إسلام ويب

هذا الحبيب يا محب 126للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الجود والكرم، فكان كما يصفه أصحابه أجود الناس، وكان في رمضان كالريح المرسلة، حين يأتيه جبريل يدارسه القرآن، وكان أحلم الناس صلى الله عليه وسلم ولا يزيده الجهل عليه إلا حلماً، ولم يعامل أحداً على إساءته إلا بالإحسان.

    1.   

    الكرم المحمدي

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

    وأعيد إلى أذهانكم أن دراسة السيرة النبوية الشريفة السامية الطاهرة المقصود منها الائتساء والاقتداء بالكمالات المحمدية؛ ليزداد الإيمان وتزداد الصالحات، وتسمو الأخلاق وترتفع الآداب، فما تتلى أو تقرأ أو يسمع إليها لمجرد قصة أو سيرة. بل:

    أولاً: لتقوية الإيمان بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثانياً: لمجاهدة النفس حتى تتحلى بالأخلاق المحمدية والآداب المحمدية.

    ومن هنا وانتهى بنا الدرس إلى الأخلاق المحمدية.

    قال: [الكرم المحمدي] والآن مع الكرم المحمدي، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كريماً؟ والله! لا أكرم منه، لا في العرب ولا في العجم، لا في الأولين ولا في الآخرين، سما سمواً لا نظير له، وسوف تشاهد ذلك وتسمع.

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [إن الكرم المحمدي كان مضرب الأمثال، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً] فما سأله أحد ورده أبداً إلا قضى حاجته [وهو واجد ما يعطيه] بهذا الاحتراس، فلا يرد سائلاً إذا كان واجداً عنده ما يعطيه للسائل، أما إذا كان غير واجد فمن أين يعطي؟! فهو معذور.

    أمثلة على جود وكرم النبي صلى الله عليه وسلم

    قال: [فقد سأله رجل حلة كان يلبسها] والحلة في لغة القوم الآن البدلة، ثوبان من جنس واحد، فهي حلة يتحلى بها [فدخل بيته فخلعها، ثم خرج بها في يده وأعطاه إياها] أي: الحلة، ثوبان من نوع واحد تحلى بهما، فخرج بهما فشاهده هذا الطماع ويا ليتني مثله، فقال: يا رسول الله! أعطني إياها، فأعطاه إياها، فقيل له: لم يا هذا؟! قال: أريد أن تمس جسدي كما مست جسده صلى الله عليه وسلم. هذا الحب النبوي.

    يا جماعة! إذا عرفتم حبكم له اتبعوه وامشوا وراءه، أما الحب بلا عمل كالمال بلا ثمن.

    قال: [ففي صحيحي البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا ). وقال أنس بن مالك رضي الله عنه] خادمه [( ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، سأله رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين )] في واد مملوء بغنم [( فأتى الرجل قومه فقال لهم: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة )] أي: الفقر.

    لما دخل الرجل في الإسلام وانتشر الخير أعطاه غنماً كاملة بين جبلين، فقهال: خذها يا أعرابي، فرجع الأعرابي يقول لقومه: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، فأسلموا.

    قال: [إن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يريد إلا الدنيا] لا هم له إلا المال [فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز من الدنيا وما فيها] فيأتي لا يريد إلا المال، فيواجه بالأنوار المحمدية والآداب والأخلاق فينتكس أو ينقلب، ويصبح لا أحب له من الإسلام، ويدخل في رحمة الله، وهذه آثار الكمال المحمدي.

    وقوله: (فما يمسي) أي: لا يدخل في مساء ذلك اليوم. وقوله: (حتى يكون دينه أحب إليه وأعز من الدنيا وما فيها) أي: الإسلام.

    قال: [وحسبنا] أي: يكفينا [في الاستدلال على كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد سئل عن جود الرسول وكرمه] فهذا الحبر ابن عباس سئل عن جود الرسول وعن كرمه، وذلك بعد وفاته [فقال: ( كان رسول الله أجود الناس )] وهو كذلك [( وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن )] هو طول العام جواد كريم، لكنه في رمضان أكثر؛ لأن جبريل ينزل إليه ويدارسه القرآن، وماذا بقي للدنيا من قيمة؟! فقد أصبح من أهل العالم العلوي، وأصحاب الجفاء في القنوط واليبوسة، أما أهل القرآن والمقبلون على الله والمتعبدون فترق قلوبهم وتصفو أرواحهم، والتعليل كما سمعتم، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان؛ حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن ) حتى يتثبت من حفظه وفهمه.

    قال: [( فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة )] وهي التي دائماً ماشية لا تنقطع [بمعنى أن عطاءه دائم لا ينقطع بيسر وسهولة، وهاهي ذي أمثلة لجوده وكرمه صلى الله عليه وسلم:

    أولاً: حملت إليه تسعون ألف درهم] جاء رجاله بتسعين ألف درهم من خراج أو غنيمة [فوضعت على حصير] في المسجد، وليس هناك بوليس يحرس [ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلاً حتى فرغ منها] فما رد سائلاً حتى انتهت التسعون ألف درهماً.

    قال: [ثانياً: أعطى العباس رضي الله عنه] هذا عم الحبيب صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب [من الذهب مالم يطق حمله] فقال له: خذ يا عباس ، فأخذ يغرف ويغرف في طرف ثوبه، وأراد أن يقوم فما استطاع، فقال: يا رسول الله! خفف، قال له: لا، لا أعينك؛ حتى ترك منه بعضه، ولو كان خاتم ذهب اليوم لاقتتل عليه رجلان.

    قال: [ثالثاً: أعطى معوذ بن عفراء ملء كفه حليًا وذهبًا لما جاءه بهدية من رطب وقثاء] فـمعوذ بن عفراء جاء بهدية للرسول صلى الله عليه وسلم رطب وقثاء، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ملء كفه ذهباً. كريم جواد، والله! لم تعرف الدنيا مثله قط.

    قال: [رابعاً: جاءه رجل] من الرجال [فسأله] طلب منه شيئاً [فقال: ( ما عندي شيء ولكن ابتع علي )] أي: اشتر [( فإذا جاءنا شيء قضيناه )] يا رسول الله! أعطني، قال: ما عندي، قال: اذهب واشتر من السوق أي شيء على حسابي، وعندما يأتينا مال من ربي نعطيك ونسددك.

    فقوله: (جاءه رجل) أي: من الرجال، وليس أبو بكر ولا عمر ، بل من عامة الناس (فسأله شيئاً فقال: ( ما عندي شيء ولكن ابتع علي ) أي: اشتر ( فإذا جاءنا شيء قضيناه لك ) وسددنا دينك.

    قال: [وكيف لا يكون الحبيب صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأجودهم على الإطلاق، وهو القائل: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان)] ينزل اثنان من الملائكة [(يقول أحدهما)] سائلاً داعياً [( اللهم! أعط منفقاً خلفًا )] أي: أعط معطياً خلفاً [( ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكًا تلفًا )] فالرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يقف هذا الموقف، وقد بلغه هذا: (ما من يوم من الأيام يصبح العباد فيه) أحياء ما قامت القيامة (إلا وملكان يقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، والآخر يقول: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً) أي: لماله.

    قال: [والقائل أيضًا: ( يقول الله تعالى: ابن آدم! أنفق أُنفق عليك )] هذا الله نفسه يقول: ( ابن آدم أنفق أٌنفق عليك ) [وقد نزل عليه قول ربه جل وعز: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]] أي: وما أنفقتم من شيء قل أو كثر فهو يخلفه وهو خير الرازقين.

    إذاً: تجلى لكم الكرم النبوي، فهيا نحاول أن يكون لنا منه نصيب، ما استطعنا.

    1.   

    الحلم المحمدي

    قال: [الحلم المحمدي] هذه الأخلاق السامية: الكرم والحلم.

    قال: [إن الحلم وهو ضبط النفس حتى لا يظهر منها ما يكره قولًا كان أو فعلاً عند الغضب] فالحليم إذا غضب يضبط نفسه، فلا يسب ولا يشتم، ولا يلعن ولا يفعل كما نفعل نحن والعياذ بالله، فإذا غضب يضبط نفسه، فلا يشتم ولا يسب ولا.. ولا.. فضلاً أن يضرب. هذا هو الحلم، وهذا هو الحليم.

    قال: [وما يثيره هيجانه من قول سيئ أو فعل غير محمود] هذا بيان للحلم [وما يثيره] أي: الغضب [من قول سيئ] والقول السيئ كالسب أو الشتم أو كذا، والعمل السيئ الضرب والأخذ باليد [هذا الحلم كان فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم مضرب المثل] إي والله!.

    أمثلة على حلم النبي صلى الله عليه وسلم

    قال: [والأحداث التالية] اسمعوها [شواهد لحلمه فداه أبي وأمي، وصلى الله عليه وسلم، وذلك لتربية الله تعالى له، وإفاضته الكمالات على روحه صلى الله عليه وسلم] فما فاز بهذا الحلم إلا بسبب تربية الله تعالى له، وما أفاض على روحه من الكمالات.

    قال: [أولاً: لما شجت وجنتاه وكسرت رباعيته ودخل المغفر في رأسه صلى الله عليه وسلم يوم أحُد قال: ( اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )]. أي حلم أعظم من هذا، والدماء تسيل، والجراحات صعبة [فهذا منتهى الحلم والصفح والعفو والصبر منه صلى الله عليه وسلم].

    قال: [ثانياً: لما قال له ذو الخويصرة : اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله] لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا صعلوك من صعاليك الناس ذو الخويصرة لما كان يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم الصدقات والأموال قال له: اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله [حَلُمَ عليه وقال له: ( ويحك فمن يعدل إن لم أعدل )، ولم ينتقم منه ولم يأذن لأحد من أصحابه بذلك] أي: بأن يضره أو يؤذيه أو أن يصفعه أو يقول له كلمة، وجربوا الناس الآن وقولوا لهم هذا وانظروا، وامتحنوهم.

    قال: [ثالثاً: لما جذبه الأعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت في صفحة عنقه صلى الله عليه وسلم] لا تلم بدوياً، فما تربى مثل هؤلاء في حجور الصالحين، وهذا شأنهم، لا بد أن يقع هذا منهم، فإن قيل: الآن يا شيخ كلنا بدو. أقول: وما دمنا لا نتربى في حجور الصالحين، وآباؤنا وأمهاتنا صعاليك مقبلون على الدنيا والأباطيل والتراهات ونحن نعبث في الليل والنهار، فما الفرق بيننا وبينهم؟! الذي لا يتربى في حجور الصالحين، فالأم والأب والأقارب بالكلمة الطيبة والآداب والأخلاق، ومن أراد أن يعرف فليسمع أصوات الأطفال فقط، والمؤدب لا تسمع صوته.

    يا شيخ! النساء في الحجرة تصرخ، هذه هي الآداب، والله يقول على لسان لقمان الحكيم: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، هذه آداب ربانية ونحن نصرخ؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين.

    قال: [وقال: احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك] هذه عجيبة! [فإنك لا تحمل لي من مالك ومال أبيك] هذا مال الله، إياكم أن تقولوها أنتم الآن للناس، احذروا.

    قال: [حلم عليه صلى الله عليه وسلم ولم يزد أن قال: ( المال مال الله وأنا عبده )] أي: عبد الله لا عبد المال [( ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي )] خوفه؛ لأنها تهمة عظيمة، اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة [( فقال الأعرابي: لا )] ما يقاد مني [( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم؟ قال: لأنك لا تكافئ السيئة بالسيئة، فضحك صلى الله عليه وسلم منه، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى آخر تمر )] بعير تمر كامل، وبعير شعير [فأي حلم عباد الله، وأي كمال هذا يا عباد الله؟!] فوق ما نتصور أو ندرك، ويحمل له على بعيرين، ما عفا عنه فقط، وكذلك ما ضربه.

    ومن الأحداث الدالة على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم كمال حلمه أيضاً:

    قال: [خامساً: لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم انتصر لنفسه من مظلمة ظلمها قط] أي: ما ثبت في الحديث الصحيح ولا الضعيف أنه انتصر لنفسه في مظلمة ظلمها [ولا ضرب خادمًا ولا امرأة قط] وقد كان معه تسع نسوة، وما ضرب خادماً، قال أنس : [ عشر سنين وأنا أخدمه ما قال لي لشيء تركته: لم تركته، ولا لشيء فعلته: لم فعلته]. لم يثبت قط أنه انتصر لنفسه من مظلمة ظلمها قط، ولا ضرب خادماً ولا امرأة قط.

    قال: [بهذا أخبرت عائشة رضي الله عنها] وعائشة الذي لا يحبها لا أحبه الله ولا رسوله، ولا دخل الجنة دار السلام، هذه بنت أبي بكر الصديق ، هذه أم المؤمنين. نزل القرآن ببراءتها من تلك التهمة الشيطانية في ثلاثين آية وختمت: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]، فهل تكون للرسول زوجة غير طيبة، ويبقى الغافلون والهابطون والمقلدون والضلال إلى الآن يكرهونها وينتقدونها ويطعنون بها، ويزعمون أنهم مسلمون، أيبرؤها الله بنيف وثلاثين آية. والله إننا لنحبها ونحن أطفال نلعب، ورأيتها في بستاننا وأنا أحبها وأنا طفل، فأحبوها أنتم. فهذه حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت حِبه.

    قال: [فقالت] أي: عائشة [( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من مظلمة ظلمها قط، ما لم تكن حرمة من محارم الله )] أما إذا أوذي في دينه فلا يسكت، أما في ماله، وفي جسمه، وفي عرضه فلا يبالي أبداً، لكن إذا أوذي في دينه .. في الإسلام، فلا يرضى بالسكوت.

    قال: [( وما ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضرب خادمًا قط ولا امرأة )] والذي أخبر بهذا عائشة وقد جاءت مهاجرة وتزوجها الرسول في السنة التاسعة من عمرها وعاشت معه حتى توفي، وهي التي تخبر بهذا.

    قال: [خامساً: وجاءه زيد بن سعنة ] يهودي من يهود المدينة [أحد أحبار اليهود بالمدينة] أي: من علماء اليهود [جاءه يتقاضاه دينًا له على النبي صلى الله عليه وسلم] له على الرسول صلى الله عليه وسلم دين استدانه منه [فجذب ثوبه من منكبه وأخذ بمجامع ثيابه وقال مغلظاً القول: إنكم يا بني عبد المطلب مطل] أي: لا تسددوا الدين، وهذا كافر لا يلام [فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، وقال صلى الله عليه وسلم: ( أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر )] أنا وهو كنا أحوج من هذا الذي قلته يا عمر ، من هذا الغضب [( تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي )] هذا المفروض، كان المفروض منك يا عمر أن لا تغضب من اليهودي، بل تأمره بحسن التقاضي، وتأمرني بحسن القضاء، وليس بالغصب والصياح والشدة.

    قال: [ثم قال: لقد بقي من أجله ثلاث] ثلاثة أيام أو ثلاث دراهم [وأمر عمر أن يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعاً لما روعه] سدد يا عمر الباقي علينا ثلاثة دنانير أو دراهم، وزده عشرين صاعاً مقابل أنك خوفته؛ لأن عمر انتهره وأراد أن يبطش به [فكان هذا سبب إسلامه فأسلم] فقد أسلم اليهودي عندما شاهد من الكمال المحمدي، ولام عمر وعاتبه، وبين له ماذا ينبغي أن يقول له ولليهودي كذلك، ثم سدد له دينه وزاده عشرين صاعاً فأسلم اليهودي.

    قال: [وكان قبل ذلك] أي: هذا اليهودي [يقول: ما بقي من علامات النبوة شيء إلا عرفته في محمد صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين] أي: ما من علامة من علامات النبوة إلا رأيتها من محمد إلا علامتين ما وجدتهما بعد [لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلماً] هاتان الصفتان: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل إلا حلماً [فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وصف] فاليهودي جاء ليمتحن فنجح؛ لأنه أراد الإسلام.

    قال: [هذه قطرة من بحر الحلم المحمدي تذهب ظمأ من أراد أن يتحلى بالحلم ويتجمل به]. اللهم! اجعلنا منهم.

    إن شاء الله تعودون إلى بيوتكم، وتمتحنون مع نساءكم وأطفالكم، مع زملائكم، يتجلى الحلم إن شاء الله.

    1.   

    العفو المحمدي

    قال: [العفو المحمدي] ذاك الكرم والحلم، والآن نتكلم عن العفو والصفح وعدم المؤاخذة.

    قال: [إن العفو هو ترك المؤاخذة عند القدرة على الأخذ من المسيء المبطل] هذا تعريف العفو [وهو من خلال الكمال، وصفات الجمال الخلقي، أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]] وقد تقدم بيان هذا.

    قال: [( وسأل صلى الله عليه وسلم جبريل عن معنى هذه الآية )] الرسول صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن معنى هذه الآية: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] [( فقال له)] أي: جبريل [( حتى أسأل العليم الحكيم )] أي: ما عندي ما أقول أنا حتى أسأل العليم الحكيم جل جلاله وعظم سلطانه [( ثم أتاه )] بعدما سأل [( فقال: يا محمد! إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك )] والأخلاق كلها في هذه الآية.

    فجبريل عليه السلام سأل الله عن معنى هذه الآية؛ لأن الرسول طلب ذلك منه، فأجابه وقال: ( يا محمد! ) هذا اسمه العلم ( إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ) فالذي قطعك صله أنت وارتبط به، ولا تزيد القطع قطعاً ( وتعطي من حرمك ) والذي حرمك مرة من المرات وما أعطاك لا تحرمه أنت، فأعطه ( وتعفو عمن ظلمك ) فمن ظلمك اعف عنه ولا تؤاخذه.

    هذا معنى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

    أمثلة على عفوه صلى الله عليه وسلم

    قال: [وامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه فكان مضرب المثل في الخصال الثلاث: في صلة من قطعه، وإعطاء من حرمه، والعفو عمن ظلمه، وفي الأمثلة الآتية شاهد ذلك ودليله].

    والمثال الأول: [قالت عائشة رضي الله عنها: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً )] أي: ما خير بين شيئين إلا اختار السهل، ما لم يكن إثماً، فإذا كان معصية لله فلا، ففي الأمور التي ليست فيها معصية لله عز وجل، ما خير بين شيئين إلا اختار أسهلهما. وإن شاء الله نكون على هذا.

    قوله: [( ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما )] مثل أن تقول لك الزوجة: عندنا الليلة فقط جبنة وكأس حليب، وإن شئت الآن أطبخ لك اللحم وأشويه، فتختار أيسرهما. كذلك إذا خيرت بين سيارتين هذه تويوتا والأخرى مرسيدس تأتي غداً، فتختار السهل: ( ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ) هذا هو الكمال المحمدي، وأتباعه مثله صلى الله عليه وسلم.

    قال: [( فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه )] ولا يقربه أبداً [( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها )] كما سبق، فالذي يتعلق بماله .. ببدنه .. بعرضه لا يؤاخذ، لكن إذا كان يتعلق بدين الله لا يسكت عنه يغضب وينتقد.

    قال: [ثانياً: تصدى له غورث بن الحارث ليفتك به صلى الله عليه وسلم] غورث بن الحارث من أهل الحجاز أو من أهل نجد، تصدى له ليفتك به صلى الله عليه وسلم [ورسول الله مطرح تحت شجرة وحده قائلاً] أي: في القيلولة [وأصحابه قائلون كذلك] أي: نائمون، ففي طريقهم إلى غزوة من الغزوات جاء وقت القيلولة، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شجرة فيها ظل واطرح تحتها، والأصحاب كذلك، فجاء غورث هذا يريد أن يفتك بالرسول صلى الله عليه وسلم.

    قال: [وذلك في غزاة] من الغزوات [فلم ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وغورث قائم على رأسه، والسيف مصلت في يده] كان الرسول نائماً فما انتبه إلا وغورث واقف والسيف يلوح بيديه [وقال] أي: غورث [من يمنعك مني؟] فالسيف في يده والرسول نائم على الأرض [فقال صلى الله عليه وسلم: ( الله. فسقط السيف من يد غورث )] فانهار الرجل انهياراً كاملاً، وسقط السيف من يد غورث [( فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك؟ )] يا غورث مني، هذه مقابل تلك [( قال غورث : كن خير آخذ. فتركه وعفا عنه )] عجيب هذا الأعرابي! الآن لك الحق أن تأخذ لكن كن خير آخذ، اصفعني ولا تقتلني مثلاً [فعاد إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس، فهكذا كان العفو المحمدي]. إي والله! كان خير الناس.

    قال: [ثالثاً: لما دخل المسجد الحرام] أي: مسجد مكة والبلد الأمين، وذلك عام الفتح سنة ثمان من الهجرة [صبيحة الفتح] فتح مكة [ووجد رجالات قريش جالسين مطأطئ الرءوس ينتظرون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتح فيهم] وأنتم ترون هذه التصرفات مئات المرات، فأيام بداية الاستقلالات يقوم الثوار الذين أخرجوا إيطاليا وفرنسا ويبدءون ينتقمون من بعضهم البعض، ولا يسمحون لأحد، هذا عميل، هذا ذنب، هذا كان كذا، فيفتكون بهم، والرسول الكريم قال: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء )، مع ما فعلوا، فقد قتلوا وذبحوا، ذبحوا حمزة وقتلوه، فلنستمع ونبكي.

    قال: [فقال: ( يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، فعفا عنهم بعد ما ارتكبوا من الجرائم ضده وضد أصحابه ما لا يقادر قدره، ولا يحصى عده، ومع هذا فقد عفا عنهم ولم يعنف، ولم يضرب، ولم يقتل، فصلى الله عليه وآله وصحبه وسلم]. هل نستطيع أن نقف هذا الموقف؟! آباؤكم ما استطاعوا!، وأنتم لو تجربونها لا تستطيعون، إلا إذا جلستم في حجور الصالحين، وتعلمتم كتاب الله وهدي رسوله، وتخلقتم من صباكم بتلك الأخلاق.

    قال: [رابعاً: سَحَره لبيد بن الأعصم اليهودي وقد نزل الوحي بذلك، فعفا عنه] سحره هذا اليهودي لبيد بن الأعصم ونزل الوحي بذلك، وقال: امشوا إلى البئر الفلاني وخذوا السحر فهو موجود فيه [ولم يؤاخذه، بل لم يثبت أنه لامه أو عاتبه مجرد لوم أو عتاب، فضلاً عن المؤاخذة والعقاب. فكان موقفه هذا مظهرًا من مظاهر العفو المحمدي في أجلى صوره، وأبهى مظاهره فصلى الله عليه وسلم ما عفا عافٍ وأخذ مؤاخذ إلى يوم الدين.

    خامساً: تآمر عليه المنافقون وهو في طريق عودته من تبوك إلى المدينة] تآمر عليه بعض المنافقين وهو عائد من تبوك إلى المدينة وأرادوا قتله في مكان ضيق [تآمروا عليه ليقتلوه، وعلم بهم، وقيل له فيهم فعفا عنهم، وقال: ( لا يُتحدث أن محمداً يقتل أصحابه )] أي: لا نقتلهم، فيتحدث الناس يقولون: محمد يقتل أصحابه، ولكن قتلهم الله، ما وصل منهم واحد إلى المدينة فقد أصيبوا بجراح في ظهورهم، وهو ما يعرف بالدبلة، والدبلة خاتم عند الجاهلين يلبسه العريس والعروسة ويقولون لها: إياك إذا نزعتيه تطلقين، وإذا نزعته أنت تسوء العشرة، وهو سحر باطل من النصارى.

    قال: [سادساً: جاءه رجل يريد قتله، فاكتشف أمره، وظهرت حاله] والسيف تحته [فقال له أصحابه: إن هذا جاء يريد قتلك] يا رسول الله [فاضطرب الرجل من شدة الخوف وفزع، فقال له: ( لن تراع، لن تراع )] لا إله إلا الله، لن تخوف، لن تخوف [( ولو أردت ذلك -أي قتلي- لم تسلّط علي ) لأن الله أعلمه بعصمته له من الناس] وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] [فعفا عنه صلى الله عليه وسلم وقد أراد قتله، فلم يؤاخذه بل لم يعاقبه، فصلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا].

    معاشر المستمعين والمستمعات! نريد أن يرانا الله نتخلق ببعض هذه الأخلاق، فنذكرها الليلة ونذكرها طوال حياتنا.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755775928