اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك منها غير مفتونين، اجعلنا هادين مهديين غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك.
أما بعد:
أيها الأحباب الكرام! إني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه ويجمعنا في مستقر رحمته وبره ورضوانه في الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم إنا نسألك أن تنصر المجاهدين وأن تكرم الشهداء، وتثبت الغرباء، وتفك المأسورين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل هذا البلد وسائر بلاد المسلمين سخاءً رخاءً، أمناً وإيماناً، ألَّف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم أصلح أزواجنا وأولادنا وبناتنا وأرحامنا وجيراننا، واجعلنا لجميع المسلمين هينين لينين كالأرض الذلول يطؤها الكبير والصغير، وكالسحاب تظل البعيد والقريب، وكالمطر يسقي من يحب ومن لا يحب.
اللهم اجعلنا مبشرين وميسرين، ولا تجعلنا معسرين ومنفرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأحباب! قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام مالك : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وتبين من رسالته صلى الله عليه وسلم أن الدين هو الأخلاق، وأن أركان الإسلام إنما جاءت لتنبثق منها الأخلاق فيتحول محراب المسجد وجوع الصائم، ونفرة الحجيج، وأموال الزكاة، كلها تتحول في النهاية إلى سلوكٍ وأخلاقٍ، وكرم وفضائل تنعكس في حياة الناس؛ فيذهب عنها الحقد، ويذهب عنها الغل والغش، ويصبح الناس كلهم في محاسن الأخلاق ومكارمها التي تممها محمد صلى الله عليه وسلم فيهم عن طريق العبادة وعن طريق الزكاة، وعن طريق الحج، وتتحول الشعوب الإسلامية نماذج لهذا الدين، نماذج للقرآن، ويصبح كل واحد منهم قرآناً متحركاً بين الناس.
لا نعجب وإن الله سبحانه وتعالى عندما ينادي في القرآن ينادي من؟ (يا أيها الذين آمنوا...) نداء الإيمان، ثم بعد ذلك: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] (يا أيها الذين آمنوا...) الإيمان الذي تُنادى أنت به يقول الله لك: اتق الله فيه، حافظ على السمعة الإيمانية، حافظ على السمعة الإسلامية، إذا كنت في بلدك أو في السفر، في بيتك أو في المعمل، مع نفسك أو مع الناس، اتق الله يا من أناديك بالإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] احرص على الرفقة الصادقة أينما تكون؛ لأنك أنت بهم وهم بك، وكلكم شهودٌ على الناس والرسول عليكم يوم القيامة شهيد.
أحبتي في الله! ابتداءً من هذا الدرس سنجول في رياض الأخلاق الإسلامية كل سبتٍ إن شاء الله بين المغرب والعشاء في جمعية الإصلاح، ورحم الله مسلماً ومسلمة أتى بأخٍ له وجره معه إلى الجنة، فحلق الذكر من رياض الجنة تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة وتنزل عليها السكينة، ويذكرهم الله فيمن عنده، وفي الملأ الأعلى، أرجو أن يكون في الأسبوع القادم إن شاء الله ضعفي هذا العدد: (ولأن يهدي الله بك رجلاً خيرٌ لك من حمر النعم).
الفحشاء ..المنكر: كلمتان استوعبتا الرذائل كلها، الرذائل إما فحشاء أو منكر، ويخرج الإنسان من الصلاة نقياً تقياً يدب على وجه الأرض رحمةً مهداة من بيوت الله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يذكر عن ربه حديثاً قدسياً يرويه البزار ، يقول الله فيه: (إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي، وقطع النهار في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب) هذه هي الصلاة وآثار الصلاة.
يقول: نعم. نحن منذ الصغر تربينا على المثل القائل: ساعة لربي وساعة لقلبي، فساعة ربي في المسجد وساعة قلبي لهواي أفعل ما أشاء، وهذا عليه قطاعٌ من الناس كثيراً ما كنت أشاهدهم في أسفاري ولا أبالغ إن قلت لكم: إن أثر السجود في جبينه لكثرة ما سجد لمولاه، ولكن لا يتورع من الوقوع في الكبيرة.. هذا انفصام عبادي عقيدي، الله قال عن الصلاة: تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
يؤسفني عندما تفرغ المرأة من صلاتها ثم تجتمع مع أخواتها في جلسة شاي ويخوضون بعد ذلك في غيبة أو نميمة في أحوال الناس، الصلاة التي قضتها قد تكون مدتها عشر دقائق ولكن جلسة الغيبة والنميمة قد تمتد إلى ثلاث ساعات، والرسول صلى الله عليه وسلم أمام كلمة واحدة قالتها إحدى أمهات المؤمنين، وفي بعض الروايات أنها ما تكلمت وإنما أشارت، دخلت عليها أم المؤمنين زينب وكانت قصيرة فأشارت بيدها أنها قصيرة إشارة استهزاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) أي: لمزجته نتناً وخبثاً ورائحة كريهة، لأن الله لا يحب الغيبة.
كم من الناس يتورط فيها، لا يحلو مجلسه إلا بها، وبعض الناس يظن أنها تجوز في حق الفاسق أو تجوز إذا قيل للإنسان ما فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم يبين أن ذكرك لأخيك بما فيه غيبة، وإذا لم يكن فيه فإنه البهتان العظيم الذي هو أشد من الغيبة.
بعض الناس يظن أن فريضة الزكاة ضريبة مالية إذا أخرجها من ماله وأداها انتهى الدور الذي عليه، ماذا يقول الله؟ يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] إذاً الزكاة تطهير وتزكية، والتزكية هي التربية، معنى هذا: كما انفتح قلبـي لمولاي في الصلاة انفتح جيبي للمساكين بالزكاة، وتبدأ يدي تمتد فتمسح الدموع التي تنحدر من عيون الثكالى واليتامى والمساكين، وتبدأ يدي تمارس عملية الإطعام: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:8] ويؤتون المال ذوي القربى على حبه، فالقضية قضية عاطفة وممارسة لهذه العاطفة النابعة من القلب قبل أن تنبع من الجيب، أي: عندما أعطي المال للمسكين لا أحس أنني متكبر عليه، أو أني متفضل عليه، أو أنه مكسور القلب وأنا مجبور القلب، لا. ابن القيم رحمة الله عليه يقول: إن الله يسوق الفقير إليك فيقرع عليك بابك ليذكرك بفقرك إلى الله؛ لأنك غافل، أنت تفتقر إلى الله بهذا النفس، بمجاري الدم، بطرفة العين، بحركة شعيرة من عروقك، بنبضات قلبك، بجريان دمك، بدفع الأعداء المحيطة التي تراها والتي لا تراها، كم من الفيروسات والجراثيم والميكروبات تدفعها حفظة تنزل عليك من الله كل يوم: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ [الرعد:10-11] ولولا هذا الحفظ لهلكت.
إذاً: المراد من الزكاة: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
فمن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم |
شعار عجيب!
إذا لم تكن ذئباً على الناس أطلساً كثير الأذى بالت عليك الثعالب |
ويزيد: (وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة) في أرض الضلال، ولا يشترط (في أرض الضلال) أن يكون ضائعاً في البر، بل قد يكون مسافراً يدخل بلدك لأول مرة لا يعرف، لا يعرف المكان الذي يريد أن يذهب إليه، أنا يعجبني كثيراً عندما أرى شاباً يسأله مسافر غريب عابر سبيل: يا أخي! أين المكان الفلاني؟ أين السوق الفلاني؟ أين الجمعية الفلانية؟ أين الفندق الفلاني؟ فيقول: تفضل يا أخي، اتبعني بالسيارة، ويسير أمامه حتى يوقفه إلى المكان الذي يريد! فتكتب له في سجله صدقة عند الله رب العالمين.
هذا الرجل عندما يعود إلى بلده ماذا يقول؟ ما رأيت أكرم من أهل الكويت ، ولا أحسن من أخلاقهم، فوالله ما سألت أول واحد منهم عن المكان الذي أريد إلا وسار أمامي، فأوصلني حتى لا أضيع! ياله من جود! يا له من خلق! يا له من كرم! ويظن أن أهل الكويت كلهم هكذا.
ولعل كل واحد منكم وقعت له نفس التجربة في بلد سافر إليه، أنا أذكر أني ذهبت إلى أحد البلدان -في الستينات وليس الآن- وضعت، فوقفت عند دوار أسأل شرطي مرور قلت: يا أخي! أين الطريق الفلاني؟ قال: ادفع ديناراً. والله يا إخوان قلت: كيف أدفع ديناراً؟ قال: حتى أقول لك ادفع ديناراً. قلت له: مشكور. أضل ضائعاً والدينار أرميه في الشارع وأحافظ على مبدئي ولا أذل نفسي، وأخذت أدعو ربي إلى أن عرفت الطريق.
الشاهد: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجعل الصدقة قضية مال فقط، واحد يدفع وواحد يأخذ وتنتهي القضية، لا. يجعل الصدقة ممتدة في الشارع، في السوق، في البيت، في الصحراء، في المدينة، في المدرسة، في المعمل، في المصنع، في الفلاحين، في الغيط، هناك عند الزرع عندما يبدأ الواحد يتعب ويسحب الماء، يقول عليه الصلاة والسلام: (وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة) أدب قرآني جم! يذكرنا بقصة موسى عليه السلام عندما رأى ابنتي شعيب، فسقى لهما بكل رجولة وكل شهامة وكل أدب، هذه الأخلاق القرآنية يحث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، كثيرٌ من الناس يمدح أوروبا ويمدح الغرب يقول: يا سلام.. نمر في شوارع لا تجد فيها عود كبريت! لأنهم لا يلقون في الطريق العام النفايات، هذا ما شاهدهم طبعاً في ليلة الكريسمس وعيد الميلاد عندما ينزعون كل القيم والأخلاق، وتتحول الشوارع والطرق إلى صفائح وعلب وزجاجات وسجائر.
شخص آخر أوقف سيارته في مكان فيه منحدر وبدل أن يمسكها بالفرامل رجع السيارة؛ لأنه مستعجل لإماطة الأذى عن الطريق فوضعها فرجعت السيارة بعد أن نزل وهربت السيارة منه وهو يركض وراءها والعالم عن يمينه وعن شماله، ثم في الأخير أوقفها الجدار، كل هذا من أجل إماطة الأذى عن الطريق؛ لأن فقه الإماطة لم يكن يعلمه، أنت تنظر إلى المنكر وأنت تنكره انظر إن كان يتولد ما هو أنكر منه أم لا.
نعود إلى الحديث: (تبسمك في وجه أخيك صدقة، أمرك بالمعروف، نهيك عن المنكر صدقة، إرشادك الرجل في أرض الضلالة صدقة، إماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة) وإذا الناس كلهم متعاونون، فالأعمى سيجد له ألف عين تقوده، والمتأذي والعطشان يجد له ألف دلو يسقيه، ويتحول الناس فجأة إلى عمال نظافة فلا يحتاجون إلى الشركة الفلانية أو إلى الشركة العلانية، وإنما هي مسئولية فردية لكل مسلم.
ومن يزهد في الصدقة؛ لأن ميزان الله حساس، ميزان الله يزن الذرة، والله مرة من المرات يا إخوان ذهبت لزيارة رئيس جمعية الإصلاح أبو بدر عبد الله العلي، وبعد خروجنا من المسجد وضع بشته تحت إبطه وجلس على الأرض وأخذ يلتقط حبات زجاج صغيرة، يجمعها بيده لكي يضعها تحت الجدار، فقلت له: يكفيك أن تأخذ القطع الكبيرة التي تجرح الناس أما هذه فلا بأس فالحديث يقول: (أمط) الحديث لم يقل: لقط، قال أمط أي الذي تقدر عليه خذه وامش، قال: لا. أنت تعرف أن ميزان الله يزن مثاقيل الذر: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] حبة الزجاج هذه كم ذرة فيها؟ قلت: آلاف الذرات. قال: فلعل ميزاني يقف يوم القيامة على ذرة واحدة. لا شك أن السلوك والأخلاق والتربية يتعلم فيها الإنسان ليس من القراءة والمحاضرة، من المعاملة اليومية والممارسة.
أنا تعلمت منه درساً وكنت أعلِّم الناس، قد يقف ميزاني على ذرة واحدة أبحث عنها في عرصات يوم القيامة، وقد يأتي يحملها ملك يقول: هذا المسمار الذي رفعته من طريق الناس.
الحديث الأول رواه البخاري والثاني ابن خزيمة .
الآية تقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] التقوى: هي الأخلاق.
كذلك فريضة الحج، بعض الناس عندما يؤدي فريضة الحج يؤديها على أنها متعة، على أنها رحلة تتغير فيها أنواع الأطعمة، تتغير فيها الرفقة والصحبة، يتغير فيها الجو المألوف، تتغير الحياة فيعود مشتاقاً إلى أم العيال وإلى العيال وإلى الوظيفة وإلى البيت ويبدأ يتكلم: طبخنا وأخذنا ووضعنا واشترينا، الله سبحانه وتعالى لم يذكر من هذا الأمر شيئاً لما ذكر قضية الحج، ذكر قضية الحج ثم بين بأنها قضية أخلاقية. (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ينذر الله ويحذر الذي لا يفهم هذا المفهوم وهذا المقصود من العبادات: الصلاة، الصيام، الزكاة، الحج.. ينذره الله ويحذره بالعقاب فيقول: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ [طه:74-75] تلاحظون لما ذكر الإيمان لم يذكره وحده، ذكر معه عمل الصالحات، وعمل الصالحات هذه ما تركت شيئاً من الخير، كل ما هو صالح في حقك وفي حق دينك وفي حق الناس وفي حق أهلك فهو من العمل الصالح: فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:75-76] وذلك جزاء من حسنت أخلاقه وتمت تربيته وكملت شمائله وهي معنى كلمة التزكي: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15] لاحظ أن التزكية التي هي التربية لها علاقة بالصلاة مباشرة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) من يؤمن بالله قضية خطيرة، واليوم الآخر الذي فيه الجنة وفيه النار، وفيه الحساب، وفيه البعث، وفيه الصراط، وفيه الحوض، وفيه الميزان: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) قضية خلقية: قل خيراً، وإلا فاصمت.
الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد عبادة التمثيل هذه في حياة الناس، أنه يأتي فيصلي بهذه الحركات ثم يكون كنوداً وحقوداً، جحوداً، مشدود الأعصاب، ينفر بوجه كل إنسان، أهله، أولاده، أرحامه، أحبابه هم أشد الناس تأذياً منه.
قال رجل: يا رسول الله! فلانة، ثم ذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال: (هي في النار) ثم قال: يا رسول الله! فلانة، ثم ذكر من قلة صلاتها وصيامها وأنها تتصدق من الأقط، ولا تؤذي جيرانها. قال: (هي في الجنة) رواه الإمام أحمد .
إذاً: الأولى التي بشرها بالنار أذاها كان نابغاً من اللسان، وبعض النساء دائماً في حالة طوارئ وفي حالة استعداد، تركيبتها النفسية هكذا، أن طفلاً من أطفالها كذب: ضربني ابن الجار، أخذ دراجتي، أخذ لعبتي، قال عنه كذا؛ تسمع تحول البيت كله إلى قاعدة حربية تقذف صواريخ السب والشتيمة واللعن، وكأنها معركة أو جبهة لا تنطفئ نارها ولا يخمد أوارها، ويغلق الجيران الشبابيك ويضعون كاتم الصوت ويطولون القرآن حتى يذهب الشيطان..! ولا يخرج أبناء الجيران إلا وكل واحد منهم معه أمه وتحذره: يا بني! يا حبيبي! لا تلعب مع فلان. والثانية: يا بني! لا تأخذ لعبته. الرابعة: يا بني! لا تقف على الرصيف عند بابهم. الخامسة: يا بني! إذا مشوا من هذه الطريق فامش أنت من تلك الطريق.. هذه وأمثالها لها بشرى النار من الرسول صلى الله عليه وسلم.
سأل أصحابه عليه الصلاة والسلام يوماً قال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).
إذاً: هذا جاء بصلاة وبصيام وبزكاة وما نفعه ذلك؛ لأنه لم يستفد من هذه العبادات الأخلاق الإسلامية الكريمة.
فهذا الإنسان يصوره هذا التصوير، الخلق الحسن يذيب الخطايا، الخطايا مثل الجليد باردة تحرق كل أخضر وكل مثمر، لا أحد يستطيع أن يمشي عليها، يأتي الماء يحولها من جليد مؤذٍ إلى ماء رقراق تستفيد منه النباتات والإنسان والحيوان.
صورة ثانية: (والخلق السوء يفسد العمل) العمل ضرب له مثلاً: العسل، العسل فيه شفاء وفيه غذاء وفيه شراب وفيه طعام، لكن إذا وضعته على الخل لا استفدت من الخل ولا استفدت من العسل؛ لأن طعمه أصبح رهيباً، بدل ما كان دواء صار يكح منه، قال: (والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل).
إذاً: الأخلاق عندنا نحن المسلمين عبادة لا كما تقول الدكتورة/ نوال السعداوي في كتابها الذي يدرس في الجامعات: إنما الأخلاق كالثوب نلبسه متى شئنا وننـزعه متى شئنا، لا. الأخلاق عندنا نحن دين، قال الله عنها في كتابه لنبيه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وأمره أن يطهر ثوبه: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] لم يقل: وثيابك فانزع، متى شئت فالبس الأخلاق ومتى شئت فانزع الأخلاق، قال: لا، دع ثيابك عليك وطهرها بالأخلاق الطيبة الكريمة، وقال تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً)رواه الترمذي .. (. وسئل: أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: أحسنهم خلقاً
إذاً: أيها الأحباب! الإسلام يدور حول حسن الخلق.
نعود إلى الأحاديث لنسمعه يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وأشرف المنازل، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم) رواه الطبراني، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) وفي رواية: (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار) رواه أبو داود، وعن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه وكرم طبيعته) رواه أحمد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه) رواه الحاكم.
ويقول صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث: (وقلبه سليم، ولسانه صادق، ونفسه مطمئنة، وخليقته مستقيمة) بقية الحديث لـابن حبان.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول: (خياركم أحاسنكم أخلاقاً) رواه البخاري ، لم يكن فاحشاً متفحشاً .. هذه الكلمات تبين الذي نحن نسميه باللهجة العامية: هذا (إنسان ذرد الأخلاق وذرد القول) حتى أن بعض السلف الصالح يقول: خشيت لو قلت للكلب يا كلب، أن يمسخني الله كلباً! أي: أنه حتى الكلب لا يقول له يا كلب! كأن فيها شماتة عليه، فهم يبتعدون، وبعض الناس عندما أراد أن ينصح أخاً له في الله كان يفعل بعض الأفعال القبيحة لم يذكرها باسمها قال: يا أخي! الأفضل لو أنك كنت صادقاً. فقال له أخوه: لماذا لم تقل له: ألا تكون كذاباً؟ قال: أحببت أن لا يكتب الملك عليَّ كلمة لا أحبها، أن يكتب صادقاً خير من أن يكتب كذاباً.. انظر حتى الكلمة لا يريد ملك الحسنات أو ملك السيئات يكتبها؛ لأن هذه هي أخلاق الإيمان والإسلام.
ليس بالفاحش ولا بالبذيء، لهذا نحن عندما نجلس في مجالسنا في الديوانيات أو في الشاليهات نحرص كل الحرص ألا نضحك الناس عن طريق (النكتة البايخة) التي لا يضحك عليها الناس إلا إذا كانت بايخة، فيها كلام وسخ، فيها كلام لا يريده الإنسان ذو المروءة وذو الدين وذو الخلق، ويؤسفني كثيراً أن بعض الناس لا يبالي في هذا الجانب، بل يفرحون إذا جاء فلان، من هو فلان هذا الذي وصل وتهشون وتبشون لقدومه؟ الذي يورد النكت السيئة، نكت جنسية، نكت قليلة الحياء، قليلة المروءة، ويصدرونه في المجلس يالله تفضل! هذا ليس من الإسلام في شيء، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالفاحش ولا بالبذيء، وفي الدرس القادم نأتي بشمائل محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقه حديثاً حديثاً؛ لأن الله أمرنا أن يكون هو قدوتنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلم.
اللهم هب لنا مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال؛ فإنه لا يهب مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال إلا أنت، اللهم اجعلنا هينين لينين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر