أما بعــد:
فالحمد لله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وهذا النكاح الذي شرعه الله تعالى للمسلمين يطلق على أمرين: على عقد النكاح وعلى الوطء، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة أو بنت فلان أرادوا عقد التزويج، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا الجماع، وهذا التعاقد المقدس الشرعي بين الرجل والمرأة ضرورة فطرية دال على أن الخلقة سوية، قال الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].
تأمل يا عبد الله! كيف جاء لفت النظر في هذه الآية إلى الصالحين، وأن قضية الفقر ليست مشكلة كبيرة، وإنما الصلاح هو القضية الأعظم قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] أما قضية المال فإنها تأتي بإذن الله قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] فإن يكن فقيراً، أو عليه دين، أو ليس ذا عمل ولا وظيفة؛ يرزقه الله سبحانه وتعالى.
وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء) وقد أمر الله تعالى بالاستعفاف عند عدم القدرة، والاستعفاف يكون بغض البصر وعدم الاختلاط بما حرم الله، وعدم ملابسة المعاصي ولا غشيان الأماكن التي تثور الشهوات بسبب غشيانها، فلا مناظر ولا أماكن؛ لأن هذه هي قاعدة الاستعفاف قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً [النور:33] أي: يتركون الحرام ويبتعدون عنه، ويتعففون حتى يأتي الفَرَج من الله عز وجل.
وقال سعيد بن جبير : قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: [هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: تزوج.. فإن خير هذه الأمة أكثرهم نساء] وهذا النكاح هو شرع مؤكد من سنن المرسلين قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] وقال عليه الصلاة والسلام: (إني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)؛ ولذلك قال العلماء: إن التزوج مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة والآثار الحميدة؛ بل إنه يكون واجباً في بعض الأحيان، وخصوصاً في هذا الزمان، فإذا خاف على نفسه الحرام أو وقع فيه، أو أوشك أن يقع فيه، وكان في العنت وجب عليه الزواج وجوباً يأثم بتركه.
ولو لم يكن في النكاح إلا سرور النبي صلى الله عليه وسلم يوم يباهي كل نبي بأمته، ولو لم يكن منه إلا هذا التكاثر الذي يترتب عليه سرور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بهذه الأمة لكان ذلك كافياً في الرغبة فيه، ولو لم يكن منه إلا ألاَّ ينقطع عمل الإنسان بعد موته بهذا الولد الصالح الذي يدعو له بعد وفاته لكان سبباً في الرغبة فيه، ولو لم يكن فيه إلا أن يخرج من صلبه من يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا غض بصره وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرم الله، ولو لم يكن فيه إلا تحصين امرأة يعفها الله به ويثيبه على قضاء وطره ووطرها لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا احتساب الأجر في النفقة على المرأة في كسوتها ومسكنها؛ ورفع اللقمة إلى فيها لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا إغاظة أعداء الإسلام لتكثير أبناء الإسلام لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا إعفاف النفس عن الحرام وقطع السبيل على من يروج الحرام لكان ذلك كافياً، فكيف لو اجتمعت هذه الأسباب في رجل صالح؟!
فنقول: إن ذلك من سوء الاستقصاء ولا شك، فهلاَّ اكتمل بحثك -يا عبد الله- ويا أيها الشاب! وهلا استقصيت في السؤال لكي تعرف عن حالها؟ وهناك سبل مشروعة من استخدام محارمك من النساء للبحث عن حال هذه الفتاة، أليست في مدرسة يوجد فيها من يعرف حالها؟
أو في حي يوجد فيه جيران يعرفون حالها؟
أو أقارب يعرفون حالها؟
وكذلك إذا أردنا أن نبحث عن الرجل الصالح التمسناه في المسجد، هل هو يواظب على الصلاة فيه أم لا؟
فكذلك المرأة الطيبة تغشى الأماكن الطيبة، وقد صار -ولله الحمد- من مدارس تحفيظ القرآن وغيرها من الأماكن الطيبة ما هو مظان وجود الفتيات الطيبات؛ ولذلك فإن الاستقصاء والبحث والسؤال أمر في غاية الأهمية، والتماس مثل هذه الفتاة في مظان الصالحات أمر في غاية الأهمية، ولما كانت المرأة عاجزة أو ضعيفة، وقليلة الحيلة في السؤال والاستقصاء عن الرجل لم يجعل الشارع الأمر إليها، وإنما جعله إلى ولي رجل، ولما كانت الفتاة المتقدم إليها عاجزة أو قليلة الحيلة في الاستقصاء عن حال هذا الرجل، فلا تستطيع أن تذهب إلى مكان عمله ولا إلى حيه، ولا أن تسأل معارفه؛ جعل الشارع الأمر بيد ولي رجل مؤتمن يقوم عليها، فيسأل لها عن المتقدم إليها ويعرف حاله، وهذه أمانة عظيمة من لم يقم بها فقد خان، والخيانة إثمها كبير وذنبها شديد عظيم، فليتق الله تعالى من استؤمن، وليتق الله من سئل، ومن أشار على أخيه المسلم أو على أخته المسلمة بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه، فويل للذين يكتمون العيوب التي تمنع من النكاح، وويل للذين يكتمون حال الأزواج أو حال الشباب أو الفتيات عند السؤال، وهم يعلمون أن هذا الأمر مهم بيانه، وأن هذه الأمانة التي إذا ضيعت حصل خلل كبير في الزواج، وكان الإنسان الخائن سبباً في عقد نكاح لا يرضى أحد الطرفين به لو كان يعلم الحقيقة، ومن غش المسلمين فليس منهم كما قال صلى الله عليه وسلم : (من غشنا فليس منا).
ولما اشتط الناس في أمر الصداق، وبالغوا في المغالاة فيه؛ جعلوا بأيديهم عواقب الهلكة التي أحاطت بشبابهم وبناتهم يخربون البيوت بأيديهم، بل يمنعون قيامها بأيديهم بما جعلوا من المغالاة في الصداق والحفلات وغيرها من المتطلبات، والتي ليس عليها في هذه التكاليف العظيمة دليل ولا أثارة من علم، وجعلوا المطالب الشكلية هي الأساس الذي يدور عليه إمضاء الزواج من عدمه، مع أن شريعة الإسلام تريد إمضاءه أولاً، وهذه الأمور الشكلية تيسر على الإنسان المسلم، فكيف -يا عباد الله- تجعل هذه الأمور الشكلية مانعاً من تحقيق المقصود الأصلي؟
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شر أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يتوب علينا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! إن الأصل في النكاح البقاء والدوام والاستمرار؛ لأنه إقامة أسرة وبيت، ومن هنا كان زواج المتعة حراماً في الإسلام؛ لأنه زواج مؤقت محدد بوقت معين يعلن فيه العقد، ويتفق عليه الطرفان، ويكون معلوماً لكل منهما، فإذا انتهى الأجل انتهى النكاح -بزعمهم- فهذا استئجار على الزنى وليس من شرع الله في شيء، وزواج المتعة يكون على أربع وعشرين ساعة أو على ثلاثة أيام أو على أسبوع أو على شهر، فهذا استئجار على الزنى ومهر بغي لا يفعله إلا الديوثين؛ فأهل البدع الذين لا عقل ولا دين، ولا غيرة لهم يفعلونه، وأهل السنة يقومون بما جاءت به السنة.
ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين هذا النكاح وبين نكاح المتعة الذي يكون الطرفان على علم بالمدة المحددة التي إذا انقضت انتهى العقد بينهما، وأما الذي أشير إليه قبل قليل من نية عند الزوج أو عند المتقدم كالمسافر للخارج ونحوه؛ فإنها ليست معلنة بين الطرفين، ولا متفق عليها، ولا ينتهي النكاح إذا انتهت المدة التي في ذهنه بل هو مستمر.
أيها الإخوة! فإذا ما طالبت المرأة بحقها في النفقة بعد الزواج، وقالت: أطالب بحقي في النفقة، قيل له: إما أن تنفق وإما أن تطلق، وأما ما دامت راضية ساكتة، وتنفق هي ولا تطالبه بمبيت؛ فإن الزواج على ما هو عليه، وهو على صحته باق، ولكن ينبغي أن يعلم أهل الحكمة أن مثل هذا الزواج غير مرشح للنجاح؛ لأنه كالشيء الذي لا يريد فيه صاحبه استقراراً، وربما وافقت عليه المرأة تحت الحاجة، فقالت: أنا برجل يأتيني في الأسبوع مرةً خيرٌ من أن أبقى بقية الدهر عانسة، فهذا في الغالب ليس مرشحاً للاستمرار، ولكن لابد أن نعلم الحكم الشرعي فيه، ثم بعد ذلك هل يقدم عليه الشخص أم لا؟ إن ذلك راجع إليه، وإلى ما يرى فيه المصلحة.
عباد الله: نمص وتزيين بالحرام من كوافيرات كافرات أو فاسقات، وذلك شعار يستعمل في الزفاف وحفلاته، ووضعاً للشعر فوق الرأس كأسنمة البخت المائلة، وهذا صنف من أهل النار حدثنا عنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وصل ووشم ونمص وتفلج إلى آخر ذلك من الأفعال التي لعنها النبي صلى الله عليه وسلم ولعن من فعلها، وتختم بالذهب للرجال، ووضع لآنية الذهب والفضة وأطباقهما في الحفلات، وأطباق الكرستوفل وغيرها من الفضة، والتي من أكل أو شرب بها فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم، ورفع لصوت النساء بالغناء، وهن نساء كبيرات في السن بالغات، يصل الصوت عبر هذه المكبرات إلى الرجال في الصالة، أليس في ذلك فتنة؟ هل هذا هو الدف الذي أباحه الشارع؟
كلا والله بل أباح الشارع الدف واستثناه من سائر المعازف، ولم يبح الآلات الموسيقية الكبرى، ولا أصوات النساء الكبيرات اللاتي يصل صوتهن إلى الرجال عبر المكبرات، فهذا كله لم يبح في الشرع؛ ولذلك كان فاعله آثماً، فلا تبدءوا أيامكم الأولى في هذا العقد المقدس -يا معشر الشباب- بمعصية الله، فإنه -والله- لا خير في زواج يبدأ بمعصية الله، ويدوم على معصية الله.
اللهم ارزقنا العفة والعفاف، اللهم ارزقنا الأمن والإيمان، اللهم ارزقنا الطهر والنظافة واليقين يا رب العالمين!
اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد، وأن تجعلنا من الركع السجود، اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور! وآمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر