إسلام ويب

شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى بهللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أناط الشارع الحكيم بالإمام أو الحاكم أو الخليفة حماية المسلمين، ووقاية من تحته ورعايتهم، وسياستهم بالدين، وأوجب عليهم طاعته ما لم يكن أمره في معصية، فإنه لا طاعة إلا في المعروف، وطاعة الإمام الظالم الفاسق وعدم الخروج عليه أمر واجب، حقناً لدماء المسلمين، كما أنه لا يجوز مبايعة إمام ثان في بلد ما في وجود الإمام الأول في نفس البلد، وللعلماء في مبايعة إمامين في وقت واحد وفي قطرين شاسعين أقوال مختلفة.

    1.   

    باب الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب التاسع من كتاب الإمارة: (الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به).

    الإمام جنة. أي: وقاية وحماية وستر، ودفع لأذى الكفار والمشركين عن أهل الإيمان والتوحيد.

    [حدثنا إبراهيم] وهو إبراهيم بن سفيان الذي روى صحيح مسلم.

    وإبراهيم لم يسمع الصحيح كله من مسلم ، وإنما سمع جزءاً من الصحيح، وفاته بعض المواطن وبعض الأحاديث، فأخذها عن مسلم إجازة لا سماعاً. ومعنى الإجازة: أن الراوي صاحب الحديث يكتب بكتابه إلى فلان، ويقول له: خذ هذا فإنه حديثي فاروه عني، ولم يسمعه منه ولكنه قد أجازه فيه.

    ولذلك لا يقول المجاز: حدثني فلان، ولا سمعت فلاناً. وإنما يقول: حدثني فلان إجازة. لبيان نوع التحمّل. أو يقول: عن فلان. فلو قال عن فلان فلا يلزمه أن يقول: إجازة. وإنما يلزمه أن يقول: إجازة إذا استخدم الألفاظ التي تفيد السماع: كحدثنا وأنبأنا وأخبرنا. فلو قال: حدثني فلان، أو أنبأني فلان أو أخبرني فلان ولم يسمع منه بل تحمّل عنه إجازة، فيلزمه أن يقول: حدثني فلان إجازة. أخبرني فلان إجازة. أنبأني فلان إجازة. والألفاظ التي تحتمل السماع وعدمه كـ(قال) و(عن) لا يلزم فيها أن يصرّح بالإجازة، ولو قال: عن فلان أو قال فلان فسواء قال: إجازة أو لم يقل فلا بأس عليه، ولا يُنسب إلى التدليس حينئذ، إنما لو قال: حدثني فلان وكانت الرواية إجازة ولم يبيّن فيُنسب إلى التدليس حينئذ، فيقال: فلان مدلّس؛ لأنه صرّح بالسماع ولم يسمع، فأوهم القارئ والممتنع أنه يصاحب مجالسة ويتلقى هذا الحديث مشافهة ولم يكن هذا منه فكان مدلساً، والقبيح هو الإيهام.

    فـإبراهيم بن سفيان راو الصحيح عادة لم يسمع هذا الحديث من الإمام مسلم ؛ ولذلك قال فيه: عن مسلم ، فلا يلزمه أن يقول: إجازة.

    قال مسلم: [حدثني زهير بن حرب -أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، ونساء هي قرية في حوالي العراق قرب المدائن أو قرب إيران الآن-

    حدثنا شبابة بن سوار].

    و شبابة مدائني وكذلك شيخه ورقاء ، والمدائن مدينة كبيرة جداً من بلاد فارس، ويهم من يظن أن المدائن هي مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، فالنسبة إلى المدينة مدني، أما النسبة إلى المدائن مدائني. فيقال: ورقاء المدائني وليس المدني.

    [عن أبي الزناد عن الأعرج]. أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني عن الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني وجُل رواية الأعرج عن أبي هريرة.

    [قال: عن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جُنة)] فهذا توكيد بـ(إنَّ) المشددة. يعني: مهمة الإمام والخليفة العام والولاة والسلاطين والأمراء: أنهم جُنة لرعاياهم، يحمونهم ويذبون عنهم ويدافعون عنهم كل أنواع الأذى، ويجلبون لهم كل أنواع الخير. هذه مهمة الإمام الحق الذي يُظل في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، هذه هي مهمته، ولا شك أن جُل الأئمة اليوم لا يفعلون ذلك، وندر أن يكون الإمام عدلاً يتقي الله في رعيته.

    قال: (إنما الإمام جُنة) ومعنى جُنة: أي وقاية وستراً. ونحن في زمان نتمنى فيه أن يرفع الإمام عنا يده وسوطه، ولا علاقة له بعد ذلك في أي فساد يقع علينا. أي: بلغنا في السوء مبلغاً عظيماً جداً، حتى تمنينا فيه ألا يكون الإمام لنا لا جُنة ولا مهلكة، ولا علاقة له بالرعية؛ لبُعده الشديد جداً عن المهمة التي لأجلها تولى، وعن المهمة التي لأجلها صار إماماً وبايعه من بايعه، وأطاعه من أطاعه. إنما الإمام جُنة: أي: وقاية وستراً؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته.

    قال: [(يُقاتل من ورائه ويتقى به)] أي: إذا كان هذا الإمام جُنة -وقاية وستراً- وقائماً بحق الإمامة وبواجبها؛ فلا بد أن يقاتل معه الرعية إذا طلب الإمام منهم المقاتلة، ولا بد أن يكونوا من خلفه مباشرة؛ لأن الإمام في حقيقة الأمر لا يقاتل بنفسه وإنما يقاتل بأمره ونهيه، ويُنسب النصر والهزيمة له، وإن لم يكن قد باشر هو بنفسه النصر ولم يباشر بنفسه الهزيمة، فيقال: انتصر فلان في حرب كذا، أو في غزوة كذا. وربما كان قابعاً في غرفة العمليات لم يواجه عدواً مواجهة شخصية بنفسه؛ وذلك لأن بذل الجهد العقلي أعظم بكثير جداً من بذل الجهد البدني، فالجهد البدني يبذله أي إنسان، أما العقلي والتكتيك العسكري، ومعرفة خطط الأعداء في الحروب وغيرها، فهذا لا يتسنى لكل إنسان، وإنما يتسنى لكل إنسان أن يقاتل وأن يواجه، ولذلك يُنسب دائماً شرف النصر وعار الهزيمة للإمام أو قائد الجيش.

    قال: (يُقاتل من ورائه) أي: يُقاتل المسلمون معه الكفار، ولا يحل لأحد أن يتخلف بغير عذر عن نداء الإمام له بالجهاد والقتال، فيُقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقاً.

    قال: [(ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر)] وهذا شرط، فالإمام رغم أنه ظل الله تعالى في أرضه، وله فضل وسيادة وسؤدد إلا أنه لا يطاع إلا إذا أمر بطاعة الله، فإذا أمر بطاعة الله تعالى فله حقان: حق أوجبه الله تعالى على نفسه، وهو تحصيل الأجر لهذا الإمام، وحق أوجبه الله تعالى على الرعية بأن يطيعوه ولا يتخلفوا عنه.

    فهذه النصوص تحتاج إلى قلوب إيمانية واعية؛ لأن هذا لا يمكن أن يتم إلا من قلب مفعم بالإيمان، إذا ناداني الإمام للقتال بإمكاني أن أتخلف، وبإمكاني أن أستتر عنه، وبإمكاني أن أخذله، غير أني إذا أنّبني ضميري وعلمت أن تثقّلي عن الإمام وخُذلاني له يلاقيني يوم القيامة بسخط الله عز وجل وعقابه وعذابه، فلا بد أنني بهذا الوازع الإيماني سأندفع إلى طاعته، وأخرج من خبائي ومن بيتي ومن ستري طلباً لمرضاة الله عز وجل، وامتثالاً لأمر هذا الإمام، فهذا الدين كله من أوله إلى آخره يحتاج إلى قلب واع مفعم بالإيمان، يبتغي به ما عند الله عز وجل من أجر، ويخاف ما عنده من عذاب؛ ولذلك قال: [(فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه)] والتقدير: كان عليه منه وزر.

    فإذا كان هذا حال الإمام فكذلك للمأموم أجر عند الطاعة فيه، وعليه وزر إن أطاعه في معصية الله عز وجل.

    1.   

    باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول

    الباب العاشر: (باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء). ليس أمراً مستحباً أو مندوباً وإنما هو واجب، (الأول فالأول). أي: الأول ثم الذي يليه. فلو كان هناك إمام في زمانك فبايعته ثم مات أو عُزل فلا تقل: أنا قد بايعت إماماً ولا يلزمني بيعة الإمام الثاني الذي أتى بعده بعد العزل أو الموت، فكل إمام أتى بعد إمام وجب عليك عقد البيعة له، وتقديم فرائض الطاعة، وإن كان يجتمع في العمر ألفا إمام كل يوم إمام فبيعة الإمام واجبة مطلقاً.

    ويجدر بي أن أقول: إن بيعة الإمام هنا المقصود بها: الخليفة العام. فهذه هي البيعة الشرعية، أما البيعات التي دون ذلك فإنها ليست بيعات شرعية، ولا علاقة لها بتلك النصوص العامة التي وردت في شأن الخلافة العامة، كهذه النصوص التي نحن بصددها، والتي ستأتي معنا فكلها متعلقة بالخليفة العام، أما تلك الجماعات التي انتشرت في بقاع الأرض هنا وهناك -فكل حزب بما لديهم فرحون- وهذه البيعات التي تُعقد لهم بيعات غير شرعية. هذا ما أعتقده.

    ثم يزعم البعض منهم أنها بيعات خاصة من باب التعاون على البر والتقوى، ومن الممكن أن يحصّل ذلك بغير بيعة، فلو قالوا لي: تصلي الجمعة القادمة وتخطب في هذا المسجد؟ قلت: نعم. ثم دعاني هواي ومزاجي إلى عدم الحضور، فأوقعت الناس في الحرج والعنت في وقت الخطبة، فلا شك أنني آثم في هذه الحالة لا لمخالفتي لمن اتفق معي، وإنما لمخالفتي الشرع، فأنا آثم بتأثيم الشرع، مثاب بتثويب الشرع. وبعض الناس يقولون: لا بد أن تكون في عنقك بيعة وإن مت على غير بيعة مت ميتة جاهلية. فهذا حين وجود الإمام، أما إذا انعدم الإمام فإنما السمع والطاعة في المعروف لولاة الأمر الموحدين من أهل العلم والسلاطين، فحينئذ الكلام عن البيعة هنا كلام عن البيعة للإمام العام، ولا يتوهمن أحد أن هذه البيعة تلزمه لجماعة كذا أو كذا أو للشيخ الفلاني أو للعالم الفلاني، أو للسلطان الفلاني أو غير ذلك، فإن هذه بيعات كلها ليست لازمة ولا تجب في شيء.

    شرح حديث أبي هريرة في الوفاء بالبيعة للإمام الأول فالأول

    قال: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر -ابن بشار لقبه بندار ، وابن جعفر لقبه غندر ، وغندر أي: مشاغب-حدثنا شعبة عن فرات القزازفرات هو ابن أبي عبد الرحمن تميمي كوفي- قال: عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين] أبو حازم الذي يروي عن أبي هريرة في طبقة التابعين هو سلمان مولى عزة، وأبو حازم الذي يروي عن سهل بن سعد الساعدي في نفس الطبقة من طبقات التابعين هو سلمة بن دينار، وكثير من الناس يهم بين الاثنين.

    الكنية أبو حازم، وأحدهما: يروي عن أبي هريرة وهو سلمان مولى عزة. والثاني: يروي عن سهل بن سعد وهو سلمة بن دينار .

    قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين]. ومعنى قاعدت. أي: جالسته، تلقى على يديه العلم خمس سنوات.

    [فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي)].

    أعظم أمة على وجه الأرض أرسل الله تعالى إليهم أنبياء هم بنو إسرائيل، ليس هذا لفضلهم ولا لمكانتهم، بل هذا لكفرهم وعنادهم، إذ أقام الله تعالى عليهم الحجة لكثرة بعث الأنبياء والمرسلين؛ حتى لا يظن بنو إسرائيل أن هذا من باب الشرف لهم، وإنما هذا لعلم الله تعالى الأزلي فيهم أنهم أهل جحود وأهل غدر، وما نجا منهم نبي من الأنبياء، فقتلوا البعض وسبّوا البعض، ونشّروا البعض، وغير ذلك مما كان من بني إسرائيل مع أنبيائهم.

    قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي). وفي هذا: جواز أن يقول الرجل عن الميت: هلك. وهلك بمعنى: مات. وإذا كان الهلاك يصح إطلاقه على موت الأنبياء، فمن باب أولى يصح إطلاقه على من دونهم، كلما مات نبي خلفه أرسل الله تعالى إليهم نبياً آخر، ولا يفهمن أحد من هذا النص أن النبوة بالاستخلاف، كالذين تربوا في أمريكا على يدي رشاد رشدي وغيرهم من الملاحدة يفهمون من هذا النص أن النبوة بالاكتساب والاستخلاف، ويعتمدون على ظواهر بعض النصوص ومنها هذا النص: (كلما هلك نبي خلفه آخر) أي أخلفه الله تعالى بآخر، ولم يُخلف هو غيره.

    وما سمعنا أن أحداً قط قال بأن النبوة مكتسبة إلا أصحاب العقائد المنحرفة.

    قال عليه الصلاة والسلام: [(وإنه لا نبي بعدي)].

    إن أحد المنحرفين المصريين كان دكتوراً في كلية الزراعة جامعة الزقازيق، سافر إلى أميركا وغيّر بطاقته الشخصية وسمى نفسه (لا) في البطاقة، ثم بعد مدة من الزمان ادعى النبوة، فلما نوفس في ذلك وقال له المناظر: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نبي بعدي) قال: وأنا (لا) فالنبي قد بشّر بأني نبي من بعده، ثم غيّر اسمه بعد فترة من هذه المناقشة وادعى الإلهية.

    ومعلوم أنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، فقد تبعه على هذه الدعوة الفاسدة الباطلة أحمد صبحي منصور ، وأنتم تقرءون له في الأهرام والأخبار دائماً، ظهر ليساند الإله الجديد، فإنه أول ما ادعى رشاد رشدي النبوة ذهب إليه هناك، وكان بينهم من الاتفاق ما يؤهل إلى أن يكون رشاد رشدي إلهاً، وأن يكون أحمد صبحي منصور نبي ذلك الزمان، فلما حدثت بينهما الخصومة والخلاف فضح كل منهما الآخر، فهلك رشاد رشدي ورجع أحمد صبحي منصور إلى مصر بخفي حنين، لم تثبت له النبوة ولم تثبت له الإلهية، وثبتت له القدم الراسخة في الإلحاد والإجرام، فصار يطعن في ثوابت الإسلام في الليل والنهار على صفحات الجرائد.

    قال: [(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر)] أي: لا نبي بعدي، ولكن يقوم بمهمة النبي في سيادة أمور الناس خلفاء، وهؤلاء الخلفاء كثرة كاثرة، كلما هلك خليفة أو عزل لكفره جاء غيره؛ لأن الإمام إذا كفر وجب عزله وتنصيب غيره.

    قال: [(وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)] (فوا) من الوفاء. أي: يجب عليكم أن تفوا ببيعة الأول، ولا تبايعوا من ظهر في وجود الإمام الأول، فإنما البيعة تُعقد لإمام واحد، وهذا الإمام يعين الولاة والأمراء من باطنه، فتجب طاعة الولاة والأمراء والسلاطين في شتى أصقاع بلاد المسلمين؛ نظراً لوجوب طاعتهم للإمام العام، فإذا كان الخليفة مثلاً في تركيا أو في العراق أو في المدينة أو في مصر أو في المغرب، فيجب عليه أن يعيّن ولاة على كل بقاع المسلمين: ولاة للصلاة، ولاة للجهاد، ولاة للسياسة، ولاة للقضاء، وغير ذلك مما يصلح به أمر الناس، وحينئذ يجب على جميع الرعية طاعة هؤلاء الولاة والأمراء، وطاعتهم لهم من طاعة الخليفة العام، وطاعتهم للخليفة العام من طاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله عز وجل. إذاً: أصل ذلك هي طاعة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.

    معنى قوله: (فوا ببيعة الأول فالأول)

    قال: (فوا ببيعة الأول فالأول) أي: عند تكاثر الخلفاء لا شك أن هذا مخالف لظاهر النصوص؛ لأنه لا بيعة إلا لخليفة واحد، فما بالنا وقد انتشر الخلفاء هنا وهناك، وكل يدّعي أنه خليفة وكل يزعم أنه خليفة، كما نسمع أن سلطان المغرب أمير المؤمنين يطبع كتاب التمهيد شرح الموطأ، ويكتب عليه طُبع على نفقة أمير المؤمنين الملك الحسن بن فلان الفلاني المغربي، ثم نجد مثيلاً له في بلاد الشام يقول: إنه أمير المؤمنين. فهنا نبايع واحداً فقط، ومن الممكن أن يقول أمير الشام لأمير المغرب: أنت لست أمير المؤمنين، إنما البيعة الشرعية لي، ويقهره ويحمله على أن يكون مطيعاً له، مما جعل بعض أهل العلم يقولون رفعاً للفساد وحقناً للدماء: تجوز البيعة لأكثر من إمام إذا تباعدت ديارهم، وإن لم يكن الأمر مشروعاً في أصله.

    حكم عقد البيعة لأكثر من إمام في وقت واحد

    قال: (فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم. فإن الله سائلهم عما استرعاهم).

    في هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال النووي: (ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه -الخليفة الثاني -طلبها- في وجود الخليفة الأول- وسواء عقدوا البيعة للثاني عالمين بعقد بيعتهم للأول أو جاهلين بها، وسواء كانا في بلدين أو في بلد واحد أو أحدهما في بلد الإمام، وهو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء.

    وقيل: تكون البيعة للخليفة الذي بويع في بلد الإمام. وقيل: يُقرع بينهما، وهذان فاسدان). كأن يكون قد بايعت لخليفة معيّن، ثم ظهر خليفة آخر في نفس البلد، فكيف يهدم حق الإمام الأول وتلغى البيعة له؟

    فمنهم من قال بإجراء القرعة بينهما.

    قال: (واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يُعقد لخليفتين في عصر واحد سواء اتسعت دار الإسلام أو لم تتسع. وقال إمام الحرمين الإمام الجويني في كتاب الإرشاد -وكان أصولياً مقنناً- قال أصحابنا -أي الشافعية- لا يجوز عقدها لشخصين -أي: لا تجوز البيعة لشخصين- قال: وعندي: أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد -أي: في بلد واحد- وهذا مجمع عليه) أي: هذا محل اتفاق.

    قال: (فإن بَعُدَ ما بين الإمامين، وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال). أي أن إمام الحرمين يقول: أنا أوافق من قال: إنه لا تجوز البيعة لخليفة ثان في ظل البيعة للخليفة الأول إذا كانا في بلد واحد، أما إذا اتسعت وشسعت المسافة بينهما فيحتمل أن تصح البيعة لكل منهما.

    قال: (وهو خارج عن القواطع. وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين).

    (خارج عن القواطع): أي: أن هذا الكلام كلام ينقض المقطوع به ضرورة وشرعاً وحكماً: أنه لا تجوز عقد البيعة لإمام ثانٍ مع وجود الإمام الأول.

    قال: (وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل -أي: من أصحاب الأصول- وأراد به إمام الحرمين) أي: أنه يريد أن يرد عليه ويقول له هذا كلام فاسد من إمام الحرمين، ولا يجوز اتباعه على ذلك. (وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف، ولظواهر إطلاق الأحاديث، والله تعالى أعلم).

    ذكر روايات وطرق حديث أبي هريرة في الوفاء بالبيعة للأول فالأول

    قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد الأشعري قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن الحسن بن فرات عن أبيه -أي: الفرات بن أبي عبد الرحمن الكوفي كما قلنا في الإسناد الماضي- بهذا الإسناد مثله.

    وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص سلّام بن سليم الحنفي ووكيع -ثم ينتهي الإسناد ليبدأ إسناد جديد-

    وحدثني أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع وينتهي الإسناد].

    الإسناد الثالث:

    [وحدثنا أبو كريب وابن نمير قالا: حدثنا أبو معاوية ، وينتهي الإسناد].

    إذاً عندي أبو الأحوص ووكيع وأبو معاوية وهو محمد بن خازم الضرير .

    والإسناد الرابع: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـابن راهويه- وعلي بن خشرم قالا: أخبرنا عيسى بن يونس كلهم عن الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي- وينتهي الإسناد.

    شرح حديث ابن مسعود: (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها ...)

    قال: [وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخو أبي بكر بن أبي شيبة واللفظ له]، أي: هذا سياق الحديث القادم، وهو سياق عثمان بن أبي شيبة لا سياق السابقين.

    [حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي- عن الأعمش]. إذاً: هما اثنان يرويان هذا الإسناد كله، الأول: هو عيسى بن يونس ، والثاني: جرير كلاهما يروي عن الأعمش ، والأعمش يروي عن زيد بن وهب وهو الجهني أبو سليمان الكوفي ، ثقة إمام جليل مخضرم، ومعنى المخضرم: أنه من سادات التابعين، أسلم في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره. أي: أنه أدرك زمن الجاهلية وزمن النبوة، فأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، فيصنّفه العلماء بين التابعي وبين الصحابي. والتابعي: هو الذي رأى الصحابي أو لزم الصحابي، ووجد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام. أما الصحابي كما قلنا من قبل فهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللقاء يثبت للأعمى وغير الأعمى. فلو قلنا: الصحابي: هو من رأى لكان لزاماً علينا أن نخرج من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم لعمى أو لعلة أو غير ذلك، فالصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.

    لأن هناك من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وليس مؤمناً به، كالكفار والمشركين الذين التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآذوه، ولم يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام، أو المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر. فهم في حقيقة الأمر ليسوا من الصحابة؛ لأنهم ليسوا مؤمنين بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقال: إن عبد الله بن أُبي بن سلول كان صحابياً، بل كان منافقاً، والله تبارك وتعالى أعلم نبيه بأسماء المنافقين وأعيانهم، وعلّم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

    قال زيد بن وهب: [عن عبد الله].

    إذا ورد الصحابي في طبقة الصحابة عبد الله هكذا غير منسوب فالمقصود به: عبد الله بن مسعود، خاصة إذا كان الإسناد كوفياً؛ لأن زيد بن وهب كان كوفياَّ، فإذا قال كوفي من التابعين: حدثني عبد الله فإنما هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ لأنه هو الذي رحل من المدينة إلى الكوفة، ليعلّم الناس الصلاة والعلم.

    [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون بعدي أثرة)] أي: إيثار الحُكّام والأمراء والسلاطين لأنفسهم بالمال وأمور الدنيا، مما يجعلهم ينتهكون الحرمات في سبيل منصب أو كرسي أو وجاهة أو مال أو غير ذلك، فإن الحُكّام يؤثرون أنفسهم دائماً بملذات الدنيا ومتاعها، فينتهكون العرض ويسفكون الدم لأجل الحصول على ذلك. فبدلاً من أن يؤثروا الناس على أنفسهم، آثروا أنفسهم على الناس، وهذا فيما يتعلق بالدنيا، والحمد لله أنهم لم يؤثروا أنفسهم بالدين، وإنما يؤثرون أنفسهم بمتاع الدنيا وملذاتها. [(إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها)] إذا نظر الواحد منكم أو قرأ عن هذا الإيثار ينكر ذلك أشد الإنكار. [(قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟)] أي: بماذا تنصحنا وماذا نفعل حينئذ؟ والنبي عليه الصلاة والسلام هو ملاذ الموحدين إلى يوم الدين قال: [(تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)] ولم يقل: تسألون الحُكّام أو السلاطين أو الأمراء أو العلماء؛ لأن العلماء في الغالب لا يملكون شيئاً، العالم لا يملك إلا استقامة الفتوى وبيان الحلال والحرام، وبيان المشروع من الممنوع، ويملك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يملك أكثر من ذلك، لكن كثيراً من الناس يأتي فيقول: يا شيخ! العمل في البنوك حرام؟ يقول الشيخ: نعم حرام. يقول: إذاً: قدّم لي عملاً. وليس هذا له، ربما هو نفسه بغير عمل، فأنت تسأله عن الحرام والحلال فقط، ولا علاقة له بتيسير دنياك، وبتيسير حياتك، إنما له أن يوجهك في الحياة، هذا حلال وهذا حرام، هذا ممنوع وهذا مشروع. هذا دور العالم. ويأمر السلطان ومن دون السلطان بالمعروف وينهاهم عن المنكر. هذا دوره. وإن لم يؤد للرعية هذا الدور كان كالبهائم، بل تكون أفضل منه عند الله عز وجل؛ لأنها على الأقل تؤدي ما كان واجباً في حقها من الحرث والضرع، أما هو فقد خلقه الله تعالى لمهمة وحدد له السبيل، ولكنه لحرصه على الدنيا وعلى الكرسي والمنصب والمال نكس عن الطريق، وصار يجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون!فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك: ستجدون لا محالة من بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا: كيف نخرج منها يا رسول الله؟! قال: تؤدون الحق الذي عليكم؛ لأن كل إنسان له حق وعليه واجب.

    قال: (أما الذي لكم فاسألوا الله تعالى). لا تسألوا أحداً من الخلق، وإنما تسألون الله تعالى أن يأتي لكم بحقوقكم.

    ولذلك يكثر الكلام في هذه الأيام في موطن الظلم والهوان للمجاهدين في عدة بقاع من الأرض أن الحكام خذلوهم، وإن كان هذا هو الحاصل لكن ما الذي علينا نحن؟ إذا قلنا: الجهاد واجب علينا فالواجب يتعدد، فمنه الكفائي ومنه العيني، فإذا كان عينياً فلا يحتاج إلى إذن بل يجب فرضه، وإذا كان كفائياً فله شروط، يحتاج إلى إذن وليس فيه تأثيم، وغير ذلك مما هو متعلق بأحكام الجهاد، وقد مر بنا في الكلام عن مسائل الجهاد، لكن الذي ندندن به دائماً: أن أمريكا هي التي تسود العالم، وأمريكا دولة قوية جداً لا يمكن قهرها، فأقول: إن الذي يقال الآن عن أمريكا كان يقال عن الروم وعن ألمانيا من قبل، لكن الذي قهر الروم هو الله عز وجل، ولا يمكن لعاقل قط أن يتصور أن الذي قهر الروم هم أناس حفاة رعاة جوعى عطشى لا يحملون على شيء، وإنما جعلهم الله تعالى سبباً وجنداً من جنوده ليقهر أعظم إمبراطورية نصرانية على وجه الأرض. أليس الذي قهر هؤلاء بقادر على أن يقهر الآخرين؟ زلزال واحد يجعل هذا العالم كله دماراً وخراباً وتراباً.

    إذاً: علينا أن نؤدي الذي علينا، فمنا من لا يملك إلا الدعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وهل تُرزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم) وهذا شأن أهل الإيمان على طول التاريخ وعرضه، إذ تجد المؤمنين دائماً قلة في العدد وقلة في العتاد، وتجدهم في ضعف وهوان وتشريد، وتجد دائماً في المقابل عدداً كثيراً وعدة وقوة في السلاح، وكثرة في الخلق، وجاهاً وأجساماً كالخُشب المسنّدة كما وصفها الله عز وجل، فتقول: من يغلب هؤلاء؟ ومن يقهر هؤلاء؟ إن غزوة الأحزاب وبني النضير وغيرها من الغزوات بحساب البشر لا يمكن قط أن يتم فيها نصر للموحدين، وتم فيها النصر بإذن الله.

    إذاً: النصر بيد الله عز وجل لا بيد أحد، ولكن اعتاد الواحد منا أن يتكلم عن أمريكا بمنتهى التعظيم والإجلال والرعب والخوف، وهذا يؤثر في قلوب ضعاف الإيمان، فاعلم يقيناً -لا كلاماً- أنهم عبيد لله عز وجل، وأنهم في قبضته وتحت قهره وسطوته، وبإمكانه في أقل من قول: (كن) أن يجعلهم تراباً ورماداً، وتنتهي هذه الأسطورة إلى الأبد، لكن سنة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يبذل كل منا ما أوجبه الله تعالى عليه.

    إن الذي جعل أمريكا أسطورة هو عدم ثبات الموحدين! الذي جعل أمريكا أسطورة لا نهاية لها ولا تُقهر ولا تهزم هو كلامنا نحن عنهم أنهم أسطورة وهم ليسوا كذلك، بل هم أضعف من ذلك، ولا يملكون لأنفسهم حولاً ولا طولاً فمع أنهم يسمون بالقوى العظمى ويتبادلون هذه الألفاظ فيما بينهم، لكنهم يعلمون أنهم أضعف من ذلك، وهم يعلمون ما حصل لهم في أبراج التجارة جعلهم يفكرون في إنشاء سور حول البيت الأبيض، وماذا يصنع السور أمام (110) طابق؟ إذاً: هو ضعف يتلوه ضعف، لكن نحن الذين جعلنا لهم هذه القيمة بكلامنا وهم في الحقيقة لا قيمة لهم عند الله عز وجل. ولو افترضنا أن هذا السور يمنع من أتى من الخارج، فإن الضربة قد أتت من الداخل تماماً كما حدث في بني النضير: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2] انهزموا وهم في الداخل، حينما بنوا الحصون ليذبوا عن أنفسهم القادم إليهم من الخارج، أتاهم الله تعالى من الداخل: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2] فابتدأ تخريب الحصون بأيديهم هم أولاً، وبأيدي المؤمنين بعد ذلك، فالكل في قبضة الله عز وجل، فلا بد لكل واحد منا أن يؤدي الذي عليه، وأن يسأل الله الذي له، لا يسأل غير الله عز وجل.

    يقول الإمام النووي رحمه الله: (قوله عليه الصلاة والسلام: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم) من معجزات النبوة، وقد وقع هذا متكرراً.

    وفيه حث على السمع والطاعة وإن كان الخليفة ظالماً ومتعسفاً في ظلمه، ما دام لم يخرجه الظلم إلى حد الكفر). لأنه لو بلغ إلى حد الكفر لوجب على أهل الحل والعقد والمسلمين خلعه ومعاقبته، فما دام من أهل التوحيد، مع ظلم فيه فإنه تجب الطاعة له مع وجود الظلم والتعسّف، فيعطى حقه من الطاعة ولا يخرج عليه ولا يخلع، بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه ودفع شره وإصلاحه.

    شرح حديث عبد الله بن عمرو في الفتن ووجوب طاعة الأمير ودفع منازعيه

    قال: [حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم قال إسحاق : أخبرنا. وقال زهير: حدثنا].

    وكما قلت من قبل: هناك فرق بين (حدثنا) و(أخبرنا)، فأخبرنا المشهور عند العلماء استخدامها في الإجازة. أي: فيما لم يسمع الراوي من شيخه. فيقول: أخبرنا، والأفضل أن يقول: أخبرنا فلان إجازة. لكن (حدثنا) لا تُستخدم إلا في السماع.

    [حدثنا جرير عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً -يعني: نزلوا ليختبئوا- فمنا من يُصلح خباءه -يعني: منا من قد انشغل بتثبيت خيمته- ومنا من ينتضل -من النضال أي: النشال، والتدريب على الرمي بالسهم والقوس- ومنا من هو في جشره -أي: في إصلاح فرسه من العلف والتنظيف وغير ذلك- إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة -أي: اجتمعوا أيها الناس- فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم)] وهذه مهمة الأنبياء والمرسلين، أنهم يعلمون أقوامهم ما ينفعهم من خيري الدنيا والآخرة [(وينذرهم شر ما يعلمه لهم)].

    إذاً: مهمة الأنبياء: البشارة في الخير والنذارة من الشر. فهذه مهمة الأنبياء منذ أن أرسل الله تعالى نوحاً إلى محمد عليه الصلاة والسلام.

    فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها). (جُعل عافيتها) أي: قوتها في أولها. وهذا معلوم. [(وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها)] وهذا أيضاً من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بشّر أن قوة هذه الأمة وعافيتها في صدرها الأول وقد كان وبعد ذلك يكون هناك ضعف وهوان وذل وأمور تنكرونها.

    قال: [(وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضهاً)] أي: أن الفتنة الأولى تتبعها ثانية، وحين وجود الفتنة الأولى يقول الناظر إليها: هذه مهلكتي. وذلك لأنها عظيمة لا يمكن الفرار منها ولا الفكاك عنها، ولا تكون كذلك، بل ينجو منها العبد، وسرعان ما يقع في فتن أخرى فيقول: إذا انكشفت الفتنة الأولى فلا تنكشف هذه فتنكشف، فيقع في الثالثة فتتبعها أختها وتكثر الفتن في آخر الزمان، حتى يظن المسلم أنه في كل فتنة من الهالكين.

    قال: [(وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضهاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه -أي: هي التي لا أخرج منها- فمن أحب أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)].

    وهذا كلام جميل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذّر من الفتن، إذ تكثر ويرقق بعضها بعضاً، ويسلّم بعضها إلى بعض؛ وموقفي أنا كمسلم موحد أن أؤمن بالله واليوم الآخر.

    كان عبد الله بن عمر إذا عُرضت عليه الفتنة قال: آمنت بالله ورسوله. يتأول هذه النصوص.

    وكان غير واحد من السلف يفعلون ذلك، وإذا أتت الفتنة كانوا أحلاف بيوتهم. أي: يغلقون على أنفسهم بيوتهم، وينكسون سيوفهم ويقولون: آمنا بالله ورسوله، ولا شك أن موقف المسلم من الفتنة بين ثلاثة مواقف:

    الموقف الأول: إذا كان الحق في الفتنة ظاهراً وواضحاً وجب على الناس أن يعينوا صاحب الحق على المبطل، وجب عليهم ذلك ولا يسعهم المخالفة، وذلك إذا كانت الإعانة والنصرة في مقدورهم.

    والموقف الثاني: يحرم عليهم إعانة المبطل على المحق.

    الموقف الثالث: إذا لم يكن للفتنة جانب رابح، لا يعرف أيهما على الحق وأيهما على الباطل، وأين الحق في هذه الفتنة؟ فإن واجب المسلم حينئذ أن يكف يده عن تلك الفتنة أبداً. وهذا ما فعله سلف الأمة.

    قال: [(فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته)] أي موته (وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس) أي: يبذل إلى الناس (الذي يحب أن يؤتى) أي: من الخير.

    قال: [(ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه)]؛ لأن البيعة لا تكون إلا باليد، وتكون باللسان، لكن صورة البيعة غالباً وضع اليد في اليد.

    قال: [(فليطعه إن استطاع)] إذا كنت قد بايعت إماماً فأطعه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

    قال: [(فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)].

    إذا جاء إمام آخر وزعم الإمامة والخلافة ينازع بها الإمام الأول فادفعوه وادرءوا ما استطعتم، فإن لم يكن دفعه ممكناً إلا بقتله قُتل. يعني: ادفعوه وبيّنوا عواره وفساده ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً، فإن لم يندفع أمره إلا بالقتل قُتل.

    قال: [(فدنوت منه)] أي: عبد الرحمن بن عبد ربِّ الكعبة حينما سمع هذا من عبد الله بن عمرو بن العاص دنا منه، فقال: [(أنشدك الله -أي: أستحلفك بالله!- آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه -أي: أشار إلى إذنيه وإلى قلبه- قال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي)] وكأنه يقول له: والله العظيم لقد سمعت هذا منه عليه الصلاة والسلام بأذني ووعاه قلبي فلم أنس منه حرفاً واحداً.

    قال: [(فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا)] أي: إذا كنت أنت تحدث بهذا فأولى لك أن توجه النصيحة لنفسك؛ لأنك وأباك كنتما مع معاوية على علي بن أبي طالب ، وأنتما تعلمان أن علياً كان صاحب الحق.

    نقول: لكن معاوية في الوقت نفسه لم يكن فاسقاً ولا ظالماً؛ لأنه كان متأولاً رضي الله عنه وعن أبيه، ولكن ابن عبد رب الكعبة فهم من كلام عبد الله بن عمرو المرفوع من كلام النبي عليه الصلاة والسلام أنه مخالف لما يروي.

    قال: [(هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] قال: فسكت ساعة -أي: فسكت عبد الله بن عمرو ساعة- ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله).

    أطع الإمام إذا كان يأمرك بطاعة الله، ولا تجب عليك الطاعة بل يجب عليك العصيان إذا أمرك بمعصية؛ لأنه لا طاعة إلا في المعروف.

    معنى قوله: (فتنة يرقق بعضها بعضاً)

    قوله: (ترقق بعضها بعضاً) أي: يصير بعضها رقيقاً خفيفاً لعظم ما بعده. الفتنة تأتي كالجبل فيستعظمها المرء، لكنها بالنسبة لما بعدها هي رقيقة جداً وسهلة ميسورة.

    والتأويل الثاني معناه: يشبه بعضها بعضاً. وقيل: يدور بعضها في بعض ويذهب ويجيء. وقيل: يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها.

    والمعنى الثالث: فيدفق لا يرقق. أي: تأتي متدفقة، يدفع ويصب صباً.

    معنى قوله: (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)

    قال: (وليأت إلى الناس الذي يجب أن يؤتى إليه) هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمة فينبغي الاعتناء بها، وهو أن الإنسان يجب عليه ألا يفعل مع الناس إلا ما يُحب أن يفعلوه معه. قال: (فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) معناه: ادفعوه إلا إذا كان لا يندفع إلا بقتله فيجوز حينئذ قتله.

    معنى قوله: (هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ...)

    قوله: (هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل) إلى آخره.

    المقصود بهذا الكلام: أن هذا القائل لما سمع كلام عبد الله بن عمرو بن العاص وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يُقتل اعتقد أن هذا الوصف في معاوية ، فقد اعتقد أن معاوية خليفة ثان في وجود الخليفة الأول؛ لمنازعته علياً رضي الله عنه، وكانت قد سبقت بيعة علي ، فرأى هذا القائل أن نفقة معاوية على أجناده وأتباعه في حرب علي ومنازعته ومقاتلته إياه من أكل الأموال بالباطل، وأخذ أموال المسلمين من بيت المال، وإنفاقها على الجند لمحاربة الخليفة الأول -أي: صاحب البيعة المشروعة- يعد باطلاً؛ لأنه قتال بغير حق، فلا يستحق أحد مالاً في مقاتلته.

    فقال عبد الله بن عمرو : (أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله) وفيه دليل على وجوب طاعة المتولين للإمامة بالقهر من غير إجماع ولا عهد.

    قال: (أطعه) أي: أطع معاوية في طاعة الله، ومن كان على شاكلة معاوية من إمام ثان يظهر في وجود الإمام الأول تجب عليك طاعته إذا تولى بالقهر والغلبة وإعمال السيف، يجب طاعته من باب حقن الدماء.

    قال له: إن الناس أطاعوا معاوية ؛ لأنه ظهر وغلب في بقعة من بقاع الناس في الشام، وادعى الخلافة وطلب البيعة لنفسه، فبايعه الناس قهراً في وجود البيعة الصحيحة لـعلي بن أبي طالب .

    إذاً فلِم أطاعه الناس؟ ولِم لم يقتلوه أو يدفعوا عن علي ما استطاعوا؟ لأنهم لم يقدروا على ذلك، فإن رفع أحد عقيرته بمقتضى هذه النصوص قتله معاوية .

    وكأنه أراد أن يقول: إن الإمام إما أن يتولى بالنص والإجماع كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وإما أن يتولى بالقهر والغلبة كالولاية الجبرية، والنبي قد بينها عليه الصلاة والسلام. قال: (ستكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم ينزعها الله تعالى إذا شاء أن ينزعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وهي الخلافة الراشدة للأئمة الأربعة (فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم ينزعها الله تعالى إذا شاء أن ينزعها، ثم يكون ملكاً عاضاً) كما كان في دولة بني أمية ودولة العباسيين وغيرها من الدول، حتى في زماننا هذا وفي عصرنا الحديث. قال: (فإذا شاء الله تعالى أن ينزعه نزعه) أي: ينزع الملك العضوض (ثم يكون ملكاً جبرياً) أي: قهرياً. يتولى الحكام سياسة الناس بالقهر والقوة والغلبة، والسيف والسنان، حينئذ يجب علينا الطاعة لا لأننا قد بايعنا، ولا للخلافة المشروعة -بل هي غير مشروعة- ولكن حقناً لدماء المسلمين وجب عليهم أن يسمعوا ويطيعوا في طاعة الله عز وجل، وألا يسمعوا ولا يطيعوا في معصية الله عز وجل، هذا باب. وباب الطاعة لهم لحقن الدماء باب آخر، فحينئذ يجب على الناس أن يسمعوا ويطيعوا حقناً للدماء.

    قال: (ثم تكون فيكم ما شاء الله أن يكون) أي: هذا الملك الجبري (فإذا شاء الله تعالى أن يرفعه رفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت).

    وهذا يدل على أن ختام الخلافة ستكون على منهاج النبوة، هل هي خلافة المهدي المنتظر أو هي قبل المهدي المنتظر ؟ الله أعلم.

    والراجح: أن الأرض تمهّد بخلافة قبل ظهور المهدي المنتظر ونزول عيسى بن مريم.

    وقد ظهرت وبدت البوادر والبشائر في هذا الزمان بهذه الصحوة المباركة التي رجع الناس فيها أفواجاً وجماعات إلى ربهم، حتى من فئات ما كان المرء يتصور قط أن واحداً منهم يرجع إلى الله، أو يتعرّف على الله عز وجل، صارت فئة مجتمعة كلها ترجع إلى الله عز وجل.

    وفي هذا من المبشرات ما فيه، والتوبة والأوبة والإنابة إلى الله عز وجل تبشر بأن هذه الصحوة صحوة مباركة عاملة بالكتاب والسنة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وبهذا تتهيأ الأرض للخلافة الراشدة بإذن الله تعالى.

    1.   

    باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم

    إذا ظلم الوالي أو استأثر في الدنيا، فالذي عليّ -كما قلنا من قبل- أن أؤدي الذي علي وأسأل الله الذي لي.

    وإذا ابتلاني الله تعالى بأن الذي لي لم يصلني فالواجب عليّ الصبر.

    قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يُحدّث عن أنس بن مالك..].

    هذا هو الإسناد الثاني. قال: سمعت قتادة ؛ لأن قتادة مدلّس، واسمه قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ومعنى قتادة في اللغة: فرع الشجرة. والدعامة: أصل الشجرة. فهو قتادة وأبوه دعامة ، قتادة بن دعامة السدوسي البصري يحدث عن أنس. وفي رواية أخرى قال: سمعت أنسـاً. وقتادة كان مدلّساً.

    [عن أسيد بن حضير ]. أنس بن مالك صحابي وأسيد بن حضير صحابي. فهذه قوة إسنادية: أن صحابياً يروي عن صحابي آخر. قال: [(أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم)] خلا أي: اختلى به في مكان، وليس خلا به بمعنى: أنه عصاه ولم يطعه. [(فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟)]. هذا الكلام محرج وليس وجيهاً؛ ولذلك استحيا أن يسأله على الملأ.

    فقال: [(يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال: إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)] هل هذا الجواب مطابق للسؤال؟ قال: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). يفهم من هذا الكلام أن من طبيعة العُمّال والأمراء إيثار أنفسهم على الرعية، فلم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا الأنصاري منهم، والأثرة أكثر ما تكون في الولاية من بعده صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يقول: لا يمنع إذا استعملتك أن تبقي نفسك للمال وملذات الدنيا على الرعية فتقع في المحذور، فاصبر حتى تلقاني على الحوض، وإذا كنت مأموراً لدى عامل من العُمّال فآثر نفسه دونك، فأد الذي عليك، وانتظر واصبر على أن تلقى ما هو لك حتى تلقاني على الحوض فإنه لن يضيع، فالذي يضيع في الدنيا لا يضيع في الآخرة، وهذا يبيّنه ما كان من أمر أبي ذر رضي الله عنه عندما قال: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: إنك لضعيف) وأنا أحبك يا أبا ذر! وأحب لك ما أحب لنفسي! فانظر إلى منتهى الشفقة منه عليه الصلاة والسلام!

    1.   

    باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق

    منع الحقوق ظلم، لكنه لا يؤدي إلى الكفر، وما دام الظلم لم يبلغ بولي الأمر الكفر فإن هذا الظلم يوجب له السمع والطاعة.

    قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه رضي الله عنه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا. فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس رضي الله عنه وقال: اسمعوا وأطيعوا)] أي: قال النبي عليه الصلاة والسلام، وربما يكون قال الأشعث ؛ لأن الأشعث سمع هذا الكلام منه عليه الصلاة والسلام في موطن آخر غير هذا الموطن، فيصح أن يكون هذا الكلام موقوفاً ومرفوعاً، فإذا قلنا: مرفوعاً يكون التقدير: قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمّلتم)] أي: جعل الله تعالى لكل واحد منكم حقه، وجعل على كل واحد منكم واجباً، فأدوا الذي عليكم، واصبروا حتى تلقوا رسول ربكم على الحوض.

    [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار المدائني حدثنا شعبة عن سماك بهذا الإسناد مثله، وقال: فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: (اسمعوا وأطيعوا. فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)].

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    حكم مبايعة الإمام الظالم

    السؤال: إذا كان الإمام ظالماً وغير عادل في حكمه فهل أبايعه أم لا؟

    الجواب: البيعة تجب للإمام وإن كان فاسقاً.

    حكم إطلاق لفظ (خليفة) على حاكم بلد معين والبيعة له

    السؤال: هل يجوز أن نطلق على حاكم بلد معيّن أنه خليفة في هذا البلد، وهل يجب علينا أن نبايعه؟

    الجواب: بلا شك أن هؤلاء يقومون مقام الولاة والسلاطين، في الأصل أنهم معينون من جهة الخليفة ولا خليفة، فكان كل حاكم حاكماً على بلده فحسب، وليست شروط الخلافة متحققة في أحد من هؤلاء جميعاً، أما بيعة الخلافة فلا تصح لهؤلاء جميعاً؛ لأنهم ليسوا خلفاء، بل هم حُكام.

    الحكم على حديث (إذا صليتم بالناس فخففوا...)

    السؤال: يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا صليتم بالناس فخففوا فإن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة) هل هذا الحديث صحيح؟

    الجواب: نعم. صحيح.

    بيان مقدار تخفيف الصلاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: إذا كان صحيحاً فما بالنا لا نعمل به لا سيما ونحن ندّعي بأننا متمسّكون بالسنة وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: لا، فأنا أرى أن الصلاة أكثر تخفيفاً مما أراده النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الذي أمر بالتخفيف هو الذي كان يصلي بالناس، فكان يصلي الفجر من الستين إلى المائة آية، ولا أحد يصلي الآن من الستين إلى مائة آية إلا ما ندر، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي الظهر بعد الفاتحة بالثلاثين آية. أي: بحوالي ربعين.

    ونحن نصلي الظهر والعصر بالكوثر والإخلاص، وبالكاد أحدنا يُدرك الكوثر والإخلاص وراء الإمام، وإذا دخل المسجد وصلى خلف إمام لا يعرفه وحسّن به الظن، أو خاف على نفسه ألا يقرأ شيئاً بعد الفاتحة بدأ بالكوثر احتياطاً؛ لكي يدرك أي آية، بل منا من لا يدرك إتمام فاتحة الكتاب، ولو أنك قرأت دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام يقيناً لا تدرك شيئاً.. لا أقول: من الفاتحة، وإنما من القرآن بعد الفاتحة، فهذا هو التخفيف الذي تريده أنت، أما التخفيف الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام فإنه قد ورد أن أحدهم كان إذا سمع الأذان انطلق من عمله إلى بيته، فتوضأ وصلى السبحة -أي: السنة- ثم أتى إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام من عوالي المدينة وأطرافها، فأدرك معه الركعة الأولى. هذا هو تخفيف النبي عليه الصلاة والسلام. وكان يجعل العصر على النصف من الظهر، أي: إذا كان يقرأ في الظهر بثلاثين آية يقرأ في العصر بخمس عشرة آية، وكان يصلي المغرب فيطيل فيها، حتى إنه صلى مرة بسورة الأعراف كاملة، والأصل في صلاة المغرب التطويل. أي: أن المغرب أطول من صلاة الظهر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيها بطوال المفصّل. أي: بالسور الكبيرة التي تبدأ من (ق) أو (الأحقاف) على خلاف بين العلماء في المفصّل، فكان يقرأ في المغرب بالسورة أحياناً وبالسورتين أحياناً من طوال المفصّل. هل نحن نعمل هذا؟ فلو أنه أتى من يصلي بنا هنا بالأعراف ما الذي سيحدث؟ سوف ينهره كل من في المسجد حتى السنّية ويقولون: ما هذا؟ ألم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف؟ مع أن الذي أمر بالتخفيف هو الذي صلى بهذه السورة، وإن صلى بها مرة واحدة فأنا لم أصل بها إلا مرة واحدة، فلِم تنقمون علي؟ فيقولون: النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يصلي بها كل يوم. أقول: وهل أنا صليت بها كل يوم؟ فهذا لم يحصل إلا مرة واحدة، لكن لا بد أن يتوجه اللوم والإنكار؛ وذلك لأنهم لم يحفظوا من الدين إلا التخفيف، وما علموا مقدار التخفيف.

    صليت بالناس في بلد من البلدان صلاة المغرب بآية الكرسي وسورة الضحى، فقام الكل عليّ قومة رجل واحد ليس فيهم رجل رشيد، ولا واحد دافع عنّي فالكل اتهمني، فأتوا رجلاً فيهم هو الموظف الوحيد فيهم، ويرون أن هذا الرجل هو عالمهم مع أنه لا علاقة له بالدين، لكن ما دام موظفاً ومتعلماً ومعه إعدادية قديمة فهو الأمل في البلد كلها، وبعد هذا اضطررت أن أقف في المحكمة متهماً أمامه، وقد عقدت هذه المحكمة في المسجد. قال: أنا أوافقك على سورة الضحى، أما آية الكرسي فلا. قلت له: لماذا؟ قال: لأن الصلاة باطلة إلا بثلاث آيات فأكثر، إنما أقل من هذا فلا، فآية الكرسي آية واحدة! فكان عليك أن تجمع معها آيتين أخرى ولو من سورة الضحى!

    فأي كلام هذا؟ وأي تخريف؟

    يقولون لك: النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، وكل واحد فهم التخفيف على مزاجه. نقول: إذا كان هناك نصوص ظاهرها التعارض فلا بد من حمل بعضها على البعض، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية بيّنت ذلك كله، فنحن رغم أننا سنيون متمسكون إلا أننا أيضاً ملتزمون بكلام النبي عليه الصلاة والسلام.

    ثبت في حديث معاذ بن جبل أن معاذاً كان إمام قومه، وكان يصلي العشاء الآخرة مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم وكان إمامهم، فصلى فأطال الصلاة، ففارقه حرام بن ملحان رضي الله عنه، فلما بلغ معاذ أن حراماً فارقه قال: والله إنه لمنافق، لأرفعن أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد سبقه بالشكوى حرام وهو أخو أم سُليم أم أنس بن مالك فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـمعاذ بن جبل : (أفتّان أنت يا معاذ ؟! صل بهم بـ(الشمس وضحاها) و(الليل إذا يغشى)).

    قال العلماء: هذا هو القدر المشروع في صلاة العشاء، ولا يمنع الزيادة عن ذلك ولا الإقلال من ذلك، لكن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء بهذا القدر، وكان يفعل ذلك ويأمر به عليه الصلاة والسلام.

    فأذكركم بما يحدث الآن في أمريكا من حرائق في الغابات أسأل الله تعالى أن يحرق أبدانهم وقلوبهم، فأكثر من (4000) منزل قد التهمتها النيران، وإخلاء كثير من المدن، وما يحدث في روسيا من فيضانات وموت العشرات، وقتل كثير من الصينيين أيضاً في الفيضانات، وتخريب المباني والكباري، هذا بالإضافة إلى الخسائر المادية الكبيرة في هذه الدول الكبرى الثلاث، تصديقاً لقول تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

    وأذكر إخواني ألا يكفوا عن الدعاء على هذه الدول الكافرة الثلاث، وهي الدول الكبرى في العالم، وكذا غيرها من دول الكفر، أسأل الله تعالى أن يغرقهم جميعاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756218998