وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
فهذا هو الدرس الأول في صلب الكتاب، وما سبق كان تعريفاً بالمؤلِّف والمؤلَّف.
ذكر الإمام ابن بطة رحمه الله في مقدمة هذا الكتاب كلاماً يستشعر القارئ أنه ينضح أسىً وحزناً على ما بلغ إليه أهل زمانه من الفساد والانحراف وترك السنة وظهور البدعة، فكيف به لو ظهر في زماننا ورأى ما نحن عليه؟!
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الحمد لله المشكور على النعم بحق ما يطول به منها، وعند شكره بحق ما وفق له من شكره عليها، فالنعم منه والشكر له، والمزيد في نعمه بشكره، والشكر من نعمه لا شريك له، المحمود على السراء والضراء، والمتفرد بالعز والعظمة والكبرياء، العالم قبل وجود المعلومات، والباقي بعد فناء الموجودات، المبتدئ بالنعم قبل استحقاقها، والمتكفل للبرية بأرزاقها قبل خلقها، أحمده حمداً يرضيه ويزكينا لديه، وصلى الله أولى صلواته على النبي الطاهر عبده ورسوله مفتاح الرحمة وخاتم النبوة، الأول منزلة، والآخر رسالة، الأمين فيما استودع، الصادق فيما بلغ.
أما بعد:
يا إخواني! عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غير الزمان -أي: من تغيرات الزمان ومحدثاته- وزخاريف الشيطان، فقد كثر المغترون -وفي رواية: فقد كثر المفترون- بتمويهاتها، وتباهى الزائغون والجاهلون بلبسة حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحل الذي حذرناه نبينا صلى الله عليه وسلم، من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، وواقع أكثرنا الذي عنه نهينا، وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلية الإيمان، وانكشف الغطا وبرح الخفاء، فعبدت الأهواء واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة وانتشرت أعلامها، وظهرت الردة وانكشف قناعها، وقدحت زناد الزندقة فاضطرمت نيرانها، وخلف محمد صلى الله عليه وسلم في أمته بأقبح الخلف، وعظمت البلية واشتدت الرزية، وظهر المبتدعون، وتنطع المتنطعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهتكت سجف المشاينة، وشهر سيف المشاحة بعد أن كان أمرهم هيناً وحدهم ليناً، وذاك حتى كان أمر الأمة مجتمعاً، والقلوب متآلفة، والأئمة عادلة، والسلطان قاهراً، والحق ظاهراً، فانقلبت الأعيان، وانعكس الزمان، وانفرد كل قوم ببدعتهم، وحزب الأحزاب، وخولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رءوساً أرباباً، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا نحوه مسرعين من كل قاصية، فألبسوا شيعاً، وميزوا قطعاً، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله عز وجل، وصدفهم عن الحق، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله عز وجل عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فأشعلت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الماضين، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار ورويت فيهم الآثار ].
وهذه النصوص ما كان منها مرفوعاً شددنا فيه، وما كان منها موقوفاً أو أقل من ذلك تساهلنا فيه، وذكرنا بالعبرة منها.
قال: [ عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل، حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة) ]، ولم يذكر اليهود؛ لأن اليهود افترقت إلى واحد وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الرواية إنما تكلم عن بني إسرائيل، وهم اليهود والنصارى.
قال: [ (وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، تزيد عليهم واحدة) ]، أي: أن هذه الأمة في تفرقها واختلافها، وعدم ائتلافها واتفاقها، أنها تزيد في تفرقها وتشرذمها وابتعادها عن نهجه السليم القويم عن عدد الاختلاف الواقع في بني إسرائيل، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لما علم يقيناً من ربه أن اليهود والنصارى بعد بعثته جميعاً في النار ما لم يؤمنوا ويدخلوا في الإسلام إنما اهتم وعني ببيان الفرق الإسلامية التي ستدخل النار.
فقال: [ (تزيد عليهم واحدة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! وما تلك الواحدة قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي) ].
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان على المحجة البيضاء، وقد تركنا عليها، ليلها كنهارها، ليس فيها زيغ ولا خفاء ولا لبس، ولا شيء من هذا مما يعذر به المرء بين يدي الله عز وجل.
فكانت الأمور واضحة والسنة ظاهرة حتى نهاية العصر الأول من عصر النبوة، حين ظهرت القدرية والخوارج والشيعة، وهذه الفرق هي أُولى الفرق ظهوراً في الإسلام، وكلها ظهرت في أواخر القرن الأول من القرون الخيرة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام بين أن الافتراق لا بد أنه واقع في هذه الأمة، وبين أن هذه الفرق ثلاث وسبعون فرقة، ثم بين أن مجموع هذه الفرق في النار إلا واحدة فقط، وهي التي يطلق عليها أهل العلم: الفرقة الناجية، وبعض الناس يخطئ إذا تصور أنها الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة إجماعاً، لذا فإن كل من تمسك بالسنة واستمسك بها، وتمسك بالجماعة ولم يفارقها قيد شبر، فهو من أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية.
أما الطائفة المنصورة فشيء آخر، إذ إنهم خاصة الفرقة الناجية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
قال الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة: إن لم يكونوا هم أهل الحديث فلا أدري من هم؟!
والظن بالإمام أحمد أنه عنى: أهل العلم المتخصصين المعروفين به، سواء كانوا من أهل الحديث أو من غيره من بقية فروع العلم الشرعي.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)، والسؤال هنا: هل هؤلاء دخلوا النار ردة؟ وإذا دخلوها -إن لم يكونوا قد ارتدوا- فهل سيخلدون فيها؟
اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إن هذه الفرق كفرت وارتدت، وهي في الآخرة مخلدة في النار، لكن جمهور أهل السنة والجماعة أن الحكم بالنار لهذه الفرق ليس على سبيل التأبيد، وإنما على سبيل جزاء الانحراف وعلى قدر الانحراف، فيعذبون ثم يخرجون بشفاعة الشافعين بعد ذلك.
مع أنهم يستثنون الغلاة، وإن شئت فقل: هم يقسمون الفرق إلى عامة وغلاة، فالغلاة منهم لا بأس بتكفيرهم؛ لأنهم من أهل العلم، وقد ظهرت لهم حجج أهل السنة والجماعة، وهي حجج شرعية نقلية، ومتفقة مع العقل السليم تمام الاتفاق. وهذا الرأي من أعجب الآراء إلي، إذ إن غلاة كل فرقة كفار إذا أتوا ما يستوجب كفرهم، وهم مخلدون في النار بالتأكيد إلا فرقة واحدة وهم أهل السنة والجماعة.
وسموا بأهل السنة لاتباعهم للسنة، وسموا الجماعة لأنهم لا يخالفون الإمام ولا يخرجون عليه، وأعني بالإمام: الإمام العادل المسلم وإن كان فاجراً؛ لأن أهل السنة متفقون على عدم جواز الخروج على الإمام المسلم وإن جار، لكن بشرط أن لا يكون جوره مؤدياً إلى كفره كفراً بواحاً، فلو كان مؤدياً إلى كفره كفراً بواحاً، واستتيب ولم يتب وجب على الأمة أن تجتمع لخلعه ولا بد، قال: (كلهم في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! وما تلك الواحدة قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي) وهذا يدل على أن الصحابة وخاصة الخلفاء الراشدين على الستر والسلامة والأمن والإيمان، وأن البدع من أبعد الأشياء عنهم أجمعين، فضلاً عن الخلفاء الراشدين.
ثم قال: [ (لتركبن ما ركب أهل الكتاب لا تخطئون ولا يخطأ بكم، حذو النعل بالنعل) ]، أي: تصيرون خلفهم، فإذا رفعوا نعالهم وضعتم أنتم نعالكم مكان نعالهم، مبالغة في ترك سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وترك الاهتمام بها والاهتداء بهديه، ومتابعة اليهود والنصارى في كل شيء، في عقائدهم وأخلاقهم ومسالكهم ومشاربهم، حتى لا يكاد الواحد منا -عياذاً بالله- يخطئ اليهودي ولا النصراني فيما يتعلق بخاصته، أي: يقلده في كل شيء، وأنتم تعلمون الآن أن تقليد المسلمين لأهل الكتاب -وإن شئت فقل: دول أوروبا وأمريكا- على أشده في بلاد المسلمين، حتى أخذ هذا مظهراً آخر واعتقاداً آخر، وحتى صار الذي يتبع اليهود والنصارى هو الإنسان المتمدن المتحضر الواعي العاقل الفاهم، وغير ذلك من هذه المصطلحات الرنانة، وفي الحقيقة هو الإنسان الفاجر الخاسر المستنكف عن عبادة الله عز وجل، المخالف لطريق النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا على أية حال مذهبنا، وهذا فهمنا، وليعده من شاء تخلفاً أو تقدماً، فهذا لا يعنينا، إنما الذي يعنينا هو اعتقادنا الجازم أن ترك السنة وركوب سنن أهل الكتاب هو التخلف بعينه، وهو الفجور بعينه، وهو الفسق بعينه، وأخشى أن من قلدهم حشر معهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم، يحب القوم لكنه لا يتمكن ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)، قال أنس وهو راوي الحديث: فوالله ما فرح الصحابة رضي الله عنهم أشد من فرحهم يوم أن سمعوا: المرء مع من أحب، ثم قال أنس : وأشهدكم أنني أحب أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم أجمعين.
قال القاضي عياض : الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر، كل هذه الألفاظ التي وردت في الأدلة تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه، وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك)، أي: ومن أعني إلا أولئك.
قال: [ ويلزمون اللجاء والافتقار إلى الله عز وجل في الاعتصام بحبله -أي: القرآن- والتمسك بدينه، والمجانبة والمباعدة ممن حاد الله ورسوله في أمره، وشرد شرود الناد المغتلم]، أي: شرود إنسان فارق وخالف وشذ.
ثم قال عياض: أتدرون ما نقض الصلاة؟ قالوا: لا نعلم، قال: رفع الخشوع.
والناظر في هذا الحديث الصحيح سيجد أنه ينطبق تمام الانطباق على أهل زماننا، فإن الإسلام ينقضي عروة عروة، وشيئاً فشيئاً، والعجب أنك إذا قرأت لعلماء السنة منذ خمسين عاماً مثلاً أو مائة عام وهم يذبون عن الإسلام وعن الإيمان، فيدافعون في وجوه أعداء السنة والقرآن، ويردون على المستشرقين أقوالهم وأفعالهم، ودس السم في العسل، تكاد تعجب إذا قرأت مثلاً لواحد مثل الشيخ أحمد شاكر وهو لم يمض على موته خمسين عاماً، فيرد على الملاحدة في زمانه؛ لأنهم تكلموا في فرعيات وجزئيات لا يكاد طالب العلم أن ينتبه لها، لكن انتبه لها العلماء أمثال الشيخ أحمد شاكر ؛ لأن ملحداً أو زنديقاً أو منافقاً أو معادياً للإسلام وأهله أراد أن يغمز الإسلام غمزاً من طرف خفي وعلى استحياء، في جزئية الجزئية من دين الله عز وجل، لينظر الآن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إلى الطعن وخلع الثوابت من قلوب أبناء الإيمان وأهل الإسلام، والمسألة لا تحتاج بعد ذلك إلى استحياء، فكل كيد أو كل خنزير عنده طعن على الإسلام وأهله، سواء في الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو القرآن، أو الرسول، أو السنة، أو في الله عز وجل؛ له أن يتقدم به الآن، وله أن يفعل بدين الله ما يشاء تحت ذريعة الإبداع، وحرية الفكر، وباب الأدبيات الراقية، والعقول النيرة.
ونحن نقول لهم: من باب الديمقراطية التي تؤمنون بها ونكفر نحن بها أيضاً؛ لأن الديمقراطية ما هي إلا ترك حكم الله عز وجل، وأن الشعب يحكم نفسه بنفسه.
فنحن على أية حال من باب الديمقراطية التي يؤمنون بها نقول لهم: أعطونا فرصة، فمن باب الأدب، ومن باب الديمقراطية، ومن باب الإبداع أن نفكر كما تفكرون، وأن نبدع كما تبدعون، وأن نستنير كما تستنيرون ونقول إنكم كفار! فهذا الإبداع الذي نملكه نحن؛ لأن الذي يسب الله تعالى ويسب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويقول إن القرآن كذا وكذا، وإن الرسول مزاجي! ويغمط النبوة والرسالة، ويطعن في شخصه عليه الصلاة والسلام؛ الذي يفعل ذلك كافر.
ثم بعد ذلك يظهر كتاب آخر بعد هذا الكتاب، يطالب باستئصال ثوابت الإسلام من قلوب المؤمنين، بالطعن في ذات الإله، وبالطعن في القرآن، ثم يقول: وهذا إبداع، وهذه أدبيات راقية قلَّ أن يصل إليها أحد من أهل العصر!
ونحن نقول: لو تكرمتم أعطونا فرصة لنبدع مثلكم، لكن إبداعنا إيمان وكفر؛ ولذلك نحن نقول: ما وصلتم إليه إبداع، ونعم الإبداع هو في نظركم! وهو عندنا كفر بواح، وقائله كافر، والراضي به كافر، والمساعد على مثله كافر، فهذا الإبداع الذي عندنا، وليس إبداعكم أولى بنشره وبيانه ووضوحه من إبداعنا، فأعطونا مساحة نبدع فيها، ولا تجعلونا أكواماً على الأرصفة، فنحن لنا الحق في الإبداع مثلكم، لكن إبداعنا يقتضي تكفيركم وخلودكم في النار إن متم على ذلك، فهذا نوع إبداعنا، وكل واحد أعلم بإبداعه، وهو حر في إبداعه.
والعجب العجاب: أن الكلام من قبل كان في فرعيات وجزئيات الدين على استحياء وخجل، وكان يقال: هذا الكلام يمكن أن يصح ويمكن ألا يصح، يمكن أن يقصده قائله ويمكن ألا يقصده، أما اليوم فسب علني لكل ثوابت الإسلام! وتصور لو أن بعض السلف رضي الله عنهم -ولا أقصد بالسلف الشيخ أحمد شاكر الذي مات منذ خمسين عاماً ومن مات قبله وبعده بقليل- ظهر الآن ورأى هذا الإبداع في خلع مبادئ الإسلام من قلوب أبنائه، فماذا يقول؟ وكيف يكون موقفه؟!
أما نقض الحكم فهو بلية البلايا، فالله تعالى يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، أي: ليس الحكم لأحد إلا لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وأما هذه الدول العربية والإسلامية التي استغنت عن الله وعن حكمه، وعن شرعه وعن قرآنه، فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، بل ليس بعد كلام الله كلام، ولا بعد كلام الرسول كلام، إنما هي حثالات عقول البشر التي لا يمكن أن تصلح من خرج بها، ومن ظن أنه أبدعها أولاً، فإنها والله لا تصلحه، وكنا من قبل نعتقد ما كان يملى علينا في الجامعات من أن هذه القوانين الغربية لا تصلح إلا في بلادها التي خرجت منها، وإننا الآن بعد أن رددنا هذا نقول: إن هذا من أنكر المنكر وأكثر الفساد، بل هذه البلاد الغربية لا يصلحها إلا كتاب الله عز وجل، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن القوانين الفرنسية والإنجليزية والأمريكية لا تصلح للتطبيق في هذه البلاد، بل لا يصلحهم إلا ما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام.
فهذا الحكم قد نقض منذ زمن بعيد، ولا أعلم بقعة على وجه الأرض الآن تطبق شرع الله عز وجل كما أراد الله، وكما أراد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، إلا ما كان من فتات الشرع يطبق وبصفات شخصية أحياناً في بعض البقع الإسلامية.
أما دين الله عز وجل، فهل يطبق كما كان في عهد الخلفاء الراشدين، أو في عهد الدولة الأموية، أو الدولة العباسية، هل يطبق في الزمن الذي نحن فيه، أو في بلد نحن فيه، أو في البلاد المجاورة أو غيرها؟ لا والله، بل نقض الإسلام كله عروة عروة، حتى رفع الخشوع غالباً من قلوب المصلين، فتجد الواحد يصلي ثم يخرج من صلاته ولا يدري ماذا قرأ ولا كم صلى!!
هذا خبر من النبي عليه الصلاة والسلام يبين لنا فيه أنه لما بُعث بعث وحده في قوم يغطون في عبادة الأصنام والأوثان، ويعبدون آلهة شتى، فإذا به يسفه أحلامهم، أو يسفه أصنامهم، ويدعو لشيء غريب، ولذلك بدأ غريباً، ومن تبعه على ذلك كان أشد غرابة، خاصة الفقراء وهم أتباع الأنبياء، والمهاجرون الذين هاجروا إليه من الروم ومن فارس وغيرها من البلدان المجاورة، والحق الذي علمه من الكتب السابقة.
قال: (إن الإسلام بدأ غريباً)، وبعد غربة الإسلام اشتد وقوي وأسست الدولة وفتحت البلدان، وكذلك عقول الخلق وقلوبهم، وتحملت كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، واشتد عود الدولة حتى هابها القاصي والداني، حتى قال هارون الرشيد أحد الخلفاء لما أرسل رسالة إلى نقفور : من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما ترى لا ما تسمع، وسأرسل إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي.
وهذا يعني أن الإسلام كان في عزة وقوة وسيادة وريادة، وكان هذا لفترة من الزمان ليست بالقليلة، ثم كان الإسلام يضعف ويقوى حتى انتشر في ربوع الأرض على ضعف وهزال، وهي الفترة التي يمر بها المسلمون الآن، كثرة كاثرة لا قيمة لها ولا وزن لها.
ولذلك حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا، وإن شئت فقل: أخبر بهذا، وأننا غثاء كغثاء السيل، وسبب ذلك: (ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فهذا حال الأمة اليوم، ومن أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام أن يتكلم بهذا الكلام.
قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، أي: بعد قوة وذهاب للغربة الأولى سيعود غريباً كما بدأ؛ فلذلك أنتم الآن غرباء في مجتمع يغط غطيطاً في أخلاق الجاهلية وأعمال الجاهلية، وإن شئت فقل: نحن كذلك لم ننج من أعمال الجاهلية، بل كثير منا في وقت الميسرة تجده أحسن أخ، وفي وقت العسرة والغضب والشدة والضيق لو اضطر أن يذهب إلى ساحر يستجلب الرزق لذهب.
إن الواحد منا لو فقد شيئاً عزيزاً عليه وقيل له: ليس من علاج إلا أن تذهب للساحر لذهب وهو يعتقد أن الساحر سيأتي به، وهذا من أعظم الجاهلية، بل هو الكفر البواح، ومع هذا يصدر منا معاشر الصحوة أحياناً!
وعلى أية حال فالمسلمون اليوم يمرون بغربة عجيبة، والمتمسك بدينه كالقابض على الجمر، فليصبر، والله تعالى الناصر لعباده.
ولذلك بشر النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء الغرباء أولاً وآخراً بـ(طوبى) فقال: (فطوبى للغرباء)، أي: جزاء الغرباء لو تمسكوا بدينهم، واحتملوا هذه الغربة وما فيها من سب وتهكم وشتائم، واتهام بالإرهاب والتطرف؛ أن لهم في الآخرة: (طوبى) على خلاف في تفسيرها.
فقيل: هي منزلة في الجنة لا يدخلها إلا الغرباء.
وقيل: هي شجرة في الجنة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام، وقيل غير ذلك.
وإذا كان الواحد منا إذا استمع مثلاً إلى الشيخ المنشاوي كأن قلبه يحلق في السماء، وهذا الشيخ المنشاوي عنده ما عنده من المعاصي، وعنده ما عنده من الطاعات؛ لأنه فقط لا يخلو مما نحن فيه.
لكن النبي عليه الصلاة والسلام الذي ما أتى وما فكر في كبيرة قط، بل عصمه الله عز وجل، إنما أوتي من القرآن حلاوة وجمالاً وصوتاً لم يؤته أحد، فتصور أنك تسمع القرآن من النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن والصحابة خلفه يتمنون أن لو ختم القرآن، أن لو أتى على آخره دون أن يصيبهم ملل.
والشيخ ابن باز عليه رحمة الله يقول عن الشيخ المنشاوي : عجباً لهذا الرجل، لا يمل السامع من سماعه ولو كرر السورة مئات المرات! فما بالك بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ؟!
ومع هذا فإن عبد الله بن أبي ابن سلول الكلب الملعون، ما كفاه الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وسماعه القرآن منه، بل وما كفاه رؤية النبي عليه الصلاة والسلام، والآيات التي تتنزل من السماء، والمعجزات التي تظهر على يده الشريفة عليه الصلاة والسلام.
كل هذا لم يغير في قلبه، ولذا فلا يمكن أن يكون هذا قلباً، بل قطعة من الصخر أو الحجر.
ولذلك استغرب عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون النفاق في زمن النبوة، فقال: كان النفاق غريباً في الإيمان، أي: في ذلك الوقت.
ثم قال: [ ويوشك أن يكون الإيمان غريباً في النفاق ]، وهذا هو الشاهد، أي: أن معظم أبناء الأمة تمرسوا في النفاق حتى صار صاحب الإيمان فيهم غريباً، ولا زلنا في تفسير الغرباء.
قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه ]، فانظر إلى الخلع كيف يكون؟
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحاب المعاصي: كلما شرب العبد معصية نكت في قلبه نكتة سوداء، وإذا شرب أخرى نكت أخرى، وثالثة ورابعة حتى تسجتمع على قلبه طبقة تسمى الران، وهذا الران طبقة من السواد تغشى القلب حتى لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وربما زيد له في هذا البلاء، فعد المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
وهذا كما يفعل المنافقون في هذا الزمان، فيحاربون أهل الإيمان، لكن العجيب أن هذه الحرب باسم الإسلام وباسم الإيمان، فمثلاً: مجلة روز اليوسف، أو المتمسلمون من أسرة روز اليوسف لا يقلون في كفرهم ونفاقهم عن النصارى الذين يكتبون معهم في نفس هذه المجلة، إذ إنهم يحاربون أهل الإيمان، ويحاربون الدعاة إلى الله عز وجل، نعم عندنا ضعف، وعندنا أخطاء، وعندنا تجاوزات، ونحن في نهاية الأمر بشر، لكن ليس عندنا نفاق ولا كفر.
أما هم فهم أساتذة ومؤسسون للكفر، ويبثونه بالليل والنهار، وشتان بين ما عندنا من إهمال وتقصير وبين ما عندهم من كفر وجحود، ومع هذا يحاربوننا باسم الإسلام، أي: يقولون كلاماً يجعل الإنسان ينطلق في ليله ونهاره داعياً إلى الله، لذا فحذار أن تتصور أنك جئت إلى هنا لتسمع الدرس، بل أنت مكلف بعد خروجك من هذا المسجد بما هو أعظم من بقائك فيه، أنت مكلف في الليل والنهار بالدعوة إلى الله عز وجل، وفضح مخططات هؤلاء المنافقين، وإظهار صورة حسنة للإسلام وأهله، إما بالقول وإما بالعمل، وإن هذه الغمة لا تنقشع إلا بحسن الدعوة إلى الله عز وجل، ولا بد أن يقوم بها كل إنسان على قدر ما أوتي، وهنا نستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية).
قال: [ وعن حذيفة بن اليمان قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتصلين النساء وهن حيض، ولينقضن الإسلام عروة عروة، ولتركبن طريق من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ بكم، وتبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، لا يصلون إلا صلاتين أو ثلاثة، وفرقة أخرى تقول: إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة ما فينا كافر ولا منافق، حقاً على الله أن يحشرهم مع الدجال ].
هذا الكلام سنده ضعيف، وربما يكون في المتن بعض نكارة.
لكن لنا أن نأخذ العبرة من هذا الكلام، وهو أن فرقتين في آخر الزمان تنكران ثوابت الإسلام.
أما الأولى فتقول: ما هذه الصلوات الخمس التي يصليها الناس، فيكفينا أن نأخذ بالقرآن ولا علاقة لنا بالسنة، والقرآن ما قال في الصلاة غير قول الله عز وجل: َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ [هود:114]، أي: صلاة في أوله، وصلاة في آخره، وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، أي: وشيئاً يسيراً من آخره؟!
ووالله لقد بلغ إلى مسامعي من يقول بهذا، وهو رجل ادعى العلم، وكتب ما يربو على عشر رسائل يسب فيها أهل العلم، وكأنه أخذ على عاتقه أو أقسم طلاقاً أن يشتم ويسب إمام أهل السنة والجماعة الشيخ الألباني عليه رحمة الله تعالى، فأبى الله عز وجل إلا أن يفضح هذا ويرفع ذاك، فرفع الله تعالى ذكر الألباني في الناس كلهم أجمعين، وأخزى هذا الأبعد، وهو بجواركم هنا خلف هذا المسجد، ولا بأس أبداً أن أذكره، وهو المعروف بـأبي عبد الرحمن الأثري الذي صنف رسالة يقول فيها: تضعيف ما صححه الألباني وتصحيح ما ضعفه الألباني ، والرد على جهالة الألباني ، والرد على سفالة الألباني ، وغير ذلك من عناوينه الاستفزازية التي سب فيها أهل العلم.
وكذلك لم ينج علماء الحجاز من لسانه، حتى فتن في دينه الآن وقال: الصلوات الخمس بدعة منكرة، وليس في الدين إلا صلاة في الصباح وصلاة في المساء! ولا بأس أن يصلي المسلم شيئاً من الليل، هكذا قال أخزاه الله! فالحمد لله أن بلغ إلى أعظم حد الردة، وكل هذا بسبب سبه لأهل العلم، إذ إن أهل العلم لهم حرمة عظيمة، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن تعرض لهم بالثلب، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب.
على أية حال: نحن نحافظ كل المحافظة على البقية الباقية، لكن من أراد أن يمرق في هذا الزمان فالباب مفتوح على مصراعيه.
أما الفرقة الثانية التي ذكرها حذيفة فتقول: (إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق)، وهذا كلام يشبه كلام المرجئة؛ لأن المرجئة يقولون: نحن مؤمنون كإيمان جبريل وميكائيل، وإن إيماننا لا تضره ولا تؤثر فيه المعاصي، وهذا كلام كله خبل؛ ولذلك دعا عليهم حذيفة وقال: أسأل الله أن يحشرهم مع الدجال.
وهذا أثر ضعيف، وهو في الحقيقة شديد جداً على الناس، لكن حذيفة كان بارعاً ومتخصصاً في الفتن التي ستقع فيها الأمة حتى قيام الساعة؛ إذ إن النبي عليه الصلاة والسلام قد أطلعه على الفتن التي تظهر في الأمة إلى قيام الساعة، وتصور أن حذيفة يقول: سيأتي على هذه الأمة زمان لو أنك ألقيت على الناس في المسجد وهم يشهدون الجمعة سهماً؛ فإنه لا يكاد يقع إلا على كافر أو منافق، وهذا لكثرة النفاق وترك الإسلام، حتى وإن صلوا وصاموا.
وعلى أية حال فالأثر ضعيف، وأنا لا أقول به، لكن هذا الكلام يستفاد منه: كثرة الغدر في آخر الزمان.
أي: ما ابتدعت بدعة إلا أثرت فيما يقابلها من السنة، وهذا كلام حق؛ لأن البدعة في الدين بقصد القربة ليس لها دليل من الكتاب أو السنة.
وهنا لو أن مبتدعاً ابتدع في دين الله عز وجل فإنه لا بد أن تقابل هذه البدعة مثيلتها من السنة، فإذا ظهرت البدعة ماتت السنة، وإذا ضعفت البدعة ظهرت السنة، فالسنة والبدعة طرفا رهان، إذا ظهر أحدهما انطفأ الثاني.
فأنت الآن عندما تأمر شخصاً بسنة يقول لك: لنا خمسون سنة على هذا، وقد أخذت هذا عن آبائي وأجدادي. فيظن أن ذلك هو الحق، وهو في الحقيقة على بدعة، ولذا فما الفرق بين قيام معظم هذه الأمة على هذه المبتدعات والشركيات وأنهم ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وبين هؤلاء الذين عبدوا الأصنام أخذاً عن دين آبائهم وأجدادهم؟! إن هذا ابتدع والأول أشرك، ومن البدع ما هو شرك في العمل فحسب.
الحقيقة أن تخصيص علي بالسلام دون صحابة النبي عليه الصلاة والسلام أمر مبتدع لم يكن معروفاً عند سلفنا، إلا ما جاء عن الشيعة أنهم يقولون عن علي بن أبي طالب وأئمة البيت عليهم السلام.
ومن جهة الاعتقاد واللغة لا بأس أن نقول: عليهم السلام، لكن لا يختصون به دون بقية الأشخاص، فالصحابة جميعاً عليهم السلام.
أما تخصيص علي وآل بيته بذلك فمشعر بشيء من التشيع، لذلك لم يكن سلفنا رضي الله عنهم يخصون أهل البيت بالسلام، وإنما يقولون: علي رضي الله عنه، الحسن رضي الله عنه، الحسين رضي الله عنه، فاطمة رضي الله عنها، وغير ذلك من آل بيته عليه الصلاة والسلام.
قال: [ قال علي رضي الله عنه: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يقول أحد: الله الله ]، أي: لا يزال الناس في نقصان حتى لا يقول أحد: الله الله.
ومعنى: (حتى لا يقول أحد: الله الله)، أي: لا يستعلن أحد بذكر الله عز وجل، وليس معنى ذلك أن الأرض لا يبقى عليها أحد أبداً يعرف ربنا، ولا يقول: الله الله، بل لا يزال الناس في نقصان، حتى يخشى أهل الإيمان ألا يقول أحد: الله الله.
ونحن الحمد لله نصلي ونصوم ونرفع الأذان، ونعمل كل شيء في هذا الوقت، والحمد لله أيضاً أنه لم يجعلنا من أهل الزمان الذي لا يمكن لنا أن نرفع أصواتنا، ولا أن ننطق بألسنتنا لفظ الجلالة، إذ نحن في نعمة عظيمة جداً فلنحافظ عليها، والمحافظة عليها لا تكون إلا بالعلم والدعوة إلى الله عز وجل، ولا يزال باب الخير مفتوحاً، وباب الدعوة على مصراعيه.
والمسلم في دعوته إلى الله سيصيبه ما أصاب نبيه عليه الصلاة والسلام، إذ إن الأرض لم تفرش يوماً حريراً له، فقد أصابه ما أصابه في الحروب وغيرها، وكان الواحد من الأعراب يأتي فيأخذ بتلابيبه، أو يأخذ بثوبه حتى يؤثر ذلك في رقبته عليه الصلاة والسلام، ومع هذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يحلم عليه؛ ولذلك كان الصبر هو عدة الداعية إلى الله عز وجل، فمهما وقع بك من أذى فاصبر؛ لأن هذا طريق النبوة، وهذا طريق الدعوة، فتدعو إلى الله وإن أصابك أذى؛ لأنه سبحانه هو الذي أمرك بالصبر على ذلك في قوله: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، أي: تواضوا فيما بينهم بالحق الذي هم عليه، وتواصوا فيما بينهم بالصبر على ذلك، والصبر عبادة كالجهاد، وحذار أن تظن أن الصبر سلاح لا ينفع، وأن الدعاء سلاح لا ينفع، فهذا خلل في اعتقادك!
وحذار أيضاً أن تتصور أنه لا وقت للدعاء، وأنه لا وقت للصبر، إذ إن عبادة الوقت الآن هي الدعوة إلى الله عز وجل وطلب العلم والصبر على ذلك، وليس أمامك سبيل مفتوح الآن إلا هذا، فأنت مطالب أن تتعبد إلى الله عز وجل بما هو في وسعك ومقدورك، وهذا هو الذي في مقدورك الآن.
هذا الحديث وإن كان فيه ضعف، إلا أنه يشهد له حديث [عائشة رضي الله عنها: (أمرتم بالاستغفار لسلفكم فشتمتموهم، أما إني سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: لا تفنى هذه الأمة -أي: لا تقوم الساعة- حتى يلعن آخرها أولها)].
ونحن الآن نقرأ في كل يوم ونسمع كثيراً من يسب أبا هريرة، ومن يسب معاوية، ومن يسب خالد بن الوليد، ومن يسب معظم الصحابة، بل ومن يكفر أبا بكر وعمر ، أليس هذا حاصلاً في الأمة؟ أليس هذا آتياً من الفرق وحاصلاً في الفرق؟
إذاً: هذا الحديث من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أمرنا بالاستغفار لهم في كتاب الله عز وجل، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، فذهبنا نسبهم ونلعنهم، ألا حلت لعنة الله عز وجل على من لعنهم!
أي: أن الأمة ما تزال في نقصان حتى تلقى الله عز وجل.
وعليه فهذه الأحاديث كلها مرعبة ومخيفة، تجعل الواحد لا ينام الليل ولا يفتر بالنهار، وإنما يبحث عن سنة في مقدوره وبإمكانه أن يستمسك بها في وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الإلحاد والفجور والفسوق، بل والكفر البواح، نسأل الله العافية.
قال: [ وقال أبو الدرداء: لو أن رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمه -أي: لو كان الرجل يعلم الإسلام وما هو الإسلام ويهمه أمر الإسلام- ثم تفقده اليوم ما عرف منه شيئاً ]، وهذا قد أخذه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقال: صليت في مائة مسجد، فما رأيت واحداً يصلي صلاة كصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فتصور أن واحداً يقول هذا في القرن الثالث من القرون الخيرة: لو أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث فينا الآن ما عرف منا غير القبلة، أي: لا يعرف واحداً منا، وإنما يعرف أن هذه قبلة المسلمين، وأن هذه هي الكعبة؛ لأن المسلمين قد أضاعوا دينهم، حتى الملتزم منهم ملتزم على ضعف وهزال، يغفره الله عز وجل.
قال: [ قال الحسن : ذهبت المعارف وبقيت المناكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم ]، أي: المعروف الذي كان يعرف عند الصحابة بأنه معروف قد ذهب، وهذا في زمن الحسن البصري الذي مات سنة (110هـ)، أي: في أوائل القرن الثاني!
وقوله: (ذهبت المعارف)، أي: ماتت، (وبقيت المناكر)، أي: المنكر، والمناكر جمع منكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم؛ لما يرى من ظهور المنكر وخفاء المعروف.
قال: [ وقال الحسن : ما لي لا أرى زماناً إلا بكيت منه، فإذا ذهب بكيت عليه ].
أي: أن الحسن يبكي ويتحسر، ويتفطر قلبه دماً على الزمن الذي ولد فيه، فقد كان يتمنى أن يكون في زمن النبوة، لكنه تابعي ومن سادة التابعين، ومن أئمة أهل الورع، وهو سيد أهل البصرة في الورع والزهد والعلم والعبادة والاعتقاد، وهو الذي فضح المعتزلة من أول وهلة.
ولا زلنا نقول: (معتزلة) إلى قيام الساعة أخذاً عن تسمية الحسن البصري رضي الله عنه لـواصل بن عطاء.
يقول الحسن: (مالي لا أرى زماناً إلا بكيت منه)، أي: في زمانه، (فإذا ولى هذا الزمان بكيت عليه)؛ لأنه يعلم أن ما يأتي بعده هو شر منه.
يريد أن يقول لك الحسن البصري وأبو الدرداء وغيرهم ما قالوا هذا الكلام الذي يتفطر فيه القلب دماً وغماً إلا والإسلام في عز قوته وعنفوانه وشبابه.
قال: [ والأئمة راشدون، والأمراء مقسطون -أي: عادلون- فما ظنكم بنا وبزمان أصبحنا فيه وما نعانيه ونقاسيه، ولم يبق من الدين إلا العكر، ومن العيش إلا الكدر، ونحن في دردى الدنيا وثمارها ]، أي: الحثالة من الطين التي تبقى في الماء، فهو يريد أن يقول: نحن الآن في نهاية الدنيا، وقد ذهب المسلمون الحق ولم يبق إلا الغثاء، وهذا في زمنه هو، فكيف بزماننا نحن؟!
قال: [ وعن عبد الله بن مسعود قال: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم ]، عبد الله بن مسعود يقول هذا في زمن النبوة في القرن الأول، يقول: الموت اليوم تحفة وهدية الله عز وجل للمسلم؛ لأنه قد ذهب الذين يعاش في أكنافهم.
ولذلك يقول أبو هريرة: لقد ذهب الناس ولم يبق إلا النسناس. فـأبو هريرة يقول هذا، إذاً: ماذا نقول نحن؟!
وعائشة رضي الله عنها تقول: لقد ذهب الذين يعاش في أكنافهم، أي: لم يبق أحد يستحق الصحبة والعشرة.. وغير ذلك من أقاويل أشراف الأمة في أعظم زمن الأمة وهو صدر الإسلام.
قال: [ وقال زبيد: حدثني أبو وائل ، قال: قال عبد الله بن مسعود: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم، فقال الرجل الذي حدثه أبو وائل وزبيد: سمعت عبد الله يقول: ما شبهت الدنيا إلا بالتعب يسري صفوه ويبقى كدره، ولن يزالوا بخير ما إذا حز في نفس الرجل وجد من هو أعلم فمشى إليه فسقاه ].
أي: أنه يريد أن يقول: إن الخير الذي كان موجوداً في زمن عبد الله بن مسعود أن الواحد منهم عندما تحيك في صدره مسألة من مسائل العلم، فيسأل عن العلماء، فيجد عالماً يفتيه ويشفي غلته، فهذا هو الخير الذي كان موجوداً في زمن عبد الله بن مسعود وبعد ذلك لم يبق إلا الكدر.
ثم يقول: [ وايم الله ليوشكن أن تلتمس ذلك فلا تجده ]، أي: أنه يقسم بالله أن الرجل صاحب المسألة يسير في الناس، ويسأل عن عالم يفتيه فلا يجد؛ ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: أيها الناس! تعلموا قبل أن تسودوا، أي: تعلموا قبل أن تصيروا سادة كباراً؛ لأن من صار سيداً وكبيراً ثم عزل من سيادته ونزل من كبريائه يستنكف أن يجلس في مجالس العلم، أي: بعد أن يصير وزيراً أو رئيساً أو مديراً أو غير ذلك، فهل يقبل أن يرجع مرة أخرى؟ ولذلك لما حمل رجل على القضاء في زمن مالك قال: حتى أستخير وأستشير، فاستشار مالكاً في ذلك، فقال مالك : لا أحب أن تتولى القضاء إلا بعد أن تتعلم، مع أن هذا الرجل كان من أنبغ تلاميذ مالك ، لكن مالكاً أراد له أن يبلغ الكمال والتمام في العلم.
قال: ولم يا إمام؟ قال: لأنك لو عزلت عن القضاء لا ترجع إلينا هنا.
وكان عروة بن الزبير يقول لأبنائه وأبناء أخيه: يا بني تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم اليوم تكونون كبار قوم غداً.
فطلب العلم من أشرف المطالب، ويكفي أنه واجب على كل مسلم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
قال: [ وقال إبراهيم بن نصر: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كيف بك يا إبراهيم بن نصر إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه ناساً لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الأمين والخائن، ولا بين الجاهل والعالم، ولا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ]، فتصور أن زمناً يكون فيه كل هذه الآفات، وربما يكون هذا الزمن الذي نحن فيه.
قال ابن بطة : [ فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنا قد بلغنا ذلك وسمعناه، وعلمنا أكثره وشاهدناه، فلو أن رجلاً ممن وهب الله له عقلاً صحيحاً، وبصراً نافذاً، فأمعن نظره، وردد فكره، وتأمل أمر الإسلام وأهله، وسلك بأهله الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، لتبين له أن الأكثر الأعم الأشهر من الناس قد نكصوا على أعقابهم، وارتدوا على أدبارهم، فحادوا عن المحجة، وانقلبوا عن صحيح الحجة.
ولقد أضحى كثير من الناس يستحسنون ما كانوا يستقبحون، ويستحلون ما كانوا يحرمون، ويعرفون ما كانوا ينكرون، وما هذه -رحمكم الله- أخلاق المسلمين، ولا أفعال من كانوا على بصيرة في هذا الدين، ولا من أهل الإيمان به واليقين ].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
الجواب: على أية حال هذا الحديث قد ورد من طرق متعددة، من ثلاث طرق أو تزيد، ووقع النزاع بين أهل العلم في ثبوته من عدمه، والذي يترجح لدي أنه حديث حسن.
الجواب: على أية حال هذا كلام الفقهاء، وإذا كان حديثاً مرفوعاً فهو ضعيف، ونبه عليه شيخ الإسلام ابن القيم في كتاب زاد المعاد.
الجواب: رد السلام فرض عين على كل من سمع، لكن الراجح أن رد السلام فرض كفاية، فإن رد البعض سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثموا جميعاً، أي: أثم من سمع، وهذا إذا سلم الرجال على الرجال، والنساء على النساء.
ووقع الخلاف في سلام النساء على الرجال والعكس، فالراجح جوازه ما أمنت الفتنة، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (حق المسلم على المسلم ست، وذكر منها: رد السلام).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة : (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، و(أفشوا) فعل أمر.
وإلقاء السلام في مذهب الجمهور سنة، والذي يترجح لدي أنه واجب ما كان ذلك في الإسلام، والرد واجب بلا خلاف، ويبقى الإشكال في سلام النساء على الرجال والعكس، وهو مرهون بأمن الفتنة، فإذا سلمت المرأة على الرجال فلا بأس بذلك، وإذا سلم الرجل على جمع من النسوة فلا بأس بذلك.
أما إذا لقي الرجل المرأة، أو المرأة الرجل؛ فهذا الموقف صعب، وأصل السلام والحالة هذه جائز مع أمن الفتنة، خاصة حين يتعلق بالشاب والشابات، واستحب أهل العلم للشاب أو الفتاة أن لا يلقي أحدهما على صاحبه السلام؛ لأن الفتنة لا تكاد تكون مأمونة بين الشاب والفتاة.
الجواب: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، والنزاع وقع في فهم هذا الدليل، والكل متفق على صحة الحديث.
أما الفهم فمن الفقهاء من قال: إذا أقيمت الصلاة فلا يصح لأحد أن ينشئ صلاة غير صلاة الجماعة؛ ولذلك لما أقام بلال صلاة الفجر وشرع رجل في الصلاة، أي: في صلاة السنة، دنا منه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (آصبح أربعاً؟)، كالمنكر عليه أن ينشئ صلاة بعد سماع الإقامة.
وبعضهم قال: أنشأ أو لم ينشئ، فلو أنه كان في صلاة نافلة وأقيمت الصلاة فإنه يخرج من صلاته، والذي يترجح لدي -فضلاً عن المذهب الأول وأنه راجح بلا خلاف- أنه إذا كان الرجل في صلاة فسمع الإقامة، فإن كان قد نوى أربعاً صلاها اثنتين، ويتعجل فيها حتى يدرك الركعة الأولى مع الإمام، وإن كانتا اثنتين فليتمهما سريعاً حتى يدرك الإمام في الركعة الأولى، وهذا كله في النوافل والسنن.
أما إذا فاته الظهر، ثم دخل المسجد بعد أذان العصر، فصلى الظهر حتى يدرك العصر مع الإمام، فأقيمت الصلاة وهو في الركعة الثانية أو الثالثة، فلا يخرج من صلاته حتى يتمها، وهذا النهي وارد في حق السنن دون الفرائض.
كما أن النزاع وقع في كيف يخرج من صلاته، هل يخرج بتسليم أم لا؟
فمن حمل النهي في قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة إلا المكتوبة) على الفساد والبطلان قال: لا يلزمه التسليم؛ لأن صلاته تبطل بسماعه الإقامة.
ومن لم يحمل النهي على الفساد والبطلان قال: يلزمه التسليم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر