وقد عقد الشيخ هذا الدرس ليظهر أن الحياة الحقيقية هي التي تحت ظل الإسلام، لأنها هي التي تعلم وتربي.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].. . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة تحت ظل لا إله إلا الله، وأن يجعل آخر كلامنا فيها لا إله إلا الله، ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبكم فيه، ولعلكم تلحظون ذلك فالوجه يعبر عما في النفس:
والنفس تعرف في عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها |
عيناك قد دلتا عيني منك على أشياء لولاهما ما كنت أدريها |
اللهم لا تعذب جمعاً التقى فيك ولك. اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك. اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقاك. اللهم لا تعذب أعينا ترجو لذة النظر إلى وجهك برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحسن الظن إخوتي بي إذ دعوني؛ فأجبت الدعوة وما حالي وحالكم هذه الليلة إلا كبائع زمزم على أهل مكة أو كبائع التمر على أهل المدينة أوكبائع السمك على أهل جدة؛ لكني أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يأخذني بما تقولون.
يا منزل الآيات والقرآن بيني وبينك حرمة الفرقان |
اشرح به صدري لمعرفة الهدى واعصم به قلبي من الشيطان |
يسر به أمري واقض مآربي وأجر به جسدي من النيران |
واحطط به وزرى وأخلص نيتى واشدد به أزري وأصلح شانى |
واقطع به طمعي وشرَّف همتي كثر به ورعي وأحي جناني |
أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان |
أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب يد ولا دكان |
أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان |
وزرعت لي بين القلوب مودة والعطف منك برحمة وحنان |
ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني |
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني |
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان |
لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني |
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي ولساني |
هكذا علمتني الحياة.
أي حياة تعلم؟ وأي حياة تدرس؟ وأي حياة تربي أيها الأحبة؟
أهي حياة اللهو واللعب؟ أهي حياة العبث واللعب؟ أهي حياة الضياع والتيه؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد!
إنها الحياة في ظل العقيدة الإسلامية. إنها الحياة التي تجعلك متفاعلاً مع هذا الكون، تتدبر فيه وتتفكر:
حياة على الحق نعم الحياة وبئس الحياة إذا لم نحق |
إنها الحياة الحقيقية؛ حياة تحت ظل الإسلام، تعلم وتربي وتدرس.
حياة على الهدى والنور، حياة الحبور والنعيم والسرور، من عاش تحت ظلها عاش في نور وعلى نور، ومات على نور، ولقي الله بنور، وعبر الصراط ومعه النور: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
إذا جاء يوم القيامة وقسمت الأنوار بين المؤمنين والمنافقين عندما توضع الأقدام على الصراط يتبين من بكى ممن تباكى، سرعان ما تنطفئ أنوار المنافقين فهم في ظلمات لا يبصرون، ينادون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:13-15]. في تلك اللحظات وفي هذه الساعات يكون المؤمنون قد عبروا بنورهم: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12] فلا يرضى المؤمنون إلا بجوار الرحمن في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين: أو من كان ميتا أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] هل يستويان مثلاً؟ كلا وألف كلا وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ [فاطر:19-22].
لا يستوي عاقل كلا وذو سفه لا والذي علم الإنسان بالقلم |
هل يستوي من على حق تصرفه ومن مشى تائهاً في حالك الظلم |
لا يستوون أبدا.
أحبتي في الله: الحياة في ظل العقيدة مدرسة وأي مدرسة! عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإليكم هذه الليلة أزف بعض دروس علمتنيها الحياة تحت ذلك الظل، وهي تعلم كل شخص كان من هذه الأمة إن كان له قلب. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والنظر الثاقب والبصيرة النافذة والعظة والاعتبار، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت.
خلق الله سوانا كثير وكثير لا يعلمهم إلا خالقهم سبحانه وبحمده، وطاعتك -أيها العبد- لك ومعصيتك -أيها العبد- عليك ولن تضر الله شيئاً.
في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب |
وفي المقابل من ظفر بتوحيد الله جل وعلا فقد ربح الدنيا والآخرة وسعد في الدنيا والآخرة. فسعيه مشكور، وذنبه مغفور، وتجارته لن تبور، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107].
العز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذله الله |
في الموقف العظيم يوم يقول الله -والناس في عرصات القيامة- لأناس من بين الخلائق جميعهم: ادخلوا الجنة بلا حساب، فيقولون: ياربنا ويامولانا! قد حاسبت الناس وتركتنا؟ فيقول: قد حاسبتكم في الدنيا، وعزتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين، ادخلوا الجنة. فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم.
وفي الصحيح أن الله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي: (ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) ويا له من جزاء! ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وفي الصحيح أن الله عز وجل -كما في الحديث القدسي- يقول لملائكته: (قبضتم ابن عبدي المؤمن قبضتم ثمرة فؤاده؟ -وهو أعلم سبحانه وبحمده- فتقول الملائكة: نعم. فيقول: وماذا قال؟ -وهو أعلم جل وعلا- قالوا: حمدك واسترجع. فيقول الله جل وعلا: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد).. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء |
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء |
ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرض تقيه ولا سماء |
مروا بـيزيد بن هارون عليه رحمة الله وقد عمي، وكانت له عينان جميلتان قل أن توجد عند أحد في عصره مثل تلك العينين، فقالوا له وقد عمي: ما فعلت العينان الجميلتان يا بن هارون ؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار، وإني لأحتسبهما عند الله الواحد الغفار.
فالإيمان بالقضاء والقدر نعمة على البشر، وبلسم وظل وارف من الطمأنينة وفيض من الأمن والسكينة ووقاية من الشرور وحافز على العمل وباعث على الصبر والرضا، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته:
صبرت ومن يصبر يجد غب صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم |
ولست بمدرك ما فات مني بلهف ولا بليت ولا لو أني |
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً:
حصادك يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن |
إن زرعت خيراً حصدت خيراً وإن زرعت شراً حصدت مثله |
وإن لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذر |
ها هو رجل كان له عبد يعمل في مزرعته، فيقول هذا السيد لهذا العبد: ازرع هذه القطعة براً، وذهب وتركه وكان هذا العبد لبيباً عاقلاً، فما كان منه إلا أن زرع القطعة شعيراً بدل البر، ولم يأت ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده، فجاء فإذا هي قد زرعت شعيراً، فما كان منه إلا أن قال: أنا قلت لك ازرعها براً لم زرعتها شعيراً؟! قال: رجوت من الشعير أن ينتج براً. قال: يا أحمق! أو ترجو من الشعير أن ينتج براً؟! قال: يا سيدي! أفتعصي الله وترجو رحمته؟! أفتعصي الله وترجو جنته؟! فذعر وخاف واندهش وتذكر أنه إلى الله قادم، فقال: تبت إلى الله وأبت إلى الله، أنت حر لوجه الله.
كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحداً: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
ها هو رجل كان له أب قد بلغ من الكبر عتياً وقد قام على خدمته زمناً طويلاً ثم مله وسئمه، فما كان منه إلا أن أخذه في يوم من الأيام على ظهر دابة وخرج به إلى الصحراء، ويوم وصل إلى الصحراء قال الأب لابنه: يا بني! ماذا تريد مني هنا. قال: أريد أن أذبحك. لا إله إلا الله! ابن يذبح أباه! قال: أهكذا جزاء الإحسان يا بني؟! قال: لابد من ذبحك فقد أسأمتني وأمللتني، قال: إن كان ولابد يا بني فاذبحني عند تلك الصخرة. قال: أبتاه! ما ضرك أن أذبحك هنا أو أذبحك هناك؟! قال: إن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة فلقد ذبحت أبي هناك، ولك يا بني مثلها والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان ولا يظلم ربك أحداً.
ها هي جموع المسلمين وعددها ثلاثة آلاف في مؤتة تقابل مائتي ألف بقلوب ملؤها العقيدة، يقول قائل المسلمين: والله! ما نقاتلهم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين، فسل خالداً كم سيف اندق في يمينه؟ يجبك خالد : اندق في يميني تسعة أسياف. وسل خالداً : ما الذي ثبت في يده وهو يضرب الكافرين؟ يجبك: إنها صحيفة يمانية ثبتت في يده.
انظر إليه يوم يقبل مائتا ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف ليهجموا عليهم هجمة واحدة، يوم يأتي بعض المسلمين ويرى هذه الحشود فيقول لـخالد : يا خالد ! إلى أين الملجأ؟ أإلى سلمى وأجا ؟ فتذرف عيناه الدموع وينتخي ويقول: لا إلى سلمى ولا إلى أجا ولكن إلى الله الملتجى؛ فينصره الله الذي التجأ إليه سبحانه وبحمده.
بربك هل هذه قوة جسدية في خالد بن الوليد ؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد ! إنها العقيدة وكفى:
إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند |
وها هو صلاح الدين في عصر آخر غير ذلك العصر -عليه رحمة الله- تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى وقد كان أسيراً في يد الصليبيين يوم ذاك، تقول الرسالة:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس |
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس |
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أنجس |
فينتخي صلاح الدين ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر، ويشحذ الهمم قبل ذلك، فيمنع المزاح في جيشه، ويمنع الضحك في جيشه، ويهيء الأمة لاسترداد المسجد الأقصى الذي هو أسير في يد الصليبيين يوم ذاك، ثم يقودها حملة لا تبقي ولا تذر، فيكسر شوكتهم ويعيد الأقصى بإذن الله إلى حظيرة المسلمين.
ثم ماذا بعد صلاح الدين يا أيها الأحبة؟
عادوا بعد صلاح الدين بفترة يوم تخلى مَنْ تخلى عن مبادئ صلاح الدين ، عادوا فاحتلوه وذهبوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه بأرجلهم وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين ! ها قد عدنا يا صلاح الدين! وهم ينشدون: محمد مات. خلف بنات.
فما الحال الآن يا أيها الأحبة؟
إن ما يجري هناك لتتفطر له الأكباد، إن المسجد الأقصى -بلسان حاله- ليصيح بالأمة المسلمة: هل من صلاح ؟ هل من عمر ؟ هل من صلاح ؟ هل من عمر ؟ فلا أذن تسمع، ولا قلوب تجيب:
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه |
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه |
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه |
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماض نسيناه |
إنا مشينا وراء الغرب نقبس من ضيائه فأصابتنا شظاياه |
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه |
هذي معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه |
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه |
لا در امرئ يطري أوائله فخراً ويطرق إن ساءلته ماه |
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه |
يهتز كسرى على كرسيه فرقا من خوفه وملوك الروم تخشاه |
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه |
وها هو ألب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع المؤمن بالله، كان عائداً من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمته خراسان ، فسمع به إمبراطور القسطنطينية رومانوس فجهز جيشاً قوامه ستمائة ألف مقاتل، والله! ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملؤها الخور والضعف والهون.
جاء الخبر لـأرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل في سبيل لا إله إلا الله، وانظروا ووازنوا بين الجيشين: ستمائة ألف تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعين. هل هذه قوى جسدية؟
إنها قوى العقيدة وكفى يا أيها الأحبة.
نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال، ما بين مصاب وجريح، قد أنهكه السير الطويل، فكر وقدر ونظر في جيشه، أيترك هذا الجيش القادم ليدخل بلاده ويعيث فيها الفساد أم يجازف بهذا الجيش؟ خمسة عشر ألف مقابل ستمائة ألف. فكر قليلاً ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش وخطبهم قائلاً: إن الإسلام اليوم في خطر وإن المسلمين كذلك، وإني لأخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود، ثم صاح: وا إسلاماه! وا إسلاماه! هأنذا قد تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله:
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف تقيم ظباه أخدعي كل مائل |
فهذا دواء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل |
وما هي إلا ساعة، ويتكفن الجيش الإسلامي كله، وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماء بصيحات: الله أكبر! يا خيل الله! اثبتي، يا خيل الله! اركبي.
لا إله إلا الله! هل سمعتم بجيش مكفن؟
هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل المعركة؟
هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم في آن واحد؟
هل تخيلتم صورة جيش كامل يسير إلى معركة يثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور؟
التقى الجمعان واصطدمت الفئتان: فئة تؤمن بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوَّت صيحات: الله أكبر، واندفع كل مؤمن ولسان حاله: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] تطايرت رءوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء، وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشراً: انهزم الرومان وأسر قائدهم رومانوس . الله أكبر! لا إله إلا الله! صدق وعده ونصر جنده: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249].
ذهب من جند الله كثير وكثير -نحسبهم شهداء- وبقي الباقون يبكون، فهل يبكون على ما فاتهم من غنائم؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! لكنهم يبكون لأنهم مضطرون إلى خلع أكفانهم وقد باعوا أنفسهم من الله. أما القائد المسلم فبكى طويلاً وحمد الله حمداً كثيراً وبقي يجاهد حتى لقي الله بعقيدة لا يقف في وجهها أي قوة، ويوم حلت به سكرات الموت كان يقول: آه آه! آمال لم تنل، وحوائج لم تقض، وأنفس تموت بحسراتها. كان يتمنى أن يموت تحت ظلال السيوف، ولكن شاء الله له أن يموت على الفراش:
إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرة أقوى وألف مهند |
فاعرف يا بن أمي في العقيدة يا أخا الإسلام في الأرض المديدة |
ما حياة المرء من غير عقيدة وجهاد وصراعات عنيدة |
فهي طوبى واختبارات مجيدة |
فانطلق وامض بإيمان وثيق |
وإذا ما مسك الضر صديقي فلأنَّا قد مشينا في الطريق |
من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى حفظه الله.
من حفظ ما بين فكيه وما بين فخذيه حفظه الله.
من حفظ الله في وقت الرخاء حفظه الله في وقت الشدة.
من حفظ الله في صباه حفظه الله عند ضعفه وقوته: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64] .
ها هو الإمام الأوزاعي ذلكم الإمام العابد المحدث الورع الفقيه عندما يدخل عبد الله بن علي ذلكم الحاكم العباسي دمشق في يوم من الأيام فيقتل فيها ثمانية وثلاثين ألف مسلم، ثم يُدخل الخيول مسجد بني أمية، ثم يتبجح ويقول: من ينكر علي فيما أفعل؟ قالوا: لا نعلم أحداً غير الإمام الأوزاعي . فيستدعيه، فيذهب من يذهب ليستدعيه؛ فعلم أنه الامتحان؛ وعلم أنه الابتلاء؛ وعلم أنه إماأن ينجح ونجاح ما بعده رسوب، وإما أن يرسب ورسوب ما بعده نجاح.
فماذا كان من هذا الرجل؟ قام واغتسل وتحنط وتكفن ولبس ثيابه من على كفنه ثم أخذ عصاه في يده واتجه إلى من حفظه في وقت الرخاء فقال: يا ذا العزة التي لا تضام! والركن الذي لا يرام! يا من لا يهزم جنده! ولا يغلب أولياؤه! أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم ينطلق وقد اتصل بالله سبحانه وتعالى انطلاقة الأسد إلى ذاك، وذاك قد صف وزراءه وصف سماطين من الجلود يريد أن يقتله وأن يرهبه بها، قال: فدخلت -ويوم دخلت- وإذا السيوف مسلطة، وإذا السماط معد، وإذا الأمور غير ما كنت أتوقع، قال: فدخلت، ووالله! ما تصورت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزاً، والمنادي ينادي: فريق في الجنة وفريق في السعير. فوالله! ما رأيته أمامي إلا كالذباب، والله! ما دخلت بلاطه حتى بعت نفسي من الله جل وعلا. قال: فانعقد جبين هذا الرجل من الغضب ثم قال: أأنت الأوزاعي ؟ قال: يقول الناس: أني الأوزاعي . قال: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن جدك ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أبي هريرة وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
قال: فتلمظ كما تتلمظ الحية، قال: وقام الناس يتحفزون ويرفعون ثيابهم لئلا يصيبهم دمي، قال: ورفعت عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذا به يقول وما ترى في هذه الدور التي اغتصبنا والأموال التي أخذنا، قال: سوف يجردك الله عرياناً كما خلقك، ثم يسألك عن الصغير والكبير والنقير والقطمير؛ فإن كانت حلالاً فحساب وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: فانعقد جبينه مرة أخرى من الغضب، قال: وقام الوزراء يرفعون ثيابهم، قال: وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول: اخرج. قال: فخرجت، فوالله! ما زادني ربي إلا عزة.
ذهب وما كان منه إلا أن سار في طريقه إلى الله عز وجل حتى لقي الله جل وعلا بحفظه سبحانه وتعالى.
ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبره بعد أن توفي، فوقف عليه وقال: والله! ما كنت أخاف أحداً على وجه الأرض كخوفي من هذا المدفون في هذا القبر، والله! إني كنت إذا رأيته رأيت الأسد بارزاً.
اعتصم بالله، وحفظ الله في الرخاء فحفظه الله في الشدة: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
ويا أيها الأحبة: ما ندري أنحن مقبلون على مرحلة عزة وتمكين أم نحن مقبلون على مرحلة ابتلاء، يجب أن نحفظ أنفسنا ونحفظ الله عز وجل وحدوده وأوامره ونواهيه في الرخاء ليحفظنا سبحانه وبحمده في وقت الشدة ولابد من الابتلاء: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].
ها هو الأسود العنسي ذلكم الساحر القبيح الظالم، الذي ادعى النبوة بـاليمن، يجتمع حوله اللصوص وقطاع الطرق ليكونوا فرقة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله جل وعلا؛ ليذبح الدعاة في سبيل الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وأحرق منهم من أحرق، وطرد منهم من طرد، وهتك أعراض بعضهم وفر الناس بدينهم، عذب من الدعاة من عذب وكان من هؤلاء أبو مسلم الخولاني -عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، حاول أن يثنيه عن دعوته قال: كلا والذي فطرني! لن أقف: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].
فما كان منه إلا أن جمع الجموع كلها، وقال لهم: إن كان داعيتكم على حق فسينجيه الحق، وإن كان على غير ذلك فسترون. ثم أمر بنار عظيمة فأضرمت، ثم جاء بـأبي مسلم الخولاني -عليه رحمة الله- فربط يديه وربط رجليه ووضعوه في مقلاع ثم رموه في لهيب النار ولظاها.
إن هذه النار -كما يقولون- كان يمر الطير من فوقها فتسقط الطيور في وسطها من عظم ألسنة لهبها، وهو بين السماء والأرض لم يذكر إلا الله جل وعلا، فكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل؛ ليسقط فى وسط النار وكادت قلوب الموحدين أن تنخلع وكادت أن تنفطر وانتظروا والنار تخبو شيئاً فشيئاً وإذا بـأبي مسلم قد فكت النار وثاقه، ثيابه لم تحترق، رجلاه حافيتان يمشي بهما على الجمر ويتبسم، ذهل الطاغية وخاف أن يسلم من بقي من الناس فقام يتهددهم ويتوعدهم، أما هذا الرجل فانطلق إلى المدينة النبوية إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر ويصل إلى المسجد ويصلي ركعتين، ويسمع عمر رضي الله عنه وأرضاه بهذا الرجل، فينطلق ويأتي إليه، ويقول: أأنت أبو مسلم ؟ قال: نعم. قال: أأنت الذي قذفت في النار وأنقذك الله منها؟ قال: نعم. فيعتنقه ويبكي ويقول: الحمد لله الذي أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم عليه السلام، من حفظ أبا مسلم ؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو، حفظ الله عز وجل فحفظه الله: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
وها هو ابن طولون وال من ولاة مصر -وما زالت مصر ترزأ بظالم وراء ظالم، ونسأل الله أن يفرج عن إخواننا في كل مكان. هذا الوالي يا أيها الأحبة- ما كان منه إلا أن قتل ثمانية عشر ألف مسلم في تلك الأرض، وقد قتلهم بقتلة هي من أبشع أنواع القتل، حبس عنهم الطعام والشراب حتى ماتوا جوعاً وعطشاً، فسمع أبو الحسن الزاهد -عليه رحمة الله- فأقض مضجعه أن يسمع بإخوته يعذبون ثم لا يذهب، وقد سمع قبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر) فذهب إليه وقال له: اتق الله في دماء المسلمين. وخوفه بالله، فأرغى وأزبد وأمر بأن يسجن فى سجن، وأمر بأسد أن يجوع لمدة ثلاثة أيام، ثم جاء فجمع الناس جميعهم، ثم ما كان منه إلا أن جاء بهذا الرجل وجاء بذلك الأسد المجوع ثلاثة أيام، فقام هذا الرجل متصلاً بالله الذي لا إله إلا هو، وقام يصلي.
أما الأسد فقد أطلقوه عليه فانطلق الأسد حتى قرب منه ثم توقف وقام ينظر إليه ويشمشمه ويسيل اللعاب على يديه وفيها من الجراح ما فيها، فما كان من الناس إلا أن ذهلوا، وما كان من الطاغية إلا أن ذهل، وما كان من الأسد إلا أن رجع وهو جائع ثلاثة أيام.
من الذي حفظه إلا الله الذي يحفظ من يحفظه في وقت الرخاء، فما كان من طلاب الشيخ إلا أن اجتمعوا بشيخهم وإمامهم بعد ذلك وقالوا: يا أبا الحسن ! فيم كنت تفكر يوم قدم عليك الأسد؟ قال: والله! ما فكرت فيما فيه تفكرون ولا خفت مما منه تخافون، ولكني كنت أقول في نفسي: ألعاب الأسد نجس أم طاهر لكيلا يفسد وضوئي وأنا متصل بالله الذي لا إله إلا هو.
حفظوا الله فحفظهم الله، وما اعتصم عبد بالله فكادته السماوات والأرض إلا جعل الله له منها فرجاً ومخرجاً.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.
في الحديث القدسي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند |
ها هم أهل قرية من القرى قبل وقت من الزمن نقص عددهم نتيجة الحروب التي كانت تقام بين القبائل لأتفه الأسباب، فما كان منهم إلا أن فكروا في أن يزيدوا عددهم فاجتمعوا وعقدواً مؤتمراً لهم، وكان قائدهم في ذلك المؤتمر إبليس عليه غضب الله جل وعلا ونعوذ بالله منه، فاتفقوا على أن يرجع كل واحد من أهل هذه القرية فيقع على محارمه؛ يقع على أخته وعلى بنته ليكثر العدد، والحادثة معروفة ومشهورة والقرية معروفة ومشهورة، وهي عبرة وعظة لكل من يعتبر.
ما كان منهم إلا أن رجعوا من اجتماعهم فمنهم من رجع إلى أهله ونفذ ما اجتمعوا عليه، ومنهم من رضي بذلك ولم يفعل، والراضي كالفاعل، فما كانت النتيجة؟ أي ظلم -يا أيها الأحبة- وأي ظلمات أن يقع الأب على ابنته، أو يقع الأخ على أخته، أو يقع المحرم على محارمه؟ إنه -والله- الظلم والظلمات.
فيرسل الله عز وجل جندياً من جنوده: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] فيخرج عليهم النمل، تقوم النملة فتلدغ الواحد منهم فيذبل ثم يذبل ثم يذبل ثم يموت، وهكذا واحدا وراء الآخر، فما كان من أحدهم إلا أن أراد أن يفلت، فسرق من أموالهم ما سرق، وجمع من الذهب والفضة ما جمع، ثم أخذه في وعاء معين، ثم حفر له تحت صخرة من الصخرات، ثم ما كان منه إلا أن علمه بهذه الصخرة، وذهب هارباً إلى مكة ، وبقي في مكة ردحاً من الزمن، قيل: إنها عشرون سنة أو أكثر من ذلك، ثم تذكر ذلك الذي حصل ولم يبق في تلك القرية إلا النساء، فماذا كان يا أيها الأحبة؟
ما كان من هذا الرجل بعد عشرين سنة إلا أن أرسل واحداً من أهل مكة -وما استطاع هو بنفسه أن يرجع إلى هناك- وقال: اذهب إلى ذاك المكان وستجد في المكان الفلاني تحت الصخرة الفلانية وعاء فيه كذا وكذا، خذه وائتنا به ولك كذا وكذا، فذهب الرجل على وصفه وسأل عن المكان واستخرج ذلك الكنز وجاء به إليه في مكة ، ويوم وصل به إلى مكة جاء الرجل ليفتحه، وكان ذلك الرجل أميناً لم يغير فيه ولم يبدل، أخذه كما هو، وعندما فتحه وإذا بنملة على ظهره إذ بها تأتي فتقفز إلى أنفه فتلدغه فيذبل ثم يذبل ثم يموت: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42].
وها هو المعتمد حاكم بعض ولايات الأندلس ذلكم الشجاع القوي المترف، يستعين به حاكم ولاية مجاورة، غزاها أحد أعدائه فيسرع المعتمد لنجدة ذلك الرجل ويرجع ذلك الغازي مدحوراً لما رأى جيوش المعتمد . وهنا انتهت مهمة المعتمد، لكنه في ظلام الليل يقوم ليبث جنوده في المدينة وحول قصر من استنجد به ويحتل المدينة ويا له من مجير:
والمستجير بعمر عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار |
أصيب ذلك الحاكم -لأنه دعاه- بصدمة عنيفة شُلَّ منها، قبض عليه وعلى والده وأخذت أمواله وأودع السجن، وسبيت زوجاته وبناته ثم أخرج من ولايته مهاناً ذليلاً، يقول أبوه: والله! إن هذا بسبب دعوة مظلوم ظلمناه بالأمس. ثم يرفع يديه إلى من لا يغفل عما يعمل الظالمون، قائلا: اللهم كما انتقمت للمظلومين منا فانتقم لنا من الظالمين.
وتصعد الدعوة إلى من ينصر المظلوم، ويظل المعتمد في ملكه فترة، ينام والمظلوم يدعو عليه وعين الله لم تنم، وتجتاحه دولة المرابطين في ليلة من الليالي وتأسره في آخر الليل:
يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا |
ويقضي حياته في أغمات في بلاد المغرب أسيراً حسيراً كسيراً، وأصبحن بناته المترفات اللائي كن يخلط لهن التراب بالمسك ليمشين عليه؛ حسيرات يغزلن للناس الصوف ما عندهن ما يسترن به سوآتهن، ويأتين أباهن يوم العيد في السجن يزرنه، فيتأوه ويبكي وينشد وكان شاعراً:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسوراً |
ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا |
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا |
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكا وكافورا |
من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالأحلام مغرورا |
كم من دعوة مظلوم قصمت ظهر طاغية، والعدل أساس الملك: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].
ها هو حمزة البسيوني الجبار الطاغية الظالم، كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم وهم يستغيثون الله جل وعلا -وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله- يقول لهم متبجحاً: أين إلهكم الذي تستغيثون؛ لأضعنه معكم في الحديد. جل الله وتبارك سبحانه وبحمده.
ويخرج ويركب سيارته وظن أنه بعيد عن قبضة الله جل وعلا، وإذ به يرتطم بشاحنة ليدخل الحديد في جسده فما يخرجونه منه إلا قطعة قطعة.
( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ).. وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].ولما أهين الإمام أحمد بن حنبل من قبل ابن أبي دؤاد رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال: اللهم إنه ظلمني وما لي من ناصر إلا أنت؛ اللهم احبسه في جلده وعذبه، فما مات هذا حتى أصابه الفالج فيبس نصف جسمه وبقي نصفه حياً، دخلوا عليه وإذا به يخور كما يخور الثور، ويقول: أصابتني دعوة الإمام أحمد ما لي وللإمام أحمد؟! ما لي وللإمام أحمد؟!
ثم يقول: والله لو وقع ذباب على نصف جسمي لكأن جبال الدنيا وقعت علي، أما النصف الآخر فلو قرض بالمقاريض ما أحسست به.
فإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم |
وفي الأثر أن الله عز وجل يقول: (وعزتي وجلالي لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم آخره يفضي إلى الندم |
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم |
ما رأيكم -يا أيها الأحبة- إن كان هناك ألف بان ووراءهم هادم واحد هل يقوم البناء؟ كلا لا يمكن أن يقوم.
فما رأيكم إن كان الباني واحداً والهادم ألفاً.
أرى ألف بان لا يقوموا لهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم |
وسائل في غالبها تهدم، ومجتمع في بعض أفراده يهدم، ومدارس في بعض أفرادها تهدم، وشوارع تهدم، وأندية تهدم، وبناة قلة إذا قيسوا بهؤلاء الهادمين؛ لكن الحق يعلو والباطل يسفل، فهل يستقيم الظل والعود أعوج:
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه |
لو تأملت -أخي الحبيب- قصة نوح عليه السلام، الذي طالما دعا بالليل والنهار، بالسر والإعلان، لم يزدهم دعاؤه إلا فراراً: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً [نوح:7] والدعوة لمدة تسعمائة وخمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، قيل: اثني عشر، وغاية ما قيل أنهم ثمانون، بمعنى أنه في كل خمس وثمانين سنة يؤمن واحداً أو في كل اثنتي عشرة سنة يؤمن واحداً، ولم ييئس صلوات الله وسلامه عليه وما كان له أن ييئس.
ها هو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: (يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه شيء) ولم ييئسوا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وها هم أصحاب القرية -قرية أنطاكية- يرسل الله إليهم رسولين فكذبوهما فعزز بثالث فكذبوه، ثلاثة رسل إلى قرية واحدة، ثم يقوم داعية من بينهم قد آمن بالله الذي لا إله إلا هو، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فما النتيجة؟ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].
يا أيها الأحبة: النملة تلكم الحشرة الصغيرة تعمل وتجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء، ينزل المطر فتخرجه من جحورها ومن مخازنها لتعرضه للشمس، ثم تعيده مرة أخرى، تحاول صعود الجدار فتسقط، ثم تحاول أخرى وتسقط، ثم تحاول مرتين وثلاثاً وأربعاً حتى تصعد الجدار، أفيعجز أحدنا أن يكون ولو كهذه الحشرة يا أيها الأحبة؟
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
إن الله جل وعلا يقول: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:18-20] ثم ماذا قال بعدها: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] كأن الله عز وجل يريد من الذين يدعون إلى الله أن يأخذوا: صبر الإبل، وسمو السماء، وثبات الجبال، وذلة الأرض للمؤمنين، ثم بعد ذلك: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] ليس لليأس مكان عند المؤمن، وليس للقنوط مكان عند المؤمن.
ها هو رجل يركب البحر وتنكسر به سفينته فيسبح إلى جزيرة في وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعاماً ولا شراباً، ويئس من الحياة فقام ينشد ويقول:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب |
لا يمكن أن يكون القار كاللبن ولا يمكن أن يشيب الغراب، معنى ذلك أنه يئس وأيقن بالموت، وإذا بهاتف يهتف ويقول:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب |
وبينما هو يسمع هذا النداء وإذا بسفينة تمر فَيُلوح لها، فتأتي فتحمله وإذ على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدا.
عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر |
إذا لاح عسر فارج يسرا فإنه قضى الله أن العسر يتبعه اليسر |
ولن يغلب عسر يسرين، فاعمل أخي! لا تيئس وابذر الحب.
فعليك بذر الحب لا قطف الجنى والله للساعين خير معين |
ستسير فلك الحق تحمل جنده وستنتهي للشاطئ المأمون |
بالله مجراها ومرساها فهل تخشى الردى والله خير ضمين |
ولنا بيوسف أسوة في صبره وقد ارتمى في السجن بضع سنين |
لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى وطغى فإن يقين قلبي أكبر |
في منهج الرحمن أمن مخاوفي وإليه في ليل الشدائد نجأر |
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما ملك الإنسان إحسان |
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلى من طبعه الغضب |
ماذا استفاد الحاقدون؟ ماذا استفاد الحاسدون؟ ما استفادوا إلا النصب، وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات، ووالله! لن يردوا نعمة أنعمها الله على عبد أياً كان، ولله در الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله:
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله |
كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله |
هاهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ دميم الخلقة لكنه رجل أعطاه الله من الإيمان ما أعطاه، وما ضره أنه دميم الخلقة، تقدم ليتزوج من أحد البيوت، فكان كلما تقدم إلى بنت رفضته؛ لأنه دميم الخلقة ولأنه قصير لا ترغب فيه النساء.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أصحابه ويقول: ( يا رسول الله! أليس من آمن بالله وصدق بك يدخل الجنة ويزوج من الحور العين؟ -أو كما قال- قال: بلى. قال: فما بال أصحابك لا يزوجونني؟! قال: اذهب إلى بيت فلان وقل لهم: رسول الله يطلب ابنتكم. فذهب إلى بيت رجل من الأنصار وطرق الباب عليه فخرج صاحب البيت فسلم عليه وقال: رسول الله يطلب ابنتكم. قالوا: نعم ونعمة عين! من لنا بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! -أي نسب نريد غير هذا النسب- قال: لكنه يطلبها لي أنا. قال: الله المستعان! -أو كما قال- ثم ذهب ليستشير زوجه فأخبرها بذلك فقالت: رسول الله يطلب ابنتنا؟! نعم ونعمة عين! قال: ولكنه يطلبها لفلان -وسماه باسمه- فما كان منها إلا أن ترددت وقالت: أما كان
وفي ليلة الزفاف -ليلة الدخول- إذ بمنادي الجهاد ينادي: يا خيل الله! اركبي. وهنا يقف موقفاً أيدخل على زوجته في أول ليلة في كامل زينتها أم يجيب داعي الله جل وعلا؟ فما كان منه إلا أن ترك هذه البنت وانطلق يطلب الحور العين، وذهب وانتهت المعركة وقام النبي يتفقد أصحابه فيقول: (هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً... وما فقدوا هذا الرجل -خفي تقي- فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: لكني أفقد أخي
ماذا قدم هذا الرجل؟ قدم قليلاً وأخذ كثيراً وكثيراً وكثيراً.
وهاهو الشيخ الحامد أحد مشايخ الشام عليه رحمة الله، ذلك الورع التقي كما نحسبه، يتوفى أخوه الأكبر فيثني على علمه ودينه في يوم من الأيام، فيقولون له: كيف أولاده وزوجته؟ قال: لقد تحولت زوجته وأولاده إلى منزل آخر، والله! ما رأيتها خلال اثني عشر عاماً وهم يسكنون معي في المنزل إلا يوم خرجت وكانت مولية ظهرها لنا وألقت علينا السلام.
تعيش معه ولم ينظر إليها ولم يجلس معها وهم في بيت واحد؛ لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحمو الموت) ولقد آثر أن يكون خطيب جامع على أن يكون رئيساً للقضاة في عهده فرحمه الله.
وهاهو صحابي اسمه أبو لبابة يختلف مع يتيم على نخلة كانت بين بستانين لهما، يدّعي اليتيم الصغير أن هذه النخلة له، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم ليعاين المكان، فإذا النخلة في بستان الصحابي أبي لبابة، فيحكم بها لهذا الصحابي، فتذرف دموع اليتيم.
ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير حكمه أبداً؛ لأنه العدل الحق ،لكنه أعلن عن مسابقة، قال لـأبي لبابة : (أتعطيه النخلة ولك بها عذق في الجنة) لكنه كان مغضباً، إذ كيف يشكوه والحق له، وكان في المجلس رجل يبحث عن مثل هذه الأمنية، وهو أبو الدحداح عليه رضوان الله، قال: (يا رسول الله! ألي العذق في الجنة إن اشتريت نخلته بحديقتي وأعطيتها هذا اليتيم؟ قال: لك العذق) فما كان من أبي الدحداح إلا أن لحق بـأبي لبابة رضي الله عنه فقال: أتبيعني نخلتك ببستاني كله؟ قال: بعتكها لا خير في نخلة شُكيت فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فباعه إياها، فذهب أبو الدحداح إلى بستانه ودخل ونادى أم الدحداح وأولاد أبي الدحداح: أن اخرجوا فقد بعناها من الله بعذق في الجنة. حتى قيل: إن بعض أطفاله كان في أيديهم بعض الرطب فكان يقول: قد بعناه من الله ويرميه في البستان.
فخرج ولم يكتف بذلك ولم يرض ثمناً للجنة إلا أن يقدم دمه وروحه لتزهق في سبيل الله عز وجل، وتأتي موقعة أحد ويشارك الجيش ويكون النبي صلى الله عليه وسلم في حالة تعلمونها في آخر المعركة، قد شج وجهه وكسرت رباعيته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ولم ينس أصحابه في تلك اللحظة الحرجة، يمر بهم فإذا هو بـأبي الدحداح فيمسح التراب عن وجهه ويقول: (يرحمك الله! كم من عذق مذلل الآن لـ
اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط |
يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط |
هاهو أبو أيوب بعد حادثة الإفك التي عاش فيها نبينا صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً من المحنة والابتلاء، يوم رمي في عرضه وفي صميم دعوته وفي قواعد رسالته، يأتي أبو أيوب قبل أن تنزل البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب ! أرأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟ قالت: لا والله! قال: فوالله ! لـعائشة خير منك وخير من نساء العالمين. فقالت هي: يا أبا أيوب ! أرأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن أن تفعل ما رمي به صفوان ؟ قال: لا والله! قالت: فـصفوان والله خير منك.
إحسان ظن بالمؤمنين، وهذا هو الخلق الذي لا يتصف به إلا المؤمنون، بل إن عائشة رضي الله عنها صاحبة المعاناة في حديث الإفك والتي بقيت وقتاً من الزمن لا يرقأ لها دمع، وقلبها يتفطر تسمع رجلاً يسب حسان ؛ لأن حسان كان ممن وقع وتكلم في حديث الإفك، فتقول: دعوه أليس هو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء |
وهكذا علمتني الحياة.
إذا رأيت نيوب الضبع بارزة فلا تظنن أن الضبع يبتسم |
إنه النفاق والمنافقون:
إن النفاق لآفة فتاكة إن أهملت أدت إلى الأسقام |
وقضت على آمالنا في أمة راياتها في البحر كالأعلام |
المنافقون: ذلكم السوس الذي ينخر في جسد الأمة المسلمة منذ عهد النبوة إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يريدون أن يتكلم داعية، لا يريدون أن يؤمر بمعروف ولا ينهى عن فاحشة فقبحهم الله وأرداهم في الحافرة: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45].
لهم ألف وجه بعدما ضاع وجههم فلم تدر فيها أي وجه تصدق |
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا [الأحزاب:61] فهم في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً.
إن المنافقين جراثيم تسمم، وبكتيريا عفونة يتربصون بالمؤمنين الدوائر، خذلوا المؤمنين في أحد وتبوك وما زالوا يخذلونهم إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لسان حالهم:
لن تستريح قلوبنا إلا إذا لم يبق في الأرض الفسيحة مسلم |
يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون، قائدهم وكبيرهم ومنظرهم الذي علمهم الخبث ابن سبأ ، الذي ظهر في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، واندس في الصفوف على أنه مسلم وكم من مندس في الصفوف على أنه مسلم:
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث |
يدير رحاها ألف كسرى وقيصر وألف مدير للمدير مدير |
قد تقولون: من هم؟ فنقول: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] ظهر هذا الرجل في عهد عثمان وقام يجوب البلدان ليجمع قطاع الطرق والمفسدين ليكون عصابة من المنافقين وبعض المغفلين؛ ليفسد نفوسهم على عثمان وقد نجح إلى حد ما؛ ونجاحهم دائما مؤقت، وهو خسارة وإنما تسميته بالنجاح من باب تسمية اللديغ بالسليم؛ حتى إنه ليأتي في يوم من الأيام مع عصابته ليدفعهم ليحاصروا عثمان رضي الله عنه وأرضاه في بيته، لينفردوا به ليضربه الغافقي بحديدة معه ثم يضرب المصحف برجله وهو يقرأ منه رضي الله عنه، ليستدير المصحف ويستقر أخرى بين يدي عثمان ويتخضب بالدماء ويغشى عليه ويُجر برجله رضي الله عنه وأرضاه.
ويأتي أحدهم بسيفه يريد وضعه في بطنه فتقيه إحدى النساء بيدها فيقطع يدها قطع الله دابره، ثم يتكأ بالسيف على صدر عثمان وبينما هو كذلك إذ وثب شقي آخر على صدره وبه رمق رضي الله عنه فطعنه تسع طعنات قائلاً: أما ثلاث منها فلله وأما ست فلشيء كان في صدري عليه، ثم يثب آخر عليه فيكسر ضلعاً من أضلاعه.
فلا إله إلا الله! إنها مجزرة دموية يدبرها السبئيون في كل مكان وفي كل زمان يريدون قطع رأس هذا الدين وكسر أضلاع معتنقيه والمبرر أنها لله، ولو صدقوا لقالوا: ست منها لما في الصدور: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30] وبصيحة (لله) الصادرة من المنافقين في كل زمان ضاع كثير من شباب المسلمين وثبط شباب آخرون وكشفت أسرار وملئت سجون، وكلها لله كما يزعمون ولو صدقوا وأنصفوا لقالوا: ست منها لما في الصدور. ووالله! إنها لكلها لما في الصدور حتى وعثمان يذهب به ليدفن يرجم سريره ويحاول أن يمنع من الدفن في البقيع ويقتل معه عبدان كانا يدافعان عنه ويرمى بهما لتأكلهما الكلاب ولما تدفن جثثهما بعد.
فانظر -أخي الكريم- كيف وصلت الأمور بالمنافقين إلى أن يقدموا جثثاً أعزها الله طعاماً للكلاب، لهم أشد على المؤمنين من اليهود والنصارى: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون:4].
ولا إله إلا الله! يقول الحسن : [[لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا أن نمشي في الطرقات]] وهو يقول هذا على عهده رضي الله عنه وأرضاه، فما نقول نحن الآن؟! لكن نقول: كل سيلقى الله بسريرته وعلانيته وعندها يتبين من بكى ممن تباكى.
ويذكر أئمتنا أن رجلاً تاب من عمل كان يقوم به، وهو من أرذل الأعمال، كان يأتي على قبر الميت في أول ليلة من لياليه فيفتح القبر ويسرق الكفن ويذهب ليبيعه، هذه حالته لفترة طويلة ثم ترك هذا العمل، فلما قيل له: لم تركت هذا العمل؟ قال: والله! لقد فتحت ألف قبر من قبور أهل القبلة فما وجدت واحداً منهم موجهاً إلى القبلة، وأنا أفتحه في أول ليلة من ليالي الدفن، فما الذي حوله عن القبلة؟! الذي حوله عن ذلك ما كان يظهر هنا ويسر، ما كان يخادع به هنا ظهر هناك. بيننا وبينهم يوم تبلى فيه السرائر، بيننا وبينهم يوم يبعثر من في القبور ويحصل ما في الصدور وأقول مع ذلك:
فتنبهوا يا معشر الإسلام من أحلامكم فالضعف في الأحلام |
لا تغفلوا عن حاقد يقظان يرقب نومكم كالوحش في الآجام |
حرب المعاصي والنفاق صراحة ليست سوى حرب على الإسلام |
لا تقل زال عصر النفاق فلكل عصر رجاله:
ما زال فينا ألوف من بني سبأ يؤذون أهل التقى بغياً وعدوانا |
ما زال لـابن سلول شيعة كثروا أضحى النفاق لهم وسماً وعنوانا |
لكن أخي لا تبتئس فالكون يملكه رب إذا قال كن في أمره كانا |
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120].
والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون، لا خوف يرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون.
لو مر واحدهم على فرعون يجتز الرءوس لأراك في الإفصاح هارون وفي الإقدام موسى.
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
يقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) لم يدع فرصة لكسول ولا لخامل ولا لتنبل ولا لبطال: (بلغوا عني ولو آية) ألا فليكن الوجود للإسلام، والرسالة الإسلام، والهوية الإسلام، له نحيا وبه نحيا وعليه نموت، حزننا لله وغضبنا لله ورضانا لله حياتنا لله ومماتنا لله، لسان حال الواحد منا:
قد اختارنا الله في دعوته وإنا سنمضي على سنته |
فمنا الذين قضوا نحبهم ومنا الحفيظ على ذمته |
ها هو نوح يدعو ويسعى -كما سمعتم قبل قليل- لا يفتر ولا ييئس بالليل والنهار لمدة تسعمائة وخمسين عاماً، ماذا بقي في حياة نوح لم يسخر للدعوة إلى الله جل وعلا؟ وما النتيجة؟ لم يؤمن معه كما سمعتم إلا قليل.
وهاهو صلى الله عليه وسلم يحمل هم هذا الدين ويثقل الهم به حتى يواسيه ربه سبحانه وتعالى بقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8].
يريد حياتهم ويريدون موته. يريد نجاتهم ويريدون غرقه. يأخذ بحجزهم وهم يتهافتون كالفراش على النار.
ثم انظر من بعده إلى صحابته رضوان الله عليهم تجد حياتهم قد أوقفت لله رب العالمين، في اليقظة يعملون لهذا الدين، وفي الليل يعملون لهذا الدين، أمانيهم حتى لخدمة هذا الدين، لم تكن حول قضايا شخصية ولا هموم أرضية،يجمع عمر أصحابه يوماً من الأيام ويقول: تمنوا. فيقول أحدهم: أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت جواهر فأنفقها في سبيل الله. فيقول الآخر: أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت ذهباً أنفقه في سبيل الله. فيقول عمر : لكني أتمنى أن يكون معي ملء هذا البيت رجالاً أستعملهم في طاعة الله. حملوا هم هذا الدين:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد |
فهل أعجبتك خصالهم:
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك |
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك |
ليسأل كل واحد منا نفسه: كم جعل من وقته للدعوة إلى الله؟ ماذا قدم لدين الله عز وجل؟ ماذا قدم لنفسه؟ كم اهتدى على يديه؟
إن الإجابات واضحة ومخجلة، لم نعط للدعوة سوى فضول أوقاتنا وسوى فضول جهودنا إلا عند من رحم الله، لكن الفرصة لا زالت قائمة، فجد واجتهد عبد الله وسارع فستبقى طائفة على الحق منصورة، فجند نفسك أن تكون في ركاب هذه الطائفة.
فإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج |
وإنا لندعو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع |
والحق يعلو والأباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يسأل |
وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدل |
هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف في صف لوحده في بداية دعوته والبشرية كلها ضده، تريد إطفاء النور الذي جاء به، ومع ذلك خسئوا: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25].. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] ولو كره المنافقون ولو كره الفاسقون.
ويأتي صحابته من بعده صلى الله عليه وسلم فيصدعون بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ومن بعدهم وإلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا تزال هناك طائفة فيها خير عظيم قد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئلا نيئس ولئلا نقنط؛ نأت بهذه الحادثة: ها هو الشيخ عبد الحميد الجزائري رحمه الله كما ورد في تاريخ الجزائر : ورد أن المندوب الفرنسي أيام الاستعمار كان يقول بكل صراحة: جئنا لطمس معالم الإسلام، واستدعى الشيخ عبد الحميد وقال له: إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت الجنود لقفل المسجد وإخماد أصواتكم المنكرة. فقال الشيخ بثبات المؤمن: إنك لن تستطيع. فاستشاط غضباً وأرغى وأزبد. وقال: كيف؟ قال: إن كنت في حفل عرس علمت المحتفلين، وإن كنت في اجتماع علمت المجتمعين، وإن ركبت سيارة علمت الراكبين، وإن ركبت قطاراً علمت المسافرين، وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين، وإن قتلتموني ألهبتم مشاعر المسلمين، وخير لكم ثم خير لكم ثم خير لكم ألا تتعرضوا للأمة في دينها، فوالله! ما نقاتلكم إلا بهذا الدين، ووالله! ما نقاتلكم إلا لهذا الدين:
إذا الله أحيا أمة لن يردها إلى الموت جبار ولا متكبر |
ديننا الحق والكفر ذا دينهم كل دين سوى ديننا باطل |
هاهو أبو بكر النابلسي -عليه رحمة الله- ذلك الزاهد الورع العالم يوم ملك الفاطميون الروافض بلاد مصر، فعطلوا الصلوات وحاربوا أهل السنة وذبحوا من علماء السنة الكثير، واستدعى المعز أبا بكر النابلسي -عليه رحمة الله- فقال له: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت الفاطميين بسهم. قال: لا. فظن أنه رجع عن قوله، قال: كيف؟ قال: قلت: ينبغي رميكم -أيها الفاطميون- بتسعة ورمي الروم بالعاشر.
فأرغى وأزبد وأمر بضربه في اليوم الأول، ثم أمر بإشهاره في اليوم التالي، ثم أمر في اليوم الثالث بسلخه حياً، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن حتى أشفق عليه اليهودي، فلما وصل في سلخه إلى قلبه طعنه بالسكين ليلقى ربه فكان يسمى بالشهيد:
علو في الحياة وفي الممات |
فهل انتهت دعوة أبي بكر بقتل أبي بكر ؟ هل خلف أبو بكر أحداً ؟ نعم. خلف أبو بكر ألف أبي بكر من أهل السنة وأهل السنة يقوم بذمتهم أدناهم:
إذا سيد منا مضى قام سيد قئول بما قال الكرام فعول |
وهكذا فكم عالم سقط على الطريق وعاشت كلمة الحق! وكم عالم عذب وأهين من أجل أن تبقى كلمة الحق عالية وبقيت كلمة الحق! وكم من عالم حرم جميع حقوقه من أجل أن يحفظ حق الله وبقيت كلمة الحق: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
تا لله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ بر يميني |
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين |
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو كبح إيماني ورد يقيني |
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني |
يا من أجبت دعاء نوح فانتصر وحملته في فلكك المشحون |
يا من أحال النار حول خليله روحاً وريحاناً بقولك كوني |
يا من أمرت الحوت يلفظ يونساً وسترته بشجيرة اليقطين |
يا رب إنا مثله في كربة فارحم عباداً كلهم ذو النون |
تم الكلام وربنا محمود وله المكارم والعلى والجود |
وعلى النبي محمد صلواته ما ناح قمري وأورق عود |
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه وبحمده.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر