وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
الإيمان بالله يستلزم أمرين:
الأمر الأول: الإيمان بوجود الله عز وجل، والأدلة على الإيمان بوجود الله هي العقل والفطرة والحس والشرع، ودليل الشرع قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].
ودليل الحس إجابة الدعاء.
ودليل الفطرة حديث: (ما من مولود يولد إلا ويولد على الفطرة)، وفي رواية: (إلا ويولد على هذه الملة)، وفي رواية: (إلا ويولد على ملة الإسلام)، أي: على فطرة الإسلام.
وقيل: إن الفطرة ما كتبه الله عليه من الشقاء أو السعادة أو ما هيئ له. والراجح من الأدلة أن الفطرة هي فطرة الإسلام.
والأمر الثاني: توحيد الله وإخلاص العبادة له.
أنواع التوحيد ثلاثة، وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
ومعنى توحيد الربوبية: أن الله سبحانه وتعالى متفرد بالخلق والأمر والملك.
والأمر هنا بمعنى التدبير.
والفرق بين ملك الله عز وجل وملك العبد أن ملك الله عز وجل مطلق وهو عام وشامل، وأما ملك العبد فإنه مقصور ومحدود عليه.
وتوحيد الألوهية هو: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والتوحيد والألوهية.
افترقت فرق الإسلام في توحيد الأسماء والصفات على طرفين ووسط، فكانت المشبهة والممثلة والمجسمة والمنزهة على طرف، والمعطلة على طرف، وأهل السنة هم الوسط بين هؤلاء وهؤلاء.
وكانت أول الفرق ظهوراً هي الخوارج، ثم حدثت بعد ذلك القدرية، ثم المرجئة، ثم المعتزلة، ثم الأشاعرة.
انقسمت هذه الفرق في توحيد الأسماء والصفات أقساماً عديدة كالآتي:
القسم الأول قالوا: لا يجوز أبداً أن نصف الله بوجود أو بعدم، ولا نثبت له الوجود ولا العدم؛ لأنه إن وصف بالوجود أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم أشبه المعدومات، قالوا: ومحال على الله عز وجل أن يوصف بالوجود أو بالعدم؛ لأنه يستلزم من وجوده أن يشبه الموجودات والمخلوقات. ومن أجل ذلك قالوا: يجب نفي الوجود والعدم عن الله عز وجل؛ لأنه لا ينبغي أن يشابه الموجودات ولا أن يشابه المعدومات. وحقيقة ما ذهبوا إليه هو أنهم شبهوا الخالق بالممتنعات والمستحيلات؛ لأن العدم والوجود لا يجتمعان ولا يرتفعان في الوقت نفسه، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فهم فروا من شيء ووقعوا فيما هو شر منه وهذا عين الضلال.
القسم الثاني قالوا: نصفه تعالى بالنفي ولا نصفه بالإثبات، فهم يقولون: ليس بميت، ولا يقولون: إنه حي سبحانه وتعالى، ويقولون: ليس بجاهل، ولا يقولون: عليم. مع أن الله تعالى أثبت لنفسه في الكتاب أكثر مما نفى، فلو أتينا إلى كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن الإثبات أكثر من النفي، وهؤلاء يثبتون النفي ولا يثبتون الإثبات، ولاشك أن هذا الرأي أيضاً مردود عليهم، ولو احتججت على هؤلاء بأن الله تعالى قال عن نفسه: سميع بصير، أو أن الله تعالى أثبت لنفسه صفات، لردوا عليك بأن هذه النسبة أو هذه الأسماء والصفات التي أثبتها الله تعالى إنما هي نسبة إضافة، وليست نسبة حقيقة لله عز وجل، فهم يقولون: ليس له سمع، ولكن له مسموع، والمسموع هو خلقه. ثم ظهر قسم آخر داخل هذا القسم يقول: هذه الأوصاف إنما هي لمخلوقاته وليست له، أما هو سبحانه وتعالى فلا نثبت له صفة.
القسم الثالث قالوا: نثبت له الأسماء دون الصفات، فهم لا يثبتون له صفات، وإنما يثبتون له الأسماء فقط، وهؤلاء هم المعتزلة، فقد أثبتوا لله تعالى الأسماء فقط، وقالوا: إن الله قدير حكيم عليم، ولكن قدير بلا قدرة، وحكيم بلا حكمة، وعليم بلا علم.
القسم الرابع قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة -يعني: أن هذا الفريق وافق المعتزلة في إثبات الأسماء لله عز وجل- ونثبت له صفات معينة دل عليها العقل؛ لأن العقل يقبل نسبة هذه الصفات لله عز وجل، ولا يقبل نسبة غيرها من الصفات وهؤلاء هم الأشاعرة.
فالمعتزلة والأشاعرة يلتقيان في تحكيم العقل في صفات الله عز وجل، وإن كان الأشاعرة أخف وطأة من المعتزلة. ومن أصول المعتزلة في هذا الباب: تقديم العقل على النقل.
فالأشاعرة أخف وطأة من المعتزلة؛ لأن المعتزلة نفوا جميع الصفات، وأما الأشاعرة فأثبتوا منها سبع صفات؛ لأنها تتفق مع العقل، ونفوا الباقي، والصفات التي أثبتوها مجموعة في قول الشاعر:
له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدار
أي: القدرة.
فكأنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، ولكن هذا الكفر لم يكن كفر جحود ونكران، وإنما كفر تأويل، ولو أنكروا صفات الله عز وجل وجحدوها وكفروا بها لمرقوا وخرجوا عن الملة.
والأشاعرة ليسوا من أهل السنة، وإنما من أهل القبلة، وهذه قاعدة ينبغي أن تعرفها وتعقلها جيداً، فالأشاعرة ليسوا من أهل السنة، والدراسات المنهجية الأكاديمية في الأزهر وفي غيره من الجامعات يقولون: إن الماتريدية والأشعرية هم أهل السنة والجماعة، وهذا تخبيط ولبس بعيد عن أي حقيقة، فأهل السنة لهم صفات وعلامات تميزهم عن غيرهم من بقية الفرق التي انحرفت وضلت عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام، وطريق الصحابة رضي الله عنهم، فالأشاعرة والماتريدية من أهل القبلة وليسوا من أهل السنة.
هذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات، وكلها متفرعة من بدعة الجهم بن صفوان الذي ترأس فرقة الجهمية، وكل هذا الانحراف يأتي في ميزان سيئاته وضلاله؛ مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
وأهل السنة والجماعة وسط في كل شيء، فعظ على منهجهم بالنواجذ وتمسك به.
والجهمية أتباع الجهم بن صفوان ينكرون جميع صفات الله عز وجل، والغلاة منهم ينكرون الأسماء، ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله تعالى اسماً ولا صفة، وهؤلاء هم غلاة الجهمية، وأما عموم الجهمية، فإنما يثبتون لله تعالى الأسماء دون الصفات.
والغلاة منهم يقولون: إذا أثبت له اسماً شبهته بالمسميات، وإذا أثبت له صفة شبهته بالموصوفات. فهم لا يثبتون لله اسماً ولا صفة، وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء فهو من باب الإضافة المجازية، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء.
والجهمية والمعتزلة والأشاعرة يشملهم قسم التعطيل؛ لأنهم عطلوا الله عز وجل عن صفاته، وعطلوا الصفات عن الموصوف بها وهو الله عز وجل، ولكن بعضهم عطل تعطيلاً كاملاً كالجهمية، وبعضهم تعطيلاً نسبياً كالمعتزلة والأشاعرة، فالمعتزلة عطلوا الصفات، والأشاعرة عطلوا أكثرها وأثبتوا القليل منها.
ويقولون: نثبت لله تعالى اليد، ولكنها كيد المخلوق، ووجهاً كوجه المخلوق، ورجلاً كرجل المخلوق، وسمعاً كسمع المخلوق.
وهكذا بقية الأسماء والصفات، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً.
ويقولون: إذا أثبتنا لله عز وجل الوجه فينبغي أن يكون هذا الوجه مشابهاً لوجه المخلوقين، وليس كأي وجه، وإنما نختار أجمل الناس وجهاً فنقول: وجه الله كهذا الوجه، وإذا أثبتوا لله تعالى السمع أتوا بأشد حاسة للسمع عند أي مخلوق وقالوا: إن الله تعالى يسمع كسمع هذا المخلوق، ويبصر كبصر هذا المخلوق، وهكذا، وهذا كله ضلال وكفر.
فهو على زعمهم والعياذ بالله مثل أحسن شخص من الشباب الإنساني، ويدعون أن هذا هو المعقول، وليس هو بمعقول. فهؤلاء غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه.
فكان أهل السنة والجماعة وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين، طائفة غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وطائفة غلت في الإثبات، وهم الممثلة.
وأهل السنة والجماعة تمسكوا بالنصوص التي أثبتت ونفت، كقول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. وهذا نفي للتشبيه، وبقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، على أن الله تعالى لا يشابه أحداً من خلقه، و(شيء) هنا نكرة تفيد العموم، أي: ليس شيء من خلقه يشبهه في صفاته ولا في ذاته، فكما أن المخلوق يختلف عن الخالق في الذات فلابد وأن يختلف لزاماً في الصفات والأسماء كذلك.
ثم قال تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ . وهذا فيه إثبات الصفات والأسماء لله عز وجل.
وخلاصة القول: إن أهل السنة والجماعة وسط بين هاتين الطائفتين، بين المعطلة وبين الممثلة والمشبهة، فلا يثبتون إثبات المشبهة، ولا ينفون نفي أهل التعطيل.
والذي يطالع كتب القوم -أي: أهل الكلام والفلاسفة والذين تكلموا في العقائد- الذين اعتنوا بأقوال الناس في هذا الأمر يرى العجب العجاب.
فهم يقولون في كتبهم: كيف يتفوه عاقل بإثبات صفات وأسماء الله عز وجل؟ ومن قرأ كتبهم فإنه يتعجب غاية العجب من نفيهم عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه، ومن قولهم: إنما نثبت لله ما أثبته العقل وإن كان منفياً في الكتاب، وننفي عن الله تعالى ما ينفيه العقل وإن كان مثبتاً في الكتاب.
فجعلوا العقل هو الميزان الأكبر الذي يوزن به أسماء الله تعالى وصفاته.
والحقيقة أن الميزان الأكبر هو الكتاب والسنة، ولهذا ينبغي دائماً أن نسأل الله عز وجل الثبات على منهج أهل السنة والجماعة، وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك). وكان يقول: (اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك).
فينبغي على الإنسان الثبات على منهج أهل السنة والجماعة في كل أبواب العلم، وخاصة ما يتعلق بذات الإله سبحانه وتعالى، في أسمائه وصفاته وفي توحيد الربوبية والألوهية كذلك.
ومن تمام مقتضى حكمة الله عز وجل أنه يقيض لهذا الدين من يذب عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فالله عز وجل هو الذي تكفل بحفظ هذا الدين وبإظهاره على الأديان والشرائع كلها، قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. فالله عز وجل هو الذي حفظ هذا الدين، فإذا تخلى رجل أو جماعة أو طائفة أو فرقة من أبناء هذه الملة عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعن طريق الكتاب العزيز، فإن الله تعالى يقيض له من يرده إلى الصواب، أو من يظهر الصواب والحق لبقية الأمة.
ووجه ذلك: أن الإيمان بالله عز وجل يستلزم الإيمان بأسمائه وصفاته، فذات الله تعالى تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ولا يتصور ذات مجردة عن الأسماء والصفات لا في الشرع ولا في العقل ولا في الواقع كذلك، فالإيمان بالله عز وجل يستلزم أن تؤمن بصفات الله عز وجل وأسمائه؛ لأنه سبحانه وتعالى ذات مسمى بأسماء وموصوف بأوصاف، فلا يتصور أبداً لا في العقل ولا في النقل أن تؤمن بذات الله ثم تنفي عنه الأسماء والصفات.
وإن ادعى رجل علم الغيب وأنه يأتيه وحي من الشيطان، وذكر أشياء فظهرت حقيقة بعد ذلك فهذا لا يخرجه عن كذبه وزوره وضلاله؛ لأننا عندنا أصل أصيل، وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ولما كانت ذات الله عز وجل غائبة عنا ويجب علينا الإيمان بذاته سبحانه وتعالى وبوجوده عز وجل لزم من ذلك أن نؤمن بأسمائه وصفاته، وكما أن الذات غائبة عنا فلابد وأن تكون الأسماء والصفات غائبة عنا، فلا نثبت منها لله تعالى اسماً أو صفة لم يثبته لنفسه، ولم يثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي المقابل لا ننفي عن الله عز وجل اسماً أثبته لنفسه، ولا ننفي عنه اسماً أثبته له النبي صلى الله عليه وسلم.
فالأسماء والصفات من الأمور التوقيفية؛ لأنها عبادة، ومعنى أنها توقيفية: أننا نتوقف عن النفي والإثبات حتى يأتينا الدليل، فهي ليست محل اجتهاد الأمة؛ لأنها من الأمور الغيبية، فلا يجوز لنا أن نثبت ما لم يثبت، ولا أن ننفي ما هو ثابت لله عز وجل.
قال الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، أي: لا يحل لنا أن نتجاوز في الإثبات والنفي ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويدل على ذلك القرآن الكريم والعقل الصحيح الموافق للنقل الصريح، ففي كتاب الله عز وجل يقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]. وفي هذا تحريم القول على الله تعالى بغير علم، فإذا كان هذا في الإفتاء وفي البلاغ وفي البيان فكيف بإثبات ما هو لازم لله عز وجل من أسمائه وصفاته؟ لا شك أن هذا أنكى وأشر.
وقال الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]. ولو أننا أثبتنا لله تعالى ما نفاه عن نفسه، أو نفينا عن الله تعالى ما أثبته لنفسه فلاشك أننا قد قفونا ما ليس لنا به علم، والله تعالى سيحاسبنا على أقوالنا وأسماعنا وأبصارنا وغير ذلك، كما في قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا .
وأما الدليل العقلي في إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل فهو: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، ولا يمكن أن يدركها العقل، فلا نصف الله بما لم يصف به نفسه ولا نكيف صفاته؛ لأن ذلك غير ممكن لنا، وغير معقول كذلك في الفطر السليمة.
ونحن الآن لا ندرك كيفية نعيم الجنة، رغم أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهما لا تفنيان ولا تبيدان، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). والنبي صلى الله عليه وسلم لما وصف لنا شيئاً من ذلك ما وصفه إلا بعد أن اطلع عليه ورآه في الجنة، ولكنه ليس وصفاً تفصيلياً، وإنما وصف مجمل، والله عز وجل يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]. فالله تعالى أخفى علينا ما هو مخلوق الآن من نعيم الجنة وعذاب النار، وروحك التي بين جنبيك -والتي إذا خرجت منك صرت جثة هامدة- مخلوقة لله عز وجل، ولا يمكن وصفها رغم أنها موجودة في بدنك، فكيف نصف الله عز وجل ونشبهه بخلقه؟
فلابد من الإيمان بالأسماء والصفات كما جاءت، وهذا كان منهج السلف جميعاً، فقد كانوا يؤمنون بأسماء الله وصفاته، ويمرونها كما جاءت، ويؤمنون بها ولا يكيفونها، وإنا لنعلم قول أم سلمة وربيعة الرأي ومن بعدهم مالك لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: في لغة العرب، وهو الارتفاع والعلو- والكيف مجهول. ومذهب أهل السنة والجماعة تفويض الكيف لا تفويض المعنى، ومن قال: إن السلف كانوا يكيفون المعنى فقد أعظم عليهم الفرية، فإن السلف لم يكونوا يكيفون، بل كانوا يفوضون الكيف دون المعنى.
قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالسائل فأخرج من المجلس.
فلا نقول: إن الله تعالى يسمع كسمعنا، ولا يبصر كبصرنا؛ لأن الله تعالى له سمع يختلف عن سمعنا، وبصر يختلف عن بصرنا، فكما أن أسماءه تختلف عن أسماء المخلوقين، فكذلك صفاته تختلف عن صفات المخلوقين، وقد وصف الله نفسه بأن له عيناً، كما في قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وقوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]. فلا نقول: إن المقصود بالعين هنا الرؤية؛ لأننا بذلك نكون قد نفينا عن الله عز وجل صفة من صفاته وهي العين، وإذا قلنا: إن اليد المقصود بها القدرة فإننا نكون بذلك قد نسبنا كلام الله إلى الهزل، فإن الله تعالى قد أثبت لنفسه اليد، وأثبت القدرة، وهكذا تكلم الله عز وجل كلاماً على الحقيقة، وليس مخلوقاً له، وإنما هو كلامه الذي هو صفة من صفاته اللازمة لذاته سبحانه وتعالى منذ الأزل وإلى الأبد.
والله تعالى لما أثبت لنفسه اليد والقوة والقدرة دل هذا على أن اليد شيء والقدرة شيء آخر.
فتعدد الأوصاف يستلزم تباينها، فليست القدرة هي اليد، ولا اليد هي القدرة؛ لأن كلاً منهما ثابت لله عز وجل.
فالصفات الذاتية لم يزل الله عز وجل ولا يزال متصفاً بها، وهي كذلك نوعان: معنوية وخبرية.
فالمعنوية: مثل الحياة والعلم والقدرة والحكمة وما أشبه ذلك من صفاته المعنوية.
وأما الصفات الخبرية فمثل اليدين والوجه والعينين، وغير ذلك مما له نظير في الاسم فقط عند مخلوقاته، فجوارح المخلوقين مثل العين واليد والوجه وغير ذلك تسمى صفات خبرية لله عز وجل، ولكنها ليست جوارح لله عز وجل، فإن الله تعالى له يد لكنها ليست كأيدي المخلوقين، وله وجه ليس كوجه المخلوقين، وله عين ليست كعين المخلوقين. فهذه صفات خبرية لله عز وجل.
والله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان منذ الأزل وإلى الأبد، ولم يحدث له يدان وعينان ووجه بعد ذلك، تعالى الله عن ذلك.
وهو سبحانه وتعالى لا ينفك عن شيء من هذه الصفات في المستقبل، أي: أن هذه الصفات الذاتية تظل باقية لله عز وجل؛ لأنها لازمة لذاته، وهذه الصفات مثل صفة الحياة والعلم والقدرة، فإن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، ولم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً، فلا تتجدد حياته كتجدد حياة المخلوقين، ولا تتجدد قدرته كتجدد قدرة المخلوقين، بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان، بل هو موجود منذ خلقه الله تعالى، ولكن المسموع يتجدد، يعني: ما دامت الأصوات موجودة فأنا أسمعها ما دامت هذه الحاسة لم تتعطل، وهذا يقال فيه: تجدد المسموع، وتجدد المسموع هذا إنما هو في حق المخلوق دون الخالق سبحانه وتعالى، فالله تعالى لا يزال سميعاً بصيراً، ولم يزل سميعاً بصيراً منذ الأزل وإلى الأبد.
وقد اصطلح العلماء رحمهم الله تعالى على أن يسموا هذه الصفات صفات ذاتية؛ لأنها ملازمة للذات لا تنفك عنه سبحانه وتعالى.
وأما الصفات الفعلية، فهي الصفات المتعلقة بمشيئة الله عز وجل، سواء المشيئة الشرعية أو القدرية الكونية، والصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة نوعان:
صفات لها سبب معلوم، كالضحك والرضا والغضب والسخط. فكل هذه صفات لها سبب معلوم، فإذا أتيت ما يستوجب رضا الله عز وجل رضي عنك، وإذا أتيت ما يستوجب سخطه عز وجل سخط عليك وغضب عليك.
قال الله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]. ومعنى وَلا يَرْضَى يعني: يسخط ولا يقبل ذلك ويرده على صاحبه.
وقال: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، أي: وإن تؤمنوا يَرْضَهُ لَكُمْ . ومعنى الشكر هنا: هو الإيمان؛ لأنه قال في أول الآية: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ، أي: وإن تؤمنوا بالله عز وجل وتشكروه على هذه النعمة يرضى ذلك منكم.
فهذه الآية أثبتت الرضا والسخط لله عز وجل.
وأما الصفات التي ليس لها سبب معلوم فكصفة النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وظاهر الروايات تدل على أن الله تعالى إنما ينزل رحمة بعباده، ولكن الله تعالى قادر على أن يرحمهم وهو في السماء السابعة مستو على عرشه، فالحكمة من نزول الله عز وجل لا يعلمها أحد من الخلق.
ومن الصفات ما يجمع بين صفات الذات وصفات الفعل باعتبارين، فكلام الله عز وجل صفة فعلية لله عز وجل باعتبار آحاده، وهو في أصله صفة ذات، ومعنى ذلك: أن الله تعالى لم يزل متكلماً ولا يزال متكلماً، فهي بهذا الاعتبار صفة ذات، والله تعالى يتكلم إذا شاء ومتى شاء بما شاء، فتكون بهذا الاعتبار صفة فعل.
والصفات الفعلية اصطلح العلماء على تسميتها صفات فعلية؛ لأنها من فعله سبحانه وتعالى، ولها أدلة كثيرة من كتاب الله عز وجل، مثل قول الله عز وجل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]. فهذه تثبت المجيء لله عز وجل.
وقول الله عز وجل: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158]. والذي يقول: إتيان الرب هنا إنما هو إتيان أمره كلام باطل؛ لأن تعقيب هذا الكلام بقوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، يدل على التباين بين الأمر وبين الرب سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى إنما يأتي بذاته، وكذلك يأتي بأمره، فقوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، يدل على أن إتيان الأمر هو غير إتيان الرب سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]، فيه إثبات صفة الرضا لله عز وجل، وهذه صفة فعل، وليست صفة ذات، لأنك لو قلت: إن صفة الرضا لله عز وجل صفة ذات لزم من ذلك أن الله تعالى لم يزل راضياً ولا يزال راضياً لا يسخط أبداً، وصفة الفعل هذه لها سبب معلوم، فلو أتيت بالشرع وبما أحب الله تعالى رضي عنك.
وقد ثبت رضاه تعالى عن الصحابة، قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].
وقول الله تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46]، يثبت صفة الكره لله عز وجل، وهي صفة فعلية.
وقوله تعالى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة:80]، يثبت السخط لله عز وجل على الكافرين.
وليس في إثباتها لله تعالى نقص، وهناك من يتصور أن صفة السخط وصفة الغضب وغيرها صفات نقص، ويقولون: نحن لا نثبت لله تعالى هذه الصفات؛ لأنها صفات نقص، ونقول: هي صفات نقص في المخلوق، ولكنها صفات كمال لله عز وجل، فمن تمام صفاته جل وعلا أن يكون فاعلاً لما يريد، فإذا أراد أن يغضب غضب، وإذا أراد أن يسخط سخط، وهذه صفات كمال لله عز وجل.
وأولئك القوم المحرفون -أي: الذين يحرفون الكلم عن مواضعه- يقولون: إثباتها من النقص، ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، ويقولون: لا يجيء ولا يرضى ولا يسخط ولا يكره ولا يحب، وغير ذلك من الصفات، وينكرون كل هذا بدعوى أن هذه حادثة على الله عز وجل وليست بحادثة، بل هي صفات ثابتة ولازمة لله عز وجل؛ لأننا إذا قلنا: إنها صفة حادثة فإنه يلزم من ذلك أن الله تعالى لا يعرف الغضب حتى يقع مقتضاه وسببه، والصحيح أنها صفة لازمة وثابتة لله عز وجل، ولكن لها مقتضى وسبب، فلا يستحق العبد هذه الصفة إلا إذا أتى بسببها ومقتضاها.
وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فمعظم هذه الفرق من المعتزلة والأشعرية والجهمية ينفونه كذلك.
فنفوا عن الله عز وجل صفات لم ينفها عنه العقل الذي يستندون إليه، وهذا يدل على أن من اعتمد على عقله ضل وزل، وحجتهم في ذلك: أن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة أثبتوها، وإن لم يوجبها نفوها.
ومنهم من توقف في ذلك فلم يثبتها؛ لأن العقل لا يثبتها، ولم ينفها أيضاً؛ لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف عن إثبات أو نفي ما لم يثبته العقل أو ما لم ينفه عن الله عز وجل، فصار هؤلاء يحكمون فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل، فما اقتضى العقل وَصْف الله تعالى به وُصِفَ به، وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة.
فنثبت له ما تكلم به سبحانه وتعالى وأثبته لنفسه في كتابه وفي قرآنه، وكذلك نثبت له عز وجل ما أثبته له رسوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكلم وفعل وأقر بالوحي، فنثبت لله تعالى ما أثبته له رسوله عن طريق القول وعن طريق الفعل وعن طريق الإقرار.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو كثير جداً في السنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء). فهنا أثبت الفوقية والعلو لله عز وجل، (تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض).
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يحلف كان يقول: (لا ومقلب القلوب).
وكان يقول: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء). فهذا فيه إثبات الصفات لله عز وجل من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الفعل فهو أقل من القول دائماً، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم لربه صفات عن طريق الفعل، وهي أقل من التي أثبتها عن طريق القول، وذلك مثل إشارته صلى الله عليه وسلم إلى السماء يستشهد الله على إقرار أمته بالبلاغ، فقد قال لهم في حجة الوداع في آخر الخطبة الطويلة: (وإنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: لقد بلغت وأديت يا رسول الله! فأشار إلى السماء بالسبابة، وقال: اللهم اشهد.. اللهم اشهد). فأشار إلى السماء إلى الله عز وجل ونكس بيده إلى الأرض إشارة على إقرار الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأمانة وأدى الرسالة، ورفع يده إلى السماء ثلاث مرات وقال: اللهم اشهد، أي: اشهد على هذه الأمة أن يقولوا يوم القيامة: ما أتانا من بشير، وما أتانا من نذير.
فأثبت العلو والفوقية لله عز وجل عن طريق الإشارة.
وجاءه رجل وهو يخطب على المنبر وقد أصاب المدينة قحط وجدب، فقال: (يا رسول الله! ادع الله لنا أن يغيثنا بالماء -أو قال: بالمطر- فقد هلك الزرع والضرع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء يستمطر ويدعو الله عز وجل أن ينزل الغيث، فلما حضرت الجمعة المقبلة دخل ذلك الرجل وقال: يا رسول الله! ادع الله تعالى أن يرفع عنا ذلك، فقد هلك الزرع والضرع -أي: من كثرة الماء- فرفع يديه إلى السماء وفعل مثلما فعل في الجمعة الماضية، فما نزل حتى رفع الله تعالى الماء، وصارت السماء صحواً وفيها الشمس). فهذا يدل على إقراره عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى في السماء، ولو كان الله تعالى في الأرض بذاته للزم من ذلك أن ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأرض.
ولا يزال عوام الناس إذا دعوا الله عز وجل توجهوا إلى السماء.
وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه لما لطم الجارية على خدها استعظم ذلك الأمر، فظن أن له توبة على يد النبي صلى الله عليه وسلم فذهب يسأله عن ذلك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجارية وقال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء) فلم يقل لها: نعم، هو في السماء، وإنما سكت، وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم إقرار؛ لأنه لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت على باطل؛ لأنه لو رأى رجلاً يتكلم أو رأى رجلاً يفعل فعلاً وسكت عنه فإن ذلك ينسب للنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك الصحابة كانوا يقولون: كنا نفعل كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلماء الحديث يقولون: إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم المرفوع، وكأنه من قول النبي عليه الصلاة والسلام أو من فعله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يسكت عن باطل أو منكر.
فنثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه في كتابه وما أثبته له رسوله عن طريق القول والفعل والإقرار.
وأسماء الله الحسنى هي التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وآمن بها جميع المؤمنين، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].
وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110].
وقال تعال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8].
وقال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)، وفي رواية: (من حفظها دخل الجنة).
وقد ذهب الإمام البخاري وغيره إلى أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من أحصاها) أي: من حفظها دخل الجنة، وهناك من يقول: أي: من عمل بها وعمل بمقتضاها، وعرف ما يلزمها وقام على رعايتها، ومنهم من يقول: بل لابد من العمل بها، والإمام البخاري يقول: لا يلزم من حفظها العمل بها، وهذا هو الرأي الراجح؛ لأن أحصاها وردت في روايات أخرى مفسرة بقوله: (من حفظها)، وإن كان يرد عليه بأن المقصود بالحفظ هنا الحفظ والرعاية والعمل، لا حفظ الأقوال والأسماء.
وهذا يدل على أن هناك أسماء أخرى استأثر الله عز وجل بعلمها وجعلها من الغيب الذي لا يعلمه أحد.
يقول الإمام النووي رحمه الله أثناء شرحه لحديث: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً) : اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، وإنما هي أكثر من ذلك.
قال: فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فكأن المراد الإخبار عن دخول الجنة بالإحصاء لا الإخبار بحصر أسمائه، وكأن هذا الحديث فائدته أنه يبين لك أنك لو أحصيت التسعة والتسعين اسماً دخلت الجنة، وليس فيه دلالة على أن أسماء الله تعالى منحصرة في التسعة والتسعين.
فيكون المقصود الإخبار عن دخول الجنة بإحصاء هذه الأسماء، وليس المقصود الإخبار بحصر أسماء الله عز وجل في هذه التسعة والتسعين.
فلا يجوز إطلاق الاسم الذي يوهم النقص لله عز وجل إلا مقترناً بما يقابله من الاسم الذي أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فلابد من ازدواجها، فهما لم يطلقا في الوحي إلا كذلك.
ومن ذلك المنتقم وهي صفة لله عز وجل، فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو المنتقم؛ لأنها لم تأت في القرآن إلا مضافة أو مقيدة، فمثال ما أتت فيه مضافة قوله تعالى: عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، أي: صاحب انتقام.
وتأتي مقيدة بالمجرمين، كقوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22]، أي: أن الله تعالى ينتقم من المجرمين.
فلابد من شرطين لإطلاقها عليه تعالى: الشرط الأول: لا يجوز إطلاق هذه الأفعال على الله عز وجل إلا فيما سيقت له، وفي مناسبتها، فإذا أطلقت في غير ما سيقت له لكانت صفات نقص، والله عز وجل منزه عن كل نقص، ومتصف بكل كمال وجلال.
وهذه الأسماء مثل قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]. فلا نثبت الخداع لله عز وجل إلا في مقابلة خداع المنافقين، ولا يجوز لنا أن نشتق من هذا صفة لله عز وجل أو اسماً، ولا يجوز أن نقول: إن الله مخادع؛ لأن هذه صفة فعل، يوصف بها الله عز وجل في مقابلة من استحق ذلك، أي: في مقابلة خداع المنافقين.
ومنها قوله عز وجل: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]. فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو الماكر، ولكن نقول: إن الله تعالى يمكر في مقابلة مكر الماكرين، ومكر الكافرين، ومهما مكروا فمكر الله تعالى أعظم من مكرهم.
ومنها قوله تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:14-15]. فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو المستهزئ، ولكن نقول: إن الله تعالى يستهزئ في مقابلة استهزاء المنافقين، ونحو ذلك مما يتعالى الله تعالى عنه، ولا يقال: يستهزئ ويخادع ويمكر وينسى على سبيل الإطلاق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولـابن القيم عليه رحمة الله كلام كثير وعظيم جداً في هذا، فهو يقول: إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقاً، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى، ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه تعالى الماكر المخادع المستهزئ الكائد فقد فاه بأمر عظيم -أي: تفوه بأمر عظيم- تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه، وغر هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال فاشتق له منها أسماء.
فالصفات تشتق من الأسماء، وليس العكس، فإننا نقول: إن الله تعالى حليم بحلم، فالحليم اسم والحلم صفة لله عز وجل، ونقول: عليم بعلم، وسميع بسمع، وبصير ببصر، وقوي بقوة. فالأسماء تستلزم الصفات، وأما الصفة فلا يشتق منها الاسم، ولذلك أخطأ كثير جداً ممن صنفوا في الأسماء والصفات، وهناك كتب كثيرة وقعت في الخطأ، ومنها: الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، فقد ذكر فيه لله عز وجل أكثر من ثلاثمائة اسم؛ لأنه اشتق من الصفات أسماء، فقال مثلاً: إن الله تعالى هو المنتقم، وهو الماكر، وهو المخادع.
فليست الأسماء منفكة عن الله عز وجل، بل هي ملازمة لذاته سبحانه وتعالى، فإن الله تعالى هو الرحمن، فالاسم مطابق للذات، وهو يتضمن اتصاف الله تعالى بما يدل عليه هذا الاسم، فإذا أثبتنا أن الله تعالى هو الرحمن أثبتنا له الرحمة تضمناً.
وهذا الاسم يدل على الحياة وغيرها التزاماً، فإذا أثبتنا أن الرحمة صفة لله عز وجل وأثبتنا أنه الرحيم ذاتاً فلابد أن نثبت له الحياة ذاتاً والتزاماً؛ لأنه لا يتسمى بالرحيم ولا يتصف بالرحمة إلا من هو حي، فأسماء الله عز وجل تدل على حقيقتها لله مطابقة وتضمناً والتزاماً.
وقد رد عثمان الدارمي عليه رحمة الله على بشر المريسي وغيره ممن قال: إن صفات الله تعالى مخلوقة، وأجاد في تبيين هذه القاعدة.
والكلام صفة من صفات الله، وهذا القرآن الذي بين أيدينا صفة من صفات الله، وصفات الله عز وجل غير مخلوقة؛ لأنها أزلية وأبدية، يعني: لا يزال الله عز وجل متصفاً بها، فهو لا يزال متكلماً، ولو قلت: إن صفة الكلام حادثة لله عز وجل للزم من ذلك أن تقول: إن هذه الصفة مخلوقة، وكل مخلوق يطرأ عليه الفناء، فيلزم من قولك: إن صفات الله تعالى مخلوقة أن تقول: إن صفات الله تعالى لابد وأن تزول، ويلزم من ذلك أيضاً أن تقول: إذا كانت صفات الله تعالى مخلوقة أن تقول: إن الله تعالى لم يكن متصفاً بها منذ الأزل، وهذه صفة نقص، والعقلاء والمجانين جميعهم متفقون على أن الله تعالى متصف بصفات الكمال والجلال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر