إسلام ويب

إرشاد العباد ليوم المعادللشيخ : أحمد القطان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للتوبة أهمية بالغة، ولقبولها موانع دامغة، وفي حياة السلف -رحمهم الله- حكم ومواعظ وصايا يحتاجها المشتغل بهذا الموضوع، الذي يهم الكل، ويهمله الجل. تحتوي هذه المادة -بالإضافة إلى ذلك- على نصائح وتوجيهات لأهل العلم، وبيان للأسباب الجالبة للسعادة في الدنيا والآخرة.

    1.   

    علامات إغلاق باب التوبة وشروط قبولها

    الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي يؤلف بين القلوب ويجمع بين الأرواح، وأصلي وأسلم على قدوتي، وقرة عيني، وحبيبي محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين، والتابعين ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين.

    اللهم لا تثكلنا بعدهم، ولا تحرمنا أجرهم، واحشرنا في زمرتهم، وأدخلنا معهم جنات النعيم، نشهدك اللهم على حبهم، فالمرء يحشر مع من أحب.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين!

    اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم من أراد بنا والمسلمين سوءاً فأشغله في نفسه، ومن كادنا فكده، واجعل تدبيره تدميره، اللهم إنا نسألك العافية في الجسد، والإصلاح في الولد، والأمن في البلد، اللهم من أراد زعزعة الأمن والإيمان في هذا البلد فأرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم اجعله رخاءً سخاءً، أمناً وإيماناً، صن في هذا البلد وسائر بلاد المسلمين أعراضنا، واحقن دماءنا، واحفظ عقيدتنا، وسلم أموالنا، واجعلنا في ضمانك وأمانك، وبرك وإحسانك، احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا، يا أرحم الراحمين!

    اللهم أصلح أولادنا، وأصلح بناتنا، وأصلح أزواجنا، وأصلح أرحامنا، وأصلح جيراننا، واجعلنا لجميع المسلمين هينين لينين، اللهم اجعلنا لهم كالأرض الذلول يطؤها الكبير والصغير، وكالسحاب يظل البعيد والقريب، وكالمطر يسقي من يحب ومن لا يحب.

    اللهم اجعلنا للمسلين رحمة ولا تجعلنا نقمة، اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها، ونعوذ بك من النار وجحيمها برحمتك يا أرحم الراحمين!

    أما بعد: أيها الأحباب الكرام.. فإني أحبكم في الله..

    ونلتقي من جديد في درس السبت في هذا المسجد المبارك مسجد الفارس، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفي إمامه العبيدان ويعافيه، وأن يمتعنا ببقائه إماماً لهذا المسجد إنه على ذلك قدير، ويشفي مرضانا ومرضاكم، ويرحم موتانا وموتاكم إنه على ذلك قدير.

    أحبتي في الله: الكتاب الذي أهديته إليكم هو: (إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد ) ومؤلفه الفقير إلى عفو ربه عبد العزيز السلمان وهو يوزع مجاناً، وقد قرأت هذا الكتاب فوجدته يرقق القلوب القاسية، ويدمع العيون الجافية، ويجعل الإنسان يتذكر معاده، وقدومه على مولاه، ويستعد لذلك اللقاء الرهيب العظيم الخطير بين المعبود وبين من يعبد الله، بين الخالق وبين المخلوق، وهذا ليس بالأمر اليسير السهل، لو استشعر كل واحد منكم أنه دعي ببطاقة لكي يقابل ملكاً من الملوك، والله يا إخوان لن ينام الليل وسيظل يتساءل وماذا يريد مني؟

    وكيف أكلمه؟

    وكيف أجلس أمامه؟

    وكيف أقوم وكيف أدخل؟

    وتبدأ شغلك الشاغل في طعامك ومنامك، وقيامك وصلاتك، حتى تنتهي من هذه المقابلة وترتاح، فكيف من يقابل ملك الملوك؟

    وهو رب العالمين، والأرض والسماء، والملائكة، والجن والإنس، والوحش، كلها قيام لله رب العالمين، قيام لله كما قال الله سبحانه وتعالى عن ذلك الموعد العظيم المضروب للبشرية والمخلوقات كلها، يقول الله سبحانه وتعالى وهو يذكر ذلك الموقف الرهيب العظيم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25] وإذا قامت السماوات والأرض من بقي؟

    إذا قامت السماء وفيها كل الملائكة، وإذا قامت الأرض وفيها الإنس والجن فمن بقي؟

    كلها قيام لله رب العالمين: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم:25] دعوة واحدة بين الكاف والنون كل الخلائق تنبعث من الأرض بإذن الله رب العالمين، موقف رهيب مرعب يجب على الإنسان أن يستعد له، وهذا الكتاب: إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد ، لعل بعضكم لم تصل إليه الهدية، أعدكم في السبت القادم إن شاء الله لمن يحرص على الصف الأول ستأتيه الهدية في الصف الأول، لما لهذا الصف من أفضلية عند الله سبحانه وتعالى، حتى لا يبقى أحد إلا ووصله هذا الكتاب المفيد بإذن الله.

    طلوع الشمس من مغربها

    وأنا أتجول بكم بين صفحات هذا الكتاب لنرى ما فيه من الحكم والعبر والعظات، فيه آيات وأحاديث وأشعار وأقوال وأمثال وحكم، يدعو إلى التوبة فيقول:

    فبادر متاباً قبل يغلق بابه     وتطوى على الأعمال صحف التزود

    ومثل ورود القبر مهما رأيته     لنفسك نفَّاعاً فقدمه تسعد

    هذان البيتان يقول: يا مسلم! بادر إلى التوبة ما دام الباب مفتوحاً، فباب التوبة مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، إذا

    طلعت الشمس من مغربها أغلق باب التوبة، وكما تعلمون أن من علامات الساعة الكبرى ظهور الشمس من المغرب، الناس ينامون في الليل ينتظرون ظهور الشمس من المشرق فيمتد الليل فلا يأتي النهار، الآن الساعة السادسة صباحاً أين الشمس؟

    الشمس ما طلعت، أين ذهبت؟

    يسألون الفلكيين، ويسألون أصحاب التقويم، ويسألون الأبراج ويتصلون بالأرصاد، ثم تكمل دورتها في اليوم الثاني فإذا هي تخرج من المغرب.

    عند هذه الآية العجيبة الغريبة يؤمن كل الناس، ولكن لا يقبل الله إيمان أحد، نعم. لا يقبله لأن الله قطع على نفسه عهداً إذا خرجت الشمس من مغربها فلا تقبل التوبة، لماذا؟

    لأن هذه الآية كانت متكررة كل يوم والناس غير منتبهين إليها، الذي أطلعها من المغرب هو الذي يطلعها كل يوم من المشرق وربها واحد، فلماذا تعصي أيها العاصي وتكفر أيها الكافر، وكل يوم الشمس المشرقة تشرق من الشرق وأنت لا تؤمن، فلما ظهرت من الغرب تؤمن؟

    إذاً أنت لا تعبد الله وإنما أثَّرت فيك ظواهر الطبيعة، فحركت عندك الخوف عند ذلك آمنت بالظواهر ولم تؤمن بالله رب العالمين، لأن الله رب المشرق ورب المغرب، ورب المشارق والمغارب، فإذا أنت ما آمنت برب المشارق، كيف تؤمن برب المغارب؟ الرب واحد لا إله إلا هو لا رب سواه ولا معبود غيره.

    عند الغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم

    كذلك يغلق باب التوبة عندما تغرغر الروح، الله سبحانه وتعالى يعطي العبد فرصة حتى تتقعقع الروح في الحنجرة كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26] الروح محبوسة فيها تريد أن تنزع، ما بينها وبين أن تنزع إلا أربع أصابع، وملك الموت مد يده لكي ينزعها: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] من يرقيه، ومن يشافيه، ومن يعالجه؟ اللجنة الطبية، التقارير، السفر إلى الخارج؟ ولا أي شيء: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:82-29] بدأ ملك الموت يعصره فالتفت الساق بالساق، حتى تفيض الروح إلى مولاها وخالقها، ففي هذا الوقت لا تقبل التوبة، فقبل الغرغرة تقبل التوبة فلهذا على الإنسان أن يبادر.

    يا نفس توبي قبل ألا     تستطيعي أن تتوبي

    واستغفري لذنوبك     الرحمن غفار الذنوب

    إن المنايا كالرياح     عليك دائمة الهبوب

    والموت شرع واحد     والناس مختلف الدروب

    1.   

    شروط قبول التوبة

    والتوبة لها شروط:

    من شروطها: الإقلاع عن الذنب، والندم والبكاء عليه عند تذكره، وأن يتبعه بالعمل الصالح: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً [الفرقان:70] يتكرر في القرآن ذكر الإيمان والعمل الصالح بعد التوبة مباشرة، عند ذلك يبدل الله سيئاتهم حسنات: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70].

    وإذا كان فيها حق من حقوق العباد، فلا تقبل التوبة حتى يرد ذلك الحق إلى صاحبه يستحله قبل موته، وإذا كان حقاً معنوياً يستحله، فإن لم يستطع دعا له في ظهر الغيب، فلعله يغفر له يوم الحساب الأكبر، ويقول الشاعر في هذا الكتاب:

    تذكرت في حشري ويوم قيامتي     وإصباح خدي في المقابر ثاويا

    فريداً وحيداً بعد عز ومنعة     رهيناً بجرمي والتراب وساديا

    تفكرت في طول الحساب وعرضه     وذل مقامي حين أعطى حسابيا

    وكيف رجائي فيك ربي وخالقي     بأنك تعفو يا إلهي خطائيا

    هذا هو الرجاء: أن نرجو الله سبحانه وتعالى أن يعفو وأن يغفر في ذلك اليوم العظيم.

    ثم يقول الشاعر الحكيم وهو يتكلم عن الرجل الذي يرتكب الذنوب الصغائر والكبائر:

    لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة     في السهو فيها للوضيع معاذر

    فكبائر الرجل الصغير صغيرة     وصغائر الرجل الكبير كبائر

    لهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والعائل المستكبر) أي: فقير مستكبر هؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة؛ نسأل الله العافية.

    1.   

    ست خصال موصلة إلى الجنة

    ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [من جمع ست خصال، لم يدع للجنة مطلباً، ولا عن النار مهرباً] أي: من فعل هذه الستة ما ترك طريقاً من طرق الجنة إلا وسلكه، ولا طريقاً من طرق النار إلا وهرب منه، ما هذه الطرق الست؟

    يقول: [من عرف الله فأطاعه] وكيف تعرف الله؟ تعرف الله من قراءتك لكتابه وهو كلامه، وأحاديث نبيه الذي أرسله يتكلم عنه، الرسول يتكلم عن المرسل، فالقرآن وصف الله، والسنة وصفت الله، فأنت من خلال معرفة هذه الصفات والأسماء تعرف الله.

    كذلك تعرفه عن طريق نعمه وفضله وبره وجوده، وكم لله علينا من نعم منسية، أحدنا يتذكر نعمة الله في الطعام والشراب، والمريض يتذكر نعمة الله في العافية، والأيم يتذكر نعمة الله في الزواج، والفقير يتذكر نعمة الله في الغنى... إلخ، والعقيم يتذكر نعمة الله إذا جاءه الولد، والعاطل يتذكر نعمة الله إذا توظف، وهل هذه هي كل نعم الله؟

    لا. لله عليك نعم لا تعد ولا تحصى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18] نعمه بدأت معك مباشرة من يوم أن خلق الله الجنة للمسلمين الموحدين وأنت منهم بإذن الله، قبل أن يخلق آدم عليه السلام، أليس هذه نعمة لا تقدر بثمن؟

    أعد الجنة ونعيمها وجمالها، وغرسها بيديه الكريمتين قبل أن يخلق آدم، وأنت ذرية من ذرية آدم، انظر إلى فضله وبره المتقدم! ماذا تقول لوالدك قبل أن تولد وأنت في بطن أمك وقد أعد لك الأموال الهائلة، وبنى لك القصر الفاخر، وجهز لك فيه كل الخير؛ فإذا ما شببت وكبرت زوجك أجمل النساء، وأغدق عليك أكثر الأموال؟

    ماذا تقول لهذا الوالد؟

    لا تملك إلا أن تشكره في الليل والنهار، وتبره وتطيعه بالمعروف؛ لأنك عرفت إلى الحياة لم تحتج فيها إلى أحد، قد ملأ قلبك عزاً، وجيوبك مالاً، وأخلاقك تربية.

    الله أعطاك أكثر مما أعطاك والدك!

    إن الله سبحانه وتعالى من فضله وبره بعث محمداً من أمتك ومن أهل لسانك وجلدتك صلى الله عليه وسلم، تفتح المصحف بدون تكلف، وتقرأ القرآن فتفهمه، تقرأ الحديث فتفهمه: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:151-152]هذا مقابل هذا، أي كما أرسلنا وأنعمنا وعلمنا وفهمنا ودرسنا وربينا بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم إذاً: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] فهذه نعمة مذكورة ومشكورة لله سبحانه وتعالى.

    ماذا تقول في نعمة خلقك طوراً بعد طور؟ خلقت من ماء مهين، ثم جعلت في قرار مكين، وإذا أنت تسبح بين ملايين الحيوانات، الماء المهين الذي سبحت فيه هل تعرف كم كان يسبح معك؟ لا يقل عن مائة مليون أو خمسين مليوناً، لو جئت بالدبوس وحملت برأس الدبوس من هذا الماء ووضعته تحت المجهر الإلكتروني، لوجدت أن رأس الدبوس يحمل أكثر من خمسمائة ألف نطفة! من الذي اصطفاك من بين هذه الملايين السابحة؟ نُطف فيه مذكر وفيها مؤنث، والنطف المذكرة على رأسها مادة لماعة كأنه نور ينبثق داخل الرحم.

    والبويضة تنزل بعد أن تندفق بالماء الأصفر فتأتيها الأهداب الرقيقة بلطف تجذبها إلى عنق الرحم، ثم إلى القناة المؤدية إلى جوف الرحم وهناك يتم اللقاء، في أول الرحم تموت ملايين من النطف وأنت حي، وعلى باب الرحم تموت ملايين أخرى وأنت حي، قدَّر الله أن هذه النطفة هي فلان (محمد خالد علي حسين) وعندما تبدأ النطف تنقسم لأن الرحم فيه قناتان، قناة فيها بويضة، والقناة الثانية ليس فيها بويضة، ملايين تذهب يميناً وملايين تذهب شمالاً، المكان الذي ليس فيه البويضة تموت كل الملايين.

    انظر.. ينقلك من اختيار إلى اختيار إلى اختيار، ثلاث مرات أو أكثر؛ فإذا دخلت هذه الملايين هذه القناة داخل الرحم والبويضة تحيط بها هالة من النور مشرقة كنور المصباح، وتأتي النطف وتسبح .. وتسبح .. فما يبقى منها إلا خمسمائة نطفة تقريباً، فواحد من الخمسمائة يأذن الله للبويضة أن تفتح في جدارها ثقباً صغيراً ترحب به وتقول له: تعال، فإذا دخل برأسه دخلت النطفة بنفسها في جدار البويضة، وأغلقت البويضة جدارها وماتت كل النطف الخمسمائة، وتم الانقسام الثنائي في هذه الخلية الملقحة، ثم يحولها الله بعد ذلك إلى علقة، تخرج منها ممصات تخترق جدار الرحم وتبدأ تمص الدم، وتسمى علقة لأنها معلقة بالرحم.

    ثم بعد ذلك يبدأ الله بتخليقك فتتحول العلقة إلى مضغة، ثم يبدأ خلقك من القلب إلى الرأس إلى النتوءات، ثم يشق السمع، ويشق البصر، ويخلق العظام بعدما كانت غضاريف يحولها إلى عظام، ثم بعد ذلك لو رأيت أطوار وجهك لتعجبت، أذنيك هاتين اللتين في منتهى الجمال تكونان تحت الحنك، وأنفك هذا المستقيم الجميل أشبه ما يكون بأنف الخنزير نسأل الله العافية، لو رأيت صورة الإنسان وهو في بداية الخلق لقلت: هذا ليس بإنسان هذا حيوان وهذا بهيمة.

    ثم انظر: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:7-8] وإذا بك تظهر بصورة جميلة لك شعر وعينان جميلتان، وأصابع وأطراف، يصورك كيف يشاء لا إله إلا هو، ثم تخرج بعد ذلك ينتظرك الحليب النقي الطهور الطاهر، الذي تشرب منه وتتغذى حولين كاملين بإذن الله رب العالمين.

    وكما كان يغذيك بالحبل السري فقطع عنك طريقاً واحداً، وأعطاك طريقين هما ثديا الأم تشرب منهما، فإذا فطمت بعد عامين أعطاك أربع طرق: طعامين من النبات والحيوان، وشرابين من اللبن والماء، فإذا توفي الإنسان وانقطعت الأربع الطرق أبدله بثمانية وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.

    وهكذا الله سبحانه ما أخذ منك إلا ليعطيك، وما منعك إلا ليعطيك، وما ابتلاك إلا ليعافيك، وما أمرضك إلا ليشفيك، فالله سبحانه له نعم علينا لا تعد ولا تحصى.

    وقد علم بفضله وبره ما ينفعك وما يصلحك، ورب دعوة دعوت بها ترجو إجابتها لك فيها المضرة، منعها الله عنك وساق إليك فضله وبره: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] (وإن من عبادي من لا ينفعه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا المرض ولو أصححته لأفسده ذلك) الله سبحانه وتعالى المدبر، لا خير إلا خيره، ولا طير إلا طيره، ولا إله غيره.

    قال الإمام علي: [من عرف الله فأطاعه] - الفقرة الأولى -.

    ثانياً: [وعرف الشيطان فعصاه] فالشيطان عدو.

    والثالثة: [وعرف الحق فاتبعه].

    والرابعة: [وعرف الباطل فاتقاه].

    والخامسة: [وعرف الدنيا فرفضها].

    والساسة: [وعرف الآخرة فطلبها].

    ورفض الدنيا الذي يعنيه الإمام علي رضي الله عنه ليس الترهب الذي عليه رهبان النصارى، وإنما ألا تكون الدنيا في قلبك، وإنما تكون في يدك ولو كانت ملايين الملايين، إذا كانت الدنيا في يدك لا تفرح إن زادت، ولا تحزن إن نقصت، فإنما أنت زاهد، ولو أكلت ملء بطنك ولبست أحسن الثياب، ولكن إذا دخلت الدنيا في القلب حلَّت محل محبة الله والآخرة، ولهذا انتبه يا أخي المسلم! وليكن ميزانك قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] آية عظيمة ذكرت في سورة القصص في قصة قارون، فهي من أعظم الآيات، فيها ميزان منضبط، كيف نتعامل مع الدنيا.

    1.   

    الجنة وحب التطلع إليها

    كذلك يقول هذا الشاعر الحكيم في هذا الكتاب العظيم:

    إن امرأ باع أخراه بفاحشة     من الفواحش يأتيها لمغبون

    ومن تشاغل بالدنيا وزخرفها     عن جنة ما لها مثل لمفتون

    وكل من يدعي عقلاً وهمته     فيما يباعد عن مولاه مجنون

    حكمة عظيمة! يعني: أنت تضيع الآخرة من أجل شهوة؟ هذه الشهوة بعدها مباشرة تحس بالحسرة والندم، وأي لذة تعقبها عقوبة؟!

    سئل أحد الصالحين: أي الناس أكثر ذوقاً وجمالاً؟ فقال: الشاب الصالح، فقالوا له: كيف يكون الشاب الصالح أكثر إحساساً بالجمال وإذا مرت به المرأة الحسناء غض طرفه؟ لو كان يحس الجمال لنظر إليها.

    فأجابه العالم قائلاً: لما مرت به ورآها في النظرة الأولى تذكر أن جمالها فانٍ، وأن جمال الحور باقٍ، فآثر الباقي على الفاني فكان أكثر الناس إحساساً وذوقاً بالجمال، وهذا مقياس على كل ما تستطيعه وما لا تستطيعه من الدنيا، رجل فقير يمر في السوق فيرى الفاكهة، من برتقال وتفاح ورمان، ولا يملك من المال أن يشتري ذلك، ولا يملك إلا أن يشتري خبزة وكوباً من اللبن يأكله وينام عليه، لا يملك، ماذا يقول للفاكهة؟

    يقول: إن موعدك الجنة، وهذا ليس بدعة، هذا الذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما مر على ياسر وعمار وسمية وهم يعذبون، ولم يملك تخليصهم عليه الصلاة والسلام وما كان عنده منعة، وكانت الدعوة مستضعفة في مكة ، ولكن هل مر عليهم وهو ساكت؟ لا.

    قال: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة) نعم، إن موعدكم الجنة، فأنت يا أخي المسلم كلما رأيت مثالاً من أمثلة الدنيا اشتاقت إليها نفسك، والنفس تطمع ولا تشبع ولها مطالب، كلما أعطيتها مطلباً طلبت أكثر، ولكن إذا أنت هذبتها، وشذبتها، ونهيتها، وزجرتها، وخالفتها، قنعت وسكنت، وأكثر ما تقنعها أن تربطها بالجنة، تطمعك نفسك على أن تتزوج زوجة ثانية وثالثة ورابعة، ولكن أنت عندما ترى مشاكل الزوجية اليوم، وعندما ترى متطلبات الحياة الزوجية اليوم، فماذا تقول؟ تقول: إن موعدك الجنة، تصبر على أم العيال، وتلتفت إلى تربيتهم، وتحرص على تنشئتهم، وتراقب الله فيهم، وتجعل طموحك في هذه الرغبة وهذه الشهوة أن تحقق يوم أن تقول الملائكة: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:34-35].. هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:56].

    فلهذا أخي المسلم.. المحرك الذي كان الصحابة يتحركون من خلاله، في جهادهم، وفي صبرهم، وفي تحملهم، هو تذكرهم الجنة دائماً، وما كانت تغيب عنهم الجنة أبداً.

    جعفر بن أبي طالب وهو يلتقي في مؤتة مع جحافل الروم، عدد المسلمين ثلاثة آلاف وعدد الروم مائة ألف مقاتل في معركة مؤتة المشهورة، لما استشهد قائد المعركة زيد بن حارثة رضي الله عنه، أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، في منتهى الشباب والحيوية، عمره ما بلغ ثلاثين سنة ولديه أطفال صغار، أحدهم عمره سنتان والآخر عمره ثلاث سنوات، وزوجته جميلة حسناء وهو سيد من سادات قريش، وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحبه حباً عظيماً، ويؤاخيه صلى الله عليه وسلم، وله مكانة في نفسه، ولكن ما الذي هون عليه الموت في هذه اللحظة؟ تذكر الجنة، فأخذ يرتجز شعراً قائلاً:

    يا حبذا الجنة واقترابها     طيبة وبارد شرابها

    والروم روم قد دنا عذابها     علي إن لاقيتها ضرابها

    فضربها ضرباً عظيماً حتى عدت الجراح في جسمه أكثر من ثمانين طعنة، وتحمل ثمانين طعنة لأنه تذكر حلاوة الجنة! يا حبذا الجنة واقترابها، اقتربت فليس بعد هذا الموت إلا الجنة، وأنت لا تظن أن الجنة بعيدة يا أخي، فالجنة أقرب إليك من شراك نعلك، هكذا كان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وشراك النعل هو: الخيط الذي يأتي في الحذاء، وخيط الحذاء بمجرد أن تنحني تستطيع لمسه، والجنة قريبة، والله ذكر قربها قال: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31] غير بعيد أي: قريبة، وحتى ترى ذلك القرب اسمع ماذا تقول الأحاديث: (إذا مات العبد وسئل في قبره وكان مؤمناً، فتح الله له نافذة من الجنة) ومع وجود هذه النافذة التي يستمتع بمناظرها وجمالها وروحها وريحانها... إلخ.

    يقول: تمر عليه مرحلة القبر والبرزخ كصلاة الظهر أو كصلاة العصر، كم تأخذ منك صلاة الظهر أو صلاة العصر؟ عشر دقائق، بعد الموت بعشر دقائق يكون البعث، ويبعث المؤمن تحت ظل عرش الرحمن يقول الحبيب: (فيكون تحت ظل عرش الرحمن كصلاة ظهر أو كصلاة عصر) عشر دقائق في البرزخ، وعشر دقائق في المحشر ثم بعد ذلك: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:34].

    فأنت تقول: إذاً.. أين الصراط وأين الميزان وأين الحوض وأين هذه كلها؟ هذه تمر بإذن الله لا تحس بوقتها إنما الذي يحس بوقت المحشر مقدار خمسين ألف سنة هو الكافر الفاجر العاصي، الذي غلبت سيئاته حسناته، أما المؤمن الموحد فهي كصلاة ظهر أو كصلاة عصر.

    فيا أخي المسلم لا تظن أن الجنة بعيدة، فإنها منك قريبة، وما عليك إلا أن تنتهز، وابن القيم رحمة الله عليه يقول: ورب نفس من أنفاس المؤمن لا تعدله ملايين السنين، هذا كلام يحتاج إلى تفسير! أليست جنة الخلود؟

    الخلود: حياة لا موت، نعيم لا يزول، من أين جاء هذا؟ أليس هذا جاءك من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، والعمل الصالح من صيام وقيام وركوع؟ ونعم أجر العاملين.

    وهذا العمل وأجر العاملين أوصل إلى رحمة الله، ورحمة الله أدخلتهم الجنة، وما وصلوا إلى رحمة الله إلا بكلمة: لا إله إلا الله، هذا الهواء الذي خرج من فمك بـ(لا إله إلا الله) هواء بسيط خرج من الرئة ومر بالحنجرة، فشكلته الحنجرة مع الحبال الصوتية والشفتين مع اللسان فخرجت كلمة: لا إله إلا الله، في مدة زمنية قدرها ثلاث ثوان، المادة الصناعية: هواء ساذج يخرج من الرئتين، ويمر بالفم ويشكل الحروف والكلمات، ثم المضمون نية معقودة لها معنى في النفس منبثقة من العقيدة الإسلامية أن الله واحد، أتبرأ من كل إله وأثبت الألوهية لله، كم أخذ من الوقت؟ ما أخذ منك إلا ثلاث ثوان "لا إله إلا الله" هذه تعطيك الخلود في الجنة.

    الخلود في الجنة كم مدته الزمنية؟ ليس له مدة زمنية محددة، لها بداية لكن ليس لها نهاية، إذاً عندما يقول: الجنة قريبة منك نعم هي قريبة منك، وكذلك النار: (رب كلمة يقولها العبد لا يلقي لها بالاً ليضحك الناس تهوي به في النار سبعين خريفاً) كلمة واحدة!

    ثم يتكلم الشاعر الحكيم عن هذه الأيام ومراحلها فيقول:

    وما هذه الأيام إلا مراحل      تقرب من دار اللقا كل مبعد

    ومن سار نحو الدار خمسين حجة      فقد حان منه الملتقى وكأن قد

    فالإنسان عليه أن يستعد لهذا الملتقى العظيم.

    1.   

    النظرات المسمومة وخطرها على القلب

    ثم استمع معي أيضاً إلى ذلك الذي يجول ويصول بنظراته يميناً ويساراً في الأسواق والجمعيات والمحلات، يقول يخاطب ناظريه:

    تمتعتما يا ناظري بنظرة     فأوردتما قلبي أشر الموارد

    أعيناي كفا عن فؤادي فإنه     من البغي سعي اثنين في قتل واحد

    اثنتان (عينان) تسعيان لقتل قلب واحد، والنظرة سهم من سهام إبليس، إذا انطلقت جرحت، وإذا انجرح القلب انتقم، وهو أشد ما يتقى في سلوك الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، نعم. جاء عمر بن الخطاب وقال: [يا أبي بن كعب ما التقوى؟ قال: أمشيت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى. قال: ما فعلت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذاك التقوى يا عمر] أن تشمر وتجتهد من أن تصيبك أشواك الذنوب، لأن أشواك الذنوب سهلة، أي أن شوكة الدرب أكثر ما تعمل أن تخدش اليد فإذا وضعت عليها (يوداً أحمر) شفيت، ويخدش الثوب فتأخذ إبرة وخيطاً وتخيطه، كم يكلف؟

    لا يكلف شيئاً، هذه أشواك الدروب، لكن أشواك الذنوب عندما تصطك بقلبك الإيماني فتخرقه المعصية، وتأتي ثانية فوقها فتوسع الخرق، والثالثة فوقها وتوسع، فيصبح الخرق كبيراً تريد أن ترقعه فلا تستطيع: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] نسأل الله العافية.

    وشار آخر طار النوم منه بسبب نظرة واحدة! انظر الآن الفيديو، والصحف، والتلفاز والملاحق، والشوارع، أين تذهب إن لم يحفظك الله سبحانه؟ يقول هذا الشاعر:

    نفر النوم واحتمى     من جفوني كأنما

    هو أيضاً من الحبيب     جفاءً تعلما

    أنتِ يا عين كنتِ لي     للصبابات سلما

    ثم حملتني الثقيل     وأبكيتني الدما

    ثم ألفت بين طرفي     والنجم في السما

    أنت لو لم تكن شقياً     لما كنت مغرما

    فازجر القلب دائماً ولُمِ العين مثلما

    جشمت قلبك الصبابة حتى تجشما

    فكن دائماً يا أخي المسلم على حذر من مثل هذه النظرة، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وأكثر من الذكر والاستغفار فإن الله سبحانه وتعالى جعل الاستغفار مطهرة للذنوب.

    جاء رجل إلى الإمام ابن تيمية وقال: يا أيها الإمام، يا شيخ الإسلام .. أيهما أنفع لي التسبيح أم الاستغفار؟ فنظر إليه فرآه حديث عهد بتوبة فأجابه جواباً عظيماً قال: الثوب الوسخ ما ينفعه؟ ينفعه الصابون والغسيل، فأنت صابونك وغسيلك هو الاستغفار، إذا لزمت الاستغفار محا الله الذنوب، وكما يقول الحديث الذي يرويه السيوطي : (إن المسلم إذا ارتكب ذنباً قال ملك الحسنات لملك السيئات: ارفع قلمك لعله يتوب) أي: قبل أن يكتب ملك السيئات السيئة، يدافع عنك ملك موجود معك وأنت لا تدري، يقول له: ارفع القلم، فيرفع القلم فينتظر سبب الطلب!

    وهذا فضل من الله عظيم، يقول الحديث الذي يرويه السيوطي : (فيرفع ملك السيئات التي يكتبها قلمه ست ساعات) يرفع يده ولا يكتبه لعل العبد يتوب أو يستغفر! هل هناك أعظم من هذا الفضل؟ هذا فضل الله لا إله إلا هو، ولو حاسبنا الله بعدله وحقه لهلكنا، ولكنه يحاسبنا برحمته، ورحمته سبقت غضبه، هذه صورة من صور السبق.

    1.   

    نصائح وتوجيهات

    استمع معي يا أخي المسلم إلى هذه النصائح والتوجيهات:

    يقول: اعلم أن التراب بعد الفراش مضجعه، وأن الدود والحشرات أنيسه، وأن القيامة الكبرى موعده، وأن الجنة أو النار مورده، بعدما يعاني من الأهوال والمزعجات التي يشيب منها الولدان، فإذا جعل هذا نصب عينيه ليلاً ونهاراً .. سراً وجهاراً، وأمعن في التفكر فيه، لابد أن يكون لذلك تأثير بإذن الله، أي: أنت لا تفكر في حالتك الآن معافى وبصحة جيدة.

    دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فقال له وهو ينظر إليه وقد رآه متغيراً، لأن عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة كان وسيماً وجميلاً وسميناً ووجهه مدهون، وبعد الخلافة لما أخذ ينشغل بهم الأمة جعلوا يعدون أضلاعه ضلعاً ضلعاً، فدخل عليه رجل وهو صديق من أصدقائه ولم يعرفه، فأخذ ينظر .. وينظر .. ويتذكر من هذا؟

    فقال عمر بن عبد العزيز : [لعلك أنكرتني لما رأيتني؟ قال: بلى، والله لو أردت أن أعد أضلاعك لعددتها، وقد كنت أراك ينطوي شحم بطنك على إزارك! - فماذا قال عمر بن عبد العزيز؟ اسمع الجواب.. - قال: كيف حالك لو رأيتني بعد موتي ودفني وقد سالت عيناي على خدي؟

    كيف حالك لو رأيتني وقد تعفر وجهي في التراب وبدأ الدود يأكل لحمي وينخر عظمي؟

    كيف حالك لو رأيتني وقد أطبق القبر علي وضمني؟].

    وأخذ يعدد له أهوال القبر، فهانت الصورة التي رآها في عينه لما سمع تلك الصفات العظيمة، وهذا أمر سيمر به كل مخلوق: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    فنحن لابد أن نتذكر هذا، فعلى قدر ما تجوع هنا تشبع هناك، وتتعب هنا ترتاح هناك، وتخاف هنا تأمن هناك، وما تعطِي هنا تعطَى هناك، وطول وقوفك بين يدي الله يخفف عليك الوقوف يوم المحشر وهكذا: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] الجزاء من جنس العمل.

    كانوا رحمة الله عليهم دائماً وأبداً يتذكرون ذلك، علي بن أبي طالب يصفهم فيقول: [إذا رأيتهم رأيتهم صافين أقدامهم، تالين لكتاب ربهم، يفترشون جباههم وأكفهم وركبهم وأقدامهم، يطلبون إلى الله فكاك رقابهم، هم والجنة كأنهم فيها منعمون، وهم في النار كأنهم فيها معذبون، إذا مروا بآية نعيم تطلعوا إليها شوقاً، وإذا مروا بآية عذاب فكأن زفير جهنم وشهيقها في آصال قلوبهم، إذا نظر إليهم الناظر قال: خولطوا -أي أن فيهم مساً- ألا وإنه خالطهم أمر عظيم، وهو تذكر الآخرة].

    فيا أخي المسلم! هذه شذرات وعبر وحكم من هذا الكتاب العظيم الذي بين يديك، وما عليك إلا أن تقرأه من الغلاف إلى الغلاف، كلما قسا قلبك يلين القلب.

    1.   

    الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى

    يقول: وأختم لكم بست عشرة فائدة من الفوائد:

    يقول المؤلف: الأسباب الجالبة لمحبة الله لعبده المؤمن هي:

    أولاً: أن يقرأ القرآن بتدبر وتفهم وتفطن لمراد الله منه، فكأنه هو الوحيد المخاطب بهذا القرآن.

    ثانياً: الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

    ثالثاً: التقوى فالله يقول: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:7].

    رابعاً: طهارة البدن الظاهر، يقول الله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

    خامساً: التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض، فإنها توصل إلى محبة الله، والله يقول: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).

    سادساً: دوام ذكر الله على كل حال في كل مكان إلا في المحلات المستقذرة كالحمامات والخلاء، فيكون الذكر في القلب وليس باللسان في هذه الأماكن.

    سابعاً: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، أي: تؤثر ما يحبه الله سبحانه وتعالى على ما تحبه أنت.

    ثامناً: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته وأفعاله ومشاهداتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومبادئها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة.

    تاسعاً: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.

    عاشراً: انكسار القلب بين يدي الله، والتضرع والتذلل له، وإظهار الافتقار إليه، وإظهار العجز والمسكنة والتلهف إلى رحمته ورأفته ولطفه.

    يقول ابن القيم ومن نعمة الله عليك أن يبعث إليك فقيراً يقرع الباب لكي يذكرك بفقرك إلى الله. الآن إذا كان هناك رجل فقير يكلمه من التلفون: من؟ فقير. اذهب الله يعطيك، الأوائل كان الواحد منهم إذا قرع بابه فقير وقال: أنا فقير، انكسر قلبه وخضع وذل وأخبت لله رب العالمين، لأن هذا الفقير ذكره بفقره إلى الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15] وكلمة "الناس" شملت الغني والفقير، والملك والأسير، والناس كلهم: أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] لا إله إلا هو.

    الحادي عشر: مجالسة التالين للقرآن العاملين به، والذاكرين لله كثيراً.

    الثاني عشر: القتال في سبيل الله والجهاد، يقول الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].

    الثالث عشر: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

    الرابع عشر: الصبر، قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].

    الخامس عشر: الخلوة به سبحانه وتعالى وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، حيث ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: (هل من مستغفر فأغفر له) فأنت تخلو بوقت الأسحار، تستغفر الله سبحانه وتعالى، وتنقي قلبك وتتوب.

    السادس عشر: مباعدة العوائق والحوائل وكل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل، هناك عوائق كثيرة تحول بينك وبين الله فيقسو القلب، والله سبحانه وتعالى يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24] انظر أنت عندما يحول الله بينك وبين قلبك ماذا تصنع؟

    كم مرة يحول الله بينك وبين قلبك؟

    مرات كثيرة تصل في ظنون قد لا تنتبه لها، يمسك نظارته بيده، ويبحث عنها في البيت، ويسأل زوجته ويسأل أولاده، ويفتش ثم يخرج يده وإذا بالنظارة في يده، حال الله بين قلبه وذاكرته فما أبصرها وهي بيده! مفتاح السيارة يبحث عنه وهو يمسكه بيده، فكيف لو حال الله وتطور هذا التحول من مفتاح السيارة إلى الإيمان والتوحيد ماذا يبقى لك من دينك؟

    لا حول ولا قوة إلا بالله! هذه الكلمة الطيبة، أي: أتحول من حول إلى حول بقوة الله، ومن قوة إلى قوة بحول الله، فهذه كنز من كنوز الجنة، والعبد إذا قالها رد الله عليه قائلاً: أسلم عبدي واستسلم.

    فلا حول ولا قوة إلا بالله إذا نزل بنا ملك الموت لقبض أرواحنا!

    ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا أدخلنا قبورنا مع أعمالنا!

    ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا سئلنا عن علمنا وأموالنا!

    ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا طال يوم القيامة وقوفنا!

    ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا دعانا للحساب ربنا!

    ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا تطايرت أمامنا صحائفنا!

    ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا نصب أمامنا ميزاننا!

    ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا ضرب الصراط على الجحيم وسار العبيد، والنار تنادي: هل من مزيد! هل من مزيد! وشعار الأنبياء : اللهم سلم، اللهم سلم!

    اللهم إنا نسألك الثبات يوم الفتنة، والستر يوم العورة، والإطعام يوم الجوع، والسقيا يوم الظمأ، والرشاد يوم الحيرة، والهداية يوم الضلال، والعزة يوم الذلة، والكثرة يوم القلة، والجمع يوم الشتات، اللهم علمنا من جهالة، واهدنا من ضلالة، وثبتنا بفضلك وكرمك، يا أرحم الرحمين!

    اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، واغفر لنا أجمعين، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، اللهم إنا نسألك العافية، ودوام العافية، ولباس العافية، والشكر على العافية، اللهم أرنا في أعدائك وأعدائنا يوماً أسود، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756018258