وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! يهل علينا بعد أيام قليلة شهر هو من أعظم الشهور في العام -شهر رمضان المبارك- هذا الشهر الذي ينتظره المسلمون بفارغ الصبر.. ينتظره عباد الله الصالحون، يعدون الأيام والليالي عداً، حتى إذا جاء ذلك الشهر فرحوا بقدومه، واستبشروا به، والناس في قدوم هذا الشهر أحوال وأصناف وأجناس، فمنهم: من يفرح بقدوم هذا الشهر ليروج بضاعته في هذا الشهر، فهو يفرح لا لله؛ لكنه يفرح لتجارته.
وذاك رجل آخر يفرح بقدوم هذا الشهر لتلك المسلسلات والأفلام والبرامج التي تُعرض في التلفاز، فهو يفرح؛ لكن ليس لله عزَّ وجلَّ، ولا للدين؛ لكنه يفرح لأمر في نفسه.
وآخر يفرح لأجل الليالي التي يقضيها في رمضان.. في لعب، ولهو، وسمر، وطرب، ومعصية لله عزَّ وجلَّ، فهو يفرح؛ لكنه خاب وخسر بهذا الفرح.
أما المؤمنون الصادقون، فإنهم يفرحون بقدوم هذا الشهر؛ لأنه شهر الرحمة وفيه ليلة خير من ألف شهر؛ لأنه شهر المغفرة.
هذا الشهر يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (إذا جاء رمضان فُتِّحَت أبواب الجنان):
فُتِّحَت يا عبد الله.. أتعرف أبواب ماذا؟!
إنها أبواب الجنان! أبوابٌ إذا فتحت خرجت رائحة من الجنة تُشَمُّ على مسيرة أربعين عاماً.
أبواب الجنان التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سوف تفتح بعد بضعة أيام، فكن مستعداً لها فلربما تُكتب من أهلها، وأنت لا تعلم.
قال: (وغُلِّقَت أبواب النيران) نعم -يا عباد الله- فالنار في شهر رمضان مغَلَّقة، بل يكتب الله عزَّ وجلَّ في كل ليلة عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة من ليالي رمضان.
فاحرص أن تكون من العتقاء من النار في شهر رمضان، ( فرغم أنفه من أدرك رمضان ولم يُغفر له ).
( ينادي منادٍ في رمضان: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] لم يكتبه الله جلَّ وعَلا مشقة ولا تعذيباً، ولا تكليفاً فقط كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] فلستم أول الأمم يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ فالأمم التي سبقتكم قد كتب عليهم الصيام، فهوِّنوا عليكم، وارفقوا بأنفسكم، واعلموا أنكم لستم أول الأمم.
قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فهذا هو غاية الصيام، وتلك هي أهدافها.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] بل يعينك الله جلَّ وعَلا في شهر رمضان حتى تصل إلى التقوى، فتصفد الشياطين ومردتها، وكم نسمع في شهر رمضان من مذنب أقبل على التوبة! ومن متبرجة تحجبت! ومن تارك للصلاة صلى! ومن بخيل أدى زكاة ماله! ومن مذنب بكى لله وخشع! ومن فاسق فاجر أقبل على الله بالطاعات والحسنات؟!
لِمَ يا عبد الله؟! لأنه شهر التقوى والرحمة (رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه من أدرك رمضان ولم يُغفر له) شهر الرحمات -يا عبد الله- تتنزل فيه الرحمات، وتقبل فيه الأعمال، بل من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه.
إذا فاتك هذا الفضل، أي صمتَ ولم يُغفر لك فاعلم أن (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) فإن قمت رمضان ولم يُغفر لك فالفرصة ثالثة لا تفوتك: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه) ليلة القدر يا عبد الله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:2-5].
أتعرف ما هو الصيام يا عبد الله؟!
ليس هو امتناع عن الأكل والشرب والجماع وغيره من المفطرات، بل هو شهر الصيام الذي يتلذذ به الصائمون.. لمن تترك طعامك وشهوتك يا عبد الله؟ لله جلَّ وعَلا، يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) من الذي أمر به؟ الله، ولمن تصوم؟ لله، ومن الذي يثيب عليه؟ الله (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
من يمنعك -يا عبد الله- إذا خلوت في بيتك بمفردك فأكلت وشربت؟! مَن عَرفك؟! ومن اطلع عليك؟! ومن الذي علم بك؟!
من الذي يمنعك عن الطعام والشراب وأنت في السر وحدك؟! إنها مراقبة الله (إلا الصوم فإنه لي) سر بين العبد وربه (وأنا أجزي به) أتعرف ما ثواب الصائم -يا عبد الله- إذا لقي الله جلَّ وعَلا؟ الناس يدخلون من أبواب الجنان إلا الصائمين، فلهم باب مخصص بهم، لا يدخله غيرهم.. إنه الريان، وما أدراك ما الريان! صبروا على الصيام فوفاهم الله أجورهم، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
اسمع إلى هذا الحديث الخطير الذي يبين فيه عليه الصلاة والسلام عقوبة المفطرين في نهار رمضان، والحديث عن أبي أمامة ، قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني في المنام آتيان، فأخذا بعضُدَي، ثم قالا لي: انطلق، قال: فانطلقتُ فإذا بجبل وعر، فقالا لي: اصعد، قلت: لا أطيقه، قالا: سنسهله عليك، قال: فصعدتُ، فلما كنت في سواد الجبل فإذا بأصوات شديدة، قلتُ: ما هذا؟ قالا: هذا عُواء أهل النار، ثم قالا لي: انطلق! فانطلقتُ فإذا بأقوام معلقون بعراقيبهم، مشققة أشداقُهم -شفاههم ووجوههم مشققة- تسيل دماً، فقلتُ: سبحان الله! مَن هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذي يفطرون قبل تحلة صومهم).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] لا تستثقله -يا ضعيف الإيمان- فإنه أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ ثلاثون أو أقل يأتي ويذهب كلمح البصر، ولا يشعر به الصالحون، بل يتمنون بقاءه، أما ضعاف الإيمان -المذنبون.. أهل الشهوات- فإنهم يستثقلونه والعياذ بالله.
وهذا الإمام مالك عليه رحمة الله -إمام دار الهجرة - كان في شهر رمضان يترك المجالس والكتب كلها، إلا مجالس القرآن الكريم، وتلاوة القرآن.
هؤلاء سلفنا الصالح كانوا في شهر رمضان لا يعرفون إلا القرآن، يتركون كتب العلم؛ لأجل مدارسة القرآن.
هلاَّ كنا مثلهم يا عباد الله؟! نعكف على قراءة القرآن.. نتدبره.. ونتلوه، ونقوم الليل به، ونحفظ آياته وأحكامه.
يا عباد الله؟! هلاَّ كنا مثلهم نستعد في شهر رمضان للقرآن؟!
قال بعض أهل العلم: إنها قبل الإفطار.
فاستعد يا عبد الله قبل أن يؤذن المؤذن لغروب شمس يوم في نهار رمضان أن ترفع يدَيك إلى الله، وتستقبل القبلة، وتدعو الله جلَّ وعَلا أن يتقبل منك صومك، ويعتقك من النار، ويغفر ذنوبك، فادعُ الله، فإن لكل صائم دعوة مستجابة، قال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
عباد الله! إنه شهر المغفرة والرحمة!
وهل يصح لأولئك الذين يعكفون على التلفاز، ويستمعون إلى الأغاني، وينظرون إلى الأفلام، أن يصروا على لهوهم وطربهم ومعاصيهم؟!
هل يصح لأولئك أن يظلوا على تركهم للصلاة؟! ولهؤلاء على أن يتابعوا النساء؟! ولأولئك أن ينظروا للحرام؟! ولهؤلاء أن يأكلوا الربا؟!
يا عباد الله! ألا يحق لنا في ذلك الشهر أن نكف عن المعاصي والآثام؟! وأن نستعد للتوبة من الذنوب والآثام؟! وأن نستعد للقاء الرحمن جلَّ وعَلا؟!
ألا يحق لنا في هذا الشهر ألا يخرج رمضان إلا وقد غفر الله لنا ذنوبنا؟! (مَن لَمْ يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) فماذا يغنيك -يا عبد الله- أن تترك الطعام والشراب والجماع الذي هو مباح، ثُم ترتكب الحرام، فتستمع للغناء، وتأكل الربا، وتترك الصلاة، وتنظر إلى النساء، وتفعل المُحرَّمات (... فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه).
أقول هذا القول، وأستغفر الله.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! صوم رمضان واجب بالكتاب، قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]. وواجب بالسنة، قال عليه الصلاة والسلام: (بُني الإسلام على خمس... وذَكَر منها: صيام رمضان).
وبالإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان.
فقال أهل العلم: صوم رمضان واجب على كل من:
1- المسلم: فالكافر لا يجب عليه صيام رمضان، وسوف يُحاسب به عند الله.
2- العاقل: فالمجنون لا يجب عليه صيام رمضان، وكذلك إذا كَبُر الرجل أو المرأة، فذهب عقله أو ذهب عقلها، أو أصابه الكِبَر أو أصابها، فأصبح لا يعرف شيئاً، فهذا لا يجب عليه الصوم، ولا يجب أن يُصام عنه، ولا يُطعم عنه عن كل يوم مسكيناً، فقد رفع الله عنه القلم.
3- البالغ: فالصبي الذي لم يحتلم، والبنت التي لم تبلغ لا يجب عليهما الصيام؛ لكن يعوَّدون منذ الصغر، كما كان الصحابة يعودون أولادهم الصغار منذ الصغر على الصيام، ويلهونهم باللعب وبغيره عن الطعام والشراب، فيُعَوَّد الصغير، وتُعَوَّد الصغيرة منذ الصغر على الصيام حتى يُعْتاد عند الكِبَر.
4- القادر: فالعاجز الذي لا يستطيع الصوم كالمريض لا يجب عليه الصوم، فإذا كان مرضه يُرجى برؤه، فإنه يقضيه بعد أن يشفى إن كان المرض لا يُرجى برؤه، وسوف يستمر معه حتى الموت إلا بعلم الله وبإذنه، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.
5- المقيم: فالمسافر لا يجب عليه الصوم، قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
6- التخلي من الموانع: فالمرأة الحائض وكذا النفساء لا يجب عليهما الصوم، ويقضيان بدلاً عنه أياماً أُخر.
فإن خرج ما في بطنه رغماً عنه بغير قصد ولا تعمد، فلا شيء عليه، وصومه صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (مَن ذَرَعَه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقضِ) أي: مَن تعمَّد إخراج ما في بطنه.
أما من خرج ماؤه وهو نائم فاحتلم، فاستيقظ فرأى الماء، فلا شيء عليه، وصومه صحيح.
1- بلع الريق:-
فمن بلع ريقه فإنه غير مفطر، إلا إن أخرج النخامة إلى فمه فإنه احتياطاً يخرجها ولا يبتلعها مرة أخرى.
2- السواك:-
وما يُروى من حديث: (استاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي) فغير صحيح، فالسواك سنة أول النهار، وآخر النهار، أما ما يوجد هذه الأيام من سواك مضاف إليه طعم بالنعناع أو الليمون أو غيره فإنه يُتْرك في نهار رمضان، لأن فيه مادة تُزاد على طعم السواك، فلا يجوز لك أن تتسوك به في نهار رمضان.
3- وكذا من غير المفطرات التي لا تؤثر في الصيام: الاغتسال؛ فمن اغتسل في نهار رمضان فلا شيء عليه.
4- وكذا من أصبح جُنُباً: فمن جامع زوجته بالليل فنام، ثم أذن الفجر وهو نائم، فاستيقظ ولم يغتسل، فصومه صحيح، فليغتسل وليتم صومه.
5- وكذا بالنسبة للنساء: الحِنَّاء، والاكتحال، فإنهما لا يفطران.
6- القطرة؛ فإذا كانت في العين أو في الأذن، فإنها لا تفطر.
7- وبالغ -يا عبد الله- في الاستنشاق والمضمضة إلا أن تكون صائماً.
8- من الناس من يظن أن الحقن جميعها تفطر الصائم، وهذا غير صحيح؛ إلا الحقنة التي تغني عن الطعام والشراب، فإنها تفطر صاحبها.
عباد الله! لا بد لنا قبل قدوم شهر رمضان أن نتعلم أحكامه، وفقهه، وآدابه، وما يجب فيه وما يحرم حتى لا نقع في المحظور، ثم يأتي الناس فيسألون عن صومهم، فإذا هم قد أبطلوه.
ويجب على كل مسلم أن يبيت نية الصوم قبل أذان فجر أول يوم من رمضان فلا صوم لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر، إذا لم تعزم ولم تقصد في قلبك أنك تصوم غداً، فإذا أذن الفجر وأنت غير عازم على الصيام، فلما أذن الفجر نويته بعد الأذان فإنه لا صوم لك -يا عبد الله- إلا ما كان نافلة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر