وبعد:
ذكرنا في الدرس الماضي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بأسماء الله وصفاته من غير تحريف ولا تعطيل، وشرحنا معنى التحريف والتعطيل، وبقي معنا أنهم يؤمنون بها من غير تكييف ولا تمثيل، ونتكلم في هذه الليلة بعون الله تعالى على التكييف والتمثيل.
لم يرد لفظ التكييف لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن ورد ما يدل عليه، والتكييف هو الذي تسأل عنه بكيف، مثل قولك: كيف جاء زيد؟ فيكون الجواب: جاء راكباً، أو جاء راجلاً، أي: أنك تصف حاله حين المجيء.
أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله عز وجل، فمثلاً: يقولون عن صفتي المجيء والنزول: إن الله تعالى ينزل، ويجيء، نزولاً ومجيئاً لا يعلم كيفيته إلا الله، ولكن المجيء والنزول وبقية صفات الله عز وجل معلومة من حيث اللفظ والمعنى، وأما الكيفية فلا نعلمها، بل نفوض أمرها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم كيف يأتي، وكيف ينزل، وغير ذلك من الصفات.
فأهل السنة والجماعة الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما يفوضون الكيف، ولا يفوضون المعنى، فإن المعنى ثابت كما ثبت اللفظ.
فالشاهد في هذه الآية قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ، فمن قال: إن الله تعالى ينزل كنزول هذا خطوة خطوة، من درج، أو من منبر أو غير ذلك، فإنه قد قال على الله تعالى بغير علم؛ لأنك لو سألته: هل أخبرك الله تعالى بأنه ينزل كنزولك هذا؟ لكان الجواب: لا، ولو قال: نعم، فلن يجد على قوله دليلاً لا في الكتاب ولا في السنة.
فالذي يصف مجيء الله تعالى ونزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل بصفة أو هيئة أو كيفية معينة فقد قال على الله تعالى ما لا علم له به، وأعظم على الله تعالى الفرية، ولذلك قال الإمام أبو شامة عليه رحمة الله -وهو من أجل علماء السنة-: من وصف الله تعالى بصفة من صفاته التي يجب فيها التفويض إليه سبحانه وتعالى ينبغي أن ينكل بمثل ما أتى، فمن قال: إن لله تعالى عيناً كعيني هذه، أو قال: إن له يداً كيدي هذه، أو قال: إن له رجلاً كرجلي هذه -هذا كلام أبي شامة رحمه الله- فنقول: تفقأ عينه، وتقطع يده ورجله؛ لأنه شبه الخالق بالمخلوق، ومثل الخالق بالمخلوق، وكيف الخالق بتكييفات المخلوق. سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش على هذه الكيفية، ووصف كيفية معينة كأن يجلس على كرسي ويقول: إن الله تعالى جلس على الكرسي فوق السماء السابعة كجلوسي هذا قلنا له: إن هذا تقول على الله ليس لك به علم، وهل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟ فسيكون جوابه: لا؛ لأنه لو قال: نعم لقلنا له: أين الدليل؟ فالله تعالى لم يخبرنا كيف استوى، ونقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم، ولهذا قال بعض السلف: إذا قال لك الجهمي -والجهمي هو من يعطل الصفات-: إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل؟ فقل له: إن الله تعالى أخبرنا بأنه ينزل، ولم يخبرنا بكيفية النزول، وشعارنا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وصدقنا وآمنا، فكل ما أخبرنا الله تعالى به وطلبه منا فعلينا أن نؤمن به، علمنا منه الحكمة أو لم نعلم ذلك، فإذا كان الله تعالى قد استأثر بعلم الكيفية وحده فلا يجوز لنا أن نخوض في بيانها ومعرفتها، بل نقول: إن الله استوى استواء يليق بجلاله، لا يشابه استواؤه استواء المخلوقين؛ لأنه لما كان الله تعالى مبايناً ومغايراً لخلقه في الذات فلابد أن يكون مبايناً ومغايراً لهم في الصفات، والاستواء صفة، فدل ذلك على أن استواء المخلوق غير استواء الخالق سبحانه وتعالى.
ودليل آخر من المنقول وهو قول الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، أي: لا تتبع نفسك ما ليس لك به علم، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].
الشاهد هنا: أنك لا تتبع ما ليس لك به علم؛ لأنك مسئول عن سمعك وقلبك وفؤادك.
فالتكييف من جهة العقل لا يمكن إلا بأحد ثلاثة أمور، الأول: أن ترى الشيء نفسه، والله عز وجل لم يره أحد من البشر، فكيف نصف النزول والمجيء والغضب والرضا وغير ذلك ونحن لم نره؟
والأمر الثاني: أن الله تعالى ليس له شريك ولا ند ولا مثيل حتى نقول: هذا المثيل والشريك والند مرئي لنا، حتى نقول عن صفة الغضب مثلاً: إن الله تعالى يغضب كغضب فلان. وهذا لما كان ممتنعاً ومستحيلاً دل ذلك على أن هذا الطريق أيضاً طريق مغلق، وأنه لا بد من تفويض الكيف؛ لأننا لا نرى الله مشاهدة بالعين في الدنيا، كما أنه ليس له مثيل حتى نقيس الله عز وجل عليه؛ لأن الله تعالى لا يقاس بشيء من خلقه.
والأمر الثالث: أنه لم يأتنا خبر صادق عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم بكيفية النزول ولا المجيء ولا الاستواء وغير ذلك. لما امتنع هؤلاء الثلاثة دل ذلك على وجوب تفويض الكيف إلى الله عز وجل.
فالاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى، ولا نقول: معلوم الكيف؛ لأننا نفوض الكيف إلى الله عز وجل، وأما معنى الاستواء فمعلوم عند العرب. وكلمة استوى لم تأت في لغة العرب إلا معداة بعلى، أي: استوى على، وعلى في اللغة تفيد العلو والارتفاع، فدل ذلك على أن معنى استوى في الكتاب والسنة بمعنى علا وارتفع.
فمعنى الاستواء معلوم، وهو العلو والارتفاع، وهذا معنى قول الإمام مالك : الاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى، وهو الارتفاع والعلو، فالاستواء غير مجهول.
(والكيف غير معقول)، أي: أن العقول لا تدرك كيفية ذلك، ولذلك خبأها الله تعالى على الخلق رحمة بهم؛ لأن الله تعالى لو وصف لنا كيفية استوائه فإن بعض العقول ستصدق ذلك، وبعض العقول سترد ذلك، ولذلك فرض الله تعالى علينا أن نؤمن بأنه استوى، ولم يبين لنا الكيف؛ لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية وجب الكف عنها.
ثم أتبع ذلك الإمام مالك بقوله: (والإيمان به واجب)، يعني: لابد من الإيمان باستواء الله عز وجل وبمجيئه ونزوله عز وجل وغير ذلك من الصفات كما جاءت، وإمرارها دون الخوض في تأويلها وتحريفها وتعطيلها؛ لأن الله أخبر به عن نفسه فوجب تصديقه.
(والسؤال عنه بدعة)، أي: السؤال عن كيفية الاستواء أو عن كيفية النزول والمجيء وغير ذلك من الصفات إما أن يكون سؤال متعنت فهو بدعة، وإما أن يكون سؤال جاهل فينبغي أن يوجه إلى عدم السؤال عن هذين الأمرين، وأنه يحاسبه الله تعالى على عدم السؤال عليه، وإنما الذي يجب عليه أن يؤمن بأن الله تعالى يأتي وينزل ويستوي وغير ذلك، ويؤمن بهذه الصفات كما جاءت ويمرها، وهذا من فوائد الإيمان بالغيب. والله عز وجل افترض على أهل الإيمان أن يؤمنوا بالغيب، وصفات الله تعالى غيبية، وإن كان لا يؤمن الشخص بالغيب فكيف يؤمن بالصفة، فهذا ابتلاء واختبار من الله تعالى لينظر هل نؤمن بصفات الله عز وجل دون أن نخوض فيها أم لا، فينبغي علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وآمنا بالله وصدقنا، وهذا قول أهل الإيمان.
والصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من صفات الله عز وجل، وهم أسوة وسلف وقدوة لنا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد أن نكون مثلهم، خاصة في أمور الغيب. فهم لما سمعوا قول الله تعالى: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] عرفوا عظمة الله تبارك وتعالى، ولم يسألوا عن كيفية الاستواء؛ لأنهم عرفوا أن المقصود بهذه الآية هو العلو والعظمة والارتفاع.
وكلام الإمام مالك رحمه الله تعالى ليس خاصاً بصفة الفوقية فقط، وإنما هو كلام عام وميزان أصيل توزن به جميع الصفات، لا تسأل عن الكيفية، ولكن سل لتعلم معنى الصفة، فلو قلت: ما معنى استوى؟ فالجواب: علا وارتفع، ولو قلت: كيف استوى؟ لقلنا: إنك مبتدع أو جاهل.
السؤال عن معنى صفات الله جائز، بل هو من أشرف العلوم وأعلاها؛ لأنه متعلق بعلم التوحيد وعلم العقيدة، وهو من أشرف العلوم وأعلاها؛ لأنه متعلق بذات الله عز وجل، ثم يتلوه في الفضل علوم القرآن؛ لأنها متعلقة بكلام الله عز وجل، وهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، فلما كان الله عز وجل أعلى كل شيء وأحسن من كل شيء دل ذلك على أن كل ما يتعلق بذاته وتوحيده يقدم على غيره من العلوم، ثم يتلوه كلام الله عز وجل، وهو كتابه القرآن الكريم، فكل ما يتعلق بالقرآن من تفسير وتلاوة وفك غريب وغير ذلك يأتي في المرتبة الثانية بعد ذات الله عز وجل؛ لأنه صفة من صفاته، والصفة تابعة للذات.
ثم يأتي بعد ذلك علوم السنة، وهي في الفضل والعظمة تتلو علوم القرآن، ثم يأتي بعد ذلك علوم الآلة من اللغة وغيرها وبقية علوم السنة وأصول الفقه وأصول الحديث، وهي التي تخدم علم الكتاب والسنة، ثم يتلوها بعد ذلك علوم الدنيا الطبيعية وغيرها.
فكلام الإمام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فقل: النزول غير مجهول، أي: معلوم، فالله تعالى ينزل؟ والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل ينتقل؟ فنقول: السؤال هذا بدعة، إذ كيف تجيز لنفسك أن تسأل سؤالاً لم يسأله الصحابة رضوان الله عليهم؟ فهم أحرص منا على الخير وعلى العلم بما يجب لله تعالى، ولسنا بأعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإمام مالك رحمه الله رد على ذلك الرجل؛ لأنه سأل تعنتاً، فقال: ما أراك إلا مبتدعاً، ثم أمر به فأخرج من المسجد؛ لأن السلف كانوا يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقريراتهم ومجادلاتهم.
فأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عز وجل سؤالاً ما سأل عنه الصحابة فهو كما قال مالك : ما أراك إلا مبتدعاً.
الوجه الأول: أنهم قالوا: أمروها كما جاءت، ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعان؛ لأن الله تعالى يستحيل أن يخاطبنا بالكلام المجمل أو بكلام لا نفهمه نحن، ولا يفهمه أنبياؤه ورسله، وإلا لخاطبنا الله تعالى بالمجمل وبكلام لا معنى له، وهذا عبث ولعب نزه الله تعالى نفسه عنه، ونزهه أنبياؤه والمؤمنون.
والأمر الثاني: قولهم بلا كيف، لأن نفي الكيفية يدل على فهم المعنى، أو على وجود المعنى؛ لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لهو وعبث.
فكلام السلف هذا يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى.
والكيف هو ذكر صفة من الصفات بهيئتها وحالها وكيفيتها، كما تقول: جاء زيد راكباً، أو جاء زيد راجلاً، أي: يمشي على رجليه. فهذا بيان لصفة المجيء، والتكييف والحال والوصف بمعنى واحد.
فهو تعالى متفرد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فلا يشاركه أحد في أفعاله، كما لا يشاركه أحد في صفاته ولا في ذاته.
قال: (والتمثيل: هو ذكر المماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق)، يعني: بين التكييف والتمثيل عموم وخصوص مطلق؛ لأن كل ممثل مكيف، فلو قلت: مشي محمد كمشي أحمد، أو جلوسه كجلوس إبراهيم، أو قيامه كقيام عمرو فهذا تمثيل وتكييف؛ لأنني وصفت حال قيامك وجلوسك ومجيئك، وهذا تكييف، ولما ذكرت لك شبيهاً في القيام والقعود والمشي والمجيء والذهاب والإياب كان هذا تمثيلاً، فكل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلاً؛ لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل قولي: إن إتيانك إتيان جميل، فهذا تكييف، ولا يلزم أن يكون كإتيان إبراهيم مثلاً، وهذا يدل على أن كل مكيف لا يلزم منه أن يكون ممثلاً، ولكن كل ممثل يلزم منه أن يكون مكيفاً، فبين التمثيل والتكييف عموم وخصوص، يعني: اجتماع وافتراق، فالممثل لابد وأن يكون مكيفاً، ولا يلزم أن يكون المكيف ممثلاً.
ويقولون: إن الله عز وجل له حياة ولكن ليست كحياتنا؛ لأن حياتنا يعتريها النقص والعلل والأمراض والأسقام، وأما حياة الله تعالى فهي منزهة عن هذا كله، فهم يثبتون لله تعالى الحياة، ولكن ليست كحياتنا، وكذلك سمعنا ليس كسمع الله، ولا علمنا كعلم الله، ولا إتياننا كإتيان الله، ولا مجيئنا كمجيء الله، ولا استواؤنا كاستواء الله، بل لما كانت الذات منافية للذات لابد أن تكون الصفات منافية للصفات.
فالآية فيها نفي صريح للتمثيل، وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]. هذا إنشاء بمعنى الخبر، وهو استفهام بمعنى النفي يفيد التحدي، وقولك: ليس له سمي أقل بكثير من قول الله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ؛ لأن الله تعالى استفهم بهذا استفهاماً في سياق الإنكار، وهذا السياق يفيد التحدي، فالله تعالى ليس له سمي، والقول بأن الله تعالى له سمي كذب وزور وافتراء، وهذا كله على نفي المماثلة.
وأما الطلب فقول الله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22]. فهنا أمر الله ألا نجعل له نداً ولا شريكاً ولا مثيلاً، كما قال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]، يعني: لا تقل: الله مثل فلان، أو فلان مثل الله، وقد ورد في بعض كتب الأدباء: أن أديباً دخل على تلميذ له، وكان لتلميذه ثوب واحد قديم جداً، فقال: إن فيك صفتين من صفات الله الوحدانية والقدم، وهذا تمثيل وتكييف، وكل ممثل مكيف، فهذا مثل وكيف كالذي يستهزئ بآيات الله وبكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك فقد كفر وخرج عن الملة، كما قال تعالى: لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [التحريم:7]، وهذا لا شك أنه كافر وخارج من الملة؛ لأنه نازع الله تعالى أو وصف خلق الله بصفات الله عز وجل، فوحدانية الله عز وجل هي أعلى ما يتصف الله تعالى به من الصفات، فهو صاحب الوحدانية في الألوهية والربوبية والذات والصفات والأفعال، وغير ذلك مما يخص الله تبارك وتعالى من أسماء وصفات، فهو يقول له: إن فيك صفتين من صفات الله الوحدانية والقدم.
ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالقديم ولا بالقدم؛ وإنما يوصف الله تعالى بالأول والآخر والظاهر والباطن، وأما اسم القديم فهو غير ثابت لله عز وجل. وأسماء الله تعالى توقيفية، أي: أننا نتوقف في إثبات الاسم إلى أن يأتي به الخبر الصحيح الثابت، فلا نثبت لله تعالى اسم القديم؛ لأنه لم يرد إلينا في النصوص.
قال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]. فمن مثل الله بخلقه فقد كذب الخبر وعصى الأمر، ولهذا أطلق بعض السلف القول بتكفير من مثل الله بخلقه، ومن هؤلاء الأئمة نعيم بن حماد الخزاعي ، وهو إمام جليل من أئمة أهل السنة، عاش في عصر الإمام أحمد بن حنبل ، وكان شيخ البخاري ، وقد تعرض لفتنة خلق القرآن، ووشى به إلى المعتصم أحمد بن أبي دؤاد عالم السلطان في ذلك الزمان، وهو من المعتزلة، وكان المعتزلة يقولون بخلق القرآن، فوشى أحمد بن أبي دؤاد إلى المعتصم بالإمام أحمد ونعيم بن حماد وغيرهما من أهل العلم من السلف، فعذبهم ونكل بهم نكالاً عظيماً، وكان من بين من نكل بهم نعيم بن حماد رحمه الله تبارك وتعالى، فقد سجنه المعتصم ، حتى مات نعيم بن حماد في سجنه، فألقي في حفرة، ولم يكفن ولم يغسل ولم يصل عليه، رضي الله تبارك وتعالى عنه. فأهل العلم تحملوا المشاق العظام في سبيل أن يوصلوا إلينا هذا الدين، ولولا أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها لقلنا: إن هؤلاء الناس تكلفوا فوق وسعهم.
قال الإمام نعيم بن حماد : من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله تعالى به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً.
يقول الذهبي بعد أن ذكر هذا القول في سير أعلام النبلاء في ترجمة نعيم بن حماد : هذا الكلام حق، نعوذ بالله من التشبيه، ومن إنكار أحاديث الصفات، فما ينكر الثابت منها من فقه، وإنما بعد الإيمان بها هناك مقامان مذمومان، أي: بعد أن تؤمن بصفات الله عز وجل اعلم أن هناك مقامين مذمومين.
المقام الأول: تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب، أي: تأويل الصفة، وهذا التأويل هو التحريف. فالمقام المذموم الأول هو تحريف الصفة وصرفها عن موضوع الخطاب، مع أن السلف لم يؤولوا ولم يحرفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها وأمروها كما جاءت.
وأما المقام المذموم الثاني: فهو المبالغة في إثباتها، أي: لا نبالغ في إثبات الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه، ومعنى المبالغة في الإثبات: المماثلة، كأن تقول: إتياني كإتيان الله، فهذا تمثيل وتكييف في الوقت نفسه.
والمبالغة في إثباتها وتصورها من جنس صفات المخلوقين وتشكلها في الذهن، وهذا جهل وضلال.
فالمقام الأول من المقامين المذمومين: النفي، والمقام الثاني: المبالغة في الإثبات.
بل ينبغي إثبات الصفات إثباتاً ليس فيه تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل.
والصفة تابعة للموصوف وهو الله عز وجل، فإذا كان الموصوف وهو الله عز وجل لم نره ولا أخبرنا أحد أنه عاينه، أي: رآه بعينه، مع قوله لنا في تنزيله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فكيف نثبت كيفية للباري؟ تعالى الله عن ذلك. وكذلك صفاته المقدسة علينا أن نقر بها ونعتقد أنها الحق، ولا نمثلها أصلاً ولا نكيفها، أي: لا نتصور في أذهاننا شكلاً لمجيء الله، أو شكلاً لاستواء الله، فهذا ممنوع، وهو حرام، فإن خطر لك خاطر من هذا فينبغي عليك أن تدفعه بكل ما أوتيت.
هذه هي الأدلة السمعية على انتفاء المماثلة.
الوجه الأول: أن صفات الخالق غير صفات المخلوق، فمثلاً صفة الوجود ثابتة لله عز وجل، وثابتة للإنسان، ووجود الله تعالى غير وجود الإنسان، فوجود الله تعالى واجب لذاته، وأما وجود المخلوق فجائز، فقياس صفات الخالق على صفات المخلوق قياس فاسد، بل أفسد القياس.
فأنا أقول: أنا موجود والله تعالى موجود، ولكن وجودي غير وجود الله، فوجود الله تعالى واجب لذاته، وأما وجودي فممكن، والله تعالى وجوده منزه عن كل نقص، وأما وجودي فمعرض لكل نقص، فلا يمكن أن يكون الخالق مماثلاً للمخلوق عقلاً.
الوجه الثاني: أننا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، فمثلاً الله تعالى يسمع كل صوت مهما بعد وخفي، وأما المخلوق فلا يسمع إلا ما هو حوله، وربما يكون الصوت حوله فيسمعه ولا يميزه، وربما لا يسمع الإنسان صوت الذي بجواره فيطلب منه إعادة الكلام، وهذا يدل على أن سمعه فيه نقص وعيب، والله تعالى يتكلم بلا عيب ولا نقص، ويسمع بلا عيب ولا نقص. وهذا يدل على أن صفة السمع عند المخلوق غير صفة السمع عند الله عز وجل، فسمعك ثابت وسمع الله ثابت، ولكن شتان بين السمعين، وقد قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1]. قالت: عائشة رضي الله عنها كما في البخاري : إن هذه المرأة أتت وجادلت النبي صلى الله عليه وسلم في جانب الغرفة وأنا في جانبها الثاني -يعني: في نفس الغرفة- ولكن خفي علي بعض حديثها، وسمعها الله تعالى من فوق سبع سماوات.
فالمخلوق يشارك الله عز وجل في مجرد اسم الصفة فقط.
الوجه الثالث: الله تعالى مباين ومغاير ومفارق للخلق بذاته؛ لأن الله تعالى معنا بسمعه وعلمه وإحاطته، وليس معنا بذاته؛ بل هو سبحانه وتعالى مستو على العرش فوق السماوات السبع، قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]. وقال تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]. ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فلا يمكن لأحد من الخلق أن يقول: أنا وسع كرسيي السماوات والأرض. وهذا يدل على أن الله تعالى مباين ومغاير لذات خلقه، والذي يدل عليه قول الله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فلا يمكن لأحد أن يدعي أن الأرض في قبضته يوم القيامة.
والصفات تابعة للذات، فلما كان الخالق مبايناً للمخلوق في ذاته دل ذلك على أنه لا يمكن أن يتماثل الخالق والمخلوق في الصفات ولا في الأفعال ولا في الذات.
الرابع: أننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، فنجد الناس يختلفون في صفاتهم، فهذا قوي البصر وهذا ضعيف، ويقال لكل منهما: بصير أو مبصر، وهذه العيوب التي تدخل على البشر لا يمكن دخولها على الله، وهذا يدل على أن المخلوق يشارك الخالق أصل التسمية، وأما في بقية فروع القياس فيستحيل؛ لأن سمعك غير سمع الله، وبصرك غير بصر الله عز وجل.
وإذا كان التباين في المخلوقات التي هي من جنس واحد فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس، فالتباين بينها أظهر، فلا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أو كيد الحمار، أو كيد الشاة، مع أنها كلها أيدٍ؟ وكثير من الحيوانات ذوات الأربع وذوات الاثنتين لها يد ولها رجل، وإذا كان هذا التباين بين المخلوقات نفسها فما بالك في التباين بين الخالق والمخلوق سبحانه وتعالى؟
فإذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل هو واجب، فالتباين بين الخالق والمخلوق واجب لابد من التسليم به.
ومن هذا يتبين أن التمثيل بين الخالق والمخلوق مستحيل من جهة السمع ومن جهة العقل والفطرة كذلك.
وقد يقول قائل: إن هذا فيه تمثيل، ونرد على هذا ببيان أصلين:
الأصل الأول: أصل عام.
والأصل الثاني: أصل خاص، وفيه الرد على هذه الشبهة.
فالأصل العام: أن كل ما تكلم الله تعالى به حق وصدق، وليس هناك خلاف في ذلك، فكل ما جاء في كتاب الله عز وجل حق، وكذلك كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حق لا ينازع في شيء من ذلك إذا صح الدليل، وأما إذا كان الدليل ضعيفاً، فيجب رده، ولا نتكلف له التأويل، لا أن آتي بحديث صحيح يثبت صفة، وحديث ضعيف ينفي نفس الصفة وأقول: بينهما تعارض، وإنما أنظر إلى الدليلين هل هما ثابتان أم لا، فإن كان أحدهما ضعيفاً والآخر ثابتاً وجب رد الضعيف فيبقى الصحيح دون معارض، وإذا كان الدليل ثابتاً صحيحاً في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نؤمن إيماناً قوياً متيناً من أعماق قلوبنا أن الله تعالى لا يتكلم بالمتناقض أبداً، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتفوه بغير الحق. وإنما أتت هذه الشبهة من القصور في الفهم والعلم، فالذي أمرنا أن نؤمن بصفات الله من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي قال: (إنكم سترون ربكم) هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض ولا تناقض بين أقواله، وهذه المسألة ينبغي أن نسلم بها، فالمشكاة التي خرج منها الكتاب والسنة مشكاة واحدة، وهي مشكاة الوحي، والوحي لا يمكن أن يخطئ؛ لأنه من عند الله، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]. وهذا يدل على أنه من عند الله فقط، سواء كان كتاباً أو سنة، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
وفي حديث عبد الله بن عمرو لما عيرته العرب بأنه يكتب عن النبي عليه الصلاة والسلام في وقت الغضب والرضا، فقال: (يا رسول الله! إن قريشاً تقول: إنك تكتب عن صاحبكم وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا، قال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حقاً، وأشار إلى فيه صلى الله عليه وسلم).
وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يقع التعارض في النصوص الثابتة في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما تأتي المشكلة من القصور في الفهم، وهنا يجب الرجوع إلى أهل العلم، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
وقد تعرض ابن خزيمة وابن قتيبة والإمام الشافعي رحمهم الله وغيرهم، للتأويل والتوثيق والجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض، ولذلك يجب عليك أن تقول: النصوص التي ظاهرها التعارض، لا النصوص المتعارضة؛ لأنها في حقيقة الأمر ليست متعارضة.
فـابن خزيمة عليه رحمة الله يقول: ليس هناك في الكتاب ولا في السنة دليلان متعارضان، فمن وجود شيئاً من ذلك فليأتني بهما أؤلف له بينهما، فها هو جبل من الجبال ألا وهو الشيخ ابن خزيمة ، فمن عنده إشكال فليذهب إليه، وابن خزيمة مات نعم، ولكن السنة موجودة وكلامه موجود، وما ترك شبهة إلا وتكلم فيها، فإذا عن لك شيء فكتب تأويل المتشابه مشهورة عند أهل العلم، فهناك تأويل الحديث لـابن قتيبة ، وشرح مشكل الآثار للإمام الطحاوي ، وهناك كتاب ابن خزيمة ، وغيرها من الكتب التي تكلمت وجمعت وألفت بين النصوص التي ظاهرها التعارض، فإذا وجدت شيئاً من ذلك أو دخلت عليك شبهة، فالجأ إلى أهل العلم، وأحمد بن حنبل عليه رحمة الله إمام أهل السنة والجماعة رد على الزنادقة بكتاب سماه الرد على الزنادفة، وهو كتاب صغير الحجم لا يبلغ أكثر من خمسين صفحة، رد فيه على الزنادقة رداً في متشابه القرآن، وهو من أمتن وأقوى وأحسن ما تقرؤه في هذا الباب، ولو علمت قيمة العلم وأنت تقرأ تحس بحلاوة لا تجدها وأنت تأكل أشهى أكل عندك؛ لأن العلم له لذة، ولكن عند من يلتذ به، وهناك أناس لا يلتذون إلا بالشهوات والشبهات.
الأصل الثاني عن قوله: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، أي: لا يحصل ضيم لكم في رؤيته، فإنكم ترون الله تعالى يوم القيامة، وترونه في الجنة كما ترون القمر ليلة البدر.
فالكاف هنا للتشبيه؛ والتشبيه هنا للرؤية لا للمرئي، أي: إنكم ترون الله كما ترون القمر، فالكاف هنا لتشبيه الرؤية لا المرئي، ورؤية الله تعالى ثابتة لأهل الإيمان في الآخرة، وأجمع أهل العلم أن الله تعالى يحجب عن رؤيته الكافرين، وأما المؤمنون فإنهم يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة كما يرون القمر ليلة البدر.
والرواية التي فيها: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن) رواية منازع فيها بين الصحة والضعف، بل ضعف بعض أهل العلم الرواية التي في البخاري ومسلم : (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، وقالوا: إنها منكرة من جهة المتن لا من جهة السند. لو كان هذا الحديث ضعيفاً، لكفى ضعفه في رده، ولو كان صحيحاً وهو الراجح من أقوال أهل العلم والذي عليه الأدلة الكثيرة فينبغي تأويل هذا الحديث.
وتأويل هذا الحديث على وجهين:
الوجه الأول: ينبغي الرجوع في تأويل النص إلى المناسبة التي ورد فيها النص، والمناسبة هي أن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لطم جاريته على خدها، ثم ندم فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يستعتبه ويطلب منه لو أن هناك كفارة أو شيئاً من هذا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ألا يضرب الوجه ولا يقبح، ثم قال: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، أي: أن الله تعالى خلق آدم على صورة المضروب، أي: فلا تقبح هذا الوجه ولا تضربه مرة ثانية، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته، فالضمير هنا الذي في (صورته) يعود على المخلوق، هذا تأويل.
وبعض أهل العلم قالوا: هذا الضمير يعود على الله؛ لأنه جاء في رواية أخرى صريحة: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن)، فحملوا الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم (على صورته) على لفظ: (الرحمن)، فيكون الحديث: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن). والحذف في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كثير، ومنه قوله تعالى على لسان مريم أم عيسى عليه السلام: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18]، فهذا على تقدير محذوف، وتأويله: قالت: إني أعوذ بالرحمن منك، ثم تقف، إن كنت تقياً فابعد عني، فهي تذكره بتقوى الله؛ لأنه عندما أتاها الملك في صورة بشر خشيت على عرضها وخافت، فقالت: إني أعوذ بالله منك، وتقدير الكلام: إن كنت تقياً فابعد عني، أو فانصرف عني، أو فإليك عني، ولما كان العرب يفهمون هذا أثبته الله تعالى من باب الإيجاز في الكلام وعدم الإطناب.
فقوله هنا: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، أي: على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، ويكون التقدير أيضاً: إن الله تعالى خلق هذا المضروب على صورة آدم التي خلقه الله تعالى عليها، فلا يكون الأمر هنا فيه مماثلة بين وجه الخالق ووجه المخلوق.
ويكون التقدير في قوله: (على صورة الرحمن): إن الرحمن خلق هذا الوجه على ما صوره الرحمن في آدم، وهذا على فرض ثبوت لفظ الرحمن، فينبغي ألا تضرب هذا الوجه ولا تقبحه ولا تلعنه، كما أنه يحرم عليك أن تقبح وجه آدم وأن تضربه وأن تلعنه. وبهذا تزول هذه الشبهة، والضمير يعود على أقرب مذكور، وهذا وجه آخر.
والذين قالوا: الضمير عائد على الله قالوا: إن الضمير يعود على الصورة وليس على آدم، فالهاء تعود على الصورة؛ لأنها أقرب مذكور، والخلاف بين أهل العلم: ما هو أقرب مذكور للضمير الصورة أو آدم؟
وجواب آخر: وهو أن الإضافة من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله: (على صورته)، مثل قول الله عز وجل في آدم: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]، فليس المعنى: أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد إضافة الروح التي خلقها الله عز وجل في آدم إلى الله نفسه من باب التشريف، كما نقول: عباد الله، وبيت الله، وأمة الله، وعبد الله، وغير ذلك.
فقوله: (خلق آدم على صورته)، يعني: على الصورة التي خلقه الله تعالى عليها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11]. والمصور آدم.
فالله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، ولهذا قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، أي: في أحسن صورة، فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، فكأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة، ومن أجل ذلك لا تضرب الوجه فتعيبه حساً، ولا تقبحه، فلا تقل: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فتعيبه معنى؛ لأن هذه الصورة قد صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، فلا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي؛ لأنك إن قبحتها كأنك قبحت صنع الله وصورة الله التي صور بها آدم على خلقته الأولى.
وأما الصورة التي هي لله وخلق آدم عليها فهي أن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، ولا يلزم من هذه الأشياء مماثلة الله للإنسان، بل التماثل والتشابه في أصل التسمية، وأما حقيقة اليد والرجل والعين والسمع والبصر فليس هناك تماثل بين الخالق والمخلوق فيها، كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر، لكن بدون مماثلة، فأول زمرة من المؤمنين يدخلون الجنة يكونون على شكل القمر ليلة البدر، وهم ليسوا كالقمر تماماً، فالقمر ليس له عينان، ولا أذنان، ولا أنف، ولا شيء من صفات الإنسان، وكذلك الإنسان ليس فيه صفات القمر، ولكن الشبه حصل من جهة واحدة، وهي الوضاءة والوضوح ونور الإيمان، يعني: أنهم يدخلون وهم في غاية الوضاءة وفي غاية الحسن والجمال، كما أن القمر يبلغ تمامه ووضوحه وكماله في ليلة البدر، فلا يلزم من وجود المماثلة المماثلة في جميع الأجزاء، بل قد تكون المماثلة في جزء واحد أو في جهة واحدة، ولا يلزم من ذلك أن يكون الشبه في كل الجهات والأجزاء، وإلا لكانت الزمرة التي تدخل الجنة على صورة القمر متماثلة تماماً مع القمر، ويلزم من ذلك أن يكون الإنسان كالقمر في الصفات كلها، بمعنى: أن يكون القمر له صفات المخلوقين من الرجل واليد والعين والأنف والشعر والصدر والبطن، وغير ذلك، ولما كان هذا غير ثابت للقمر، دل على أن الشبه من جهة واحدة، وأن المماثلة ممكنة وجائزة إذا حصلت في جزء من الشبه.
وأهل السنة والجماعة لا يكيفون أبداً، بمعنى أنهم لا يقولون: كيفية يده كذا وكذا، ولا كيفية وجهه كذا وكذا، ولا يكيفون هذا باللسان ولا بالقلب أيضاً، يعني: أنهم لا يتخيلون هذا في قلوبهم، فلا يتخيلون كيف يستوي الله عز وجل، أو كيف ينزل، أو كيف وجهه، أو كيف يده. ولا يجوز تخيل الصفات؛ لأن هذا يؤدي لأحد أمرين: إما التمثيل وإما التعطيل، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يحاول معرفة كيفية استواء الله عز وجل على العرش.
وكذلك لا يمثلون؛ لأن التمثيل منتف سمعاً وعقلاً وكذلك فطرة، والله تعالى لا يقاس بشيء من خلقه، لا قياس شمول ولا قياس تمثيل وأولوية.
ومن كمالها أنه لا يمكن أن يكون ما أثبته دالاً على التمثيل، فإذا أثبت الله تعالى لنفسه السمع دل ذلك على أن له مطلق السمع والسمع المطلق، بخلاف المخلوق فربما يكون سمع المخلوق معيباً، وربما يولد المخلوق لا سمع له ولا بصر له، فالصفات جائزة للمخلوق، كما أن وجود المخلوقين جائز، وأما وجود الخالق فواجب، وصفاته واجبة ولازمة له سبحانه وتعالى بكمالها وتمامها، ولا يلحقها عيب ولا نقص، وأما المخلوق فلما كان وجوده جائزاً كانت صفاته كذلك جائزة، فربما يولد سميعاً أو بدون سمع، وربما يولد سميعاً ويفقده بعد ذلك، وربما يستمر معه السمع.
فإثبات الصفات لله لا يستلزم مماثلة للمخلوق، وقد ضل أهل التحريف الذين زعموا أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل؛ لأن الإثبات عندهم يساوي التمثيل، فلما فروا من ذلك وقعوا في التعطيل، وأما أهل السنة فقد حفظ الله تعالى بهم الملة، وحفظ بهم ما يجوز وما يجب وما يستحيل لله عز وجل، فأثبتوا لله تعالى أسماءه وصفاته من غير غلو في الإثبات ومن غير تعطيل.
فأما صفات الكمال المطلق فإنها ثابتة لله عز وجل، كالكلام، قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]. وهذه صفة فعل، وليس في أسماء الله المتكلم، وإنما الكلام صفة من صفات الله عز وجل وهي ثابتة بالفعل، قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا .
وليس في أسماء الله الستار، وأما ستير فهو صفة، وقد وردت في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر).
فالأسماء يشتق منها صفات، فهناك تسعة وتسعون صفة، وهناك أيضاً صفات يشتق منها أسماء، ولو كانت الأسماء بقدر الصفات لقلنا بضرورة الأمرين، أي: أن الأسماء يشتق منها صفات، والصفات يشتق منها أسماء، ولكن الصفات أكثر من الأسماء، فكل اسم يدل على صفة، فإن الله حليم بحلم، عظيم بعظمة، كريم بكرم، قدير بقدرة، وهناك صفات زائدة على الصفات المشتقة من الأسماء، ولا يجوز أن نشتق منها أسماء لله عز وجل، وكأن بين الأسماء والصفات عموم وخصوص، فكل اسم يدل على صفة، وليست كل صفة تدل على اسم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر