فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد:
فقد اختلف الناس في الشعر، فمنهم الذام له مطلقاً، ومنهم المادح له المكثر منه مطلقاً. والصواب: الاعتدال بين الأمرين، فما كان منه حسن ويدعو إلى مكارم الأخلاق ويبين مسائل التوحيد والعقيدة فلا شك أنه ممدوح وإن كثر، وما كان يدعو إلى الرذيلة والهجاء لأهل الإيمان وغير ذلك فلا شك أن هذا مذموم كل الذم.
قال: [ عن عمرو بن الشريد ]. وهو أبو الوليد الثقفي الطائفي، من ثقيف، من الطائف، وقبيلة ثقيف كلها كانت تسكن الطائف، فكل من كان ثقفياً فهو طائفي إلا ما ندر.
قال: عن عمرو بن الشريد عن أبيه -وهو الشريد بن سويد رضي الله عنه شهد بيعة الرضوان- قال: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً) ]. أي: ركبت خلفه على الدابة. وهذا يدل على جواز أن يركب على الدابة اثنان أو أكثر أياً كانت هذه الدابة: حماراً بغلاً فرساً دراجة أو غير ذلك؛ لأن بعض الناس يتحرج أن يركب خلف أخيه على الدابة ويقول: المماسة إما تفيد الكراهة أو التحريم، وهذا كلام في غاية النكارة والبعد، فقد قام الدليل على جواز ذلك وفعله من هو خير مني ومنك، وهو النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أردف خلفه قثم بن العباس، وعبد الله بن العباس، والفضل بن العباس، ومعاذ بن جبل، وأبا ذر، والشريد بن سويد، وأسامة بن زيد، ووالده زيداً، وبلال بن رباح، وأنس بن مالك وغيرهم كثير جداً، ولا فرق بين الدراجة وبين الحمار الذي سماه النبي عليه الصلاة والسلام (يعفور)، والذي يفرق إنما يفرق بغير دليل، والذي يحرم أو يكره إنما يحرم أو يكره كذلك بغير دليل، والأصل في ذلك الجواز.
ولذلك لفت نظر ابن منده كثرة إرداف النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه خاصة من الصغار، فصنف رسالة أسماها: (الأرداف)، ويمكن أن تقرأ: (الإرداف)، فسواء هذا أو ذاك، فقد جمع ابن منده في هذه الرسالة العظيمة جداً التي بلغت حوالي أربعين نصاً وزيادة جل من أردفهم النبي عليه الصلاة والسلام خلفه على الدابة، وأحاديثهم التي دارت في حال الإرداف، وهذا يدل ضرورة على أهمية هذا الأمر والاعتناء به، وحرص السلف على فعل ذلك، بل هو باب من أبواب الرحمة بالنسبة للصغار، وباب واسع جداً من أبواب الملاطفة للكبير، وتصور أن عظيماً يأخذ وراءه من هو أقل منه عظمة، وأن كبيراً يأخذ خلفه من هو أقل منه كِبَراً في القدر أو في السن، فهذا معاذ بن جبل أردفه النبي عليه الصلاة والسلام خلفه على الدابة وقال: (يا
وهذه الرسالة، أعني: (الإرداف)، قد حققتها منذ اثني عشر عاماً ولم تر النور إلى الآن، ولعل من استلمها مني يمن علينا قريباً بطبعها.
قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟) ]. أي: هل تحفظ شيئاً يا شريد من شعر أمية بن أبي الصلت؟ [ قلت: نعم. قال: (هيه) ]. أي: هات، أو اقرأ، أو اقرض. وقرض الشعر أولى من قراءته، لكن لا يقال: اقرض إلا لمن قرض الشعر نفسه، أما من حفظه فيقال: حافظ أو قارئ أو غير ذلك.
و(هيه) بكسر الهاء وإسكان الياء وكسر الهاء الثانية، ومعناها: هات ما عندك. [ (قال: فأنشدته بيتاً. فقال: هيه -أي: زد- ثم أنشدته بيتاً. فقال: هيه. حتى أنشدته مائة بيت).
قال: وحدثنيه زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- وأحمد بن عبدة جميعاً عن ابن عيينة -يعني: كلاهما يروي عن سفيان - عن إبراهيم بن ميسرة ، عن عمرو بن الشريد أو يعقوب بن عاصم]. أي: أن إبراهيم بن ميسرة إما أن يكون روى عن عمرو بن الشريد أو عن يعقوب بن عاصم ولا يضر، والذي يترجح أنه روى عن عمرو بن الشريد؛ لأن معظم الروايات إنما ذكرت عمرو ولم تذكر يعقوب بن عاصم. [ قال: عن الشريد قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه) فذكره بمثله ].
والإرداف لا يقال إلا لمن ركب في الخلف، أما إذا أخذه النبي عليه الصلاة والسلام أمامه على الدابة فلا يقال: إنه أردفه حينئذ؛ لأن الإرداف لا يكون إلا في الخلف.
قال: [ وحدثنا يحيى بن يحيى -وهو التميمي أبو يحيى النيسابوري - أخبرنا المعتمر بن سليمان ]
ثم ينتهي الإسناد ليبدأ إسناد جديد. قال: [ ح وحدثني زهير بن حرب ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي ]، و(كلاهما) تعود على المعتمر بن سليمان وعبد الرحمن بن مهدي. [ قالا: عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: (استنشدني رسول الله صلى الله عليه وسلم) ]. أي: طلب مني الإنشاد، والألف والسين والتاء يقول أهل العربية: هذه حروف الطلب. أي: طلب إلي الإنشاد.
[ قال: استنشدني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث إبراهيم بن ميسرة. وزاد: قال: (إن كاد ليسلم) ]. أي: أن أمية بن أبي الصلت كاد أن يسلم في شعره. يعني: كان السامع لشعره أن يقول: أمية مسلم، وليس الأمر كذلك، بل هو كافر، لكن بدت عليه علامات الإخلاص وعلامات التوحيد، إذ إنه لم يكن مشركاً في شعره بل كان موحداً، وكان يهجو الأصنام ويذم عبادة الأوثان وغير ذلك، فلما أظهر جانب التوحيد وفي المقابل كان يهدم أركان العبودية لغير الله عز وجل ويذم الأصنام والأوثان، بل ويذم ويهجو الخمر وشاربها فبلا شك أنك لو قرأت هذا الشعر من غير أن تعلم من الذي قاله لابد أنك ستقول: إن الذي قاله مسلم. ولذلك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام شعر أمية بن أبي الصلت قال: (إن كاد ليسلم).
قال: [ وفي حديث ابن مهدي قال: (فلقد كاد يسلم في شعره) ]. يعني: يبدو في شعره أنه كان مسلماً، لكن ليس الأمر كذلك.
وأشهر الأقوال كما رجح ابن أبي حاتم ومن قبله أبوه: أن أبا هريرة اختلف في اسمه على نحو من ثلاثين اسماً، والراجح أنه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وإنما نسي الناس اسمه لغلبة الكنية عليه، وهي أبو هريرة. وسبب تكنيته بذلك أنه كان ينام في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل الصفة من المهاجرين؛ لأنه كان فقيراً، وكانت هرة تداعبه وتلاعبه، وكذلك كان يداعبها ويلاعبها، فلما رأى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنت
قال: [ عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة
ولذلك قال ابن عباس لما تلي عليه قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال: صدق لبيد .
وكل نعيم لا محالة زائل
قال: كذب لبيد. لدوام نعيم أهل الجنة، وأن الجنة والنار الآن مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان، أما أهل الجنة فيدخلونها وأما أهل النار فيدخلونها، وإذا دخل أحد الجنة فإنه لا يخرج منها قط، بخلاف من دخل النار من الموحدين، فإنه يمكث فيها ما شاء الله ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين. أي: بشفاعة الملائكة، أو شفاعة الأنبياء، أو شفاعة الرسل، أو شفاعة الصالحين، أو شفاعة الأبناء، حتى يكون آخر أهل النار خروجاً منها ودخولاً الجنة رجل لم يعمل خيراً قط غير أنه كان موحداً، فيؤخذ به فيلقى في نهر على أبواب الجنة يسمى نهر الحياة، فينبت فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يدخل الجنة فيقول الله عز وجل: تمن يا عبدي! والله تعالى بفضله ورحمته يذكره: كيف يتمنى؟ وماذا يتمنى؟ حتى يقول: يا رب! لم يعد عندي ما أتمناه. فيقول الله عز وجل: لك ما أردت ومثله ومثله ومثله، فيقول أبو سعيد : حتى عد عشرة، يعني: لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، وتصور عندما يكون لشخص بيتاً أو منزلاً نظيفاً أو سيارة أو أي شيء، يقول: يكفي لا أريد شيئاً، وهذا أقل أهل الجنة حظاً في الجنة أن له مثل الدنيا وعشرة أمثالها، ولذلك هذا المسكين الذي دخل الجنة مؤخراً فتمنى من الله عز وجل وتودد إليه وتحبب بهذا الكم الهائل من النعيم لم يصدق، قال: يا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! وهذا قاله لما قال الله تعالى: لك الدنيا ومثلها، قال: يا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! قال: ومثلها ومثلها ومثلها وعد عشرة أمثالها، وفضل الله عز وجل واسع لا حدود له.
قال: [ وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع -وهو ابن جراح العتكي كوفي- حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ]. إذاً: الثلاثة: حفص بن غياث ، وأبو معاوية الضرير ، ووكيع يروون عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وأبو صالح : هو الملقب بـالسمان ، وهو أبو صالح السمان ذكوان المدني ، واسمه ذكوان وهو مدني، ولقب بـالسمان ؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت من المدينة ويبيعها في الكوفة، فلقب بـالسمان لصناعة السمن أو تجارة السمن.
قال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه، خير من أن يمتلئ شعراً).
قالا أبو بكر بن أبي شيبة : إلا أن حفصاً لم يقل: يريه ].
وفي الإسناد الثاني، وهو إسناد سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه، خير من أن يمتلئ شعراً).
قال: [ عن يحنس . وهو ابن عبد الله المدني أبو موسى مولى آل الزبير، وهذا الاسم سيئ؛ لأنه مشعر بالنصرانية، وكان من المفترض أن النبي صلى الله عليه وسلم يغيره، أليس كذلك؟!
يحنس من الطبقة السابعة. أي: أن بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام لا يقل عن ستين أو سبعين سنة، فكيف يغير النبي عليه الصلاة والسلام اسمه؟!
قال: [ عن يحنس مولى مصعب بن الزبير ، عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير ]. و(بينما) هي مكتوبة (بينا) بغير الميم، لكنها تنطق (بينما) وتكتب (بينا)، والفصيح في الكتابة (بينا)، وإذا قرئت تقرأ (بينما). يعني: في الوقت الذي نحن فيه جلوس حصل كذا وكذا، كقول عمر : (بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ اطلع علينا رجل شديد بياض الثياب..) إلى آخر الحديث. والمعنى: في حال جلوسنا مع النبي عليه الصلاة والسلام إذ اطلع علينا رجل، فهذا لبيان الحال.
قال: (بينا نحن نسير)، أي: بينما نحن نسير، يعني: في الوقت الذي نسير فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه مثل أن تقرأ: ثنا فلان، اختصار لكلمة: (حدثنا)، و(أنبا) فلان، اختصار لكلمة: (أنبأنا)، وهذا في لغة التحمل، أما في الأسماء فالأنبا منطقة سكانية.
قال: [ بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج ]. والعرْج اسم قرية، وهي من عمل الفرع على نحو ثمانية وسبعين ميلاً من المدينة، والفرْع هذا بجوار القصيم.
قال: [ بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد -يعني: خرج علينا رجل وهو ينشد- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا الشيطان -سماه شيطاناً- أو أمسكوا الشيطان) ]، ومعنى خذوا: أي: احجزوه وأمسكوه، ثم قال: [ (لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً، خير له من أن يمتلئ شعراً) ].
لفظ الحديث يقول: (من أن يمتلئ): إذاً: فالمذموم الإكثار، والقضية لو كانت متعلقة بالإكثار فالمرء لو أن جوفه ومعدته امتلأت قيحاً خير له من أن تمتلئ شعراً فحسب.
ولذلك عندما تنظر لشخص يحب الشعر كثيراً -حتى وإن كان شعراً جيداً- فهو في ليله ونهاره يقرض الشعر ويصنع الشعر ويؤلف الشعر ويأتي إلى العروض ويصنع القوافي وغير ذلك، وهكذا حياته بالليل والنهار، وربما مضت من عمره السنين وهو على حاله هذه، وما فكر يوماً أن يأخذ كتاب الله تبارك الله تعالى بيديه ويقرأ فيه، فهذا الرجل مع اعترافنا بأنه يقصد شعراً جيداً حسناً إلا أنه مذموم، لأنه ألهاه عن ذكر الله، وألهاه عن كلام الله عز وجل، فأتت الكراهة هنا -وأنا أقول: الكراهة فقط- لأن هذا الشعر وإن كان حسناً إلا أنه ألهاه عن كتاب الله وعن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان شعراً قبيحاً فهو حرام؛ لأنه أولاً قبيح في ذاته، ولأنه ثانياً -شغله- عن ذكر الله.
وأنا قد قلت في أول المحاضرة: إن العلماء اختلفوا في الشعر: فمنهم من مدحه مطلقاً، ومنهم من ذمه مطلقاً، لكن الصواب ما سيأتي.
وهذا الكلام أرجو ألا يكون شعارات نرددها، إذ إنه عند الاحتكاك العملي تظهر الترجمة العملية للإيمان بهذه القواعد التي نقر بها في أثناء الدرس، فلو قال لك رجل نصراني وأن تسرق: يا فلان! أليست السرقة حرام؟ قل له: نعم. واشكره على ذلك، ولو قال لك ذلك أيضاً يهودي فاشكره على ذلك؛ لأنه أسدى إليك معروفاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، فشكر الناس من شكر الله عز وجل، أي: جزء من شكر الله عز وجل، ولذلك قال: (من لم يشكر الناس)، ولم يقل: من لم يشكر المسلمين ولا المؤمنين، وإنما الناس، ولفظ (الناس) عام يشمل المسلم والكافر، فمن أدى إليك نصيحة أو معروفاً أو قال حقاً يقبل منه ويحترم ويشكر عليه وإن كان كافراً، وأن من قال قولاً باطلاً يخالف دين الله عز وجل يرد عليه وإن كان إماماً من أئمة المسلمين.
وهذا الكلام لا غبار عليه، وأرجو أن يظهر هذا الكلام في ترجمة عملية عند الاحتكاك، ولذلك العلماء كلهم ذموا التعصب كله، إلا التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام خير وبركة؛ لأنه معصوم، أما أن يتعصب المرء لمن هو دونه حتى وإن كان من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين فلا يصح هذا؛ لأن ما دون النبي عليه الصلاة والسلام يؤخذ من قوله ويرد. لكن من الذي يأخذ من قولهم ومن الذي يرد عليهم؟ أهل العلم؛ حتى لا تظن في نفسك أنه يحق لك أن تعترض على أبي بكر وعمر وعثمان ، فإياك أن تظن ذلك، فالذي يأخذ من قول العلماء هم أهل العلم وطلاب العلم النابغين، والذي يرد على العلماء هم أهل العلم وطلاب العلم النابغين، لكيلا يأتي بعد ذلك من لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسن أن يصلي ويصوم ويقول: من أبو بكر هذا؟ هو رجل وأنا رجل، من أبو حنيفة ؟ من الشافعي ؟ لا، بل إنك تستحق أن تعلق برجليك إلى السقف وتضرب على رأسك إلى أن يخرج هذا النتن من عقلك، حتى لا تسول لك نفسك أن كل شخص من حقه أنه يعترض على كل أحد، فهناك أصول علمية، بل إنك بنفسك تقول ذلك.
قال: (وفي هذا الحديث منقبة للبيد ، وإظهار فضله رضي الله عنه).
وأما إن ضربك فلان فأردت أن ترد له الصاع بصاع أو بأكثر فسببت له الدين، فقلنا لك: سب الدين كفر ألا تدري ذلك؟ تقول: نعم أنا أدري أن سب دين الله كفر، ولكني ما قصدت دين الله، وإنما قصدت بسبي دين فلان أي: خلق فلان، فإنه في هذه الحالة لا يكفر بل يعزر، ليسب بأي أنواع السب إلا أن يذكر الدين، وإن قصد به الأخلاق أو المسلك أو غير ذلك، لكنه هنا على أية حال لا يكفر ولا يحد فيها حد الردة.
قال: (وقد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر. قالوا: بل الصواب: أن المراد أن يكون الشعر غالباً عليه -وهذا في حالة الذم- مستولياً عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى، وهذا مذموم من أي شعر كان، حتى وإن كان شعراً إسلامياً).
وقال العلماء كافة -يعني: إجماع- هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه. قالوا: وهو كلام -أي: الشعر- حسنه حسن وقبيحه قبيح). وهذه تصح أن تكون قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، إذ إن كل كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وإن صدر من كافر، أو من أعظم الموحدين.
قال: (فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر واستنشده وأمر به حسان بن ثابت لما قال له: (قم يا
وأما تسمية هذا الرجل الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم ينشد شيطاناً فلعله كان كافراً، أو كان الشعر هو الغالب عليه، أو كان شعره هذا من المذموم)، فلابد أن يحمل قوله: (خذوا الشيطان) على هذه التأويلات.
قال: (وبالجملة فتسميته شيطاناً إنما هو قضية عين لا يجوز أن تتعدى إلى غيرها)، ومعنى: قضية عين: أي: أن حكمها يتعلق بها ولا يتعداها إلى الغير، وهذا استثناء من قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهي قاعدة أصولية، فإذا كان اللفظ عاماً فهو يصلح لهذا القضية التي ورد من أجلها، وغيرها إذا كانت القضية تشترك مع القضية الأولى في العلة، أما هذه القضية فهي قضية عين، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول متعلق بفلان فقط، ولا يجوز أن تتعداه إلى غيرها، يعني: لا يصح أن نقول لكل من ينشد الشعر: خذوا الشيطان، لكن ستقول لي: إن النبي قال ذلك، نعم النبي قال ذلك، لكن قوله مؤول على ما إذا كان الشعر قبيحاً مذموماً، أو كان يغلب عليه الشعر، أو أن الرجل كان كافراً، حتى لو كان مسلماً فإنها تحمل على أنه كان مسلماً ينشد شعراً مذموماً، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً، وسماه هو دون غيره، ولذلك سمع النبي عليه الصلاة والسلام الكلام المذموم وغير المذموم، سمع الممدوح واستحسنه، كما سمع شعر لبيد وسمع شعر أمية ، وأمر حساناً أن يهجو القوم، وأنتم تعلمون أن الهجاء مذموم، لكنه أمره بالهجاء رداً على الهجاء، من باب قول الله عز وجل: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، فهذا رد للظلم ودفع له، والله تعالى أعلم.
قول النووي: (باب: تحريم اللعب بالنردشير). أي: أن اللعب بالنردشير حرام، ولم يقل بالكراهة رحمه الله. والنردشير الذي يظهر: أنها الطاولة، وسُلم الثعبان، والضمنة، والشطرنج، لكن الشطرنج أخف.
وكلمة (الناردشير) كلمة فارسية معربة. يعني: أن أصل هذه اللعبة أتت من عند أجداد الخميني من فارس.
قال: [ حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه -وهو بريدة بن حصيب رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) ].
قوله: (فكأنما) الكاف للتشبيه، أي: أن الذي يلعب بالنردشير فكأنما أدخل يده دخولاً ممكناً في لحم خنزير وفي شحمه ودمه.
والخنزير محرم باتفاق لم يخالف في ذلك أحد، كما أن التعامل بشحمه أو لحمه أو دمه أمر لا يحل لمسلم أن يفعله، فكذلك اللعب بالنردشير وأخذ النرد بيدك، فإذا أخذت نرداً بيدك فكأنما تأخذ شحم خنزير ودم خنزير، وهذا لما كان حراماً باتفاق فينبغي أن يكون أخذ الزهر واللعب بالنردشير وما في معناه حرام كذلك باتفاق، كالضمنة وسلم الثعبان، وهذه المسائل كلها حرام سواء كان اللعب برهان أم بغير رهان.
وهذا كلام جمهور أهل العلم، فـالنووي ينقل أن هذا مذهب الشافعية باتفاق، وهو كذلك مذهب جماهير العلماء.
قال: (وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا -أي: من الشافعية-: يكره ولا يحرم)، فهذا واحد في مقابل أمة يقول: إنه مكروه، والباقون على تحريمه.
قال: (أما الشطرنج فمذهبنا -أي: الشافعية- أنه مكروه ليس بحرام، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ممن يذهب إلى تحريم الشطرنج، وإذا مر بأقوام يلعبونه قال: ما هذه الأصنام التي أنتم لها عاكفون)، يعني: عاكفون عليها كما كان أهل الجاهلية يعكفون على أصنام لهم يعبدونها من دون الله.
قال: (وهو مروي -أي: القول بالكراهة- عن جماعة من التابعين، وقال مالك وأحمد : حرام). وتصور عندما تكون المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: حرام ومكروه، ما موقفك أنت كمسلم؟
إذا اختلف العلماء في مسألة بين حرام ومكروه، فالاحتياط لدينك هو: (فمن اتقى الشبهات). أليست المسألة عندما يكون فيها خلاف تجدها محل شبهة؟ بلى، فأنت كرجل موحد وتحب الرسول ماذا تعمل؟ (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، أي: طلب البراءة الأصلية لدينه وعرضه، ونزّه نفسه عن دنايا الأمور وسفسافها.
فالآن عندما يختلف العلماء في قضية ما على حلال أو مكروه أو حرام، فلو عملت هذا الشيء فمن الممكن أن أقع في الحرام، يعني: ممكن أن تكون هذه المسألة حرام عند الله، حتى وإن كنت أعتقد أنها مكروهة؛ لأنها ممكن أن تكون حراماً، فما الذي يضمن لي وممكن أن تكون مكروهة ويمكن أن تكون حلالاً، فالأسلم والأحوط للدين خاصة في زمن انتشرت فيه المعاصي بجميع ألوانها وأشكالها: أن يمتنع المرء عن أدنى ما فيه شبهة.
قال: (قال مالك : هو شر من النرد -فـمالك وأحمد اتفقوا على أن هذا حرام-) أي: أن مالكاً لم يقل بالحرمة فحسب، بل إن حرمته شر من الحرام، مثل أن يقول لك: الدخان حرام، والحشيش حرام، والخمر حرام، لكن الحرمة مختلفة؛ لأن حرمة ما ثبتت حرمته بالقياس بخلاف ما تثبت حرمته بالنص، يعني: الآن النظر إلى المحرمات حرام، النظر إلى الأجنبيات حرام، والزنا بالأجنبيات حرام، فهل حرمة النظر كحرمة الزنا؟ لا، وإن كان الجميع يصدق عليه لفظ الحرام، وكذلك السجائر حرام، والخمر حرام، لكن لا يمكن أن تكون حرمة السجائر كحرمة الخمر، ولا يعني ذلك أنني أخفف من شأن السجائر، فأنا أقول أيضاً: إنها حرام، لكن حرمتها لم تثبت بالنص، وإنما ثبتت بفحوى النص، فلا يوجد نص بعينه يقول: إن الدخان حرام، لكن هناك نصوصاً كثيرة جداً يؤخذ منها ويستنبط منها حرمة الدخان، بخلاف الخمر فإن حرمتها ثابتة بالنص، فالحرام الثابت بالنص يختلف عن الحرام الذي ثبت بفحوى النص أو بإلحاقه بالنص قياساً.
والأخ الذي يسأل ويقول: ألعبه أم لا ألعبه؟ لو قلنا له: العبه وليس فيه شيء. يعني: أكثر ما يقال فيه: إنه مكروه كراهة تنزيه، فيقول: يكفي فالشيخ قال لي يجوز، ويقول لامرأته: تعالي حتى أعلمك! ويظل طوال الليل والنهار يلعب مع امرأته، ويؤذن للظهر فيقول: حتى أكمل هذا الدور! ويكمل هذا الدور قبل العصر بنصف ساعة، فيخطف هذا الدور خطفاً ويجلس من أجل دور جديد؛ لأن امرأته عندما تعلمت صارت بارعة، وهو واقف أمامها، فيا ليته لم يعلمها، وكل مرة هي التي تكسب، فيريد أن يخطط ويتكتك جيداً حتى لو أخذ الدور أربع ساعات؛ لكيلا يغلبه أحد.
قال مالك : هو شر من النرد، وألهى عن الخير، وقاسوه على النرد وأصحابنا يمنعون القياس، ويقولون: هو دونه، ومعنى: (صبغ يده في لحم الخنزير ودمه) أي: في حال أكله منهما، وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما)، يعني: التشبيه لتحريم النرد بتحريم أكل الخنزير.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: سألت هذا السؤال لشيخنا الألباني عليه رحمة الله فقال: ولا يرسل إليها رسالة. أنا أنقل إليك فتوى الشيخ، واللبيب بالإشارة يفهم.
الجواب: على أية حال إذا كان هذا ثابتاً لديك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح بأنامل يده اليمنى، وهو أيضاً ثابت عندي، ولم يثبت أنه سبح بأنامل يده اليسرى قط، وإنما قال ناصحاً لأمته ولأزواجه: (اعقدن التسبيح على أناملكن، أو على الأنامل فإنهن يأتين مستنطقات).
والنبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت في حديث عائشة وغيره: (كان يحب التيامن في كل شيء، أو التيمن في كل شيء إلا ما كان مستقذراً)، فهذا الحديث إنما خصص الحديث الأول، وهو حديث أم سلمة أنه قال لها: (اعقدن التسبيح على الأنامل). واليد اليمنى واليسرى لها أنامل، لكن حديث عائشة يخصص هذا الحديث بعقد التسبيح على أنامل اليد اليمنى، وفي رواية أصرح من هذا: (اعقدن التسبيح بالميامن)، يعني: على أنامل اليد اليمنى، (فإنهن تأتي مستنطقات)، يعني: تنطق اليد يوم القيامة وتقول: يا رب! كان يسبح بي.
أما عقد التسبيح باليد اليسرى فلم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام، وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام، لكن لو فعلتها لا تأثم، لكنك فرطت في باب من أبواب الاتباع الذي أنت مأمور به.
ثم كيفية عقد التسبيح على الأنامل اختلف فيها أهل العلم، وذكر هذا الخلاف الشيخ ابن تيمية عليه رحمة الله فقال: الأنامل هي عقدة الأصابع، إذ إن كل أصبع فيه ثلاث عقد، فهل الحديث يحث على عقد التسبيح على كل الأنامل التي هي عقدة الإصبع أم أنها طرف الإصبع؟ شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر هذا الكلام رجح أن التسبيح يكون على أنملة واحدة من أنامل الإصبع. يعني: تسبح على طرف الأصابع: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، ثم تأتي بدورة أخرى وهكذا، وقال: اليد فيها خمس أنامل يصدق عليها لفظ الأنامل في الحديث الذي هو جمع: أنملة، فكانت هذه خمس في اليد الواحدة، والخمس إنما هي جمع للواحد، يصدق عليها ما ورد في الحديث الآن.
لكن على أية حال أقول: إن الخلاف في هذه القضية خلاف بسيط، فسواء عقدت على كل أنملة أو على جميع الأنامل، يعني: سواء استخدمت أصبعاً واحداً في تسبيحة واحدة، أو في ثلاث تسبيحات فإن هذا أمر لا تأثم فيه.
الجواب: لا يمكن، حتى لو أكلت من تحت رجلك، لكن بشرط أن النسب هذا يثبت فعلاً، فلا تضيع نفسك على نسب وهمي، والآن لو ذهبت إلى دار المحفوظات لكي تخرج نسبك ستعلم أنت ابن من؟ ومن أين أتيت؟ وذاهب إلى أين؟ وستجد الموظف هناك قد اكتسب لونه وصفته من نفس الدفاتر التي يبحث فيها! فيقول لك: أنت تريد أن تكون شريفاً أم ماذا؟! أولاً: تدفع ثلاثمائة جنيه، وهذا بسند رسمي وإذا كنت تريد أن تكون شريفاً؟ فيقول لك: إذاً: هات ألف جنيه، فإن أردت أن يجعلك نبياً فممكن أن تدفع ثلاثة آلاف جنيه ويحضر لك شهادة بأنك نبي!
فأنا أريد أن أقول لك: إن معظم الشهادات التي تصدر من دار المحفوظات تصدر برشاوى، وهي مزورة، فأنت لا تجمع على نفسك بلوتين: بلوة أنك تكون شريفاً كذباً، وبلوة أنه في الوقت نفسه أنك ستكون مضطراً أمام هذه الشهادة المزورة ألا تأخذ الصدقات، وبالتالي ستضيع نفسك في الحالتين.
أما إذا ثبت فعلاً النسب والشرف فإن الصدقة لا تحل لك، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أكل الحسن أو الحسين تمرة أو تفاحة ألقيت على الأرض من شجرة خارج البستان فأخرجها النبي عليه الصلاة والسلام من فمه، وقال: (كخ كخ! إنه لا يحل لنا آل البيت)، وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه من ثمر الصدقة، أو من فاكهة الصدقة، خشي وهو غير متأكد هل هي من الصدقة أم لا؟
وفي الصحيحين: (نحن آل البيت لا تحل لنا الصدقة)، يعني: صدقات الناس: (وإنما هي أوساخ الناس).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر