إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه، وموسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وهو ثالث أفضل رسول في البشرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، كان كل نبي يعيش مع قومه حتى يهلكهم الله وينجو بمن ينجو من أهل الاتباع والإسلام، لكن موسى عليه السلام عاش حياتين؛ عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، ومات موسى وبني إسرائيل في التيه.
عبر موسى البحر ومعه بنو إسرائيل الذين نجاهم الله وامتن عليهم بأن نجاهم من فرعون وجنوده.
وأخبر الله سبحانه وتعالى موسى أنه قد فتن من بعده وأضلهم السامري ، قال بعض المفسرين: إن هذا العجل من لحم ودم، وقال بعضهم: إنه لم يزل على طبيعته الذهبية إلا أنه يدخل فيه الهواء ويخرج؛ فيكون له صوت كصوت البقر فافتتنوا به أيما افتتان، وقالوا لبعضهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] وبخهم الله على ذلك (وحبك الشيء يعمي ويصم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود ، لما افتتنوا به أحبوه وتغلغل فيهم، فلم يكونوا على استعداد لتركه.
وجاءت هذه القصة -أيضاً- في سورة طه بتفصيل أوسع، فقال الله سبحانه وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [طه:80-81]، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [طه:83-86] أي: حزيناً شديد الغضب على ما صنع قومه من بعده، وخبر الله لموسى صدق أنه قد يُفتن القوم في غيابه فرجع إليهم، فقال لهم: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه:86] أنجاكم من عدوكم وأنعم عليكم وأكرمكم، أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ [طه:86] في انتظار ما وعدكم الله أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ [طه:86] "أم" هنا بمعنى: بل، أي: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه:86] لما وبخهم على عبادة العجل، فإنهم اعتذروا بعذر فارغ سخيف غير مقبول على الإطلاق، وهو قولهم: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا [طه:87] ملكنا، أي: قدرتنا واستطاعتنا واختيارنا، كأنهم مكرهين على ذلك ليس لهم إرادة، وأخبروه أن المسألة تورع منهم عن الذهب الذي كانوا قد أخذوه من الفرعونيين وحلي الفضة التي استعاروها منهم عند خروجهم من مصر ، فقذفناها وألقيناها عنا، فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [طه:87-88] صنعه لهم، فَقَالُوا الضلال منهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] فنسي، قيل: فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أن موسى نسي ربه هاهنا، وذهب يطلبه عند الجبل، والعياذ بالله.
الثاني: نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم.
الثالث: أن الذي نسي هو السامري أي: ترك ما كان عليه من الإسلام ورجع إلى ما كان عليه قومه من عبادة البقر.
السامري الذي صنع لهم العجل وفتنهم به لا تزال طريقته موجودة إلى الآن، وهناك طائفة من اليهود عباد العجل يعلقون في رقابهم بقرة صغيرة، يمكن أن يراهم الشخص وهم يعلقون في رقابهم سلسلة فيها عجل أو بقرة صغيرة، وقيل: إنهم لازالوا يقولون عبارة: لا مساس، ويرددونها في ترانيمهم أو أذكارهم التي يزعمون أنهم يعودون بها، قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه:89] هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يرد عليهم إذا خاطبوه، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً في دنياهم ولا في أخراهم، فحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة الكفر، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير مع أنه جائز لهم؛ لأن هذه من أموال المحاربين أخذوها منهم، وقد أثبت الله تعالى أن هارون في غيبة موسى كان حريصاً عليهم، وأنه كان مقاوماً للشرك فيهم، ولذلك قال الله عز وجل: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ [طه:90] البيان لم يحصل من موسى فقط بل حصل من قبل من هارون، فقال: هذه فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن وليس هذا العجل، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي [طه:90] فيما آمركم به وأنهاكم، وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طـه:90] ولكن هؤلاء الشرذمة أصروا على عبادة العجل، وقالوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ [طه:91] وكانوا هم الأغلبية، ثبت مع هارون أناس لكن ما استطاعوا أمام هذا الطوفان من الأشخاص الذين يريدون عبادة العجل أن يغلبوهم، بل إن الطائفة الأخرى هي التي غلبت حتى كادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] نحن نسمع كلام موسى فقط، كلامك عندنا غير مقبول ولا نأخذ به، وسنبقى على عبادة العجل حتى نرى موسى ماذا يقول، وحاربوا هارون وكادوا أن يقتلوه.
توجه موسى عليه السلام إلى أخيه هارون بالخطاب: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:92-93] وأخذ برأس أخيه يجره إليه كما حصل وتقدم في سورة الأعراف، وشرع يلوم أخاه هارون: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر أول ما حصل؟ لماذا لم تتبع آثاري وتأتي إلي وتخبرني بما حصل؟ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:93]؛ لأن موسى قال لأخيه: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] هذه وصيته لأخيه هارون قبل أن يفارقه، قال: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، فلما عاتبه قال: أفعصيت أمري الذي كنت أمرتك به؟ قال: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] كانت لحية هارون وافرة، وهذا رد على الذين يحلقون اللحى، ويقولون: حلق اللحية من سنن المرسلين، وهارون كانت لحيته وافرة، ولذلك استطاع موسى أن يأخذه منها وأن يقبض عليها لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] وأنها أقل ما فيها أنها قبضة يمكن أن تقبض.
قال هارون مجيباً عن السبب: لماذا لم يتركهم ويلحق بموسى، ويقول: حصل كذا وكذا الحق بالقوم؟ قال هارون: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ [طه:94] إذا لحقت بك لأخبرك عما حصل، كنت أخشى أن تقول لي: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] أخشى إن تبعتك لأخبرك أن تقول لي: لماذا تركتهم وحدهم وجئتني وفرقت بينهم ولم ترقب قولي؛ لأني استخلفتك والخليفة يبقى مع المستخلف عليهم؟ وكان هارون مهيباً يهاب موسى ويطيعه، وموسى هو صاحب المنة على أخيه؛ لأنه هو السبب في جعله نبياً، موسى هو الذي قال لربه عز وجل وطلب منه، فقال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32] اجعله نبياً مثلي، ما قال موسى: أنا النبي الوحيد في العائلة، لا. وإنما طلب من الله أن يكون هارون معه نبياً، ولذلك قال العلماء: لا يعرف أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون، فالله استجاب دعاءه، وجعل هارون نبياً بدعاء موسى، وصار ينزل عليه الوحي مثل موسى، لكن موسى بالمنزلة الأعلى.
وقد جاء تفصيل لهذه القصة في حديث الفتون الذي رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، لكن الراجح أن هذا الحديث من الإسرائيليات، فلذلك نبقى على ما جاء في الكتاب العزيز.
قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142] بعد خلاصهم من قوم فرعون ونجاتهم من البحر، أنزل الله عليه التوراة، وهذا -أيضاً- بعد خروجهم من البحر، واتخذوا العجل، فماذا قال موسى لقومه عن قضية توبتهم من عبادة العجل؟ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] هذه هي الطريقة الوحيدة للتوبة من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم عبادة العجل والشرك والكفر بالله يقولون: الله هو هذا العجل، ما أسفه عقولهم!
قال تعالى: فلمَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا [الأعراف:149] فعند ذلك قال موسى: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة:54] الذي خلقكم؛ لعظم جرمكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54] لا بد أن تقتلوا أنفسكم، لا بد أن يقتل بعضكم بعضاً، وفي هذا وردت عدة آثار عن السلف رحمهم الله تعالى، فمما ورد عن ابن عباس قال: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كلما لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن.
وكذلك جاء أنهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلة شديدة، أي: أظلم الجو في ظلة أرسلها الله حتى لا يرى بعضهم البعض عند القتل، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلة عن سبعين ألف قتيل، وتاب الله على القاتل والمقتول؛ لأن القتل كان هو التوبة، كل شخص يرفع السيف على الآخرين ويقتل من يلقى، بهذه الظلة أو بهذه الظلمة لم يعد أحد يرى من أمامه فيقتل من يلقاه من ولد ووالد وقريب وصاحب، لا يدري من أمامه فيقتله، فجعل بعضهم يقتل بعضاً، وربما قتل الولد أباه، وربما قتل الأب ولده أو عمه وخاله.. وهكذا.
وقال بعض السلف: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى أوقف الله ذلك بأمر منه، فانكشف عن سبعين ألف قتيل.
وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فأمسك عنهم القتل فجعله لحيهم توبة، ولمقتولهم شهادة.
وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة الحندس؛ أي: الحديدة، فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك.
وجاء -أيضاً- في كلام بعض السلف: كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. فقال الله سبحانه وتعالى: فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].
أصاب موسى الحزن على قومه، لكن الله عز وجل أخبره أنه تاب عليهم، وأن المقتول شهيد، والباقي تاب الله عليهم.
فانتقلوا بعد ذلك إلى المرحلة التي تليها في قصة موسى مع بني إسرائيل.
هذه خلاصة قصة العجل، وكيف انتهت هذه النهاية المأساوية التي كان يجب عليهم للتوبة أن يقتل بعضهم بعضاً، حتى كاد بعضهم أن يفني بعضاً.
فطبيعة بني إسرائيل ما كانت تستقيم وإنما تلتوي دائماً، وما كان موسى عليه السلام ينتهي من محنة معهم إلا ويدخل في محنة جديدة، ولذلك عندما نعدد الانحرافات التي أصابتهم: اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] وعبدوا العجل، قالوا: المن والسلوى لا نريده، نريد بصلاً وثوماً وقثاء، حتى في الأكل مزاجهم منحرف، شخص يترك المن والسلوى ويقول: أعطنا ثوماً وبصلاً وقثاء -كراث-؟! ثم بعد ذلك يقولون: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] وبعد ذلك قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة، فقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].. إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا [المائدة:22] ثم ما أشد وقاحتهم حينما قالوا: لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] نحن ننتظر الفتح إذا فتحتوها ادعونا لدخولها.
وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، يرون الآيات تلو الأخرى وليست هناك فائدة، وفي النهاية لما امتنعوا عن دخول القرية، حكم الله سبحانه وتعالى عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة يخرجون من الصباح للبحث عن منفذ ولا يأتي عليهم المغرب إلا ويجدون أنفسهم في نفس المكان الذي ذهبوا منه في الصباح، ومات موسى وفي نفسه أشياء على بني إسرائيل، مات موسى وبنو إسرائيل في التيه مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:26] وسأل موسى ربه أن يدفن في الأرض المقدسة، فجعله الله يقبض هناك ويموت في الأرض التي كان يتمنى أن يدخلها مع بني إسرائيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو شئتم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر) في داخل أرض فلسطين.
ومن هذه القصة نأخذ عدداً من الفوائد:
منها: هذه الطبيعة الملتوية لبني إسرائيل.
ومنها: كيف أن هذا النبي الكريم صابر وجاهد بهذه النفوس الملتوية، وأراهم الله آيات ومعجزات على يديه ومع ذلك ما استجابوا ولا انقادوا، كان فيهم صلحاءً كان فيهم قوم مستقيمون كان فيهم أناس رفضوا عبادة العجل مع هارون لكن ليس هم الأكثرية وإنما هم الأقلية، وحتى الصفوة الذين أخذهم لميقات لقاء الله قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى.
من الدروس التي نأخذها من هذه القصة العظيمة: أن الاستعباد يخرب النفوس، ويجعلها تنقاد بسهولة لأي مخرف وناعق، والاستعباد من أشنع الأشياء.. استعباد الشعوب وتربية الناس تربية العبيد، ولا شك أن هذا النوع من التربية يجعل الناس أذلاء صاغرين خائفين، يمكن أن يضحك عليهم أي إنسان ويقودهم، ولذلك ترى الناس أحياناً رعاع همج إلا من رحم الله، يتبعون كل ناعق، لو جاء أحد فنعق بهم يميناً أو شمالاً ذهبوا معه، هذه نتيجة تربية الناس تربية العبيد وليس تربية الأحرار، هذه نتيجة الإذلال والكبت والضغط، ونتيجة التخويف، والتجويع؛ وهذه الأشياء يمارسها الطواغيت مع الناس لتركيعهم وإذلالهم، فإذا فقه دعاة الله بهذه النقطة عرفوا كيف يربون الناس تربية القادة وتربية الأحرار لا تربية العبيد، كان ذلك من أسباب نقلهم من عالم الضلال إلى عالم الهدى، ومن عالم الكفر إلى عالم الإيمان، ومن عالم الذل إلى عالم الحرية، ولذلك لما ذهب ربعي يخاطب رستم: [إن الله ابتعث هذا النبي لينقذنا به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام] .
أولاً: غضب لله عز وجل، وبلغ من غضبه أنه لم يتمالك نفسه، فألقى الألواح، ولو ألقى أحد الألواح إهانةً كفر، أما موسى فقد ألقاها غضباً لله، لم يتمالك نفسه عندما رأى ما حصل، وذهب يقرع قومه ويوبخهم: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150] لماذا فعلتم هذا؟ ألا ترون أنه لا يكلمكم؟ ونزل توبيخاً في قومه، وهم يستحقون هذا التوبيخ بما فعلوا هذا الظلم، ثم إنه حاصر مصدر الفتنة مباشرة واتجه إلى السامري ليحقق معه، ثم إنه أخذ مصدر الفتنة وهو العجل، وحرقه ونسفه في اليم نسفاً؛ بحيث لا يعود أبداً كما كان، فكان تعامل موسى مع القضية تعاملاً عجيباً فيه حزم، وسرعة التحقيق مع قومه، ثم التحقيق مع السامري، ثم محاصرة السامري وجعله بمعزل عن الناس، هذا مبتدع هذا رأس بدعة أضل الناس ولا بد من جعله بمعزل عن الناس.. وهكذا لا بد أن يعامل المبتدع؛ يعزل ولا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، ولذلك قال بعض المبتدعة لـأيوب رحمه الله: أريد أن أكلمك كلمة، قال: ولا نصف كلمة. يرفضون سماع البدع، الذين شقوا عصا طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به.
وينبغي على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى إذا رأوا مبتدعاً من مثل الصوفية أو غيرهم أن يحاصروهم، ولا يجعلوا له مجالاً ليتنفس ولا لينفث سمومه في الناس، وهذا الشيء لا بد منه، وينبغي أن يدقق جيداً في هذه المسألة حتى لا تستغل من أعداء الإسلام فيرمون العلماء والصالحين بالبدع؛ لأن هذا سلاح ذو حدين، يمكن أن يستخدمه أعداء الله في رمي أهل الصلاح بالبدعة حتى ينفر عنهم الناس، ولذلك ينبغي أن يعرف من هو المبتدع؟ وما هي البدعة؟ وما هي أنواعها؟ والفرق بين البدعة المكفرة وغير المكفرة، والفرق بين المسائل الاجتهادية وما يجوز الاجتهاد فيه، وما لا يقبل فيه الكلام بين المسائل الخلافية الاجتهادية المقبولة والخلافية التي ليس فيها الاجتهاد مقبولاً، لا بد من الوعي بجميع هذه الأشياء حتى يعرف من هو المبتدع؟ فقد يكون الذي يرمي الناس بالبدعة هو المبتدع.
وكذلك فإنه لا بد من عزل المسلمين عن أسباب الفتنة، كل شيء يثير فتنة بين المسلمين يعزل ويحاصر ويحذر منه، مصدر الفتنة في الدين، وكذلك لا يجوز تسمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة بين الناس؛ لأن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن قال عن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر: إنه يفتن أو يبذر بذور الفتنة فهو المفتون، والآمر والناهي بمنزلة عند الله، (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) هذا أعظم الناس منزلة عند رب العالمين (أعظم الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .
من قواعد أهل السنة والجماعة في الفرق بين الكرامة والخارقة التي تكون للمشوعذ والساحر، وهي من الفروق الهامة بل هي أهم الفروق، لو قال لك أحد: كيف تفرق بين الساحر الذي يطير في الهواء ويمشي على الماء وبين عباد الله الصالحين الذين ربما مشى أحدهم على الماء، أو الغلام في قصة أصحاب الأخدود لما أرسله الملك مع جنوده إلى عرض البحر في سفينة في قارب، قالوا: إن رجع إلى دينه وإلا فألقوه، فدعا الغلام ربه وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت السفينة فغرقوا كلهم إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك.. أين مشى الغلام؟ على الماء، لم يغرق، جاء إلى الملك يمشي.. إذاً كيف نفرق بين شخص أعطاه الله كرامة بأن يمشي على الماء، وبين ساحر مشعوذ يسير على الماء أو يطير على الهواء؟
الفرق في حال الشخص؛ لا بد أن نبحث في حال الشخص، لو أخذ رجل كفاً من حصى فقبض يده عليها ثم فتحها فإذا بالحصى تتحول إلى ذهب، كيف نعرف هل هذا تقي وهذه كرامة أعطاه الله إياها فقلب الحصى في يده ذهباً، أو أنه مشعوذ دجال، الجن أو الشياطين هم الذين اشتركوا معه في هذه الفتنة، وجعلوا مكان الحصى ذهباً، أو أنهم سحروا أعين الناس فأصبحوا يرون الحصى ذهباً؟
الفرق في حال الشخص، فإذا كان الإنسان على منهج السلف، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة يقوم بأمر الله، طائع لله قائم بالواجبات مبتعد عن المحرمات، ملتزم بالدين، لا يقول: أنا ولي!
من الدروس المتعلقة بهذه النقطة أيضاً: أنه لا بد أن يكون هناك بدائل، فإذا غاب عنهم لا بد أن يكون وراءه من يقوم بأمرهم، ولذلك موسى استخلف هارون، ومن أبسط الأشياء أن إمام المسجد لو غاب عن المسجد ينبغي أن يستخلف رجلاً ثقة يصلح للإمامة، أما أن يترك المسجد بلا إمام فهذا خطأ، وهذا يفعله بعض الأئمة في رمضان، وهذه من الأخطاء، يتركون مساجدهم ويذهبون عشرة أيام في نصف رمضان، من أول الشهر يصلي كم ليلة ويمشي ولم يضع مكانه ثقة يقوم بهم ويأمهم، فتحدث الفوضى في أوقات إقامة الصلوات، ويتقدم من ليس بأهل، والناس فيهم من قلة الفقه ما يجعل زعزعة الموقف في الصلاة وارد جداً، وربما صلوا ظهراً بدلاً من الجمعة قالوا: تأخر الخطيب، أو ما جاء الخطيب، اجلسوا لا يخطب أحد، فمن أبسط الأشياء: أن الثغرات التي يكون فيها الداعية إلى الله موجوداً لا ينبغي له أن يتركها، ولو تركها لا يطيل الغياب، ولو غاب لا بد أن يستخلف بدلاً منه من يقوم بدوره.
نقول: أبداً، ليس مقبول على الإطلاق، لا يمكن، فبعض الناس قد يبقى في صف فيه شرك ويتعلق بقصة هارون مع قومه مع الفوارق العظيمة.
أولاً: هارون تبرأ من الشرك وواصل في دعوة قومه للعدول عن الشرك، فهل يفعله هذا ويعلن البراء من الشرك وأهل الشرك الموجودين في الصف؟ أم أنه يقول: أنشغل بأشياء أخرى وأدعهم وشركهم؟
إذاً: البراءة من الشرك وأهل الشرك واجبة.
ثانياً: هل الباقي في هذا الصف منصبه مثل منصب هارون خليفة؟ أو أنه شخص عادي لا يؤبه له؟
على الأقل هارون كان يرفع راية التوحيد، فالثابتين على التوحيد معهم هارون حامل راية وحامل لواء الشرعية، وعنده أمل أن يعود من يعود من هؤلاء الضلال ويلتحقوا به، ثم هناك أمر من موسى -وموسى نبي- أن يبقى، فأين أمر الوحي بالنسبة لهذا الشخص؟
ثالثاً: هل هذا الشخص ينتظر شخصية مثل شخصية موسى لترجع بعد حين يسير وتعالج الأوضاع؟
رابعاً: هل يوجد جماعة لأهل الحق كما كان على عهد هارون يكون معهم أو أنه واحد في هذا الخضم؟ ولذلك لا يجوز البقاء في صف أهل الشرك مطلقاً، يجب على المسلم أن ينحاز لأهل التوحيد، ولا يبرر لنفسه البقاء في صف فيه شرك ويحتج بقصة هارون لهذه الفوارق التي بيناها.
وكذلك من دروس هذه القصة: بقاء السامري معذب، ليكون عبرة حتى لا يسول لأي أحد أن يعمل عملاً مثل هذا وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً لا يقترب أحد منه.
وكذلك: فإن في التعامل الأخوي بين موسى وهارون قدوة للآخرين، ومن الأشياء المهمة: أن الخلاف بين المربين ينبغي ألاَّ يخرج إلى الناس، الخلاف بين الدعاة لا ينبغي أن يخرج إلى الناس مادام أنه ضمن الدائرة الشرعية، أي: في مسائل الاجتهاد، اتبع القاعدة الشرعية العظيمة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا يشنع بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، فمثلاً: هذا يرى أن النزول في الصلاة يكون على الركبتين وهذا يرى أنه على اليدين، لا مشاحاة ولا تعليق ولا لوم ولا توبيخ ولا إنكار في مباحثة علمية.. هذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون الجهاد فيعمل في حقل الجهاد، وهذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون العلم الشرعي فيعمل في حقل تعليم العلم الشرعي، وهذا يرى أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة فهو يعمل في العمل الإغاثي، والأجواء كلها تكمل بعضها بعضاً، ولا داعي للإنكار ما دام الجميع على معتقد سليم ومنهج صحيح، فكل شخص يؤدي كل ما يستطيعه؛ لأن الثغرات المفتوحة على المسلمين كثيرة في جهل وهجوم من الأعداء، وفي فقر ومرض وموت، وفي منكرات، فيفرغ جهده لإنكار المنكر.
إذاً: لا بد أن تتكامل الجهود مع المعتقد السليم العام لجميع الذين يسيرون ضمن دائرة أهل السنة والجماعة.
أقول -أيها الإخوة- في مسألة النقد بين الإخوان: موسى عليه السلام انتقد هارون وحاسبه، وهارون كان يرجو من موسى ألا يشمت به الأعداء، فينبغي أن نفرق بين قضية المحاسبة والنقد، وبين قضية التخطئة العلنية التي يكون مبعثها التشهير والتشفي، والتخطئة العلنية أحياناً يكون لا بد منها؛ لإحقاق الحق ولبيان الحق، والنبي عليه الصلاة والسلام خطأ أشخاصاً، لكن متى تكون التخطئة سلبية ومتى تكون التخطئة علنية إيجابية؟
إذا كانت لإحقاق الحق وبيانه، وأنه لابد منه لبيان الحق فلا بأس أن نخطئ، مثال: لو أخطأ الإمام في الصلاة، هل تقول: لا أرد عليه حتى لا أفشله عند الجماعة أو أظهر أنه لا يحفظ، لا. بل ترد على الإمام، ولكن إذا كان مبعث التخطئة التشفي والتشهير، وليس بيان الحق، فهذه التخطئة حرام وهي مما توغر الصدور، فينبغي معرفة الفارق بين هذا وهذا.
ثم إن من النقاط المهمة في هذه المسألة: قضية ستر جميع العيوب، المهم ألاَّ يظهر عيب للناس مهما حصل بحجة عدم نشر الغسيل، هذه المسألة غير صحيحة بإطلاقها، لكن الأخطاء التي لا يفهمها ولا يدركها العامة، لا تخطئ أمام العامة شيء على جنب ينبغي أن يكون هذا هو الأدب، والأشياء التي ليس من المصلحة إشهارها لا تشهر، لكن أن يرفض الإنسان أي نقد حتى يبقى في الظاهر للناس سليماً من أي نقد بأي صورة، فهذا -أيضاً- خطأ (كل بني آدم خطاء) .
وينبغي أن نفرق -أيضاً- بين الخطأ الذي يتعدى إلى الناس وبين خطأ الشخص في نفسه، لو كان الشخص يخطئ في نفسه نبهناه في نفسه، لكن لو كان خطأً متعدياً للناس لا بد أن نبين للناس ولو علموا أن فلاناً هو مصدر الخطأ، لو قام شخص وتكلم بكلام باطل على الناس، فقام شخص ورد عليه الرد الحق هذه تخطئة علنية، لكن لا بد منها؛ لأنه نشر خطأه على الناس، لكن لو أنه عمل منكراً بينه وبين نفسه هل يجوز التشهير به؟ هل يجوز أن يقوم شخص بين الناس ويقول: فلان فعل كذا، ما يخاف الله، ارتكب المنكر الفلاني، هذا لا يجوز، التشهير هنا حرام، كذلك ما ينصب من التخطئة على المناهج التي فيها أخطاء لا بد من البيان؛ لأن الناس قد يتبعون هذا النهج الخاطئ، فلا بد من بيانه، ويبقى لصاحب الفضل فضله وخطأه، ينبغي أن يعلم إذا كان منشوراً.
ومن الفوائد كذلك في هذه القصة: عظم نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بأن جعل توبتها كلمات، وتوبة بني إسرائيل كانت القتل، الواحد مهما أجرم لو أشرك بالله يتوب إلى الله: (من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو قال شخص لك: أنا أخطأت، وقلت: بذمتي.. بأمانتي.. برأس أولادي.. بحياة أبي وحياة أولادي.. ونحو ذلك، وشرفي وأمانتي، كيف أتوب؟ هذا حلف بغير الله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فلتقل له: إن كفارتها أن تقول: لا إله إلا الله (من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق) على عادة الجاهلية تعال نتقامر.
فتأمل في عظمة الله على هذه الأمة أن الإنسان لو وقع في الشرك كفارته أن يتوب إلى الله، والتوبة كلمات يستغفر الله ويوحد الله ولو شرك، لكن بني إسرائيل لما وقعوا في هذا الشرك كانت عقوبتهم القتل، لا توبة إلا بالقتل، ويمكن أن يقول بعض الناس: هذا شيء عظيم، لماذا أوجب عليهم هذه الطريقة الشنيعة في التوبة؟ نقول: لأنهم يستحقون ذلك لو نظر في التواءات القوم وانحرافاتهم وعرفها لرأى أنهم يستحقون ذلك، ثم إن فضل الله عليهم عظيم، فقد جعل المقتول شهيداً والحي تيب عليه.
إذاً: الخبر ليس كالمعاينة، يمكن أن يقال لك: فلان حصل له حادث فضيع وحصل له كذا وكذا، تتأثر لكن إذا رأيته ونظرت إليه ورأيت ما حل به فعلاً من الأشياء المفضعة فإن الشفقة والشعور والألم سيكون أكثر.. لماذا؟ لأن النظر ليس كالخبر، والخبر ليس كالمعاينة، وهذه مسألة لا بد أن تراعى، ومن راعاها كان حكيماً في كثير من تصرفاته.
وكذلك لا بد من تبيان العقيدة الصحيحة عند محاربة الشرك، موسى لما تخلص من العجل وتخلص من السامري وقضى على الفتنة ماذا قال بعدها؟ إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [طه:98] فإذاً بين لهم من هو إلههم سبحانه وتعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ [طه:98] مبيناً لهم.
ومن فوائد هذه القصة: خطورة أصحاب الموروثات السابقة عند انضمامهم للصف، فهذا السامري الذي قيل: أنه كان من قومه من يعبدون العجل فأظهر الإسلام ودخل مع بني إسرائيل، كيف صار خطره عظيم؟
لذلك لا بد من الانتباه لأصحاب الموروثات السابقة الذين يدخلون في الصف فيفسدون ويخربون.
ومن فوائدها كذلك: أن وجود سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه والتأثر به، والعلة التي لا تكون قادحة لا تجعل الإنسان بمعزل عن التأثير والإمساك بزمام الأمر؛ لأنه ما من إنسان يخلو من سيئات، لا بد أن يكون كل واحد عنده أخطاء وسلبيات، ولذلك إذا كان الشخص سجاياه الحميدة أكثر من أخطائه فهذا مرضي يناصح بأخطائه، لكن لا شك أن موقع القدوة والقيادة يتطلب وجود صفات عالية، وأن تكون الصفات السلبية أقل ما يمكن.
كذلك من فوائدها: أن الإنسان عليه ألا يتحمس وينفعل جداً ويزيد في التخطئة والهجوم؛ لأنه لو اكتشف أن رأيه خطأ سيكون الانسحاب عليه صعباً، لو سمع أحد أن فلاناً أخطأ فذهب يشنع عليه ويصب عليه غضبه ويعنفه تعنيفاً شديداً، ثم بعد ذلك يتضح له أن القضية ليست كما سمع، وأن المسألة فيها اختلاف، وأن الرجل هذا قد يكون له عذر، فسيكون الانسحاب شديداً، ولذلك نأخذ من قضية شدة موسى مع هارون في البداية أن الإنسان إذا أراد أن يخطئ غيره عليه أن ينظر في ظرفه وعذره جيداً، وألا يشتد في التخطئة ما دام لم يعرف كل ملابسات الموضوع، فقد يكون الانسحاب صعباً عليه.
على سبيل المثال: لو وجدت أي لحم مكتوب عليه: مذبوح على الطريقة الإسلامية، هل مجرد أن عليه ختم مذبوح على الطريقة الإسلامية أي: أنه كان مذبوحاً على الطريقة الإسلامية؟ محاولة إطفاء الشرعية على هذه اللحوم -مثلاً- من قبل أي تجار أو جهات مصدرة هل تجعل هذه القضية شرعية بمجرد أنه كتب عليها ذلك؟ إذا كانوا قد ذبحوا السمك على الطريقة الإسلامية فما بالكم ببقية الأشياء التي يصدرونها للمسلمين من الأفكار والمناهج غير مسألة السمك، مما هو أخطر من السمك بكثير، ويحاول اليوم عدد من أصحاب المناهج المنحرفة أن يضفوا الشرعية على اتجاهاتهم، ومن أخطرهم في نظري في هذا الوقت أصحاب الفكر العقلاني أو الإسلام المستنير، أو الإسلام الحضاري كما يسمون أنفسهم، وهؤلاء يقولون: لا بد من الموافقة بين الإسلام وبين واقع العالم الذي وصل إليه، فإذا كان العالم اليوم يرفض -مثلاً- الرق والإسلام فيه أشياء تفيد بجواز الرق، فلا بد أن نجد لهذه الأدلة صرفة، وأن نخرجها إذا كان العالم لا يقبل فكرة أهل الذمة ولا يقبل فكرة دفع الجزية، وهكذا مسائل وأفكار خطيرة.. إذا كان العالم لا يقبل حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولو قلنا بهذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في محفل من الناس وفيهم غربيين مفكرين عالميين قلنا لهم: عندنا نحن المسلمين لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية عامة، فسيقولون: ظلمتم المرأة! لماذا تجعلونها في مستوى ثانٍ؟ لماذا لا تتولى الوزارة والقضاء والرئاسة؟
فيحاول بعض العقلانيين أن يضعف الحديث، ويستدل باستدلالات منحرفة، إذا كان العالم لا يقبل فكرة الجهاد اليوم ويقول: إن الجهاد هو اعتداء على مجتمع آخر أو على كيان آخر، والجهاد ما وضع في شريعتنا إلا جهاد دفاعي هجومي، ويحاول العقلانيون اليوم أن يثبتوا أن الجهاد دفاعي فقط، وأنه ليس هناك جهاد اسمه جهاد هجومي في الإسلام، والله يقول: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36]، قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29] ونص: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] قال العلماء: لا تقبل منه إذا أرسل غلامه أو خادمه ليدفعها لا بد أن يأتي بنفسه؛ لأن الله يقول: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة:29] أي: يسلمها بيده بنفسه، ثم قال: وينبغي على الإمام أن يطيل وقوفهم عند بيت المال إذلالاً لهم ثم يقبلها منهم ولا يقبلها منهم مباشرة؛ لأن الله قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] نسأل الله أن يبلغنا هذا الوقت الذي يطبق فيه هذه الآية.
فأقول: إن من أخطر الناس الذين يحاولون إطفاء الشرعية اليوم على مناهجهم المنحرفة هم العقلانيون المنحرفون أو أصحاب الفكر المستنير.
من مداخلهم: الموسيقى الإسلامية، والفن الإسلامي، والرقص الإسلامي، هذا ما طرحوه بوضوح وصراحة، وقالوا: أسلمة كل شيء لا بد أن نؤسلم الفن ونؤسلم التماثيل فن النحت الإسلامي، الرقص الإسلامي، هذا كله هراء، هذا ما يطرحونه ويجاهرون به في مقالاتهم.
كذلك من فوائد هذه القصة: كيف يتحرج الإنسان من الشيء الذي ليس فيه حرج ويقع في الشيء العظيم والطامة، قالوا: هذه حلية تورعنا منها خفنا أن تكون ليست حلالاً علينا أخذناها من الفرعونيين القبط وهربنا بها، ليست حلال علينا، فنبذناها وألقيناها، ثم عبدوا العجل، هؤلاء الذين قال في مثلهم ابن عمر في قضية أهل العراق قتلوا الحسين بن علي ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وحبيبه، ثم جاءوا يسألون: هل قتل البعوض من محظورات الإحرام أو لا؟ وهذه المسألة قضية التحرج من الأشياء اليسيرة والوقوع في الأشياء العظيمة، هذا ديدن كثير من الناس، تجدهم اليوم يقولون: هو واقع في الربا والزنا، وإذا جاء على عشر ذي الحجة في الأضحية قال: سقطت مني شعرة وأنا أحك ماذا أفعل؟ الأضحية بطلت أم لا؟ أنا قلق أخبروني، الله أكبر! أنت الآن قلق على الشعرة التي سقطت بالحك، ولست قلقاً على الملايين الموجودة في البنك تأخذ عليها ربا وفوائد محرمة! وكذلك في الإحرام يسأل: يجوز ترجيل الشعر أم لا؟ وتراه يغتاب ويلعب ورقاً في الحج، ويفعل كل المحرمات ويمكن أن يستمع الأغاني، وإذا ذهب يطوف حول الكعبة نظر للنساء، وربما أبطل حجه أو عمل شيئاً خطيراً، ثم يقول: سقطت شعرة.. إن مسألة التورع عن الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة هذا منهج بني إسرائيل.
ثم نلاحظ -أيضاً- درساً في الفتنة بالذهب الذي هو معبود اليهود الأصيل.
إن قضية العجل تبين لنا تغلغل الذهب في نفوس اليهود، وأنهم فتنوا بالعجل المصنوع بالذهب وأن فتنتهم هي الذهب، وهم الذين يملكون أكثر الذهب في العالم اليوم ولا شك، فيتبين لنا فتنة هؤلاء القوم بهذا الذهب في القديم والحديث.
لعل هذه بعضاً من أهم الدروس والفوائد التي تؤخذ من هذه القصة وهي قصة عظيمة جداً جديرة بالتأمل، والله سبحانه وتعالى ما قص علينا هذه القصة ولا غيرها من القصص إلا ليتدبرها أولو الألباب، ويتعظ بها المتعظون، ويأخذ من فوائدها الذين ينهلون من حياض هذه الشريعة وينجون من مواردها.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وإلى طريق الحق والثواب.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجواب: إذا كان مسلماً لم يخرجه ذلك عن الإسلام فإن الصلاة عليه تصح؛ لأنه مسلم، لكن ينبغي لأهل الفضل والعلم والقدوة مثل القاضي والعالم إذا حضروا ألا يصلوا عليه ويتركوا الصلاة لبقية الناس، يقول: صلوا على صاحبكم، زجراً لغيره ممن يحاول محاولته، وكذلك الصلاة على مدمن المخدرات وشارب الخمر وغيرهم ممن عرف بالشر.
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ [مريم:59]، وقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] ولا شك أن الويل هنا عقوبة من الله عظيمة ينبغي أن ينزجر بها الذين يؤخرون الصلوات عن وقتها وخصوصاً صلاة الفجر.
الجواب: بما أن السيارة ليست للبيع فإذاً الزكاة في الإيراد، إذا حال عليه الحول تخرج في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، مثل: المبنى المؤجر ليست الزكاة في قيمته، الزكاة فقط في الإيجار إذا حال عليه الحول، بمعنى: أنك إذا أخذت الإيجار من هنا وأنفقته من هنا قبل أن يحول الحول فليس عليك زكاة.
الجواب: إذا كان فقيراً فنعم؛ لأن الزوج ليس ممن تلزم الزوجة نفقته، فيجوز أن تعطي زكاة مالك لمن لا تلزمك نفقته، لكن العكس لا يجوز للرجل أن يعطي زكاته لزوجته.
الجواب: هذا الحديث لم يثبت، وهو حديث ضعيف غير صحيح، فإذاً رمضان مأخوذ من الرمضة: وهي شدة الحر، وهذا اسم إسلامي لم يكن هكذا اسمه في الجاهلية، وقيل: إن سبب ذلك، أول ما فرض الصيام كان في شهر شديد الحر فسمي رمضان من الرمض وهي شدة الحرارة مثل: جمادى الأول وجمادى الآخرة.. لماذا سمي بهذا الاسم ؟ لأنه يتجمد فيه الماء من شدة البرد، فأول ما عرف الشهر هذا عند العرب كان في وقت يتجمد فيه، وإلا فالسنة الهجرية تدور على الفصول الأربعة، رمضان قد يأتي في الحر، وقد يأتي في البرد، لكن أول ما فرض كان في وقتٍ شديد الحر.
الجواب: العقيقة مستحبة وبالذات على القادر، وغير القادر ليس عليه شيء، وقال بعض العلماء بوجوبها لكن الجمهور على استحبابها، وفيها فائدة كبيرة على المولود وهي فكه من أسر الشيطان؛ لأنه قال في الحديث الصحيح: (كل غلام مرتهن بعقيقته) وكما ذكر ابن القيم في كتابه العظيم: تحفة المودود بأحكام المولود، أن ما من مولود يولد إلا وللشيطان عليه نوع من التسلط، وأن العقيقة تفك تسلط الشيطان على المولود، بالنسبة للذكر شاتان ويجوز شاة، لحديث: (ضحى عن
الجواب: الرواية المعروفة في صحيح مسلم: (نهى عن كف الثوب وكف الشعر) فأما كف الثوب فيدخل فيه تشميره أو جمعه كما يفعله بعض الناس عندما يجمعونه عند السجود، فهذا مما ينهى عنه، وجمهور العلماء على الكراهة كما ذكر ذلك النووي رحمه الله، يكره كف الثوب في الصلاة فيتركه يسجد معه لا يضمه ولا يجمعه ولا يشمره، وكف الشعر: حبسه تحت العمامة أو الطاقية، يجمعه ويحبسه حبساً، بل يتركه يسجد معه.
الجواب: هذه مسألة فيها خلاف عند أهل العلم، والراجح فيها إن شاء الله عدم الوجوب، ومن المعاصرين من يفتي بذلك كالشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني، أن طواف الوداع للمعتمر سنة وليس بواجب، وذهب آخرون إلى الوجوب كالشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين، فمن عرف خلاف العلماء لا تلتبس عليه الأمور.
الجواب: في المسألة أقوال:
القول الأول: أن يقطعها بكل حال.
القول الثاني: أن يتمها بكل حال.
لكن من أعدل الأقوال: أنه إذا أنهى ركوع الركعة الثانية فكأنه أنهى الصلاة؛ لأنه ما بقي له إلا شيء يسير فيتمها بخفة، وأما إذا كان قبل ركوع الركعة الثانية فيبقى له ركعة كاملة فإنه يقطعها بدون سلام بالنية.
الجواب: ينظر في حاله: فإن رأيناه يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ولا يعرف عنه معصية لا في سماع الأغاني ولا التدخين أو الإسبال، أو ما هو أعظم من ذلك، مثل التساهل في لمس النساء وربما كان إنساناً سيئاً يريد الوصول من وراء القراءة إلى العبث بالنساء مثلاً، فإذا لاحظنا عليه التساهل وأنه يخلو بها ويقول لوليها: لا يخرج الشيطان إلا إذا خرجت أنت، فنعرف أنه دجال وأنه كذاب أشر، وأن له مقصداً سيئاً، ولا تلمس المرأة إلا للضرورة، لكن ليس من جهة أنه يقول: لا بد من المباشرة، أو لا بد من لمس المرأة عند القراءة، فيمس يدها أو وجهها، فهذا حرام ولا يجوز.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر