أيها الأحبة: إنني في مقدمة هذا اللقاء أقول: لعل أحبابنا اختاروا عنواناً وهو سابقٌ لمسمىً سلف: أيها الشاب! حاول وأنت الحكم.. محاضرة كانت في المعهد المهني لفئةٍ يقتضي الخطاب توجيه الحديث إليها على النحو الذي سمعتموه، ولعل من بين أحبابنا وشبابنا من يحتاج إلى تكرار الخطاب بلغة أخرى، وعبارة مختلفة، وفكرة متجددة، وما القصد إلا ابتغاء وجه الله جل وعلا، وما الغاية إلا الدعوة إليه بالحسنى، فنسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم السداد في القول والإخلاص في العمل، أسأله جل وعلا ألا يفتنا، وألا يفتن بنا، وألا يجعلنا وإياكم فتنةً للظالمين.
أيها الشاب! أيها الأخ الحبيب! من منطلق الحرص أتحدث إليك، والله من منطلق النصيحة أتكلم بين يديك، كلاماً من القلب خالصاً عساه يصل إلى قلبك مخلصاً، وإياك واحذر أن تجعل بيني وبين قلبك شهوات تحول، أو شيطان يشكك، أو ريبة تتردد، فحينئذٍ يحال بينك وبين الموعظة والنصيحة.
أيها الشاب! قد أقسو عليك في هذه العبارة، وما قسوت إلا حباً لك.
قسا ليزدجروا ومن يكُ راحماً فليقس أحياناً على من يرحم |
وقد أعاتبك وتعاتبني
لعل عتبك محمود عواقبه فربما صحت الأبدان بالعلل |
أيها الشاب: إنها دقائق ستمضي هذا اليوم من عمري وعمرك، وتذكر أنا وإياك في هذا المسجد أننا سنمضي ساعةً، أو ما يزيد على الساعة، وتأمل أن غيرك من الشباب بعضهم يداعب أوتار عوده، والآخر يطبل على جلد طبلته، والثالث يترنم على أنغام موسيقاه، والرابع يقلب البصر في صورته، والخامس يردد النظر في شاشة فيها فيلم خليع، أو أمر رقيع، أو شيء لا يليق.. إنها ساعة مضت عليك في هذا المسجد، ومضت على غيرك سواءً على رصيف، أو في غرفة، أو في غفلة، أو في سر أو علانية.
وإني في بداية هذا المحاضرة أدعوكم لكي نسكت دقيقةً واحدةً على سبيل المثال، وأريد من كل واحد منكم أن يذكر الله خلال هذه الدقيقة، وسأبدؤها موقتاً هذه الساعة من الآن لكي نذكر الله سبحانه وتعالى، فاذكروه سبحانه لكي نصل إلى نتيجة معينة.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، ونبوء لك بنعمك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافيةً، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، لا إله إلا أنت، سبحان الله عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
أيها الأحبة: انتهت هذه الدقيقة، وقصدت بذلك ضرب المثال أن هذه الدقيقة سجلت علينا وعليكم، وكتبت لنا ولكم، وسطرت بين أيدينا وبين أيديكم بإذن الله ومنه وفضله ومشيئته ورحمته في موازين أعمال صالحة، وفي كفة حسنات، ولقد مرت هذه الدقيقة على قوم يغتابون، أو قوم يزنون، أو قوم يسرقون، أو على اللهو يتفرجون، أو إلى الباطل ينظرون، أو إلى الغناء والخنا يستمعون، هكذا العمر أيامٌ وساعاتٌ ودقائقٌ وثوان، فإنها دقيقةٌ أودعتها كنزاً من عمل صالح؛ من تسبيح وتهليل وتذكر، ثم مضت وكتبتها الملائكة الكرام الكاتبون، وأودعتها، وستجدها وتلقاها: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30] وسيلقى الغافلون في تلك الدقيقة التي صمتنا فيها ذاكرين، سيلقون ما كانوا يعملون، وسيجزون ما كانوا يكسبون.
أيها الشاب: خلقت مفطوراً على الإسلام، خلقت حنيفاً مكرماً طيباً صالحاً، ولكن ما الذي أغواك؟ وما الذي أهواك؟ وما الذي أضلك؟ وما الذي غيرك؟ ما الذي سخر سمعك وبصرك وأذنك للحرام؟ ما الذي جعل رجلك تمشي إلى الحرام، ويدك تقبض وتبطش بالحرام؟
أيها الشاب: في بداية هذا اللقاء أقول: إني -والله- سعيد بالحديث إليك، عسى أن تكون هذه المحاضرة سبباً في الاتصال الدائم بيننا على هداية وتوبة، ولعلها أن تكون ليلة تاريخية بها فرقت بين الحق والباطل، واتجهت من الضلالة إلى الهدى، ومن الزيغ إلى الاستقامة، ومن الانحراف إلى الهداية، لعلها أن تكون ليلةً طلقت فيها كل ما يغضب الله وكل ما خالفت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتكون بداية لترتفع بنفسك ولتسمو بأخلاقك، ولتزهو بإيمانك .. لتشرف فيما فضلك الله به، واحذر أن تكون ممن اتبع خطوات الشيطان، فضل وأضل، ونأى عن سواء السبيل.
أخي الحبيب: أيها الشاب! ما هي أمنيتك؟ وما هي أهدافك؟ وما هي غاياتك؟ هل لك هدف في حياتك، أم أنك من الذين يسيرون في الدنيا بلا هدف؟ هل لك غايةٌ في حياتك، أم من الذين يسعون في الحياة بلا غاية؟ هل لك طموحات؟ وهل لك آمال؟ وهل لك مشاعر بها تفكر؟ وهل لك عقل به تتدبر؟ أم أنت خالٍ من هذا كله؟
إن الذي يسير في هذه الحياة بلا غاية، وبلا أمنية، وبلا هدف؛ فهو كالبهيمة التي تأكل وتعلف، وتشرب وتخرج، ولا تدري متى تنحر، أما العاقل الذي ميزه الله بعقل، وكرمه الله بحجىً ولب، فهو ذلك الذي يخطط لحياته، وينظر إلى غاية ويسعى إليها.
أخي الحبيب: أتريد أن تكون من أهل الجنة أم تأبى؟ قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
أيها الشاب: اعلم أن كل من تزخرفت له دنياه، وزانت له حياته، وتذللت له سبل الرفاهية، مهما كان في أنعم عيش وأرق فراش وأطيب طعام وألذ شراب، إن كان طول حياته منذ أن ولد إلى أن يموت على هذه الحياة المنعمة المدللة، فليعلم أن ذلك كله لا يساوي لحظة يجابه ويواجه ويقابل فيها ملائكة الموت يوم تحل به، وتقبض روحه، ويوم يعيش أول ليلة في قبره، ويوم يغمس غمسة إما في جنة وإما في نار.
تأمل -أيها الشاب- هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم رحمه الله، أن من عاش الدنيا كلها في لذة، ولكن ثانية من العذاب تنسيه كل لذات الدنيا، وأن من عاش الدنيا في فقر ونكد وضنك في حياته ومعيشته، ثم ذاق ثانية من نعيم في الجنة، فإن هذه الثانية تنسيه كل البلايا والمصائب وكل الشدة والنصب.
ما ضرَّ من كانت الفردوس مسكنه ماذا تجرع من بوسٍ وإقتارِ |
تراه يمشي كئيباً خائفاً وجـلاً إلى المساجد يمشي بين أطمارِ |
يا نفس مالك من صبرٍ على النار قد حان أن تقبلي من بعد إدبار |
أيها الشاب: إلى متى تظل أسيراً في يد عدوك يسوقك إلى الهزيمة والخسارة كيفما شاء؟
أيها الشاب.. هل ترضى أن تعيش كبهيمة تأكل وتشرب وتنكح بدون هدف في هذه الحياة؟
إلى متى -يا أخي الحبيب- والشهوة تسوقك، والشيطان يقودك، والأغنية تنسيك، والصورة تؤجج شهوتك، وتشعل غرائزك؟
أخي الحبيب: تخيل نفسك وقد فاز الفائزون، ونجح الناجحون، وسبق السابقون، وتخيل نفسك وأنت ترى أنه قد هلك الهالكون، وسقط الساقطون، ورسب الراسبون، وخسر المبطلون، فيومئذٍ مع من ستكون؟!
أيها الشاب: من الذي آتاك السمع؟ ومن الذي خلق فيك البصر؟ ومن الذي جعل لك الفؤاد؟ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك:23-24] إليه ستردون وستعودون، وسيحاسبكم على ما أنعم عليكم: أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [القيامة:36].
أيها الشاب: أخُلق فيك السمع والبصر والفؤاد والجوارح من أجل أن تجعلها في لذات حرمها الله، أو شهوات منعها الله سبحانه وتعالى؟! لا، والله ستسأل عن هذا كله.. أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [القيامة:36]، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
أتقولها بجرأة؟ أتقولها بقوة؟ أتعلنها بصراحة؟ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:63]، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12].
أيها الشاب: اعلم أن نعمة الله عليك في الإسلام عظيمة، ولو شاء الله لكنت هندوسياً ممن يتعبدون للأصنام والأوثان، أو بوذياً ممن يتقلب تحت أذناب ورجل بوذا، أو كنت مجوسياً، أو صابئياً ممن يعبدون الشمس والكواكب، أو كنت نصرانياً ممن يقول: إن الله ثالث ثلاثة، أو كنت يهودياً ممن لعنهم الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، لو شاء الله لكنت واحداً من أولئك، لقد منَّ الله عليك بالإسلام، فكيف ترضى أن تجعل الإسلام خلفك ظهرياً؟! لقد منَّ الله عليك بالإيمان، فكيف تترك الصراط وتبتعد عنه بعيداً؟ لقد منَّ الله عليك بالإسلام، فهل تكون من جنود هذا الدين، أم تكون من جنود أعداء دينك؟
لقد ضل ضال من الضلال، وقالها واحد من الحائرين، قال مسكيناً جاهلاً تافهاً في فكره وقوله، قال:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت |
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت |
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت |
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري |
ولماذا لست أدري؟ لست أدري |
إن الذين أعرضوا عن الدين يعيشون بمثل هذا المنطق لا يدرون فيما يعيشون، ولم يعيشون، وكيف يعيشون، وإلى أي غاية يسيرون، وإلى أي هدف يسعون، أولئك أقوامٌ مبدؤهم لست أدري، وغايتهم لست أدري.
والكلام في هذه المحاضرة ليس للشاب وحده، بل للشاب والشابة، للذكر والأنثى، للرجل والمرأة، للفتى والفتاة.. يقول أحد الضلال الذين أدبروا عن الإسلام، وجعلوا الإسلام خلفهم ظهرياً، يقول:
أجديد أم قديمٌ أنا في هذا الوجود |
هل أنا حرٌ طليقٌ، أم أسير في قيود؟ |
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟ |
أتمنى أنني أدري ولكن لست أدري. |
نعم.. عندما بعد عن طاعة الله، وعن كلام الله وسنة رسول الله، فهو لا يدري، وسوف تقف عليه الملائكة في قبره، ويأتيه ملكان عظيمان، فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟، فيقول: هاه .. هاه لا أدري، فيقولان: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمطرقة من حديد يصرخ بعدها صرخة يسمعه كل من على الأرض إلا الثقلين .. هذا الجاهل وهذا الضال الذي استدبر الهدف، وولى بعيداً عن طريق الهداية، يتكلم عن طريقه فيقول:
وطريقي ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟ |
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور؟ |
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير؟ |
أم كلانا واقف والدهر يجري؟ لست أدري |
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟ |
فحياةٌ فخلودٌ أمم فناءٌ فدثور؟ |
أكلام الناس صدقٌ أم كلام الناس زور؟ |
أصحيح أن بعض الناس يدري لست أدري |
نعم.. عندما أعرض عن الله، وعن كلام الله، وأعرض عن مجالس يذكر فيها الله، وأعرض عن حلق يتلى فيها كلام الله، بات لا يدري، وسيظل لا يدري، وربما خرج من الوجود وهو لا يدري.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
أيها الشاب: إن كنت مسلماً فتبرأ من هذا الذي قال: لست أدري، وقل: بلى أدري.. وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] بلى أدري.. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، بلى أدري.. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30]، بلى أدري أن الله سيضع الموازين.. وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، قل: بلى أدري.. وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49]، قل: بلى أدري، وستدري وتعلم إذا أنت استفدت من عقلك، واستفدت من سمعك وبصرك، أما إن كنت من الذي قال الله عنهم: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179]، معاذ الله، ونعوذ بالله أن نكون منهم وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
لهم أبصار تبصر بدرجة ستة على ستة من قوة ودقة الإبصار، لكنها رأت صورة خليعة، وفتنة عظيمة، ومجلة رقيعة، وشهوة محرمة.. لكنها ما رأت ملكوت السماوات والأرض، ما تدبرت في خلق الله، ترى شيئاً من البنيان فتتعجب، وما تتعجب وتتفكر من سماء رفعها الله بغير عمد.. تجد أمتاراً قد حفرت في الأرض فتتعجب، ولكنها لا تعجب من جبال ينسفها الله يوم القيامة، فيذرها قاعاً صفصفاً، لا تتعجب من جبال لو سخرت فيها جيوش الدنيا ما حركتها من مواقعها، ولكنها بأمر من الله وبكلمة (كن) من الله جل وعلا، يجعلها الله كالعهن المنفوش، يجعلها الله هباءً منثوراً، يجعلها الله تمشي وتسير.. وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88].
أيها الشاب: إن كنت صادقاً فإياك أن تقول: لا أدري، ولن أدري، وسأظل لا أدري، ولكن قل: دريت وعلمت، واستقمت وسمعت وأطعت.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104]، أطيعوا الله جل وعلا.
تأمل فرقاً بين الهداية والغواية، بين الغاية والنهاية، شابٌ يقتل شهيداً في سبيل الله، والآخر يقتل قد طبق عليه حد الحرابة، أو حد القصاص، أو حدٌ لجريمة أو فاحشة، أو أمر من الأمور الخطيرة العظيمة، إن النهاية واحدة هي القتل، لكن هذا قتل شهيداً في سبيل الله، وذلك قتل قصاصاً من ظلم ارتكبه .. إن ذاك قتل لكي يغفر له عند أول قطرة من دمه، وأما ذاك فقتل في حال ليكون عبرة للمعتبرين .. إن هذا قتل ورأى مقعده من الجنة، وشفع في سبعين من أهل بيته، وأمن فتنة القبر ومنكر ونكير ، وهولاً عظيماً، والآخر قتل وما كان قتله إلا في نهاية مرحلة طويلة من الشهوات والسيئات والمعاصي والمنكرات، وكم طرق أذنه من المواعظ والنصائح، ولكن كان عنها بعيداً.
أيها الشاب: من أي أقسام الشباب أنت؟ شابٌ يسهر الليل يتقلب على فراشه أسفاً وحزناً لواقع الأمة الإسلامية، التي أصبحت تئن تحت مطارق أعداء المسلمين؛ من صرب ومجوس وهندوس وملاحدة، ومن يهود ونصارى، وشابٌ تترقرق دموعه على خده؛ لأن حبيبته هجرته وما كلمته .. شابٌ يسهر يفكر في أمر الإسلام والمسلمين، وآخر يسهر ينتظر مكالمة من عشيقته .. شابٌ يسهر يفكر كيف يخدم دينه، وآخر يسهر ينتظر شهوةً محرمةً .. شابٌ يسهر يفكر كيف يعتق نفسه من عذاب الله، تجده سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، وأما الآخر، فقد أوبق نفسه.. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، وقد أذلها وأغواها بكثير من المعاصي .. تأمل شاباً تنفرج أسارير وجهه، وتبرق ملامح وجهه فرحاً وغبطةً وأنساً وتكبيراً وتهليلاً يوم أن انتصر الإسلام في موقعة من المواقع، أو أسلم كافرٌ من الكفار، أو اهتدى ضالٌ من الضلال، أو عاد إلى الحق وقد كان بعيداً عنه، أو رجع إلى الصلاة من هجر المسجد، أو عاد إلى البر والصلة من ارتكب القطيعة والعقوق، وآخر تجد أساريره تنفرج لأن فريقاً هزم فريقاً، وتجده يتهلل ويلتفت، وربما أتبع ذلك نعيقاً وصياحاً وصراخاً؛ لأن فريقاً هزم فريقاً.. فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللاً!
شباب يسافرون، فمنهم من يدعو إلى الله، ومنهم من يسير في سبيل الله، ومنهم من يسعى لحج بيت الله، ومنهم من يشد الرحال إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر يسافر ليرى غانية أو باغية، أو كأساً من خمر، أو سيجارة من حشيش، أو شيئاً من عقاقير المخدرات، فشتان بين هذا وهذا.
تأمل -أيها الشاب- أن هناك فرقاً بين من إذا ذكر أثنت عليه المجالس، وحمدت مناقبه، ودعت له بظهر الغيب، وتمنى القوم أن يكون أبناؤهم مثله، وبين شاب إذا ذكر لم يذكر عند اسمه إلا العصيان والتمرد والغفلة والجريمة، فأي الفريقين أحق بالأمن من هؤلاء؟ ومن أي الشباب أنت؟ هل أنت ممن يحمد أو يذم؟ وهل أنت ممن يحمد على أمر، أم يذم على فاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
أيها الشاب: تأمل هذا الفرق وأنت الحكم بين الفريقين، فأما من سخط الله عليه فكل شيء عنده سبب في شقائه.. سيارته .. أشرطته .. ماله وعلاقاته، وكل ما عنده سببٌ في شقائه، وأما شابٌ آخر، فلو حرم كل شيء فلن يعجز أن يجد ما يصل به إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، نعم، هؤلاء شباب الأمة.. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ [الأعراف:168] صنفٌ تراهم: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] وآخرون في المنتزهات، وآخرون يتسكعون في الطرقات، وآخرون في أماكن اللهو، وآخرون يعيشون حياة الضياع.
أيها الإخوة: عودٌ على بدء والعود أحمد.. فإذا تأملت أحوال الشباب بخلاصة ما ذكرت لك، فتجدهم إما شابٌ مستقيم، وإما شابٌ منحرف، أو شابٌ متحيرٌ بين بين.
فيا أخي الكريم: إياك أن تكون من المنحرفين، وإن كنت من المتذبذبين فعد، وإن كنت من المترددين فاجزم على الحق، وإن كنت من المستقيمين فاثبت.
قد هيئوك لأمرٍ إن فطنت لـه فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل |
تجد هذا الشاب المؤمن مجاهداً في سبيل الله، وحريصاً على دين الله.. أخلاقه مهذبة، لين الجانب، رحب الصدر، كريم النفس، طيب القلب، هذا الشاب مفخرة الأمة، ورمز حياتها وسعادتها، وهو الشاب الذي نسأل الله أن يصلح به ما فسد من أحوال المسلمين، وأن ينير به الطريق للسالكين.
يقضى على المرء في أيام محنتـه حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ |
فمثل هذا الشاب شؤمٌ على نفسه، ونكبةٌ على مجتمعه، وبليةٌ على أمته، يجر بيته ويجر من حوله إلى أسفل سافلين، ويحول بينهم وبين العزة والكرامة، مثل ذلك الشاب الذي أصر وكابر ومضى واستمر وعاند على المعصية جرثومةٌ وبيئة قتالة صعبة العلاج إلا أن يشاء الله، والله على كل شيء قدير.
ومثل هذا الشاب الذي بقي متردداً نقول له: حاول وأنت الحكم، وعد وأنت القادر بإذن الله جل وعلا على أن تدفع الهوى والشهوة والغفلة، فمثل هؤلاء الشباب الذين ترددوا واحتاروا، ربما وجدت بعضهم سلبياً في حياته، يحتاج إلى من يدعوه، يحتاج إلى من يقوده، يحتاج إلى من ييسر له الطريق، يحتاج إلى من يأخذ بيده ويرمي له حبلاً لينقذه من لجج البحر وأمواجه العاصفة المتلاطمة.
أيها الشاب: هل تستسلم؟
أيها الشاب: هل تنسحب من الساحة؟
أيها الشاب: هل تسلم العرين لخصمك؟
أيها الشاب: هل تعلن أن الشيطان غلبك، وأن أعداءك صرعوك، وأن شهوتك سحقتك، وأن نفسك غلبتك، وأن كل صغير وكبير أقدر من إرادتك عليك؟ إنها أخبار وأمور تتردد حولك، فمنها ما تعلق بالوسوسة والشبهات التي تدور في رأسك.
إنها وساوس وشبهات يقذفها الشيطان على بعض الشباب، فلو استسلم لربما كفر وارتد، وبضعهم يجعل هذه الشبهات والوساوس سبباً ومبرراً أن يمضي في تشككه وضلاله وانحرافه ومعصيته، ووالله لو أنه استعان بما استعان به الصحابة من ذكر الله جل وعلا، لوجد الله تواباً رحيماً، ولوجد أن الحق قريب إليه جداً.
إن كثيراً من الشباب يعانون من الوسوسة، إن كثيراً من الشباب يعانون من الشكوك، ليست شكوكاً في أمور يسيرة، بل في أمورٍ عظمية، بل إن الصحابة جاءهم الشيطان كما جاء إلى هذا الشاب، جاء نفر من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا رسول الله! إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به أن يراه عظيماً، فقال صلى الله عليه وسلم: أوجدتموه؟ -يعني: هل رأيتم ذلك؟ هل لقيتم ذلك؟ هل أحسستم بذلك؟- قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان) رواه الإمام مسلم.
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك صريح الإيمان) أن الشيطان لم يستطع أن يضلكم، ولم يستطع أن يغويكم، ولم يستطع أن يجعلكم تتجرءوا أن تقولوا، أو تعترضوا، أو تعبدوا غير الله، وإنما قدر على هذه الوسوسة، فإن الإنسان ينبغي إذا مرت عليه مثل هذه الوساوس عليه أن يستعيذ بالله كما سيأتي، قال صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه-أي: إذا وصل الشيطان بالعبد إلى هذا الحد- فليستعذ بالله ولينته) رواه البخاري ومسلم، وفي حديث آخر: (فليقل: آمنت بالله ورسله).
أيها الشاب: إذا جاءك الشيطان وأخذ يشكك عليك ويقول لك: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ فلتنته عن مثل هذا، وقل: آمنت بالله ورسوله، وفي حديث أبي داود : (فقل: اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، ثم اتفل عن يسارك ثلاثاً، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فإن هذه السورة العظيمة، وهذه الاستعاذة المنيعة، وهذا الهدي كفيلٌ بأن يطرد الشيطان عنك.
إن الشيطان جاء إلى الصحابة قبلكم، ولن يتردد الشيطان أن يأتي إليك ليوسوس لك، فإذا بلغت هذا الأمر، فعليك أن تنتهي عن الوسوسة ولا تتمادى في التفكير، وعليك أن تتعوذ بالله.
إذاً فإن البداية مهمة، ومن كانت له بداية محرقة، فإن له نهاية مشرقة.
أيها الأحبة: إن الفراغ أهاج على النفس أشياء كثيرة، حرك الشهوات من مكامنها، ودفع الخطرات إلى أن تتحرك إلى خطوات، ووقع كثير من الشباب في المعاصي والسيئات، فمن كانت معاصيه بسبب فراغه فالله الله عليه أن يملأ وقته بعمل نافع وسعيٍ مفيد، في علم، أو عمل، أو وظيفة، أو تجارة، أو حرفة.
إن الشباب والفراغ والجـدة مفسدةٌ للمرء أي مفسدة |
إن الإنسان السوي.. إن الشاب الذي لم تدنسه هذه المعاصي والسيئات، يجد نفسه شفافة، ويجد بياض قلبه أمراً يحرص عليه، يريد ألا تدنسه فاحشة، أما الذي تردد في مخالطة قرناء السوء، فهو كمن يقول: ثوبي كله أسود، أو بقعة سوداء، فلا يضرها ما لطخها، أما الذي يقول عن سيرته: إنها صفحة بيضاء، فإن أدنى قليل يلوثها ويشوهها.
إن الجفاء والبعد بين الشباب وبين كبار السن من وجهاء القوم الصالحين، وكبار العشيرة المؤمنين، والعلماء المتقين، والدعاة المخلصين والصالحين الذين أنعم الله عليهم؛ سبب في جعل الشباب يقعون في حضيض الفاحشة ومستوى الرذيلة، ومستنقع أوحال ما حرم الله جل وعلا.
إن المرأة في المجتمع الغربي تلك التي أعجب بعض الشباب جمالها، أو مساحيقها، أو زينتها، هي وإن كانت جميلة الشكل، إلا أنها في الحقيقة كالمرحاض الذي تربع عليه كل من في بطنه أذى وغائط وبول، فأفرز وأخرج ما في بطنه من تلك القاذورات فيها، فمن الذي يرضى.. وأي نفس سوية ترضى أن تجعل الغائط حضناً لها، وترضى أن تجعل البول أنيساً وجليساً، وترضى أن تجعل النجاسة مستودعاً ومكاناً تطمئن إليه؟!
أيها الشاب: عليك أن تنظر إلى فطرتك السوية، لو كانت الفطر سويةً لأنفت من أن تنـزل في مستنقعات الأوحال.
يقول أحد الفنانين الذين تابوا إلى الله جل وعلا، وعادوا إلى الحق عوداً جميلاً، يقول عن نفسه: إني لأعجب كيف كنا نجلس مجالس تأنفها القطط والكلاب، ونمشي في أمور تأنف منها البهائم والحيوانات، يقول: لما منَّ الله علينا بالهداية، وأخذنا نتفكر في تلك الليالي التي قضيناها وسهرناها، كيف كنا نرضى لأنفسنا أن ندخل تلك الأماكن؟ وكيف نرضى لأنفسنا أن نفعل تلك الأفاعيل؟ وكيف نسمح لأنفسنا أن نطبق ونقترف ونباشر وندنو من تلك النجاسات والأوحال؟
إن الإنسان إذا انتكست فطرته - ولا حول ولا قوة إلا بالله!- أو حصل له فراغ ودس نفسه وأبعدها عن مواقع الكرامة، رضي بالرذيلة، وبالدون، وبالسفاهة، وبالاحتقار، والعجب -أيها الأحبة- أن الواحد لو خير في المراتب الإدارية بين الثانية والرابعة والعاشرة لاختار العاشرة، ولو خير في الطائرة بين السياحية والأفق والدرجة الأولى لاختار الأولى، ولو خير في أي أمر من الأمور لاختار أعلاه، فإذا جاء أمر كرامةٌ له في دينه، وذلةٌ له في شهوته، كيف يرتاح ويرضى ويطمئن أن يختار الذلة والهوان في شهوته؟! كيف يختار النجاسةَ والطهارةُ بين يديه؟! كيف يختار الهوانَ والكرامةُ أمام عينيه؟! كيف يختار اللؤم والخيانة والذلة والهوان وهو قادر أن يحصل الأمانة والعزة بإذن الله جل وعلا؟
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ |
أيها الشاب: إن البعد بيننا هو الذي أورث ذلك، فما الذي يمنعنا أن نتفاهم؟ ما الذي يمنعنا أن نتصارح؟ ما الذي يمنعنا أن نلتقي؟ كن جريئاً واطرق عليَّ الباب.. كن جريئاً وارفع عليَّ سماعة الهاتف.. كن جريئاً وأرسل إليَّ رسالةً وضع عنوانك.. كن جريئاً وكن صدوقاً صادقاً مع نفسك ومعي لنتباحث بكل حقيقة مشاكلنا.
إن النفس في البداية ربما قالت لك: ابتعد عن هذا، وإياك أن تبوح بأسرارك!
وربما قالت النفس: هي خديعةٌ من أجل أن يكتشف خبيئة فؤادك، أقول لك: لا والله..
ولابد من شكوى إلى ذي مروءةٍ يواسيك أو يسليك أو يتوجع |
يكفينا من الأخبار خبر أن المسلمين بحاجة إلى نجدة، فهل أنجدناهم؟
يكفينا من الأخبار خبر أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة، فهل أغثتهم وأغثناهم؟
يكفينا خبر أن المسلمين بحاجة إلى جمع تبرعات، فهل جمعتَ وجمعنا لهم؟
يكفينا خبر أن المسلمين الآن يموتون من شدة البرد القارس، فهل أرسلت إليهم المعونة وأرسلنا لهم؟
لا نخادع أنفسنا، إن جلساءنا غرونا، وإن من كنا نجالسهم ليل نهار خدعناهم وخدعونا، ولو وقفنا وقفةً صادقةً، وجلسنا ذات ليلة.. السبت لعبنا البلوت، وسهرنا على الفيديو، وسهرنا على المعصية، وتناولنا الشيشة، وتبادلنا السجائر، وتبادلنا الأفلام، وتهادينا الأشرطة، والأحد فعلنا مثل ذلك، ما ضر لو قلنا: يوم الإثنين، الليلة لا بلوت، ولا فيديو، ولا فيلم، ولا شيشة، ولا دخان، نريدها كلمة صريحة: هل ستنفعني يا من عن يميني إذا أدخلت قبري؟ سيقول لك إن كان صادقاً: لا. وسيقول الآخر لمن بعده: هل سترد عني الموت إن نزل بي الأجل؟ سيقول لك: لا. وسيقول الثالث: هل سترد إليَّ كليتي إن تعطلت؟ فسيقول الرابع: لا. وسيقول الخامس: هل تعطيني شرياناً من جسمك لكي أعالج به خللاً في قلبي؟ سيقول الخامس: لا. وسيقول السادس للآخر: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36] يقول السادس للآخر: إذا كنا يوم القيامة، هل ستنفعني؟ هل ستجعلني من أهل الجنة؟ أم ستنجيني من النار؟ الجواب: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
فيا أخي! كل علاقة تنقلب عداوة، وكل صداقة تنقلب شراسة، إلا من أحب في الله، وأعطى لله، وبذل لله، ومنع في الله، يوم يكون سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم شابان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.
أخي الشاب: والله إن فيك خيراً كثيراً، ولكن جلساءك جروك إلى المعصية، غروك في نفسك، أول مرة قالوا: تعال لتسهر معنا، والثانية: تعال لتتعش معنا، والثالثة: تعال لكي تتروح معنا، وارتع والعب معنا، والرابعة: ما ضر لو شاركتنا بسيجارة، والخامسة: ما ضر عندنا هذه الليلة ما يسمونها الصيدة، وإن كانت في الحقيقة فاحشة في زنا، أو لواط يزينونها، وقد يكون قبلها عرض لفيلم خليع، أو مجلة خليعة فيها من صور العراة، رويداً رويداً جروك وجذبوك يا مسكين، وأخذوك إلى مثل هذه الهاوية، ولو قدر أن الهيئة قبضت عليك وعليهم، أو أن الشرطة أمسكت بك وبهم:
لقال كل خليل كنت تأمـره لا ألهينك إني عنك مشغولُ |
يوم يقوم الشيطان، فيضحك على الجميع في النار، ويقول لأخلائه وجلسائه ولمن أطاعوه.. يقف الشيطان خطيباً يكلمهم في النار ويقول لهم: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] حتى الشيطان يضحك ويقهقه، ويتبرأ من الذين أضلهم، يقول لهم: والله ما كان معي عصا معطوفة في طرفها، فأجر رقابكم بها، وما كانت معي حبال كبلت أقدامكم وأرجلكم بها، وإنما كانت صورة، قلت: انظروا، فنظرتم إليها فصدقتم، أو كانت أغنية، فقلت: اسمعوا، فسمعتم ودنوتم من المعصية، هكذا يتبرأ أهل الباطل من باطلهم، ويتبرأ بعضهم من بعض يوم لا ينفع عتابٌ ولا ينفع مستعتب.
إن المجالسة أهلكت كثيراً من الشباب، كم من شاب كان من المصلين، فتعرف على جلساء سيئين، فقطعوه عن المسجد ألبتة، قطعوه بالكلية عن صلاة الجماعة، ورويداً رويداً حتى ترك الصلاة! كم من شاب كان نافعاً مهتدياً باراً وصولاً، ذا رحم طيبة، فقلبوه عاقاً فاسداً مفسداً! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً كريهةً).
أيها الشاب: لقد أحرق جلساء السوء ثيابك، لقد دنسوا سمعتك، لقد خربوا سيرتك، فلا طريق إلى العودة والطهارة والنجاة إلا بالبعد عن جلساء السوء، والعجيب منك -أيها الشاب! أيها الحبيب! أيها الصديق!- إني أعجب منك لو ذهبت تشتري حذاءً، لدخلت خمسة محلات من أجل أن تنتقي أحسن الأحذية، ولو ذهبت لتفصل ثوباً لدخلت أربعة محلات لتنتقي قماشاً مناسباً، وخياطاً مفصلاً ممتازاً، أما الصداقات فتقبل عليها بلا اختيار، أما العلاقات فتقبلها بلا مشورة، أما المجالسات فترتمي بنفسك في أحضانها من غير تأمل وتدبر.. الثوب بعد تأمل واختيار.. الحذاء بعد تأمل واختيار.. السيارة بعد تأمل واختيار.. قطعة الأثاث بعد تأمل واختيار، وأما جليسك فتختاره أو تقع فيه فوراً، وقد تكون أول مرة لقيته في مقهى، أو في مطعم، أو في جلسة في رصيف، أو في مكان من الأماكن التي يوماً ما ستشتم وتلعن تلك الساعة التي عرفت ذلك الشاب فيها، ولا يجوز لعن الدهر أبداً، وربما أخذ كلٌ يسب صاحبه ويتبرأ منه.
أيها الأخ الطيب: عليك بالصالحين، وعليك بإخوانك الطيبين، فإنهم -بإذن الله- حرزٌ متين، وموقع مكين، وإذا يسر الله لك ذلك فعليك أن تعض عليهم بالنواجذ.
كذلك -أخي الشاب- لربما قادتك بعض المجلات وبعض الكتب الهدامة التي قرأتها وسهرت الليالي عليها، وتظن أنك بذلك تنير عقلك، وتضيء فكرك، وتقوم لغتك، وتزيد معلوماتك، تظن أنك بهذه القراءة ستكون رجلاً مثقفاً معلوماتياً قادراً على الحديث في كل فن، فإذا بك بعد ذلك -يا مسكين- تقودك هذه الأفكار إلى رذيلة، وربما أثارت في نفسك شبهات ربما جرتك-والعياذ بالله- فانقلبت على عقبيك.
إن بعض الشباب يقبل على قراءة كتب لا يعرف أولها وآخرها، فما تلبث إلا أن تضلله، وتشككه، وتقذف الشبهات في قلبه، فيكون كما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا |
أخي الحبيب: اقرأ كلام الله، إن خير الكلام كلام الله، اقرأ هدي نبيك، إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، اقرأ سيرة الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء، واقرأ سيرة العشرة المبشرين وأهل الشجرة، واقرأ سيرة قادات الإسلام الذين سطروا أروع المثل، وجعلوا في هذا التاريخ نماذج مشرقة كلٌ يفتخر بها، ولكن يوم أن أعرضت عن قراءة الكتب النافعة، وقرأت كتباً ضالةً؛ غيرت تلك المفاهيم، وما أكثر من قلبت المفاهيم في رأسه.. اجلس مع بعض الشباب تجده يتكلم عن الإسلام كالذي يتكلم منتقداً -وإن كان مسلماً، ولا يتبرأ من الإسلام- لكن من حيث يدري أو لا يدري ينتقد من يلتزم بالإسلام، وينتقد من يدعو إلى الإسلام، وينتقد من يحض على الإسلام، ويظن أنه بهذا ينافس المثقفين، أو يجاري المفكرين، أو يسابق المتقدمين، وإن هذا لهو الضلال المبين.
أخي الكريم: كم من فتاة مسلمة، وكم من شاب مسلم قرأ أفكاراً هدامةً فضللته، تصوروا أن فتاةً قرأت شيئاً مما كتبه بعض أعداء الإسلام؛ فانقلبت انقلاباً فكرياً، فبدلاً من أن تقول: إن المحرم الذي اشترطه الإسلام على المرأة.. أصبحت تقول: إن المحرم ذلك الجاسوس الذي يتابع المرأة.. نعم، إن المحرم رجلٌ ممن لهم قرابة وسبب ونسب بهذه المرأة، لكن المصيبة لما قرأت الشابة والفتاة أفكاراً ضالةً بدلاً من أن تقول: هذا محرم وحارس يصونها ويذود عنها ويدافع عنها، قالت: هو جاسوس يتابعها؛ لأنه يشك فيها ويسيء الظن بها.
واعلم أن من الأسباب التي جعلتك لا تزال بعيداً عن الهداية والطريق إليها أنك ربما ظننت أن الإسلام يقيد حريتك، وأن الإيمان يكبت طاقتك، وأن الالتزام رجعية تخشى أن ترمى بها، فأقول: أخي الحبيب! احذر من هذه المفاهيم المقلوبة، من الذي هو أولى أن يوصف بالرجعية والتخلف؟ ذلك الذي ارتضى بأن يسلك كل طيب من السبل، وكل نبيل من الخلق، وكل نافع من الأفعال، أم ذلك الذي جعل الغواية والانحراف طريقه وديدنه؟ أخي الشاب! إن كثيراً ممن حولك من جلساء السوء ربما استهزءوا بك لو سرت في طريق الاستقامة والالتزام، فلا تعجب، فإن ذلك نوع من الابتلاء، قال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، ولا تعجب من الضالين الذين بالمؤمنين يسخرون.. إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29-30] تجاوز هذه العقبات، وكن أكبر منها، وكن صقراً محلقاً فوق كل جبل، وكن عالياً فوق كل شبهة وشهوة، فإنك بذلك تنال هذا الالتزام.
هل الذي يحافظ على الصلاة مع الجماعة يكون متطرفاً؟!
هل الذي يهجر الغناء والخنا واللهو والمعاصي يكون متطرفاً؟!
هل الذي يحافظ على ما أمر الله، وينـزجر عما نهى الله نقول عنه: متطرف؟!
إذا قال شابٌ: أنا لست مجرماً، ولست غالياً، أو متطرفاً، فأنا وسط، فماذا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كنت أنت الوسط بتركك بعض الواجبات، وتهاونك في بعض المعاصي والسيئات، ووقوعك في بعض المنكرات، إذا كنت أنت الوسط، فماذا يكون أبو بكر الصديق؟ وماذا يكون عمر وعثمان؟ وماذا يكون علي والمقداد؟ وماذا يكون علي والمغيرة؟ وماذا تكون عائشة وحفصة؟ تقول شابةٌ: أنا لن أكون زانية، أو مضيفة، أو فاجرة، ولكن لن أكون متشددة، أو معقدةً، أو متزمتةً -كما يسمونها- ملتزمةً مستقيمةً، سأكون وسطاً.. إن كنت وسطاً فماذا تكون عائشة ؟ إن كنت معتدلة فماذا تكون حفصة؟
إن من المفاهيم المقلوبة والألفاظ المعوجة غيرت على كثير من الشباب والشابات حياتهم، فجعلتهم يرضون بالانحراف، ويمشون على الأغلاط، ويقتنعون بأخطاء كثيرة يصبحون عليها ويمسون.
فيا أيها الشاب الكريم! ويا أيتها الأخت المسلمة: الواجب على الإنسان أن يفكر، والله لو أراد بائع أن يخدعنا في سلعة بعشرة ريالات، أو عشرين ريالاً، لما رضينا أن نخدع، ولو أراد أحد أن يمرر علينا قصة خيالية، لقنا: هذا أمرٌ لا يعقل، فكيف يمرر علينا أعداؤنا آلافاً من الشبهات، وكثيراً من الأفكار التي تغير علينا سير حياتنا، وصدق استقامتنا، ونور طريقنا إلى الله جل وعلا.
وبعض الشباب يقول: إن الالتزام تقييد للحرية، وأنا أحب الحرية.. وبعضهم يقول: أحب الانطلاق، ولا أحب الكبت، وأنا إن التزمت فسوف أكون محرماً؛ لأن الالتزام -في ظنه- كما يقول بعضهم: ركب على عقلك قفلاً، أو ركب على دماغك أقفالاً حتى تكون ملتزماً.. لا والله، إن التخلف كل التخلف وتحجير العقول هو في مثل هذه المعاصي والسيئات، أما العقل واللب والحجى والفهم والتدبر، فهو في الاستقامة بإذن الله جل وعلا.
وبعض الشباب يستدل بواقع بعض الذين يرون في ظاهرهم ملتزمين، وربما وقع منهم شيء من الأخطاء، أو يرى رجلاً وقعت منه معصية ووقعت منه طاعة، فيقول: لا أريد أن أكون مثل هذا.. والعجب أن هذا المفهوم منتشرٌ عند كثير من المسلمين.. في الأسبوع الماضي كنت مع سائق في سيارة، فقلت له: منذ كم وأنت في المملكة العربية السعودية؟ فقال لي: تقريباً ست سنوات، فقلت له: هل حججت؟ قال: لا، أنا لم أحج حتى الآن، قلت: لماذا لم تحج إلى الآن؟ قال: أنا إذا قمت بالحج فلابد ألا تكون هناك أخطاء، وبعد ذلك أنا لا أخاصم أحداً، الناس يأخذون حلالي ولا أخاصمهم، ويأخذون ما يريدون ولا أعمل معهم أي خصومة ... وهلم جراً، ويظن أنه إذا قام بأمر الله فيستسلم لأعدائه يأخذون ما شاءوا من ماله، ويتسلطون عليه بأي طريقة، ويقول: هناك أناس يحجون ولكنهم يفعلون ذلك، وهناك أناس يصومون لكنهم يفعلون ذلك، وهذا -أيضاً- واقع بعض الشباب وبعض الشابات، يقول: فلان ربما ينتسب إلى الالتزام ووقع منه الخطأ، فلانة تنتسب إلى التدين ووقع منها الزلل.
إن المعصية ليست حجة على معصية أخرى، وقد يجتمع في العبد سنة وعمل صالح وعمل سيئ، وحسنة وخطيئة، ولكن كما قال الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] وبعض الناس-والعياذ بالله- يحتج بالخطأ على الخطأ، وبالرذيلة على الرذيلة، وبعضهم يقارن ويفارق بين هذه الدرجات.
وبعضهم يقول: إن شاباً التزم، ثم انتكس، وأنا أخاف أن ألتزم فأنتكس، فهو يقول: أنا راض بانتكاستي حتى لا ألتزم فأنتكس، وذلك من وسوسة الشيطان على كثير منهم، والعاقل يبادر باستقامة نفسه وصلاحها قبل أن تقع نفسه في مهمهٍ عسرٍ صعبٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وآخر يقول: أريد أن أستقيم، ولكن ما استطعت أن أترك الأغاني.. وآخر يقول: ما استطعت أن أترك الدخان.. والرابع: ما استطعت ترك الأفلام.. والخامس والعاشر قال... وإني أقول: كيف استطعت أن تنال الشهادة، هل نلت شهادة البكالوريوس بالنوم واللعب، أم صبرت على السهر والجد والمثابرة حتى نلت الشهادة؟ كيف كنت ضابطاً؟ أو كيف كنت من صف الضباط أو رئيس النقباء؟ هل نلتها بالنوم والتخلف، أم صبرت على الجندية؟ أفتريد الهداية بدون مجاهدة؟ أفتريد أن تنال منازلاً يظل الله أصحابها بظله يوم لا ظل إلا ظله بدون أدنى مجاهدة؟ أفلا تصبر عن الشهوات؟ أفلا تصبر على الطاعات؟ نعم، إن الالتزام يحتاج إلى تضحية، ويحتاج إلى مجاهدة.. وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
أيها الحبيب: لابد أن يتقابل أمران: شهوة في نفسك، وأمر من الله ورسوله، فإن غلَّبت أمر الله وأمر رسول الله على شهوتك فإنك بإذن الله من الناجين، وإنها لحظات تصبر عن المعصية، فتنال اللذة، ويبقى الأجر، وتسلم من الوزر، واسأل من فعل الفاحشة الآن أو قبل الآن: هل تستمر اللذة بالفواحش؟
إن أهنا عيشةٍ قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل |
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل |
ودع الذكر لأيام الصبا فلأيام الصبا نجمٌ أفل |
أيها الحبيب: دع كل شهواتك لله، دع كل ملذاتك لله، قل: يا رب! لأجلك تركتها، ولما عندك طلقتها، ولثوابك ابتغيت كل ذلك، فإن من تعامل مع الله أكرمه الله بعاجل التوفيق، وعاقبة حسنة.. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
أيها الأخ الحبيب: عليك أن تتحدى بالتزامك، وأن تجتهد وتقاوم باستقامتك، ولا تكن ضعيفاً جباناً خواراً، إذ إن بعض الشباب فيه خير، ولكن ربما كان الوسط الذي يعيش فيه سبباً في ضياعه وانحرافه، أو سبباً في ضعف إيمانه.. عليك أن تتحدى، وعليك أن تصبر، وعليك أن تبرهن -بإذن الله جل وعلا- إنك قادر، وإنما النصر صبر ساعة، فمن صبر وجاهد في مدرسته .. في بيته .. في سوقه .. في وظيفته .. في عمله .. وفي كل المجالات؛ فإنه بإذن الله قادرٌ على النصر، وأما من انهزم في أول جولة، فيا سرعان ما ينهزم! ويا سرعان ما يضيع!
أخي الكريم: عليك أن تكون فخوراً بإيمانك إذا ذقت لذة الاستقامة، فلا تلتزم التزاماً إذا أذن للصلاة استحييت أن تقول: قوموا إلى الصلاة! إذا أردت أن تجد لذة الاستقامة، فإذا نظرت إلى معصية لا تقل: يا ليتني من يفعل هذه المعصية، ولكن قل: الحمد لله الذي شرفني وكرمني ورفعني، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، ولو كنت من الضالين لكنت واحداً من الذين يقعون في هذه المعاصي، ويقعون في أوحالها وألوانها.
أيها الشاب: عذ بالله جل وعلا واجتهد، وجاهد نفسك، فإنك قادر، واحذر من أن يكون مالك أو ولدك سبباً في ضلالك.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15].
أيها الإخوة: لقد تسلط الشيطان على بيوتنا يوم أن ضعفت مقاومة الإيمان فينا، انظر إلى كثير من البيوت تصبح على الأغاني، وتضحي على الأغاني، والظهيرة أغاني، والعصر أفلام، والمغرب ملاهي، دخلتها الجن، دخلتها الشياطين، تلبس أهلها الشياطين، وصاروا في حيرة، وفي قلق، وفي نكد، وفي مصائب؛ لأنهم بعدوا عن الله.. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طـه:124].
إياك أن تكون إمعة يجري بك التيار، وتسير مع الكثرة! إذ ليست الكثرة هي المقياس، إن أكثر الناس -إلا من رحم الله- يقعون في الضلال، بل إن أمة الإسلام على كثرتها أكثر ما فيها الغثاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ -هل نحن قليل حتى يطمع بنا الأعداء- قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء)، احرص أن تكون من الأقلين.
إن القادة آحادٌ وأفراد، إن السادة آحادٌ وأفراد، وأما الكثير فطغامٌ وهوام، عليك أن تكون من الذين تميزوا وقاموا.
إذا مات ذو علمٍ وتقى فقد ثلمت من الإسلام ثلمة |
وموت الحاكم العدل المولـى بحكم الأرض منقصةٌ ونقمة |
وموت فتىً كثير الجود مـحلٌ فإن بقاءه خصبٌ ونعمة |
وموت الفارس الضرغامِ هـدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمة |
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمة |
فحسبك خمسةٌ يبكى عليهـم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة |
وباقي الخلق همجٌ رعاعٌ وفي إيجادهم لله حكمة |
أيها الشاب: عليك أن تجاهد نفسك بعيداً عن مغريات الحياة، بعيداً عما يواجهك من المصائب، بعيداً عما يزخرف لك من ملذات الدنيا، واعلم أنك قادرٌ على الاستقامة.
أيها الشاب: والله، والله، والله، إنك قادرٌ على الاستقامة، قادرٌ على الهداية، قادرٌ على الصراط المستقيم، ولكن أتمد يدك إليه؟ أتخطو خطوةً إلى الهداية؟ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7]، إني لا أعدك، ولا سماحة الشيخ ابن باز يعدك، ولكن الله يعدك إن أنت أعطيت وتصدقت وأمضيت، وعلى طريق الحق سلكت.. فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7].. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87]، ووعد الله نافذٌ لا محالة: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:8-10]، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] إنك قادرٌ على الفلاح، فزك نفسك وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] إنك واقعٌ في الهلاك إن دسيت نفسك؛ فعليك -أخي الحبيب- أن تلتزم، واحذر من الذين يرددون الشبهات، ويقولون لك: إن الدين شاق، وجادة الطريق طويلة، وأنت لا تستطيع، والالتزام صعب، ما أكثر الذين التزموا فانحرفوا!
إن نبيك صلى الله عليه وسلم قد جاء مبشراً وميسراً، وما جاء منفراً ولا معسراً، فافهم هذا واعمل به حتى تكون من الصادقين يوم أن يفتن الناس، ويميز الله الخبيث من الطيب، فتكون من الطيبين بإذن الله.
فيا أيها الشاب: والله لن تزول قدماك حتى تسأل عن شبابك، وعن عمرك، وعن مالك، وفترة الشباب بالذات أنت مسئولٌ عنها، فيا ضيعة شابٍ ضيع أعماره!
يقول القس الكبير: أيها المبشرون! إن مهمتكم في إضلال الشباب تتم على أكمل الوجوه.
أيها الشاب: هل تقول لهذا النصراني وأتباعه: سمعاً لكم وطاعةً يا قادة التنصير؟ هل تقول: سمعاً وإذعاناً لتخطيطاتكم؟ أم تقول: لا وألف لا، يا عبدة القردة والخنازير! يا أذناب الطواغيت! يا قتلة الأنبياء! يا من أشركتم مع الله غيره! أتكون من الذين انقادوا للمنصرين والمفسدين والمستغربين والمنافقين، أم تكون من الذين يقولون: كذبتم، ولا والله لا نطيعكم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون؟
أيها الشاب! الذي ما زلت تداعب الوتر، والسماعة تسهرك، والشريط يغويك، والمجلة تأخذك، والشاشة على الفيلم تجعلك تتابعها، اسمع كلام مستشرق يريد بك الشر ليتكلم على لسان بني قومه جميعاً، يقول مستشرقٌ فرنسي اسمه كيمون : إن من الواجب علينا إبادة خمس المسلمين, والحكم على الباقي بالأشغال الشاقة.. ويقول: إن علينا أن ندمر الكعبة، وأن نضع قبر محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن نضع جثة محمد صلى الله عليه وسلم في متحف اللوفر.. هكذا يريد الأعداء الذين ربما رأينا كافراً فتبسمنا له، نريد أن نعرف كلمتين من العجماوات والإنجليزية، بعض الشباب يريد أن يبين لهذا الكافر ( how are you? )، ( good very good )، ( what are you doing today) ومن الكلام؛ حتى يقول له: إني أعرف اللغة الإنجليزية.. والله لا يضيرك أن تكون شامخاً عزيزاً بدينك، إني لا أريد أن نبصق في وجوه الكفار حينما نقابلهم، ولا أن نبدأ بالعداوة تجاههم، ولكن إذا نظرت كافر فاعلم أنك تنظر إلى نجاسة، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] نريد أن نرى الكافر بنفس المقياس القرآني الذي أمرنا الله أن ننظر به إليه، هكذا أمرنا: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221] نريد عزةً بالإسلام: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].
يقول ما سونيٌ من الذين يسعون في تدمير شباب الإسلام، يسعون إلى تدميري وتدميرك، يقول ماسوني يريد تدميرك أيها الشاب: كأسٌ وغانيةٌ تفعلان في أمة محمد أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوا أمة محمد في حب المادة والشهوات.
أيها الأحبة: إن أعداء الإسلام لو دنوا من قبر النبي لسالت دماؤنا دون قبر نبينا، إن أعداء الإسلام لو دنوا من الكعبة لقطعنا رقابنا دون الكعبة، ولكنهم لا يتجهون إلى قبر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى مسجده، ولا إلى روضته الشريفة، ولا إلى منبره صلى الله عليه وسلم، ولا يدنون من الكعبة، لكنهم يرسلون فيلماً .. شريطاً .. مجلة .. عاهرة .. راقصة .. مغنية .. فتنة .. مسلسلاً ، وبهذا ينقاد شباب الإسلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
أيها الشاب: هيا بنا ننطلق سوياً في طريق الهداية وطريق السعادة، وهاك الدليل لمن أراد غنىً يدوم بغير مال، وأراد عزاً لم توطده العشائر بالقتال، ومهابةً من غير سلطانٍ وجاه في الرجال؛ فليعتصم بدخوله في عز طاعة ذي الجلال، وخروجه من ذلة العاصي له في كل حال.
أيها الأحبة: علينا أن نعود إلى ديننا.. أيها الشاب: أدرك نفسك قبل أن يفوتك الأمر، ويحال بينك وبين التوبة، ويبدو لك عند الموت ما ليس في حسبانك، واسمع إلى هذا الأمر قبل ختام القضية..
يقول لي رجلٌ عن صديقٍ له ضابط من الضباط في سجن من السجون، قال: إذا كان فجر يوم الجمعة جاء كاتب العدل من المحكمة ليكتب وصية الذين سوف ينفذ فيهم حكم الإعدام.. هناك عددٌ من المجرمين يقتلون يوم الجمعة، إما لحد الحرابة، أو قطع الطريق، أو زنا إحصان، أو فاحشة، أو أمر من الأمور، قال: فبعضهم إذا قيل له: قم لتكتب وصيتك عند كاتب العدل، بكى واسترجع، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! وتجده طوال مدته في السجن يبكي، ولا يفارق سجادته، ولا يفارق مصحفه، ويندم ويكثر من الندم والقراءة والاستغفار في فجر ذلك اليوم الذي سيقتل فيه بعد الظهر، قال: ورأينا شباباً يقال لأحدهم: اكتب وصيتك، فإنك ستقتل اليوم، فيقول: ما عندي كلام، يقال له: خذ هذا المصحف واقرأ شيئاً من كلام الله، فيقول: اتركونا من كلامكم يا مطاوعة، يقال له: نهايتك اليوم، فتب إلى الله، فيقول: عندك سيجارة؟ أو اذهب عني يا مطوع.. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ:54]، يحال بين الإنسان وبين ما يريد.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24].
أيها الشاب: إياك أن يحال بينك وبين قلبك!
خلِ ادكار الأربعِ والمعهد المرتبعِ |
والضاعن المودعِ وعدِّ عنه ودعِ |
واندب زماناً سلـفا سودت فيه الصحفا |
ولم تزل معتكفا على القبيحِ الشنعِ |
كم ليلةٍ أودعتها مآثماً أبدعتها |
لشهوةٍ أطعتها في مرقدٍ ومضجعِ |
وكم خطىً حثثتهـا في خزيةٍ أحدثتها |
وتوبةٍ نكثتها لملعبٍ ومرتعِ |
وكم تجرأت على ربِ السماوات العلا |
ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي |
وكم غمضت بره وكم أمنت مكره |
وكم نبذت أمره نبذ الحذا المرقعِ |
وكم ركضت في اللعبْ وفهت عمداً بالكذبْ |
ولَمْ تراعِ ما يجبْ من عهده المتبعِ |
فالبس شعار الندمِ واسكب شآبيب الدمِ |
قبل زوال القدمِ وقبل سوءِ المصرعِ |
واخضع خضوع المعترفْ ولذ ملاذ المقترف |
واعصِ هواك وانحرفْ عنه انحراف المقلعِ |
إلامَ تسهو وتني؟ ومعظم العمر فني |
فيما يضرُّ المقتني ولست بالمرتدعِ |
أما ترى الشيب وخطْ وخط في الرأس خططْ |
ومن يلح وقت الشمط بفوده فقد نعي |
ويحكِ يا نفس احرصي على ارتياد المخلصِ |
وطاوعي وأخلصـي واستمعي النصح وعي |
واعتبري بمن مضـى من القرون وانقضى |
واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي |
وانتهجي سبل الردى وادكري وشك الردى |
وأن مثواك غدا في قعر لحدٍ بلقعِ |
آهٍ له بيت البلى والمنـزل القفر الخلا |
ومورد السفر الألـى واللاحق المتبعِ |
أي: القبر.
بيتٌ يرى من أودعـه قد ضمه واستودعه |
بعد الفضاء والسعـة قيد ثلاث أذرعِ |
لا فرق أن يحلهُ داهيةٌ أو أبلهُ |
أو معسرٌ أو من لـه ملكٌ كملك تبعِ |
وبعده العرض الـذي يحوي الحيي والبذي |
والمبتدي والمحتذي ومن رَعى ومن رُعي |
فيا مفاز المتقي وربح عبدٍ قد وقي |
سوء الحساب الموبـقِ وهول يوم الفزعِ |
أسأل الله أن يثبتنا على دينه، اللهم اهد شباب الإسلام، اللهم اهد شباب الإسلام.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر