، وكانت هذه فتنة من الله تعالى، إذ إنه في يوم السبت الحيتان يلعبن أمامهم، ويظهرن بصورة عجب، وذلك للإغراء بهم، ويوم أن ينتهي السبت ما يظهر من السمك شيء، كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فيكفينا هذه الآية، أي: نختبرهم ونبلوهم بسب فسقهم، إذ لولا فسقهم ما كان الله ليبتليهم بهذا الابتلاء، فالسمك يوم السبت يشرع لهم ويظهر ويتعالى على البحر حتى يغريهم به، فحملهم ذلك على أن صادوه، وغير السبت لا يظهر شيء منه، قال تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فالأمة كالفرد، فإذا فسق أو فسقت فإنه يبتلى بالذنوب ويأثم، حتى إنه قد يقع في الكفر والعياذ بالله تعالى.

    معاشر المستمعين! من أنزل هذا الكلام؟ إنه الله رب العالمين، فهذا كتاب الله القرآن الكريم، فهل يصح أن نقرأه على الموتى ونترك الأحياء محرومين مبعدين منه؟ يكفينا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود: ( يا ابن أم عبد! اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيقول: وعليك أنزل وعليك أقرأ؟ فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري )، وحسبنا ما سبق أن علمناه: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم )، لكن للأسف هجرنا القرآن، والذي حملنا على هجرانه هم أعداؤنا، وقد انحنينا أمامهم وسلمنا الأمر لهم، فهم الذين أبعدوا هذه الأمة عن القرآن لتموت فيملكوها ويسودوها، فهل من توبة يا عباد الله؟ أهل البيت يجتمعون في بيتهم فيقرأ قارئ عليهم آية ويتدبرونها، والعمال في ساعة الراحة يسمعون آية ويتدبرونها، وكذلك بيوت الله يجب أن نملأها بوجودنا طالبين رضوان الله وعفوه ومغفرته، وذلك من المغرب إلى العشاء، فنقرأ كتاب الله ونتدبره، إذ كيف تجول هذه الظلمة؟! وكيف يبعد هذا الشر والفساد؟! وكيف نخرج من ورطة الذل والمسكنة؟! قد أذلنا الشرق والغرب وأصبحنا نمد أيدينا متسولين، لم وباب الله مفتوح؟!

    والله الذي لا إله غيره! ما أقبلت عليه أمة في صدق إلا رفعها الله وأعزها، والمثل واضح، كيف كان العالم الإسلامي في القرون الثلاثة؟ كانوا أعز الناس، فقد سادوا وقادوا البشرية، هذا والله تعالى أسأل أن يتوب علينا، وأن يغفر ذنوبنا إنه غفور رحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755997907