إسلام ويب

شرح كتاب الإبانة - القول في المرجئة وإنكار العلماء مذاهبهمللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بدعة المرجئة من شر ما ابتدع في الإسلام، فقد عطلوا أحكام الشريعة وجعلوا الأعمال لا علاقة لها بالإيمان، وقد ورد في ذمهم والإنكار عليهم الكثير من النصوص والآثار، وقد أنكر عليهم الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب وعلماء الأمصار.

    1.   

    ما ورد في ذم المرجئة

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    وبعد:

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ القول في المرجئة وما روي فيه، وإنكار العلماء لسوء مذاهبهم ].

    وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث ولم يصح في ذم المرجئة مرفوعاً عنه عليه الصلاة والسلام شيء.

    منها حديث [ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث الله عز وجل نبياً قط قبلي اجتمعت له أمته، إلا كان فيهم مرجئة وقدرية يشوشون عليه أمر أمته من بعده، ألا وإن الله لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبياً أنا آخرهم) ].

    ومن طريق [ أنس رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي أو لا يدخلون في شفاعتي: المرجئة والقدرية) ].

    وكلا الحديثين ليس بصحيح.

    فتنة المرجئة أشد على الأمة من فتنة بعض فرق الخوارج

    قال: [ وجاء عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: لفتنتهم عندي -أي: فتنة المرجئة عندي- أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ]، والأزارقة هم قوم من الخوارج، وهم أتباع نافع بن الأزرق الذي قُتل في زمن عبد الله بن الزبير وقد خرج عليه.

    [ وقال الزهري : ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه، أي: الإرجاء.

    وعن الأوزاعي قال: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم ]، أي: عند أهل السنة، [ على هذه الأمة من الإرجاء ].

    [ وعن جعفر الأحمر قال: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة ].

    [ وقال حجاج سمعت شريكاً وذكر المرجئة، فقال: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون على الله عز وجل ].

    [ وقال عبد الله بن حبيب يروي عن أمه قالت: سمعت سعيد بن جبير : وذكر عنده المرجئة فقال: مرجئة هذه الأمة كاليهود ]؛ لأن اليهود ضالون كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، قال: (المغضوب عليهم هم اليهود، والنصارى ضالون).

    قال: والله تعالى غضب على اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عملوا بغير ما علموا، وهذا نوع من أنواع الضلال، بل هو أعظم أنواع الضلال أن يتقرب المرء إلى الله عز وجل بهواه بغير نص أو أثر.

    فالله تعالى غضب على اليهود؛ لأنهم علموا الحق فلم يتبعوه، وكذلك المرجئة علموا أن دين الله تعالى بعد القول مبني على العمل، وهم يزعمون أن العمل لا علاقة له بالإيمان، وليس من الإيمان في شيء، فإيمان من قال: لا إله إلا الله وإن ترك جميع الأوامر وارتكب جميع النواهي كإيمان جبريل وميكائيل، فهذا من حيث الضلال ضلال عظيم جداً؛ ولذلك شبههم علماء السنة باليهود.

    [ وقال المغيرة بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود القبلة ]، يعني: هم كاليهود في صفاتهم، غير أنهم لا يزالون من أهل القبلة.

    والعلماء يفرقون بين مصطلح أهل السنة وأهل القبلة، فالرجل من أهل السنة أي: أنه عامل بأصول الإيمان وفروعه، معتقد لذلك، داع إليه.

    أما من كان من أهل القبلة وليس من أهل السنة فهذا الذي هو قائم على بدعة غير مكفرة، فهو لا يزال من أهل الإسلام ومن أهل القبلة؛ لكن هيهات أن يكون من أهل السنة.

    [ وقال سعيد بن جبير: المرجئة مثل الصابئين ]، الصابئون في زمان نبي من الأنبياء، هم الذين زاغوا ومالوا عن طريق الحق، وسلكوا طريق الزيغ والضلال.

    [ وعن حذيفة قال: إني لأعلم أهل ذينك الدينين في النار ]، أي: أصحاب بدعتين في النار، كما قال عليه الصلاة والسلام، قال: [ قوم يقولون: إن الإيمان كلام ]، يعني: لو قال المرء: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهذا هو منتهى وكمال وتمام الإيمان.

    قال: [ وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ ] يعني: من أين أتيتم بأن الصلوات خمس؟ [ إنما هما صلاتان ]، صلاة في أول النهار وصلاة في آخر النهار، وهاتان الصلاتان كل صلاة منهما ركعتان فحسب، كما في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78]، فاستدل بالقرآن على أن الصلاة صلاة في أول النهار وفي آخره.

    [ وعن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد بن جبير المرجئة فضرب لهم مثلاً، فقال: مثلهم كمثل الصابئين أتوا اليهود فقالوا لليهود: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، ثم أتوا النصارى فقالوا: من أنتم، وما دينكم؟ قالوا: نحن النصارى وديننا النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قال: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن بين ذين ]، يعني: لا نحن يهود ولا نحن نصارى، نحن بينكما.

    كيف يدخل الجنة رجل لا يرضى قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما اختار لنفسه ديناً وسطاً بين هذين الدينين؟ هذا الدين وسط بين الملتين وبين الدينين، ليس هو دين السماء ولا شريعة السماء ولا تابعاً لنبي، ولا عنده عهد موثق وميثاق غليظ بدخول الجنة، فكيف لرجل يختار لنفسه ديناً وهوى ومذهباً لم يكن به أدلة من السماء؟

    [ وقال إبراهيم: لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ].

    عيب أئمة الإسلام على المرجئة كثرة التحول في الدين

    [ وقال وكيع : حدثني القاسم بن حبيب عن رجل يقال له: نزار عن عكرمة عن ابن عباس ، قال: صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية ].

    [ وقال أيوب بن أبي تميمة السختياني : قال لي سعيد بن جبير : ألم أرك مع طلق؟ ] وهو طلق بن حبيب المرجئ الكبير المعروف، وهو من رواة السنة، [ قلت: بلى فما له؟ ] يعني: ما عيبه؟

    [ قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب : وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه ].

    يعني: ولم أكن قد استشرته في ذلك، وإنما يجب على المسلم إذا رأى أخاه على معصية أو على خطر أو على ضلالة أن يحسن به الظن، وربما أنه لا يعرف أن هذا ضلال، وليأمره ولينهه ولو بغير طلب منه.

    [ وقال قتادة : إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث ].

    [ وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك ]، يعني: أنا لا يمكن أقول بهذا القول، وهذا القول عندي فاسد بين الفساد، لا أقول به وأنا أكبر من ذلك.

    [ وقال العلاء بن عبد الله بن رافع : إن ذراً أتى أبا عمرو وسعيد بن جبير في حاجة له فقالا: لا ] أي: لا نقضي لك حاجتك [ حتى تخبرنا على أي دين أنت اليوم ].

    ولذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: من لم يتخذ السنة ديناً أكثر التحول، يعني: يكون كل يوم على مذهب، اليوم خارجي، غداً معتزلي، بعد غدٍ مرجئي، قدري، إباضي، شيعي.. وهكذا؛ لأن كل هذه الفرق فرق ضلال، وضلالها سواء، فهو متى أعجبته فكرة ينتقل إليها.

    وقد رأينا رجلاً أكاديمياً صنف كتاباً في الفلسفة الإسلامية، أي: الاعتقاد، خلط فيه بين جميع ملل الإسلام غير مذهب أهل السنة والجماعة، إذا تكلم في قضية من القضايا أتى فيها بأقوال أهل البدع كلهم ولم يذكر مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، رجل يأخذ بما يناسب عقله، فالذي يعجبه من أي ملة من الملل يقصه ويلصقه أو يخطه في هذا الكتاب، فهذا كلام عجيب جداً! أن يعمى المرء عن الحق ثم يتخبط في غياهب الظلام بالليل والنهار.

    قال: [ لا، حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم أو رأي أنت اليوم؟ فإنك لا تزال تلتمس ديناً قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه؟ ].

    [ وقال محمد بن ذكوان لـحماد: كان إبراهيم يقول بقولكم في الإرجاء، فقال: لا، كان شاكاً مثلك.

    [ وقال جعفر الأحمر عن أبي جحاف قال سعيد بن جبير لـذر : يا ذر ! مالي أراك في كل يوم تجدد ديناً؟ ] يعني: تنتقل من دين إلى دين، ومن ملة إلى ملة، ومن مذهب إلى مذهب، ومن فرقة إلى فرقة، غير أنك بعد لم تلتمس طريق الحق، وهو طريق أهل السنة والجماعة.

    [ وقال أبو المختار: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي فقال: مررت فسلمت عليه فلم يرد علي ]، أي: فلم يرد علي السلام، مع أن رد السلام أمر واجب، ومع هذا أجمع العلماء على أنه إذا كان الرجل المُسَلِّمُ صاحب بدعة وخطره محقق فالمقاطعة أولى حتى وإن كان في الواجبات، مثل رد السلام.

    [ فقال أبو البختري لـسعيد بن جبير فقال سعيد: إن هذا يجدد في كل يوم ديناً، لا والله لا كلمته أبداً ].

    [ ومر إبراهيم التيمي بـإبراهيم النخعي فسلم عليه فلم يرد عليه ]، أي: لأنه مرجئ.

    [ وقال رجل: رآني أبو قلابة وأنا مع عبد الكريم ]، وهو ابن عجرد زعيم العجاردة، كان إمام مذهب من مذاهب الضلال.

    [ فقال: مالك ولهذا الهزء ]، يعني: هذا الإنسان السخيف المبتدع، كأنه يحذره المشي معه.

    [ وقال أبو حمزة التمار الأعور : قلت لـإبراهيم : ما ترى في رأي المرجئة؟ قال: أوه ]، كأنه يستعظم ذلك، وهي كلمة تقولها العرب، ثم قال: [ لفقوا قولاً فأنا أخافهم على الأمة والشر من أمرهم، فإياك وإياهم ]، فهو يحذره، ويبين له أنهم شر طائفة على الإسلام.

    [ وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيهم، ثم قال: إني أخاف أن يتخذ ديناً، فلما أتته الكتب من الآفاق قال: فسمعته بعد يقول: فهل أمر غير هذا! ].

    يعني: لما دعا ذر إلى مذهب الإرجاء، ونشر أمره هنا وهناك، فأتى عليه الرد من هنا وهناك، فلما وقف على الردود المكتوبة بأقلام العلماء، قال: لو كان غير ذلك، أي: لنجحنا وأفلحنا، كأنه يظهر استياءه الشديد لرد العلماء عليه وأنهم عطلوا عليه نشر دعوته.

    قال: أو شيء غير ذلك؟ يعني: كان يتمنى أن يقلع قلبه من صدره، وألا ينتبه إلى بدعته أحد من أهل العلم، ولا أحد من أهل السنة، فاستاء جداً لما رد عليه العلماء، وتمنى أن يكون الجزاء والمقابل أي شيء غير أن يتصدى له أهل السنة.

    ما لم يكن ديناً في عهد الصحابة فليس ديناً لمن بعدهم

    قال: [ وقال إبراهيم : إن القوم لم يدخر الله عنهم شيئاً خبئ لكم لفضل عندكم ].

    ولذلك نحن دائماً نقول: إن المقياس في ميزان الحق والباطل ما كان عليه السلف، وما وسع السلف يسعنا، وما لم يسع السلف لا يسعنا، وهذه أصول لأهل السنة والجماعة.

    ولذلك لو نظرنا إلى أي فرقة من فرق الإسلام لا نجد عليها أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فـأبو بكر رضي الله عنه لم يكن معتزلياً، ولا قدرياً، ولا شيعياً، ولا مرجئاً، ولا خارجياً، ولا إباضياً، ولا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: لا يمكن أبداً، وهذه حجة عقلية وإذا كان الإرجاء خيراً فلماذا يخفيه الله على نبيه وعلى أصحاب نبيه ثم يظهره لنا، أنحن أكرم على الله من هؤلاء؟!

    ولذلك قال مالك : وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم ديناً، وهذا مالك الذي مات سنة (174) أو (185) هجرية، يقول: وما لم يكن يومئذ -يعني: عند الصحابة- ديناً فليس اليوم ديناً، يعني: لا يصلح أن يكون ديناً أبداً، وهذا في القرن الثاني الهجري، فما بالكم بالقرن الخامس عشر الهجري، من باب أولى ألا يكون ديناً.

    ما رأيكم فيمن صنف النبي عليه الصلاة والسلام أول صوفي في الإسلام، أيصح هذا؟

    و أبو بكر الصديق ثاني صوفي في الإسلام، وعمر بن الخطاب ثالثهما وهكذا، هذا يخلط في الموازين التي هي عندنا، ألا تعلمون بهذه الكتب؟ هذه سلسلة من الكتب.

    وكذا تكلم عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك تكلم عن الخلفاء الراشدين، ثم العشرة المبشرين بالجنة، فأصابته المنية فمات، الحمد لله الذي أراحنا منه.

    1.   

    التحذير من مجالسة المرجئة والتأثر بأقوالهم في الإيمان

    قال: [ فاحذروا رحمكم الله مجالسة قوم مرقوا من الدين، فإنهم جحدوا التنزيل وخالفوا الرسول، وخرجوا عن إجماع علماء المسلمين، وهم قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل ]، يعني: فإن هذا هو أس البلاء عند المرجئة؛ وأهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، وهذا كلام متين جداً، الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.

    عند المرجئة الإيمان قول بغير عمل، والأحمق فيهم ينص على أن العمل لا علاقة له بالإيمان، وخطورة هذا الكلام أن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة لزاماً، وإن ارتكب جميع الموبقات وترك جميع الأوامر؛ لأن الأوامر والنواهي أعمال تحتاج إلى امتثال. إذاً: ليستا بواجب؛ سيستوي عندهم من امتثل مع من عصى.

    قال: [ ويقولون: إن الله عز وجل فرض على العباد الفرائض ولم يرد منهم أن يعملوها ]، أتتصور أن هذا كلام عاقل؟ وهو أن الله عز وجل لم يرد منا الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة، ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، أي: أن الله أمرنا بأوامر ونهانا عن أشياء، لكن لم يرد حقيقة الأمر ولا حقيقة النهي! هذا الكلام تخريف، هذا الكلام لا يقبله صاحب العقل المريض، فما بالك بالعقل السليم؟!

    قال: [ وليس بضائر لهم ]، أي: لا يضرهم، [ أن يتركوها، وحرم عليهم المحارم فهم مؤمنون وإن ارتكبوها ].

    يعني: الواحد يقول: ربنا حرم علي إتيان المحارم، والجمع بين الأختين، وأنا سأجمع بين الأختين، أمرني ألا أنكح ابنتي أو أمي، وأنا سأنكح ابنتي وأمي، هل هذا ممكن؟!

    أو يقول: أنا أعلم يقيناً أن الله تعالى حرم علي نكاح الأم من النسب أو من الرضاعة، وهذه أمي من النسب وأنا أشهدكم أني سأتزوجها، مع علمي بالتحريم، لأن الله ما أراد مني حقيقة هذا التحريم، هل يكون هذا مسلماً؟ لا يمكن.

    كمن يطأ المصحف بقدمه وهو يقول: أنا أؤمن أن الله تعالى أنزل هذا الكتاب، وهو كلامه الذي نزل من اللوح المحفوظ بواسطة جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، لا يكون هذا مسلماً، وهو ما زاد على كونه عمل عملاً.

    ئإذاً: من الأعمال ما يكفر بها العامل، ومن الأعمال ما يفسق بها العامل.

    قال: [ وإنما الإيمان عندهم أن يعترفوا بوجوب الفرائض وإن يتركوها، ويعرفوا المحارم وإن استحلوها، ويقولون: إن المعرفة بالله إيمان يغني عن الطاعة ]، وهؤلاء هم الجهمية، يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط.

    والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، وهو قول بلا عمل.

    والنطق بالشهادتين عند الجهمية لا يلزم في ثبوت الإسلام والإيمان، بل يكفي أن يكون عارفاً بقلبه، وفرعون عارف بقلبه، وإبليس شيخ العصاة كان عارفاً بقلبه، وقد أقر بربوبية الله عز وجل، فهل يكون إبليس على هذا المذهب مؤمناً كامل الإيمان، أو فرعون مؤمناً كامل الإيمان؟

    قال: [ وإن من عرف الله تعالى بقلبه فهو مؤمن، وإن المؤمن بلسانه والعارف بقلبه مؤمن كامل الإيمان، كإيمان جبريل، وإن الإيمان لا يتفاضل ولا يزيد ولا ينقص، وليس لأحد على أحد فضل، وإن المجتهد والمقصر والمطيع والعاصي جميعاً سيان ]. يعني: الذي يصلي مثل الذي لا يصلي، والذي يصوم مثل الذي لا يصوم، والذي يقوم الليل مثل الذي لا يقوم الليل، والطائع كالعاصي؛ لأن الإيمان ليس له تفاضل.

    التفاضل في الإيمان باعتبار العمل، فلما لم يكن العمل عندهم من الإيمان دل على نفي التفاضل في الإيمان، وبالتالي فهو لا يزيد ولا ينقص، وليس لأحد على أحد فضل، وإن المجتهد والمقصر والمطيع والعاصي جميعاً سواء عند المرجئة وعند الجهمية.

    قال الشيخ: [ وهذا كله كفر وضلال، وخارج بأهله عن شريعة الإسلام، وقد أكفر الله القائل بهذه المقالات في كتابه، والرسول عليه الصلاة والسلام كفره في سنته، كما كفره جماعة العلماء باتفاقهم، وكل ذلك فقد تقدم القول فيه مفصلاً في أبوابه.

    وللقائل إن المعرفة إيمان فقد افترى على الله عز وجل، وفضل الباطل على الحق، وجعل إبليس وإبراهيم خليل الرحمن وموسى الكليم في الإيمان سواء ]، يعني: جبريل مثل إبراهيم ومثل موسى ومثل محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم جميعاً يعرفون أن الله تعالى حق.

    قال: [ لأن إبليس قد عرف الله فقال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] ]، فهو يعترف لله بربوبيته، [ وقال: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر:36]، وكذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] ]، فالذي قاله إبليس قاله إبراهيم، والذي قاله إبراهيم قاله إبليس، وهو الاعتراف بالربوبية.

    [ وقال موسى: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [القصص:17] ]، أي: فكل هذا إقرار بربوبية الله عز وجل، اشترك فيه الأنبياء وإبليس كذلك.

    [ ويلزمه على أصل مذهبه الخبيث أن يكون من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه وأهل بيته ومن جاهد معه، وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وهاجروا إليه، والذين كذبوه وحاربوه في الإيمان عندهم سواء ].

    أي: لأن هؤلاء أطاعوا محمداً، وهؤلاء عصوا محمداً، فلما لم تكن الطاعة والمعصية من الإيمان، كان العاصي والطائع في الإيمان سواء.

    قال: [ لأن قريشاً قد كانت تعرف الله تعالى، وتعلم أنه خلقها، وبذلك وصفهم الله عز وجل في آي كثيرة من كتابه، وكذلك اليهود والنصارى قد عرفوا الله وعرفوا رسوله، وعلموا ذلك بقلوبهم، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] ]، أي: وجحدوا بها ظلماً وعلواً مع استيقان قلوبهم بأنه الحق.

    فإذا كانت العبرة عند الجهمية بالمعرفة القلبية، فالذين لم يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام كانوا يعلمون حقاً أنه رسول من عند الله، ويقولون بذلك في أنفسهم ويخفون ذلك ظاهراً.

    فإذا كانت العبرة بما استقر في القلب فهم عند الجهمية مؤمنون، بل هم عند الجهمية سواء بسواء مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

    قال: [ وقال عز وجل: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] ]، والعلم هو المعرفة.

    قال: [ وقال الله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] ]، يعني: هم يعلمون أن هذا هو الحق، لكنهم من باب الحسد يتمنون أن لو نترك ديننا.

    قال: [ وقال الله تعالى: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [البقرة:75] ] أي: من بعد ما عرفوه [ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] ]؛ أي: يعلمون أن هذا هو الحق الذي نزل من عند الله عز جل على لسان محمد عليه الصلاة والسلام، ومع هذا يبدلونه ويحرفونه، حسداً من عند أنفسهم.

    قال: [ وقال الله تعالى في قريش: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9] ].

    [ وعن أبي يزيد المدني : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صافح أبا جهل فقيل لـأبي جهل : تصافح هذا الصابئ؟) ]، والصابئ هو الخارج المارق [ (فقال: إني لأعلم أنه نبي؛ ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف؟) ].

    يعني أن أبا جهل يقول: أنا أعلم أنه نبي، لكن لا يصح أن نكون أتباعاً لبني عبد مناف، ولماذا لم يبعث ربنا مننا نبياً؟

    قال: [ فنزلت هذه الآية: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] ]، يعني: هم في الباطن لا يكذبونك يا محمد! ويعلمون أنك نبي، ولكنهم يجحدون ذلك في الظاهر.

    1.   

    الرد على استدلال المرجئة بمثل حديث (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)

    قال: [ هذا أبو جهل قد عرف بقلبه وعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلزم صاحب هذه المقالة ]، وهي: الإيمان قول بلا عمل، أو الإيمان معرفة بلا قول، [ أن يلحقه في الإيمان بأهل بدر والحديبية وأصحاب الشجرة من أهل بيعة الرضوان، غضب الله على صاحب هذه المقالة، وأصلاه ناراً خالداً فيها، فإنه لم يفرق بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الصالح والطالح ].

    [ وعن الزهري قال: قال لي هشام ] لعله هشام بن سالم الجواليقي أو هشام بن سالم بن الحكم وهما من أصحاب البدع، [ أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً فنادى: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ]، أي: يا من تظن أنك إمام من أئمة أهل السنة، ألم تسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه أمر منادياً في الناس ينادي: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة).

    فـهشام الجواليقي يحتج عليه بأنه على حق؛ بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عملاً من الأعمال.

    قال الزهري: [ فقلت: نعم وذاك قبل نزول الفرائض ]، أي: هذا الكلام كان بمكة قبل نزول الفرائض، [ ثم نزلت الفرائض، فينبغي للناس أن يعملوا بما افترض الله عز وجل عليهم ].

    [ وعن الضحاك بن مزاحم قال: ذكروا عنده: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، فقال الضحاك : هذا قبل أن تحد الحدود، وتنزل الفرائض ]، أي: فلابد من التزام ما أمر وترك ما نهى.

    [ وقال الحسن البصري : لو شاء الله عز وجل لجعل الدين قولاً لا عمل فيه، أو عملاً لا قول فيه، ولكن جعل دينه قولاً وعملاً، وعملاً وقولاً، فمن قال قولاً حسناً، وعمل سيئاً رد قوله على عمله، ومن قال قولاً حسناً وعمل عملاً صالحاً رفع قوله عمله، يا ابن آدم، قولك أحق بك ].

    [ وعن مبارك بن حسان : قال: قلت لـسالم الأفطس ]، وهو صاحب بدعة الإرجاء، [ رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟

    قال: لا، فذكرت ذلك لـعطاء فقال: سلهم، الإيمان طيب أم خبيث؟ فإن الله تعالى قال: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37]، قال: فسألتهم فلم يجيبوني ].

    يعني: الإيمان شيء طيب أم شيء خبيث؟ فإن قالوا: خبيث، فصاحب الخبيث من الخاسرين، ويحتج عليهم بالآية، وللعلم أن هؤلاء كانوا علماء، ولم يكونوا جهلة، كان الواحد منهم ينظر في وجه العالم من أهل السنة فربما يعرف حجة صاحب السنة قبل أن يقولها، فيعد لها جواباً ملتوياً بعيداً عن الحق.

    عند أن تقرأ لشخص مثل أبي إسحاق النظام الذي هو إبراهيم بن سيار المعتزلي صاحب البدعة، يحتار عقلك وتحتاج أن تقف عند كل جملة، وتترحم على شيخ الإسلام ابن تيمية الذي فضحه وعراه وأظهر فساد قوله، وكان ابن تيمية يصطدم معه بمواقف ويناظره فيها فغلبه، فتقول: أكان إبراهيم النظام يقصد هذا الكلام؟ وكيف فهم ابن تيمية هذا الفهم؟ فتدرك حقيقة ما كان عليه ابن تيمية من إيمان وتقوى وعلم وعمل، ابن تيمية فضح جميع الفرق، ما ترك فرقة من فرق الضلال إلا وعراها، وبين فسادها وعوارها، وأن بضاعة جميع الفرق مزجاة كاسدة لا قيمة لها؛ لأنها مخالفة للكتاب والسنة.

    قال: [ فقال سالم: إنما الإيمان منطق ليس معه عمل ]، يعني: الإيمان هذا طيب أم خبيث؟ لا تقل لي: الإيمان منطق، أنا أريدك أن تقول: إما طيب وإما خبيث.

    فلو قال طيباً فالناس يتفاضلون في الطيب، ولو قال خبيثاً لكفر؛ لأن الإيمان لا يكون خبيثاً، فقال هروباً من الإجابة: إن الإيمان منطق ليس معه عمل، يريد أن يقول: الإيمان قول ليس معه عمل.

    قال: [ فذكرت ذلك لـعطاء فقال: سبحان الله! أما تقرءون الآية التي في سورة البقرة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].

    فالآية الأولى حجة للمرجئة، وهي أن البر هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه وغير ذلك، فهذا هو كلام المرجئة، لكن الله عطف على ما ذكر: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، ليس البر أن تولوا، ولكن البر أن تؤمنوا وأن تعملوا، قال: [ ثم وصف الله على هذا الاسم العمل فألزمه، فقال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177].. حتى قال الله تعالى: هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] ].

    هذه الآية ذكرت كثيراً من الأعمال، وبينت أنها من البر ومن الإيمان، فكيف لا يكون العمل من الإيمان؟ مع أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أن العمل من الإيمان ومن التقوى.

    قال: [ قال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟ ] يعني: هذا العمل الذي ذكره الله عز وجل هل دخل في مسمى الإيمان أم لا؟

    قال: [ فقال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا مُؤْمِنٌ [الإسراء:19] ]، يعني: التمس أسباب النجاة في الآخرة بالإيمان والعمل.

    قال: [ فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم ].

    [ وعن عبد الملك بن عمير أنه قال لـمعاذ : ما ملاك أمرنا الذي نقوم به؟ ]، يعني: ما أحسن شيء لنا؟ [ قال: الإخلاص وهي الفطرة، والصلاة وهي الملة، والسمع والطاعة وهي العصمة، وسيكون بعدك اختلاف ]، يعني: سيأتي أقوام يخالفون فيما أقوله لك.

    [ وعن حسان بن عطية قال: إن الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل ]، يعني: كأن العمل لم يكن من الإيمان في أول الأمر في العهد المكي، وأنتم تعلمون أن العهد المكي كان الإيمان فيه عبارة عن قول، حتى نزلت بعد ذلك التكاليف، فدخلت في الإيمان.

    قال: [ قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، ثم صيرهم إلى العمل فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:3-4] ].

    1.   

    التحذير من مقولة المرجئة بكمال إيمان عصاة المسلمين

    قال: [ فاحذروا -رحمكم الله- من يقول: أنا مؤمن عند الله وأنا مؤمن كامل الإيمان، ومن يقول: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل فإن هؤلاء مرجئة، أهل ضلال وزيغ وعدول عن الملة ].

    إن الصحابة رضي الله عنهم، مع أنهم بشروا بالجنة، فالذي بشر بالجنة بالاسم والعين كان يخشى على نفسه النفاق، ولا يأمن عاقبة الأمور.

    قال: [ قال الأوزاعي : ثلاث كلهن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان ]، أي: من قال ذلك فهو مبتدع؛ ومذهب أهل السنة والجماعة الاستثناء في الإيمان، يعني: إذا سئلت: هل أنت مؤمن؟ فقل: أرجو أن أكون مؤمناً، أو قل: نعم إن شاء الله، ليس على سبيل الشك.

    قال: [ وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله عز وجل ].

    [ وقال شريح بن النعمان سألت يحيى بن سليم الطائفي ونحن خلف المقام: أي شيء تقول المرجئة؟ قال: يقولون: ليس الطواف بهذا البيت من الإيمان ]؛ يعني: لأنهم يخرجون العمل عن مسمى الإيمان وحقيقته.

    قال: [ وعن نافع بن عمر بن جميل القرشي قال: كنت عند عبد الله بن أبي مليكة ، فقال له بعض جلسائه: يا أبا محمد ! إن ناساً يجالسونك يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل.

    قال: فغضب ابن أبي مليكة وقال: والله ما رضي الله لجبريل حين فضله بالثناء على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:19-22] يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أفجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان؟ ].

    أي: وفهدان رجل ممن أدرك ابن أبي مليكة وكان يعيش في زمانه، وكان رجلاً ماجناً يشرب الخمر ولا يكاد يفيق من السكر، فهو يقول لهم: أتتصورون أن إيمان فهدان مثل إيمان جبريل وميكائيل؟

    أي: أترضون لي أن أقول أن إيمان شخص لا يكاد يفيق من السكر كإيمان جبريل وميكائيل؟

    [ وقال نافع : وقد رأيت فهدان رجلاً لا يصحو من الشراب ]، يعني: لا يكاد يفيق من السكر، والمرجئة يزعمون أن فهدان كجبريل وميكائيل! ليس بينهما أي تقارب في الإيمان.

    [ وقال نصر بن المثنى الأشجعي كنت مع ميمون بن مهران فمر بجويرية ]، أي: ببنت صغيرة، [وهي تضرب بالدف وتقول: وهل علي من قول قلته من كنود؟ ] أي: اللوم والتوبيخ: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6]، يعني: متنكراً لحكم الله عز وجل، ومع هذا هو لحب الخير الذي يأتي من عند الله لشديد، فإذا وصلته النعمة تنكر لها، وظن أن ذلك باجتهاده وعمله.

    فهذه الجويرية عند أن ضربت بالدف تقول: وهل علي من قول قلته من كنود؟ أي: هل يستطيع أحد منكم أن يقول: هذا القول فيه عتاب أو ملامة؟

    [ فقال ميمون : أترون إيمان هذه كإيمان مريم بنت عمران ]، يعني: هل إيمان هذه الجويرية التي تغني وتضرب بالدف كإيمان مريم ابنة عمران [ قال: والخيبة لمن يقول: إيمانه كإيمان جبريل ].

    [ وقال الوليد بن مسلم : سمعت أبا عمرو ومالكاً وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى، هو في زيادة أبداً، ويقولون على من يقول: إنه مستكمل الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل، قال: قال الوليد : قال سعيد بن عبد العزيز : هو أن يكون إذا أقدم على هذه المقالة إيمانه كإيمان إبليس؛ لأنه أقر بالربوبية وكفر بالعمل، فهو أقرب إلى ذلك من أن يكون إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام ].

    [ وعن حذيفة أنه قال: تفترق هذه الأمة حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة، تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا؟ ] يعني: فرق الضلال تأتي وتقول: ما هذه الصلوات الخمس؟ إنما هما صلاتان فقط!

    قال: [ وتقول الأخرى: إنا مؤمنون كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق، حقاً على الله تعالى أن يحشرهم مع الدجال ]، يعني: هؤلاء دجاجلة وهم يستحقون أن يكونوا أتباعاً للدجال، لا للنبي محمدٌ عليه الصلاة والسلام.

    [ وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يقولون: ما فينا كافر ولا منافق؟! جذ الله أقدامهم ]، يعني: قطع الله أقدامهم.

    [ وقال وكيع : القدرية يقولون: الأمر مستقبل، إن الله لم يقدر المصائب والأعمال ]. أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يكتب أعمال العباد إلا بعد أن وقعت، أليست القدرية هم الذين يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف؟ أي: مستأنف، والله تعالى لا يعلمه إلا بعد أن يقع، هكذا تقول القدرية، يقولون: الله تعالى لا يعلم الأعمال إلا بعد وقوعها، أما قبل وقوعها فهي ليست مكتوبة ولا مقدرة ولا يعلمها الله، وهو قول كفر مخرج من الملة.

    قال: [ والمرجئة يقولون: القول يجزئ من العمل ]، يعني: النطق باللسان يكفي، أما العمل فليس بشرط.

    قال: [ والجهمية يقولون: المعرفة تجزئ من القول والعمل.

    قال وكيع : وهو كله كفر ]، يعني: كل هذه الأقوال كفر.

    1.   

    موقف السلف من المرجئة

    قال: [ وقال سفيان عندما ذكروا له المرجئة: رأي محدث أدركنا الناس على غيره ]، يعني: الكلام المرجئي الذي أسمعه منكم؛ وهو أن العمل لا علاقة له بالإيمان ولا بأصل الإيمان ولا حقيقته ولا تمامه وكماله، هذا قول محدث أدركنا الناس على خلاف ذلك، وإن ذكر الناس فالمقصود بهم العلماء أهل السنة.

    [ وقال أيوب: أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء من أهل المدينة رجل من بني هاشم يقال له: الحسن ]، أي: ابن محمد .

    [ وقال أبو مليح : سمعت ميمون بن مهران يقول: أنا أكبر من الإرجاء ].

    [ وعن زاذان وميسرة قالا: أتينا الحسن بن محمد الهاشمي فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟ ] أي: الحسن بن محمد الهاشمي أول من تكلم في الإرجاء، وكذلك ذر.

    فصنف كتاباً يؤصل فيه الإرجاء، ووضع القواعد ومنهج الإرجاء في هذا الكتاب، فلما قرأه زادان وميسرة أتيا إليه فقالا له: [ ما هذا الكتاب الذي وضعت. قال: وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة، قال زاذان قال لي: يا أبا عمر ! لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو قبل أن أضع هذا الكتاب ]، يعني: هو قد وضع أصول البدع وتاب، لكن هذه السنة عمل بها من أتى بعده، فإذا تاب وصحت توبته وتقبلها الله عز وجل، فلا عبرة بمن أتى بعده.

    وأنتم تعلمون أن الذي وضع أصول الأشعرية هو أبو الحسن الأشعري وتاب، والأشاعرة إلى الآن متمسكون جداً بمذهب أبي الحسن الأشعري السابق، ويزعمون أن أبا الحسن لم يتب، ويعتبرون أن ما هم عليه من أشعرية وتأويل وصرف للنصوص عن ظاهرها هو المنهج الحق الذي ينزه البارئ تبارك وتعالى.

    فهم يتصورون أنهم على الحق فيقولون: إذا كان أبو الحسن قد تاب فمن أي شيء تاب؟ من الحق الذي كان عليه، فبعضهم يقول: هو تاب إلى الضلال، وهو التشبيه والتجسيم، يعني: انتقل من التأويل إلى التشبيه والتجسيم، وهذا عندهم ضلال؛ ولذلك صنف ابن الجوزي رحمه الله كتاباً لعله أشأم كتاب في الإسلام سماه: دفع شبه التشبيه، أشأم كتاب متعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته.

    فهو يرد فيه على الحنابلة رغم أنه حنبلي في الفروع، إلا أنه لا يرضى مذهب أحمد بن حنبل في العقيدة، وكان مؤولاً أشعرياً، وكان يرد على الحنابلة ويقول: إثباتكم للصفات يعني التمثيل والتشبيه، إذا أثبتم لله اليد والعين والوجه وغير ذلك، فأنتم تجعلون الله تبارك وتعالى في صورة رجل، فلما تصور ذلك وعجز أن يدرك حقيقة معتقد أهل السنة والجماعة، والحنابلة على جهة الخصوص؛ ذهب ليرد عليهم بزعمه درءاً ونفياً للتشبيه والتمثيل، فسمى الكتاب دفع شبه التشبيه.

    وقد نصح مراراً من أهل السنة والجماعة في زمانه فلم يرجع عن ذلك، ولكنه صنف بعد ذلك رسالة لا تزال في حيز المخطوطات، وهي عندي، وقد بدأت العمل فيها،

    ويذهب فيها الإمام ابن الجوزي مذهباً عظيماً جداً هو مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات، فالذي أبحث عنه الآن بصورة جدية هل هذه الرسالة التي معي صحيحة النسبة إليه بعد كتابته دفع شبه التشبيه أو قبلها؟ فلو صح أنه صنف هذه الرسالة التي بين يدي بعد شبه التشبيه لكان رجلاً من أهل السنة والجماعة، ومات على ذلك.

    ولو أن دفع شبه التشبيه بعد هذه الرسالة لقلنا: إنه كان متأثراً أولاً بمذهب أهل السنة والجماعة، حتى ضحك عليه القوم فترك مذهب أهل السنة اعتقاداً منه أنه يدل على التشبيه والتمثيل، وذهب إلى مذهب التأويل أو مذهب الأشاعرة.

    [ وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: الولاية بدعة، والشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة ].

    وأما البراءة من أهل الإيمان فهي بدعة، والمقصود بالبراءة أن يبرأ من قوم هم على دين الإسلام والسنة، يقول لك: هؤلاء أهل سنة، لا أريد أن أقرب منهم ولا هم يقربون مني، إن هؤلاء السنيين متعصبون ومتشددون، يقول: أول ما نظرت بعيني الصباح بعد أن قمت من النوم على شخص لحيته ربع متر أعوذ بالله! فمن عند أن وضعت عيني عليه علمت أن هذا اليوم من أوله غم وهم.

    هذه براءة من أهل السنة، وهذا القول في غاية الخطورة، بل أنت مأمور بموالاة الموحدين ومعاداة الكافرين، فأنت الآن توالي الكفار وتعادي أهل الإيمان.

    شخص يقول: أقوم من النوم الصبح فلا أغسل وجهي ولا أصلي الصبح ويكون يوماً مثل الفل، بينما اليوم الذي أصلي فيه الصبح لا أحصل فيه على شيء من المال، ويكون يوم غم علي وعلى عائلتي بالكامل.

    وإذا سألته وقلت له: أتصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟ يقول لك: نعم، أصليهن عند أن أنام، لأنني أخاف إن صليتهن أثناء النهار أن الرزق ينقطع. ما هذا الخذلان يا إخوة!!

    والله العظيم لا يصلح أن يكون هذا معتقد يهود، اليهود لا يعتقدون هذا في الله عز وجل، النصارى من الساعة السابعة صباحاً في الكنيسة، لأنهم يؤمنون بصلاتهم وبكائهم وتصديتهم، لأنهم يهتمون بعبادتهم وبذهابهم إلى بيوت العبادة عندهم، كما يتشاءم هذا بالذهاب إلى المسجد والصلاة فيه وغير ذلك.

    أقول: قد وصل قوم من المسلمين إلى عقيدة لا تصلح أن تكون عقيدة لليهود ولا للنصارى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    أما الشهادة فهي: أن نشهد لأحد بعينه أنه من أهل النار أو أنه من أهل الجنة، إلا أن يموت على ما يستوجب دخول النار كالكفار.

    شخص مات على الكفر البواح؛ على اليهودية، على النصرانية، على المسيحية، على البوذية، نشهد بأنه من أهل النار، نحن نشهد يقيناً أنه من أهل النار؛ لأنه مات على الكفر، لكن مادام أنه حي لا نشهد بأن مآله إلى النار، فيمكن أن يسلم قبل موته ولو بلحظة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله ثم يموت مباشرة، لكن لو مات شخص من أهل الإسلام، لا يقال فيه شهيد الإسلام وشهيد الحرية وإلى آخره، وهذا لا يصح.

    لكن لو مات إنسان في الحرب نقول: نحسبه شهيداً عند الله، نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً.

    إذاً: القطع لإنسان بأنه من أهل الجنة من البدعة، إلا أن يأتي النص بذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وأبو عبيدة في الجنة، وطلحة في الجنة، وسعد في الجنة).. وغير ذلك، وقد وردت نصوص كثيرة من القرآن والسنة عن النبي عليه الصلاة والسلام بالشهادة بالجنة لأناس من أصحابه رضي الله عنهم.

    فإذا أتاني النص يقطع بأن فلاناً في الجنة أنا كذلك أقطع أنه في الجنة، يعني: لو طولبنا بأن نقسم يميناً مغلظة أن أبا بكر في الجنة، نقسم على أنه في الجنة، والسبب في ذلك أنه لو لم يأت نص لما استطعت أن أقسم على ذلك نهائياً، ليس هناك نص في أحمد بن حنبل ، لكننا نرجو أن يكون هو من أكابر من يدخل الجنة، لكن لا نقطع بذلك، هذا ليس لنا، وليس من حقنا أن نفعل ذلك، لكننا نرجو الله تبارك وتعالى أن يدخله الجنة.

    [ وكان عون بن عبد الله من آدب أهل المدينة وأفقههم ]، يعني: من أكثر أهل المدينة أدباً وفقهاً، [ وكان مرجئاً في أول الأمر ولكنه تاب ]، ومعلوم أنه من رواة مسلم .

    [ وأنشأ بعد التوبة يقول:

    لأول من تفارق غير شك تفارق ما يقول المرجئونا

    وقالوا مؤمن من أهل جور وليس المؤمنون بجائرينا

    وقالوا مؤمن دمه حلال وقد حرمت دماء المؤمنينا ]

    قال الشيخ رحمه الله: [ قد ذكرت من حال الإيمان وصفته مما نطق به الكتاب وجاءت السنة بصحته، وما يلزم العاقل التمسك به والحذر ممن خالف ذلك وحاد عنه، ونسأل الله العصمة من الفتن، والوقاية من المحن.

    هذا آخر الرد على المرجئة، وهو آخر الجزء السابع من الأصول.

    والحمد لله والصلاة على محمد رسوله ].

    وبهذا ينتهي هذا المجلد، وموعدنا إن شاء الله تعالى مع المجلد التالي من كتاب الإبانة لـابن بطة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756000988