أما بعــد:
أيها الأحبة: إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله: أوصيكم بتقوى الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلنا هادين مهديين غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعدواتك من خالفك، اللهم اجعلنا في ضمانك وأمانك وبرك وإحسانك، واحرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام ولا يضام، وارحمنا بقدرتك علينا ولا نهلك وأنت رجاؤنا، يا أرحم الراحمين.
اللهم من أراد بنا وبعلماء المسلمين والمسلمات سوءً فأشغله في نفسه، ومن كادنا فكده، ومن مكر بنا فامكر به، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، يا أرحم الراحمين.
نعوذ بك اللهم أن نضل في هداك أو نذل في سلطانك، أو نقهر أو نضطهد أو نغتال أو نختطف أو نعذب أو نفجر أو نشهر أو نفضح، والأمر إليك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، اللهم إن نصرتنا قيل: نصر الدين، وإن خذلتنا قيل: خذل الدين، وإنك تعلم أن زرع الباطل نما وبلغ حصاده، فقيض له يداً من الحق حاصده تستأصل جذوره وتقتلع شروره، وأنت الغني عنا بعلمك عن إعلامنا لك، فنسألك بعملك الغيب وقدرتك على الخلق أن تدفع عنا وتكفينا وتحمينا، وأن تحفظ علماء المسلمين بما تحفظ به أولياءك الصالحين، وأنت القائل في كتابك، المبشر لأوليائك سبحانك لا إله إلا أنت: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] وقلت: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196] فيا ولي الصالحين ادفع عن المسلمين كيد الكائدين.
أحبتي في الله: أنعي إليكم فقيد الإسلام إحسان إلهي ظهير ، العالم الذي عرَّى البدع، وحارب بالكلمة الصادقة الناطقة المأخوذة دليلاً ساطعاً وبرهاناً قاطعاً من كتب الفرق الضالة، إذا أقام عليهم الحجة من كتبهم وأقوالهم وأفعالهم، فكان يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، وعن أمهات المؤمنين وعلى رأسهم الصديقة عائشة، وعن الخلفاء الراشدين وعلى رأسهم أبي بكر وعمر، وكان يدافع رحمة الله عليه عن الصحابة أجمعين، فأكرمه الله سبحانه وتعالى إذ لم يجعله يموت على فراشه فلا نامت أعين الجبناء، فنسأل الله سبحانه أن يجعل موته شهادة، ودماءه مسكاً، وأن يحشره مع من مات شهيداً في صلاة الفجر، وهو الخليفة الراشد الثاني يوم أن تآمر عليه المتآمرون وهو يصلي بالمسلمين وطعنته يد غادرة وقتلت معه عشرة، وهذا أيضاً قتل معه نفر من العلماء.
ودين الإسلام دينٌ غالٍ وثمين وعظيم، والجنة غالية وسعرها الأموال والأرواح: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].
فهذه الكلمة كل مواطن خفير، نحن نوجهها إلى الدعاة الصادقين، فنقول: كل داعية مسلم خفير، خفيرٌ لمن؟ لعلماء المسلمين، فالعالم لا يعوض، العالم يقمع البدعة بالسنة، ويقمع الباطل بالحق، ويمزق الظلمات بالنور، فعلماء المسلمين لم يصبحوا علماء إلا بعد جهد جهيد وسهر طويل وبذل كثير وصبر عظيم، خاضوا في بطون الكتب، وجردوا أنفسهم لله، ونصبوا أنفسهم قدوات، فليس من السهل أن تقدم رقاب العلماء هكذا رخيصة بدون ثمن.
هذا صبحي الصالح رحمة الله عليه في لبنان ، ذهبت روحه بأيد عابثة، وهذا إحسان إلهي ظهير ، وغيره وغيره عبر تاريخ الإسلام القديم أو تاريخ الدعوة الحديثة، وحتى هذه اللحظة لم نجد بين دعاة المسلمين من يطبق هذه الوصية التي نادى بها ولي العهد كل مواطن خفير، وعندما نقول هذه الكلمة، لا نقولها بالمفهوم القومي المجرد بل نقولها بالمفهوم الإسلامي، حيث أن كل مسلم عليه أن يجعل من نفسه حارساً أميناً على دينه وعقيدته وأهله وجيرانه، ثم علماء المسلمين.
كل مواطن خفير، أن تكون هناك مجموعة قبل إلقاء أي محاضرة لأي عالم من علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن تكون هناك مجموعة جردت نفسها لله رب العالمين، وتقدم روحها، ما معنى الكلام الذي كان الصحابة يقولونه للرسول صلى الله عليه وسلم أو للصحابة أنفسهم على حسب مراتبهم وأهميتهم في الدولة الإسلامية، عندما يقول: بأبي أنت وأمي، فداك نفسي وأهلي ومالي، هذا الكلام ما قالوه مجاملة بل قالوه صادقين، حيث أن كل واحد منهم يفدي أخاه بنفسه وروحه.
ذهاب مائة من عامة المسلمين أهون عند الله وعند الدعوة وعند الإسلام من ذهاب عالم واحد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا الأمر ليس من عندي، بل هذا الذي تعارف عليه السلف الصالح، الحجاج عندما ذبح سعيد بن جبير من الوريد إلى الوريد، ماذا قال الحسن البصري ؟ قال: ذبح الحجاج سعيداً، ولا يوجد أحد على وجه الأرض إلا ويحتاج إلى علمه.
فهذا الكلمة التي قالها الحسن البصري وغيره تبين قيمة علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا على الدعاة المسلمين أن يأخذوا هذه الكلمة مأخذ الجد ومأخذ العمل، وهذا لا يكلفك درهماً ولا ديناراً، بل يجعلك مرابطاً مع المرابطين، وشهيداً مع الشهداء، ومجاهداً مع المجاهدين، حيث أنك تتبرع بنفسك لأي عالم وتوصي بهذا إخوانك في أسفارك، عندما تذهب إلى حلقات الذكر وطلب العلم فإن القيادات الإسلامية -أعني: العلماء- مستهدفون بالنسبة للفرق الباطنية ، كأمثال الإمام ابن باز حفظه الله ومتعنا الله ببقائه، وكأمثال فضيلة الشيخ حسن أيوب هؤلاء مستهدفون؛ لأنهم علماء نحسبهم صادقين ولا نزكي على الله أحداً، وكلمتهم تؤثر في جماهير المسلمين، لهذا هؤلاء المجرمون يخططون لقطع رأس جسد الأمة الإسلامية.
قال الله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48] هذه أول مادة من المؤامرة، أولاً: عملهم ليس عملاً فردياً، بل كان عملهم عملاً جماعياً ولو كان عملاً فردياً لقال الله سبحانه وتعالى: في المدينة واحد متهور، لكن أخبر بأنهم مجموعة تسعة، هذا يخطط، وهذا يجلب، وهذا يرسم، وهذا يراقب، وهذا يفجر، فلهذا الله سبحانه وتعالى بين، فقال: كان، ثم قال: في المدينة، معنى هذا أنهم ليسوا في الضواحي ولا في القرى، بل بلغ فيهم من التمكن أن أصبح لهم مستقر في العاصمة التي هي المدينة، فكلمة المدينة عندما تأتي في هذا يبين لك أنه في موقع غير مشكوك فيه، انتبه إلى الدقة القرآنية الله سبحانه وتعالى لم يقل في الضواحي ولا في القرى البعيدة، قال: في المدينة، أي: وصلوا إلى أماكن بين أحياء أهل المدينة حتى لا يشك فيهم أحد، أصبحوا منهم وفيهم.
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ [النمل:48]، كلمة (في) تفيد العمق، وسط المدينة، قال: (تسعة) ثم قال: رهط، أي: مجموعة متماسكة، بينهم رابط وإلا لا يسمون رهط، إلا أن يكون بينهم رابط إما عشائري أو تنظيمي أو تخطيطي أو كذا، تسعة رهط.
قال: (يفسدون) ولم يقل: فسدوا أو أفسدوا، وإنما قال: يفسدون بصيغة المضارع، معنى هذا أن الإفساد شعارهم في الماضي والحاضر والمستقبل، هذا الذي تفيده الكلمة القرآنية، يفسدون الآن كما فسدوا بالأمس كما سيفسدون في المستقبل.
قال: (يفسدون) هم موجودون في المدينة، لكن الفساد الذي ذكرته قال: (يفسدون في الأرض) الآية لا شك أنها تقصد الزمان والمكان والبشر الذي كان يخطط فيه، ولعلها أريد بها قوم صالح، وصالح عليه السلام، لكن كلمة الأرض تفيد العموم، بأن هذه المجموعة الضالة المضلة عندها استعداد لو تمكنت أن تفسد وتدمر الأرض ومن عليها، وأن شرها يصل مشرق الأرض ومغربها، وكلمة (يفسدون في الأرض) هذه مدلولها واضح، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤكدها، قال: (ولا يصلحون).
وهذا التأكيد العجيب يفسدون في الأرض ولا يصلحون، أي: لا تتوقع منهم أدنى نوع من أنواع الصلاح والإصلاح.
كلمة (في الأرض) هذه يجب أن نقف عندها تماماً حيث أن الحق يطارد في كل الأرض، أي مكان في الأرض يوجد فيه منادٍ ينادي بالحق، فإن هذا الحق مطارد قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ [النمل:49] وهذا مصيبة، القرآن لم يقل تقاسموا بالآلهة مع أنهم مشركون، لكن قال: تقاسموا بالله، أي: أنهم ظهروا عند تنفيذ الخطة بمظهر المتدينين واندسوا في الصفوف ويتقاسمون بالله بأنهم من أهل الله، وأنهم موحدون، وبأن لحاهم إلى هنا، وإلا كيف تجدي الحيلة ويجري المكر، حتى وصلوا إلى المزهرية التي على طاولة المتحدث ووضعوها عليها، دون أن يشتبه بهم أحد.
فالكلمة القرآنية عندما يقول: (تقاسموا بالله)، والتقاسم هذا يبين لك الحزم والعزم، وأيضاً قد يستغل السذج الكلمة القرآنية عندما يبدأ الواحد يقسم بالله سبحانه وتعالى على فعل باطل، هذا أما إنه ساذج مستغل، وما أكثر السذاج والمستغلين.
فبدأ يصبح عنده أخذ ورد في المسألة، اقتله أم لا أقتله، قال: لا. أنتظر حتى ينهي الدرس، فإذا صلى إماماً سوف أكون أنا خلفه، وبعدما يكبر المسلمين يصطفون أطعنه، فوقف خلفه، وهو يصف الصفوف ويحرص على صف الصفوف وتسوية الأقدام والأكتاف، قال: هذه سنة لا يمكن أن يسب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحرص على السنة في الصف، فزادت المسألة عنده يقين؛ لأنه لا يمكن هذا يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما كبر، وأخذ يقرأ القرآن وسمع منه القرآن، قال: لا يمكن أن القرآن هذا الذي أثر فيني، والذي على يميني يبكي والذي على شمالي يبكي يخرج من واحد يسب أصحاب محمد، فقال: الآن أؤخر المسألة إلى بعد الصلاة، تردد إلى أن سلم الإمام.
وبعد أن سلم الإمام جاءه هذا المريض وقرأ عليه، وجاء من عنده مشكلة حلها له، وجاء هذا عنده فتوى أفتاه، فرأى المسألة في خلال المشاهدة خلاف ما قيل، فجاء إليه، وقال له: أنا سمعت عنك كذا وكذا، أنك تسب أصحاب محمد، والعالم الفلاني أخبرنا بذلك، وأنا جئت أقتلك بالسكين، وأظهر له السكين، فقال المودودي وهو يبستم، قال: الإسلام لا يجيز لي أن أشتم العالم الذي دفعك لهذا، فكيف أجيز لنفسي أن أشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! فبكى هذا المتحمس وحمد الله سبحانه وتعالى أنه لم ينفذ بالمجهود الشخصي والحماس المتهور؛ فيقطع ركناً من أركان أمة محمد بهذا العالم الجليل رحمة الله عليه.
الشاهد: أن هناك بين عوام المسلمين من عنده هذا الحماس، ويأخذ الكلمة من فم العالم مباشرة دون أن يتحقق فيها، ويتفاعل معها في الحال وينفذها، فلهذا عندما يذكر الله: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ [النمل:49] هذا يبين لك أن القضية فيها أناس سذج، فيها أناس مُستَغِلون، وفيها أناس يخططون بجد وعزم.
فهذا النبي وهذا الرسول وهذا الداعية يذهب إلى الحوائج وإلى الدروس وإلى الدعوة وإلى السفر فعندما يشرك في المخطط أهله الأبرياء الذين لا ذنب لهم، أين من يدفع عنهم ويبذل الأسباب أسباب الدفع؟ هل ذكر الأهل في هذه الآية عبثاً، والله لا يعبث سبحانه وتعالى، معنى هذا أن الداعية مستهدف وذويه ومن حوله.
لهذا إحسان إلهي ظهير رحمة الله عليه استشهد وما يقارب سبعة أو تسعة من العلماء معه، فلهذا قال: وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ [النمل:49] من هو وليه؟ زعيم العشيرة أو زعيم القبيلة أو الوجيه الذي يجيره كما كان صلى الله عليه وسلم يدخل مكة بجوار واحد من الكفار، أو الحاكم الذي سيطالب القانون بالقصاص: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ [النمل:49] العجيب أنهم لم يقولوا: ما شهدنا مهلكه هو، لكن قالوا: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49] كيف صادقون وأنتم تقومون بجريمة قتل أبرياء؟ قالوا: لأننا قتلناهم في الظلام ولم نر المقتول، أي: بما أننا لم نر بالعين المجردة إذاً نحن صادقون، هذه حيلة يحتالونها.. مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49] الأصل والمخطط له لم يذكروه، لماذا؟ لأن هذا له دواعٍ لقتله، فبعض الناس مع الأسف الشديد يقولون: قلعته، وهذا كنا نسمعه مع أنه تعرض لغدر، لو ما قال هذا الشيء، هو الذي اغتاله لسانه، اغتاله فعله، اغتالته مقالته، اغتاله كتابه، ويبدأ يشمت.
بدل من أن ينصروه ويعزروه ويؤيدوه يشمتوا، وهذا تجده عند كثير من عوام المسلمين، بدل أن يترحم، لا، يقول لك: لماذا يذكر في أشرطته أو في كتبه ويتعرض لهم، فلهذا لم يأتوا بذكره هو في الآية، إنما جاءوا بذكر الذي تستدر له العواطف، نحن برءا، لم نقتل الأطفال والنساء، لكن هو يستحق، هم لم يتكلموا عنه، لكن في الحقيقة كأنهم يقولون بسكوتهم عنه أنه يستحق ذلك، هذا شيء نفسي، القرآن عندما يتكلم بهذه القضايا ويذكر شيئاً ويترك شيئاً، هذه قضايا نفسية وأشرار الكلمة القرآنية لها دور .. مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49] واللام هذه لام التأكيد، ولام القسم تعني أن هناك من يؤيدهم، الصحافة سوف تشجعهم وتضع صور هؤلاء المشعوذين الذين يستحقون مثل هذا العمل، وسوف يصدقهم القانون والإعلام.
ماذا كان الرد الإلهي لهذه القضية التي وصلت إلى جريمة اغتيال لنبي رسول وأهله، وفي النهاية يصير المجرم صادقاً، وبلام القسم، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49].
إذاً فعلهم هذا لن يصلوا إلى تحقيقه إلا بأسلوب المكر، ولا يمكن أبداً أن يكون بأسلوب الجهر، دائماً في الظلام خلف الكواليس، تخطيط غدر وخيانة هذا هو المكر، بماذا يقابل؟ قال: يقابل بمكر، هم يمكرون مكراً، والمخلصون الصادقون لا يشعرون، قال الله سبحانه وتعالى: وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] لا حظ المقابلة، فـإحسان إلهي ظهير ما كان يشعر، ولا من حوله كانوا يشعرون، أناس متعودون مثل الكويت بفضل الله ومنته بلد أمان وإسلام، والناس لا تزال نياتهم صافية ويحسنون الظن، فلا يشك في المزهرية أو في غيرها.
فلهذا لا يشعرون، فالله سبحانه وتعالى ذكر هذه الكلمة حتى يحرك مشاعر الحساسية المرهفة، والحذر الذي كان يتردد في القرآن دائماً: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102].
لم يقل: ومكروا مكراً ومكرت مكراً، إنما قال: ومكرنا، إن شئت فقل: هذه نون التعظيم والله يعظم نفسه لا إله إلا هو، كما يقول -ولله المثل الأعلى- الحاكم: نحن السلطان، ويريد بـ(نحن) -صيغة الجمع- يريد بها التعظيم، أو ومكرنا: أي: الله بأمره والملائكة الذين شاركوا في تنفيذ هذا الأمر والتدمير الذي كان على أيديهم .. وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] واحدة بواحدة، هم يخططون في الخفاء ونحن نخطط في الخفاء.
فَانْظُرْ [النمل:51] الخطاب يوجه مباشرة الآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الآيات المكية، حيث أن قريشاً تخطط الليل والنهار لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوِّج هذا العمل بليلة الهجرة إذا جمعوا له أربعين شاباً بأربعين سيفاً، يريدون تفريق دمه في القبائل حتى لا يستطيع أحد أن يقاوم، الآن الله سبحانه وتعالى يوجه نظر الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة .. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51] دمرناهم، أي: لا يفيد إلا التدمير، وقومهم: الذين يشاركون ويصدقون ويطبلون ويزمرون، دمرناهم وقومهم أجمعين فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ [النمل:52] بلا سكان وبلا حركة: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:52] (لآية): أي: لعبرة، لقوم يعلمون: علماء يعرفون عمق هذا المكر، وعمق هذا التخطيط، فالقضية قضية علمية.
فالإيمان طريق النجاة، والتقوى طريق النجاة، التقوى الحذر الذي يقيك غدر الغادرين، ومكر الماكرين، التقوى التي تقيك خبث الخبثاء، وكيد الكائدين.
تصور لما أرسل أسامة بجيش المسلمين إلى حدود الشام ، لم يبق في المدينة حراسة ولا جند إلا كبار السن والأطفال والنساء وأبو بكر ومجلس شوراه فقط، لكن كان يرسل عيوناً وجواسيسَ على القبائل، الأقرب فالأقرب، فيأتونه بسرعة، ويقولون: القبيلة الفلانية جمعت لك يا أبا بكر، فيخرج لها في الليل، يبيتها في الليل، ويضرب ضربته القاضية وينشرهم في الجبال، ويأخذ إبلهم وأسراهم ويعود، تأتيه العين الثانية من القبيلة الفلانية وتقول: بدءوا يجمعون لك، مباشرة يخرج في الليل إلى أن عاد جيش أسامة ، هذا يبين لك أن أبا بكر الصديق كان في قمة الوعي في قضايا المكر والغدر والتخطيط.
فسمح عمر بن الخطاب لحدادين يدخلون المدينة ؛ لأن كل أربعة أشهر عمر يرجع جيشاً ويدفع جيشاً، فالجيش الذي رجع يرمم نفسه، الذي سيفه مكسور يصلحه، والذي رمحه مكسور يصلحه، والذي حصانه ليس معه حذوة يركب له حذوة، والذي خنجره يريد سناً يسن له ويدفعه مرة ثانية، وكان مكره أخاك لا بطل، بحيث أنه كان يقول للعباس ويقول لـعبد الله بن عباس ، ويقول لكثير من هؤلاء قال: [دعوا عنكم أولئك العلوج لا تدخلوهم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لا آمنهم] كان يقول عمر ذلك، وكان يريد تحديداً، أي: اثنين أو ثلاثة أو أربعة فقط، ولكنهم كثروا، لكما وقع عشرة قال: أنت ماذا تعرف؟ قال: أنا رامٍ والآخر يقول: أنا أصقل سيوفاً وآخر يقول: أنا أصنع كذا، بعد ذلك مباشرة يفتح له دكاناً ويعطيهم مادة الخام ويجعلهم يعملون.
لا تظن أن الصحابة رضي الله عنهم لا يرغبون في المال، لا. هم بشر يرغبون في المال ويرغبون في الغنيمة، ويرغب أنه يفتح له دكاناً، ويرغب أنه يتاجر، هم بشر رضي الله عنهم وأرضاهم، فلهذا عمر بن الخطاب كان متضايقاً جداً من هؤلاء الناس، إلى أن حدث مقتله، وكان هناك حداد أرسله المغيرة بن شعبة من البصرة من الأسرى، وجاء وكلما جاء الأسرى مسح على رءوسهم ذلك الحداد أبو لؤلؤة المجوسي ، وكما تعلمون أنهم يظهرون الإسلام ويتكلمون اللغة العربية، كانوا أذكياء في ذلك الوقت، يأخذ الكلمة ويفهمها ما مر عليهم سنة والجهاد الإسلامي في عهد عمر كم سنة؟ عشر سنين، أي: الذي عمره عشر سنين أصبح عمره عشرين سنة، والذي عمره عشرون سنة يصبح كفصاحة العربي في المدينة المنورة.
كانوا يصلون معهم في المساجد، ويتكلمون بلغتهم، ويلبسون لباسهم، وهنا كانت الطامة الكبرى، ولما جاء أبو لؤلؤة في صلاة الفجر وطعن عمر بالخنجر له نصلين نصل عن يمين ونصل عن شمال والمقبض في الوسط، وقام الصحابة لكي يمسكوه أخذ يضرب يميناً وشمالاً حتى قتل إحدى عشر شخصاً، انظر دائماً القتل الجماعي يكون بهذه الطريقة.
عمر رضي الله عنه وأرضاه قصته طويلة، لكن ابن عباس جاء، فقال له عمر : [أما قلت لك ولأبيك، ألا تكثروا من العلوج فأبيتم إلا ذلك، فقال: الآن يا أمير المؤمنين إن شئت ضربنا أعناقهم، قال: الآن! كذبت ورب الكعبة، بعد أن صلوا وراءكم وتكلموا بلسانكم] يغضب عمر غضبة عظيمة وهو في لحظات الاحتضار؛ لأن القضية ليست قضية عمر ، قضية أمة وشعب الآن تداخلوا هؤلاء فيهم، يصلون صلاتهم ويدخلون مساجدهم، ويتكلمون بكلامهم، ويأكلون أكلهم، ويلبسون لبسهم، أين الصادق من الكاذب؟
فلهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يريد علاج المسألة وحصرها من أولها ولكن لم يكونوا على كيفه، المصلحة العامة يا أمير المؤمنين، جيوش تحتها سلاح، ضغط، فانظر: اغتيل عمر ، واغتيل علي ، واغتيل عثمان ، وظلت تمشي سلسلة إلى يومنا هذا، ولا يزال المسلمون -مع الأسف الشديد- بنفس السذاجة والبساطة والطيبة التي كانوا عليها.
فزماننا هذا زمان شر، وزمان حذر، فعلى الدعاة أن ينتبهوا ولا يقدموا رقاب علمائهم بلا ثمن، السيارة عندما تقف وتكون معروفة لا بد أن يكون هناك من يراقبها ومن يحرسها وله أجر الرباط عند الله سبحانه وتعالى: (عينان لا تمسهما النار) إذا سافر للدعوة في سبيل الله لا بد أن يكون هناك حراس على في بيت هذا الداعية إلى أن يعود؛ لأنه مستهدف، بعد أن يذهب إنا لله وإنا إليه راجعون! لله ما أبقى ولله ما أخذ، اللهم أجرنا في مصيبتنا، ماذا يفيد هذا؟ ركن من أركان الأمة الإسلامية انهدم، مستحيل، أمة الإسلام هل ستعوض بعالم دوخ الفرق بهذه العقلية العجيبة؟ يقول لك: ارجع إلى الكتاب الفلاني الصفحة كذا، المكتبة الفلانية في الورقة الفلانية في السطر الفلاني تجدهم يقولون كذا وكذا، أين نجد مثله؟!، إنه كنـز من الكنوز ذهب من بين أيدينا، والله سبحانه وتعالى في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، كان يؤكد هذا المعنى الهام، فدعاة الإسلام وقيادات المسلمين وعلماؤهم يجب على المسلمين دائماً وأبداً أن يتجردوا وأن يتطوعوا لحماية هؤلاء وأن يكون كل داعية خفيراً لله ولرسوله ولكتابه ولعلماء المسلمين وعامتهم، وذلك من النصيحة وهو نوع من أنواع الجهاد.
ليس هذا الكلام خوفاً من الموت أو زهداً في الشهادة، فالشهادة أسمى أمانينا، والموت في سبيل الله طريقنا، لكن هي أسباب مبذولة كما كان يقول صلى الله عليه وسلم، حيث أنه كان في جهاده كان يظاهر بين درعين، وفي هجرته يغير طريق الهجرة والسفر ويدخل في الغار، ويعتبر الله دخوله في الغار نصراً، دخوله في الغار -وهو اختفاء- اعتبره نصراً: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] فنصر الله دخوله الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] أين هو الآن؟ في الغار، وهذه المعية أين حلت؟ في الغار، فهي معية خاصة من الله له.
فإذاً: بذل السبب يجب أن يفهمه الدعاة، وأن يحرصوا كل الحرص على علماء الأمة، ولا أشك من خلال قراءتي وتتبعي للبهائيين والقديانيين والماسونيين والمارونيين وجميع الباطنيين أنهم الآن يخططون لهذا الإسلام على مستوى الجماهير، لم يستطيعوا حرف التوحيد من القلوب، إذاً.. بقي أن نتركهم قطيعاً بلا رعاة، وهذه التجربة أخذوها من مصر، حيث أن في مصر تخطفت القيادات إما قتلاً أو سجناً، فماذا خرج في الساحة؟ جماعة التكفير، وجماعة البلوى، وأناس يكفرون أناساً، لماذا؟ لأنه لا يوجد علماء يبصرونهم ويفهمونهم، كل أربع أو خمس قرى له كلمتين وطار بها مثل البركان، فهم يريدون الإسلام الذي من هذا النوع.
فعلماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم يفهمون الناس، انظر: لماذا الدعاة الآن في الكويت دعاة بركة، لا ترى منهم إلا لجان الخير، وترى منهم الدعوة الهادئة، والسير المستقيم، الأمير راضٍ وولي العهد راضٍ، والتجار والمحسنون راضون، لماذا لا يوجد سجون ولا معتقلات؟ لأنه يوجد في الكويت رجال كبار علماء عقلاء، يبصرون هؤلاء الشباب كلما خرجوا أربعة أو خمسة هذا كافر؟ قال: لا. تعال، طلع شخص يخطب، قال: هذا كافر، قال: لا، وقفوه! وهكذا بحيث أنه يجعلونهم يمشون على الطريق المتزن الذي دائماً يدفع الأمة كلها إلى الخير والسداد والرشاد.
فيا أحبتي في الله: هذه قضية هامة يجب أن نحياها ونعيشها، وبلدنا هذا بفضل الله .. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15]، فيه من الخيرات والفضل والعطاء الإلهي والحماية والكفاية والرعاية التي لا تجدونها في بلد آخر.
فأنتم -أيها الأحباب- تواصوا فيما بينكم وبين الدعاة الصادقين المخلصين بأن يجعل كل واحد منكم أن يكون حماية وسبباً لهذه الحماية لدعاة المسلمين وعلمائهم، وأن يبيت الداعية على هذه النية ويستيقظ على هذه النية.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفينا ويكفيكم، ويحمينا ويحميكم، وأن يحفظنا بحفظه، ويكلأنا برعايته، هو ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مجاهداً إلا نصرته.
اللهم إنا نسألك أن ترحم موتانا وموتى المسلمين وعلماءهم الذين انتقلوا إليك، اللهم أفسح لهم في قبورهم، اللهم اجعلها روضة من رياض الجنة، اللهم اجعل موتنا شهادة، ودماءنا مسكاً، واجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقياك، اللهم من أراد بنا والمسلمين سوءً فأشغله بنفسه، إنك على ذلك قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر