إسلام ويب

حقيقة الكلمةللشيخ : علي عبد الخالق القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن العبد المؤمن الذي يبتغي مرضات الله سبحانه، ليتذكر يوم وقوفه بين يدي الجبار حيث يكلمه ليس بينه وبين الله ترجمان؛ فيكون ذلك دافعاً لأن يجعل تقوى الله مصاحبه، ورضا الله مطلبه، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم قائده، وإعداد الجواب والصواب بين يدي الله مقصده، فيتزود بالتقوى والأعمال الصالحة.

    1.   

    وصية الله للأولين والآخرين

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان:

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    أما بعد: عبد الله! عقلك عقلك، وسمعك وقلبك، أعرنيهما وأرعنيهما لحظات قد تطول؛ راجيًا أن يتسع صدرك احتسابًا لما أقول.

    ثم حلِّقْ معي بخيالك متخيلاً ما هو واقع، ومتصوراً ما هو حقيقة على الحقيقة.

    حقيقة الموقف وأهوال القيامة

    تخيل وليداً عمره شهر واحد، قضى الله ألاَّ يعيش سوى هذا الشهر، فقبضه ديَّان يوم الدين، وقُبِرَ مع المقبورين.

    وبينما هم في قبورهم إذ نُفِخ في الصور، وبُعثرت القبور، وخرج المقْبُور، وكان في من خرج ذلكم الصبي؛ ذو الشهر الواحد، حافياً عارياً أبهم، نظر! فإذا الناس حفاة عراة رجالاً ونساءً كالفراش المبثوث، والجبال كالعهن المنفوش.

    السماء: انفطرت، ومارت، وانشقت، وفُتحت، وكُشطت، وطويت.

    والجبال: سُيِّرت، ونسفت، ودكَّت.

    والأرض: زلزلت، ومُدَّت، وألقت ما فيها وتخلَّت.

    العِشَار عُطِّلت .. الوحوش حُشِرت .. البحار فُجِّرت وسُجِّرت.

    الأمم على الرُّكب جثت، وإلى كتابها دُعيَتْ.

    الكواكب انتثرت .. النجوم انكدرت .. الشمس كُوِّرت، ومن رءوس الخلائق أُدْنِيت.

    الأمم ازدحمت وتدافعت .. الأقدام اختلفت .. الأجواف احترقت .. الأعناق من العطش وحرِّ الشمس ووهج أنفاس الخلائق انقطعت.

    فاض العرق؛ فبلغ الحقوين، والكعبين، وشحمة الأذنين.

    والناس بين مستظل بظل العرش، ومصهور في حرِّ الشمس.

    الصحف نُشِرت، والموازين نُصِبَت، والكتب تطايرت، صحيفةُ كلٍ في يده، مخبرة بعمله، لا تغادر بليَّة كتمها، ولا مخبأة أسرَّها.

    اللسان كليل .. القلب حسير كسير .. الجوارح اضطربت .. الألوان تغيرت لِمَا رأت .. الفرائص ارتعدت .. القلوب بالنداء قُرِعت .. والموءودة سُئلت .. والجحيم سُعِّرت .. والجنة أُزلِفَت.

    عَظُم الأمر، واشتدَّ الهول، والمرضعة عما أرضعت ذُهِلَت، وكل ذات حمل حملها وضعت.

    زاغت الأبصار وشخصت، والقلوب الحناجر بلغت.

    وأحضروا للعرض والحساب     وانقطعت علائق الأنساب

    وارتكمت سحائب الأهوال     وانعجم البليغ في المقال

    وعنت الوجوه للقيوم     واقتُصَّ من ذي الظلم للمظلوم

    وساوت الملوك للأجناد     وجيء بالكتاب والأشهاد

    وشهد الأعضاء والجوارح     وبدت السوءات والفضائح

    وابتُليت هنالك السرائر     وانكشف المخفي في الضمائر

    هنا تخيل ذلك الوليد صاحب الشهر الواحد؟!

    ما اقترف ذنباً، وما ارتكب جُرْماً، ااًلأهوال محدقة به؛ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، تخيله مذعوراً قلبه، اشتعل رأسه شيباً في الحال؛ لهول ما يرى. فيالله لذلك الموقف:

    يوم عبوس قمطرير شرُّه     وتشيب منه مفارق الولدان

    هذا بلا ذنب يخاف مصيره     كيف المُصرُّ على الذنوب دهور؟!

    قال الله عز وجل: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً [المزمل:17] .

    عباد الله: في خِضَم هذه الأهوال التي تبيضُّ منها مفارق الولدان ما النجاة؟! وما المخرج؟!

    المخرج والنجاة من أهوال يوم القيامة

    إن النَّجاة والمخرج في أمر لا غير، لا يصلح قلب، ولا تستقيم نفس ولا تسعد إلا به، خُوطب به الخلق أجمعون، خُّصَّ به المؤمنون، أُوصِيَ به الأنبياء والمرسلون، وخاتمهم سيد ولد آدم أجمعين، عليه وعليهم صلوات وسلام رب العالمين.

    أي أمر هذا أيها المؤمنون؟

    إنه وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] تقوى الله وكفى، قال جلَّ وعلا: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61] ويقول تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].

    أي تقوى تنجي بين يدي الله؟

    أهي كلمة تُنْتَقى وتُدَبَّج في مقال؟

    أم هي شعار يُرفع بلا رصيد من واقع؟

    كلا. ما كل منتسب للقول قوَّال.

    لو أن أسباب العفاف بلا تقى     نفعت لقد نفعت إذاً إبليس

    فهو القائل: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16] لا ينجي -والله- في تلك الأهوال إلا حقيقة التقوى؛ لُبّها .. كُنهها .. ماهيتها .. مضمونها.

    فما حقيقة تلك الكلمة يا عباد الله؟

    إنها هيمنة استشعار رقابة الله على حياتك أيها الفرد، حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتلك أعلى مراتب الإيمان؛ وهي مرتبة الإحسان:

    وثالث مرتبة الإحسان     وتلك أعلاها لدى الرحمن

    وهي رسوخ القلب في العرفان     حتى يكون الغيب كالعيان

    1.   

    حقيقة الاتباع عند الصحابة

    بل هي هيمنة الدين على الحياة كلها؛ عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، خلقاً ونظاماً، رابطة وأخوة.

    هيمنة كما أرادها الله تجعل الحياة خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يندُّ منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة.

    هيمنة تسلم النفس كلها لله حتى تكون أفكاراً ومشاعرَ وأحاسيس وسلوكاً محكومة بوحي الله، فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرآنه، ولا تتبع غير رسوله، لا يحركها إلا دين الله، تأتمر بأمر الله، وتنتهي عن نهيه، متجردة عن ذاتها، متعلقة بربها، وحال صاحبها:

    خضعت نفسي للباري فَسُدتُّ الكائنات     أنا عبد الله لا عبد الهوى والشهوات

    فَهِمَ هذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاغوه واقعاً حيّاً نابضاً انفعلت به نفوسهم، فتَرْجموه في واقع سلوكهم.

    صرت ترى شرع الله يدبُّ على الأرض في صورة أُناسٍ يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق.

    إذا ما دُعوا للهدى هرولوا     وإن تدعهم للهوى قرفصوا

    روى الإمام البخاري عن أنس رضى الله عنه أنه قال: (كنت ساقي القوم في بيت أبي طلحة -يعني الخمر- وإني لقائم أسقي فلاناً وفلاناً وفلاناً، إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لقد حُرِّمت الخمر، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منادياً ينادي: ألا إن الخمر حرمت! فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس -فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل- وما دخل داخل ولا خرج خارج حتى أهراق الشراب، وكسرت القلال، وتوضأ بعضهم، واغتسل بعضهم، ثم أصابوا من طِيب أم سليم ، ثم خرجوا إلى المسجد يخوضون في الخمر، قد جرت بها سكك المدينة)، فقد تواطأت المدينة كلها على تحريمها، فلما قُرئِت عليهم الآية: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] بعض القوم شَرْبته في يده فلم يرفعها إلى فيه، بل أراق ما في كأسه، وصبَّ ما في باطيته، وقال: انتهينا ربنا انتهينا.

    لم يقولوا: تعودنا عليها منذ سنين، وورثناها عن آبائنا؛ كما يفعل بعض مسلمي زماننا.

    ما تكونت عصابات لتهريب المخدرات؛ لأن الدين هيْمَن على حياتهم، فاستشعروا رقابة ربهم، فبادروا في يُسْرٍ إلى تنفيذه؛ امتثالاً لأمر الله، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر أهل المدينة ألا يكلموا كعباً حين تخلف عن تبوك ، فإذا الأفواه ملجمة لا تنبس ببنت شفة، وإذا الثغور لا تفتر حتى عن بسمة، بل إن ابن عمه وحميمه وصديقه؛ أبا قتادة لمَّا أتاه ليسلِّم عليه كعب ما ردَّ عليه السلام، فاستعبرت عينا كعب رضيَ الله عنه ورجع كسير البال، كاسف الحال.

    فأمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة، ثم انظر إليهم لما نزلت توبة الله على هذا الرجل -على كعب رضي الله عنه وأرضاه- تتحرك المدينة وتنتفض عن بكرة أبيها إلى كعب ، فإذا الأفواه تلْهَج له بالتهنئة وكانت مُلْجَمَة، وإذا الثغور تفترُّ عن بسمات مضيئة صادقة وكانت عابسة، نفوس لا يحركها إلا دين الله، حالها:

    ما بعث نفسي إلا لله عز وجلِّ     فمن تولى سواه يوله ما تولىَّ

    إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه، بل تابعوا أفعال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولاحظوا تصرفاته بكل دقة وشوق وحرص على الاقتداء، حتى إذا ما فعل شيئاً سارعوا إلى فعله مباشرة؛ لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.

    ثبت عند أبي داود في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره، فلمَّا رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم ألقوا نعالهم، فلمَّا قضى صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا).

    توحيد في الاتباع.

    فمن قلَّد الآراء ضلَّ عن الهدى     ومن قلَّد المعصوم في الدين يهتدي

    بل كان الناس إذا نزلوا منزلاً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره تفرقوا في الشِّعاب والأودية، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فما نزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضموا بعضهم إلى بعض، حتى لو وضع عليهم بساط لعمَّهم) تنفيذ في يُسْر، وطاعة وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.

    هم ذلك السلف الذين لسانهم     تنحطُّ عنه جميع ألسنة الورى

    تلك العصابة من يَحُدْ عن سُبْلها     حقاً يقال لمثله أطْرق كرى

    أطْرق كرى إنَّ النَّعام في القُرَى

    1.   

    حقيقة التقوى

    مما سمعتم -أيها المؤمنون- يتجلى لنا مظهر أفراد المجتمع المسلم في ظل إدراكهم الصحيح لمفهوم الإسلام، فليست المسألة عندهم فرائض يفرضها هذا الدين على الناس بلا موجب إلا رغبة التحكم في العباد، بل هي مسألة وجود الإنسان إذا رغب أن يكون إنساناً حقاً، لا مجرد كائن يأكل الطعام، ويشرب الشراب، ويقضي أيامه على الأرض كيفما اتفق؟!

    بل هي وضع للإنسان في وضعه الصحيح كإنسان، يستشعر رقابة المولى، وتلك حقيقة التقوى.

    عباد الله: هل استشعر رقابة الله واتقى الله حقيقة من يشهد أن لا إله إلا الله، ويصبح دائباً مُجدّاً مجتهداً في مطعم حرام، وملبس حرام، وغذاء حرام؟

    يصبح وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، ووقع في عِرْض ذاك وذا .

    يصغر ذا بأراجيفه          ويرجو بذلك أن يكبرا

    ولو عاش في عالم أمثل     لكان من الحتم أن يصغرا

    هل استشعر رقابة الله من يجلب النار ليحرق بيته وأهله؟

    من يخرب بيته بيده بوسائل لا تزال تمطره بوابل أو طلٍّ من أغانٍ وأفلام ماجنة، وقصص سافلة، وترويض للنفوس على الكذب والنفاق وقلب الحقائق؟

    قائم على هدم بيته كالدودة التي تخرج من الميت، ثم لا تأكل إلا ذاك الميت.

    ألم يستشعر أنه لو مات على حالته تلك؛ مات غاشّاً لرعيته، خائناً لأمانته، حاملاً وزره ووزر ما جلبه لبيته على ظهره يوم القيامة بقدر ما أفسدت هذه الوسائل في نفوس أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً.

    والله! لا يُعفيك من حساب الله، ولا من لوم الناس، ولا تأنيب الضمير أن تقول: أنا ضحية، وما البديل، وما البدل، وما المبدل منه، وبيتك حقلٌ لاستقبال الأفكار والأوضار والأقذار، تنبت فيه وتنمو وتترعرع، وأنت تسأل ماذا أفعل؟ لا يفلُّ الحديد إلا الحديد، والباب الذي يأتيك منه القبيح لا حيلة فيه إلا بسدِّه لتستريح.

    ألا إن الشَّراب له إناءُ     فإن دنَّسته دَنِس الشَّراب

    أَمَا في هذه الدنيا أمورٌ     سوى الشهوات تحرزها الطلاب

    أما في هذه الدنيا أسودٌ     كما في هذه الدنيا كلاب

    بلى.

    يمنع الليث حِمَاه أن يرى     فيه كلباً عادياً إن زأرا

    هل استشعر رقابة الله من يتعبد بأعمال ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجته ازدياد الخير، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من مريد للخير لا يصيبه؟

    أي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصِّصت بفضل لم يُخصّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

    هل استشعر رقابة الله من ليله سَهَر على ما حرم الله، ويصبح مجاهراً بمعصية الله؟

    من إذا وصل إلى بيئة أجنبية لا يُعرف أَمِن اليهود هو، أم من النصارى والمجوس والذين أشركوا؟

    كلفظ ما له معنى     كتمثال من الجبس

    يسير لغير ما هدف     ويصبح غير ما يمسي

    حقيقة الكلمة: لَجَأٌ إلى الله، وتَعرَّفٌ عليه في الشدة والرخاء، لا على سواه، عرَّافاً كان أو ساحراً أو كاهناً أو مقبوراً:

    لا قبة ترجى ولا وثن ولا     قبر ولا نصب من الأنصاب

    الله ينفعني ويدفع ما بي

    بالله ثق وله أنب وبه استعن     فإذا فعلت فأنت خير مُعَانٍ

    1.   

    سيد المتقين .. عبادته وإخباته

    ها هو سيد المتقين -صلوات الله وسلامه عليه- في الشدة والرخاء لا تراه إلا أوَّاهاً منيباً مخبتاً إلى ربه؛ فبهداه يهتدي المقتدون.

    حال النبي صلى الله عليه وسلم وقت الرخاء

    ثبت عند ابن حبان في صحيحه عن عطاء قال: { دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضيَ الله عنها فقال عبيد : حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة ! ذريني أتعبد لربي. قالت: قلت: والله! إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك. فقام وتطهر، ثم قام يُصلي، فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، ثم لم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض من حوله، وجاء بلال ليؤذنه بصلاة الفجر، فلمَّا رآه يبكي بكى، وقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، تبكي وقد غُفر لك؟! قال: يا بلال ! أفلا أكون عبداً شكوراً؟ آيات أُنزلت عليَّ الليلة، ويلٌ لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، وويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] } هذا في رخائه صلى الله عليه وسلم.

    يا نائماً مستغرقاً في المنام     قم فاذكر الحي الذي لا ينام

    حال النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشدة

    وفي الشدة تنقل لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أيضاً -كما ثبت في البخاري- أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب } يالله! يعيش قضيته بكل أحاسيسه ومشاعره، هَمٌّ بلغ برسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يشعر بنفسه من الطائف إلى السيل الكبير . فيم كان يفكر؟

    ترى فيم استغرق هذا الاستغراق الطويل؟

    لعله كان يُفِّكر في أمر دعوته التي مضى عليها عشر سنين ولم يستطع نشر الإسلام بالحجم الذي كان يتمنى، لعله كان يُفكِّر كيف سيدخل مكة ؟ فهو بين عدّويْن: عدو خَلَّفه وراء ظهره أساء إليه ولم يقبل دعوته، وعدوٌ أمامه ينتظره ليوقع به الأذى، يقول صلى الله عليه وسلم: {فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل -لطف الله ورحمة الله لمن يتعرفون عليه في الرخاء- فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال: فسلم عليّ، ثم قال: يامحمد! ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين}.

    الله ينصر من يقوم بنصره     والله يخذل ناصر الشيطان

    كان صلى الله عليه وسلم رحيماً بقومه، فما أرسل إلا رحمة للعالمين.

    الأمل في هدايتهم يفوق في إحساسه الشعور في الرغبة بالانتقام من أعدائه، والتشفي من قومه الذين أوقعوا به صنوف الأذى، فقال صلى الله عليه وسلم لملك الجبال: {كلا. بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} وكان ما رجاه وأمَّلَه؛ بذرة طيبة في أرض خصبة لم تلبث أن صارت شجرة مُورِقَة.

    يبني الرجال وغيره يبني القُرى     شتان بين قرى وبين رجال

    رخاء وشدة لله، وتلك حقيقة تقوى الله.

    1.   

    حقيقة الكلمة .. نظرات وتأملات

    حقيقة الكلمة: أن تكون كراكب على ظهر خشبة في عرض البحر، تتقاذفك الأمواج والأثباج، وأنت تدعو: يا رب! يا رب! لعلَّ الله أن ينجيك. حالك ومقالك:

    يا مالك الملك جُدْ لي بالرضا كرماً     فأنت لي محسن في سائر العمر

    يا رب زدنيَ توفيقاً ومعرفة      وحسن عاقبة في الورد والصدر

    إعداد الجواب بين يدي الله

    حقيقة الكلمة: ألا تنطق بكلمة ولا تتحرك حركة ولا تسكن سكوناً إلا وقد أعددت له جواباً بين يديْ الله؛ فإنك مسئول، فأعدَّ للسؤال جواباً صواباً .

    وعندها يثبِّت المهيمن     بثابت القول الذين آمنوا

    ويوقن المرتاب عند ذلك     بأنما مورده المهالك

    اليقظة وعدم الغفلة عن مكر الله

    حقيقة الكلمة: حذار أن يأخذك الله وأنت على غفلة، ألا يحضر حق لله إلا وأنت متهيء له، ألا تكون عدواً لإبليس علانية صديقاً له في السر.

    حقيقة الكلمة: استشعار قدرة الله خصوصاً عند إرادة الظلم لعباد الله؛ عاملاً أو خادماً كائناً من كان، يحسب المرء أنه يعجز الله فيلهو ويملأ الأرض ظلماً.

    روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي مسعود البدري قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسَّوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود ، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود .. اعلم أبا مسعود ! فألقيت السوط من يدي هيبةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا به يُكرِّر: اعلم أبا مسعود ! للهُ أقدرُ عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً يا رسول الله ! هو حرٌ لوجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تفعل ذلك لَلَفَحَتْك النَّار- أو لمسَّتْك النار-}.

    من سار في درب الردى غاله الردى     ومن سار في درب الخلاص تخلصا

    ثبت عن عبد الله بن أنيس -كما في المسند- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فيناديهم الله بصوت يَسمعه مَنْ بَعُد كما يَسمعه مَنْ قَرُب: أنا الملك .. أنا الديان! لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى اللطمة}.

    من يعمل السوءى سيجزى مثلها     أو يعمل الحسنى يفز بجِنَان

    خُلِق الظلم: أُمه قلة الدين، وسوء الأخلاق أبوه.

    نصرة ونجدة المظلومين

    حقيقة الكلمة: نصرة ونجدة المظلومين، وإنصافهم عند القدرة من الظالمين، ومن نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة.

    ليس من شأن المسلم المتقي لله حقاً أن يدع أخاه فريسة في يد مَنْ يظلمه أو يذلّه، وهو قادر على أن ينصره، من أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره، أذلَّه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة.

    ثبت عند ابن ماجة في سننه عن جابر قال: {لما رجعت مهاجرة البحر -مهاجرة الحبشة - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ، قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس، مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قُلَّةُ من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قُلَّتها، فلمَّا قامت التفتت إليه وقالت: سوف تعلم يا غدر! إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، كيف يكون أمري وأمرك عنده غداً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: صدقتْ! صدقت! كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟! أبغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم. إن من الضعفاء من لو أقسم على الله لأبرَّه}.

    وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72] كم يستغيثون؟ كم هم يَئِنُّون؟

    كم يستغيث بنا المستضعفون وهم     قتلى وأسرى فما يهتز إنسان

    والعالم اليوم شاهد بذا.

    المستذل الحر والمزدرى عالي الـ     ذرى والأوضع الأشرف

    كم في المسلمين من ذوى حاجة، وأصحاب هموم، وصرعى مظالم، وفقراء وجرحى قلوب، في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين أنَّى اتجهت:

    كبلوهم قتلوهم مثَّلوا     بذوات الخدر عاثوا باليتامى

    ذبحوا الأشياخ والمرضى ولم     يرحموا طفلاً ولم يبقوه غلاما

    هدموا الدُّور استحلُّوا كل ما     حرَّم الله ولم يَرْعَوْا ذِمَاما

    أين من أضلاعنا أفئدة     تنصر المظلوم تأبى أن يضاما

    نسأل الله الذي يكلؤنا     نصرة المظلوم شيخاً أو أيَامى.

    لا تكن العصافير أحسن مروءةً منا، إذا أُوذي أحد العصافير صاح فاجتمعت لنصرته ونجدته كلها، بل إذا وقع فرخ لطائر منها طِرْن جميعاً حوله يعلِّمْنَه الطَّيران؛ فأين المسلم الإنسان؟

    إذا أخصبت أرض وأجدب أهلها     فلا أطلعت نبتاً ولا جادها السما

    انصر الحق والمظلوم حيث كان، ولا تطمع بوسام التقوى حقيقة إلا إن كنت فاعلاً متفاعلاً، نصيراً بكلمة .. بشفاعة .. بإعانة .. بإشارة خير .. بدعاء .. بعزم ومضاء.

    عَبِّئْ له العزم واهْتِف مِلء مَسْمَعِه     لابد لليل مهما طال من فلق

    هذا عرينك لكن أين هيبته     والليث ليث فتيّاً كان أو هَرِمَا

    على الليالي على الأيام في ثقةٍ     نقِّل خطاك وإلا فابتر القدما

    كالسيل منطلقاً كالليل مهتدماً     حتى ترى حائط الطغيان منهدما

    تقديم حب الله ورضاه على كل ما عداه

    حقيقة الكلمة: إيثار رضا الله على رضا كل أحد، وإن عظمت المحن، وثقلت المُؤن، وضعف الطَّوْل والبدن.

    تقديم حب الله على حب كل أحد؛ إن كان أباً أو أخاً أو زوجاً أو ابناً أو مالاً سكناً: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24].

    لما بلغت الدعوة في مكة نهايتها، واستنفذت مقاصدها، أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة وللمسلمين معه، فما تلكئوا، ولا ترددوا، بل خرجوا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.

    تركوا الأهل والوطن، تركوا المال والولد، لم يبقَ منهم إلا مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف، وقد كانت الهجرة عظيمة شاقة صعبة على المسلمين الذين وُلدوا بـمكة ، ونشئوا بها، ومع ذا هاجروا منها؛ استجابةً لأمر الله تعالى، ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم:

    مرحباً بالخطب يبلوني     إذا كانت العلياء فيه السببا

    ثم مرضوا بـالمدينة ، وأصابتهم الحمى، فأباحوا بأشعار وأقوال أثناء المرض تدل على صعوبة ما لاقوه وعانوه على نفوسهم، فها هي عائشة تأتي إلى أبيها أبي بكر رضيَ الله عنهما وقد أصيب بالحمَّى، يرعد كما ترعد السَّعفة في مهبِّ الريح، وتقول له: كيف تجدك يا أبي؟ فيقول:

    كل امرئ مصبَّح في أهله     والموت أدني من شراك نعله

    فتقول عائشة : والله ما يدري أبي ما يقول.

    و بلال رضي الله عنه محموم يُسائل نفسه: هل سيرى سوق مجنة ومجاز ، وجبال مكة كـشامة وطفيل ، ونباتها كالإذخر والجليل، ثم يرفع عقيرته، فيقول:

    ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بوادٍ وحولي إذخر وجليل

    وهل أردن يوماً مياه مجنة     وهل يبدو لي شامة وطفيل

    ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه أمضَّه ذلك وآلمه، إذ كان يعزّ عليه عنتهم صلوات الله وسلامه عليه فدعا ربه: {اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها إلى مهيعة أو إلى الجحفة } فكانت بعدها من أحب البلدان إلى أصحابه. حالهم:

    اختر لنفسك منزلاً تعلو به     أو مت كريماً تحت ظل القسطلِ

    وإذا نبا بك منزل فتحولِ

    أخيراً: هذه مشاعر مسلم حول الهجرة، هو أبو أحمد بن جحش رضي الله عنه وأرضاه، يصورها مع زوجته بأسلوب عظيم يبين فيه أنه يطلب ويرغب ما عند الله بهجرته، ولو كان في ذلك شدة مشقة وتعب ونصب وكد، راجياً ألا يخيبه الله كما يروى، فيقول:

    ولما رأتني أم أحمد غادياً     بذمة من أخشى بغيب وأرهب

    تقول فإما كنت لابد فاعل     فيمِّن بنا البلدان ولتنأ يثرب

    فقلت لها بل يثرب اليوم وجهنا     وما يشأ الرحمن فالعبد يركب

    إلى الله وجهي يا عذولي ومن يقم     إلى الله يوماً وجهه لا يخيب

    فكم قد تركنا من حميم وناصح     ونائحة تبكي بدمع وتندب

    ترى أن موتاً نأينا عن بلادنا     ونحن نرى أن الرغائب نطلب

    بهذا ما يصور قساوة الخروج من أرضهم لكنه خروج في سبيل ربهم، فماذا يضرهم والله مولاهم؟

    حنوا إلى أوطانهم واشتاقوا إلى خيام اللؤلؤ في الجنة مولاهم، فغلَّبوا الأعلى على الأدنى، والأنفس على الأرخص، والأسمى على الأخس:

    شتان بين امرئ في نفسه حرم قدس وبين امرئ في قلبه صنم

    خذني إلى بيتي أرح خدي     على عتباته واقبل مقبض بابه

    خذني إلى وطن أموت مشرداً     إن لم أكحل ناظري بترابه

    إنها الجنة والذي نفسي بيده! لو كنت أقطع اليدين والرجلين مذ خلق الله الخلق تسحب على وجهك إلى يوم القيامة ثم كان مأواك الجنة ما رأيت بؤساً قط، فاسمع وعِ:

    لا تؤثر الأدنى على الأعلى     فتحرم ذا وذا يا ذلة الحرمان

    ألا رُبَّ مبيض ثيابه اليوم مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه اليوم مهين لها غداً، ادفعوا سيئات الأمس بحسنات اليوم: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

    أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظمة من عصيت

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين، وأُصلي وأُسلم على النبي الأمين، وآله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    عباد الله! اتقوا الله حق التقوى، فمن حقيقة هذه الكلمة: ألا تنظر إلى صغر الخطيئة، بل تنظر إلى عظمة من عصيت.

    إنه الله الجليل الأكبر     الخالق البارئ المصور

    كم من ذنب حقير استهان به العبد فكان هلاكاً له: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].

    ثبت عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: {كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فناما واستيقظا وهو نائم لم يهيء لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا لنئوم -أي: كثير النوم- ثم أيقظاه، وقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدمانك -يعني: يطلبان منك الإدام- فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أقرئهما السلام، وأخبرهما أنهما قد ائتدما، فرجع فأخبرهما، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكما قد ائتدمتما! ففزعا فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: قد ائتدمنما، فبأي شيء ائتدمنا؟

    قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه بين أنيابكما، قالا: فاستغفر لنا يا رسول الله! قال: بل مُروه هو فليستغفر لكما}.

    عباد الله: إن أبا بكر وعمر ما نظرا إلى ما قالا، فإنها كلمة قد نقول أعلى منها مئات المرات، لكنهما نظرا إلى عظمة من عصو، إنه الله! وتلك حقيقة تقوى الله.

    فإيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن لها من الله طالباً.

    لا تحقرنَّ صغيرة     إن الجبال من الحصى

    والقَطْر منه تدفَّق الخُلْجَان.

    الحذر من استحلال محارم الله

    حقيقة الكلمة أخيراً: الحذر من استحلال محارم الله بالمكر والاحتيال، وأن يعلم العبد أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً من الأقوال والأفعال، فإن لله يوماً تعك فيه الرجال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتجري أحكام الله على القصود والنيات، كما جرت على ظاهر الأقوال والحركات، يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من الصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسودُّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والمكر والاحتيال، هنا يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم يخدعون، وبها يمكرون: وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:123] .. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأعراف:169].

    هذه بعض حقائق الكلمة، جعلنا الله من المتقين حقّاً.

    اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

    اللهم آتِ نفوسنا تقواها، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، اللهم زكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، وأنت أرحم الراحمين.

    اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين.

    اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.

    اللهم ارحم سائلك ومؤمِّلك، لا ملجأ له ولا منجى منك إلا إليك.

    اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّج همهم، ونفِّس كربهم، وارفع درجتهم، واخلفهم في أهلهم.

    اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء.

    اللهم ارحم موتى المسلمين .. اللهم ارحم موتى المسلمين .. اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم.

    اللهم زد في حسناتهم، اللهم زد في حسناتهم .. اللهم زد في حسناتهم .. وتجاوز عن سيئاتهم، أنت أرحم بهم، وأنت أرحم الراحمين!

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755909363