وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد: فالإيمان بالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فرع عن الإيمان بالله عز وجل.
فإذا تكلمنا عن الإيمان بالملائكة فهذا يعني أننا نتكلم عن أحد فروع الإيمان بالله عز وجل؛ لأنا إذا أيقنا أن الملائكة رسل الله عز وجل استلزم هذا أن نؤمن بهم.
الملائكة: جمع ملأك بالهمز، أو جمع ملاك بالتسهيل، وأصل ملأك مألك بالتقديم والتأخير في الهمز؛ لأنه من الأَلُوكة أو الأَلْوَكة، والألوكة في اللغة هي الرسالة، قال الله تعالى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1].
وهم عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، وجعلهم طائعين له متذللين، ولكل منهم وظائف خصه الله تبارك وتعالى بها، وقد خلقهم الله تبارك وتعالى من نور، وهذا مصداق ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها من أن المادة التي خلقوا منها هي النور، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)، يعني: من طين من حمأ مسنون، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا أي نور هذا الذي خلقوا منه.
ولذلك اختلفت الأقوال والآراء، هل هو من نور الصدر والذراعين، أو غير ذلك؟ فقد ورد عن ابن عمر وعطاء وغيرها، وهو غير صحيح عنهم، ولم يثبت عنهم ذلك.
ونحن علينا أن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى خلق الملائكة من نور ونسكت، ولا نؤول هذا النور بغير دليل واضح في هذا الأمر.
وقال تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29].
قال الله تبارك وتعالى عن ملائكة النار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فوصف الملائكة هنا بأنهم غلاظ شداد، فطبيعة خلقهم ومادة خلقهم أشد من مادة وطبيعة خلق الآدميين.
ومن الأمثلة على ذلك: عظم خلق جبريل عليه السلام، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق -فالجناح الواحد يسد الأفق، أي: ما بين السماء والأرض- يسقط من جناحه التهاويل -وهي الأشياء المختلفة الألوان- من الدر واليواقيت).
قال ابن كثير عليه رحمة الله: وفي سنن الترمذي : هذا حديث إسناده جيد، أي: رواية الإمام أحمد بن حنبل .
وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جبريل: (رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض)، يعني: جبريل سد ما بين السماء والأرض لعظم خلقه.
وقال الله تعالى في وصفه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]. والمراد بالرسول الكريم هنا جبريل، وذي العرش أي: رب العزة سبحانه وتعالى.
ومثال آخر يدل على عظم خلق الملائكة: روى ابن أبي حاتم وأبو داود عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام). فكيف بحجم بدنه كله؟! وفي رواية أخرى لـابن أبي حاتم : (لخفقان الطير) أو قال: (يخفق الطير -أي: يطير فيها الطائر- مسيرة سبعمائة عام).
وروى الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول -أي: الملك-: سبحانك حيث كنت).
والملائكة لها أجنحة كثيرة، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك إلى ستمائة جناح، وهذا يدل على أن الملائكة يتفاوتون أيضاً في الخلق وفي القدرة.
قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، يعني: يزيد بعد ذلك في أصل الخلق أو في الأجنحة، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر:1].
والملائكة في أصل خلقتهم ليس بينهم وبين البشر شبه، فهم لا يشبهون بني آدم قط، وإنما يشبهونهم إذا تمثلوا في صورة آدميين، فهم لهم القدرة على التشكل والتلون، فإذا تشكلوا في صورة آدميين أشبهوهم، ومصداق هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت جبريل فإذا أقرب من رأيت به شبهاً
وأفضل الملائكة كذلك هم الذين شهدوا وقعة بدر، كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه من حديث رفاعة بن رافع : (أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون من شهد بدراً فيكم؟ قلت: خيارنا، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة هم عندنا خيار الملائكة).
والملائكة كذلك لا يأكلون ولا يشربون، ولذلك ورد في قصة الملائكة الذين أتوا إبراهيم عليه السلام: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود:70]، وهذا لما قرب إليهم العجل الحنيذ السمين.
وكذلك الملائكة لا يملون ولا يتعبون، وإنما يقومون بعبادة الله تبارك وتعالى وطاعته وتنفيذ أوامره بلا كلل ولا ملل، ولا يدركهم ما يدرك البشر من ذلك، قال الله تبارك وتعالى في وصفهم: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]. والفتور هو الملل والكسل، فهذا لا يلحق الملائكة ألبتة.
وقال تعالى في الآية الأخرى: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]. ومعنى السأم أي: الملل، يقال: سئم شيئاً إذا مله.
وقد وصفهم الله تعالى بأنهم عنده، فقال: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]. ومعنى: فالذين عند ربك، أي: فالذين في السماء.
وهم ينزلون إلى الأرض بأمر الله لتنفيذ مهمات نيطت بهم ووكلت إليهم، كما قال الله تبارك وتعالى على لسان جبريل: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم:64].
ويكثر نزولهم في مناسبات خاصة كليلة القدر، كما قال تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:3-4]، والروح هو جبريل عليه السلام، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4].
ومما يدل على كثرتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت المعمور الذي هو في السماء السابعة: (فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، أي: لا يعودون إليه مرة أخرى. والحديث متفق عليه.
وعند مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). وعلى هذا فالذين يأتون بجهنم فقط يوم القيامة أربعة مليارات وتسعمائة مليون ملك.
وإذا تأملت النصوص الواردة في الملائكة التي تقوم على الإنسان علمت مدى كثرتهم، فهناك ملك موكل بالنطفة، وملكان لكتابة أعمال كل إنسان، وملائكة لحفظه، وقرين ملكي لهدايته وإرشاده.
وللملائكة أسماء، ونحن لا نعرف من أسماء الملائكة إلا القليل، كجبريل وميكال، قال الله تبارك وتعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:97-98].
وجبريل هو الروح الأمين المذكور في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193-194].
وهو الروح المعني في قوله تبارك وتعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر:4].
وهو الروح الذي أرسله الله تبارك وتعالى إلى مريم، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17]. وهو الموكل بالوحي ينزل به من الله تبارك وتعالى إلى الرسل، كما أن إسرافيل هو الذي ينفخ في الصور، فإسرافيل هو الموكل بالنفخ في الصور، وجبريل هو الموكل بالوحي، وميكائيل هو الموكل بالقطر من السماء والنبات في الأرض، ولذلك يقولون: إن هؤلاء الملائكة الثلاثة مختصون بالحياة، فجبريل عليه السلام اختص بالوحي، والوحي فيه حياة القلوب، وميكائيل عليه السلام موكل بالقطر من السماء، وبه ينبت الزرع والثمار والفواكه والأطعمة من الأرض، وبه تحيا الأجسام والأبدان.
وأما إسرافيل عليه السلام فهو الموكل بالنفخ في الصور، أي: بإعادة الحياة إلى الأجسام البالية، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر هؤلاء الملائكة الثلاثة في دعائه في قيام الليل، فقد كان يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل في قيامه في الليل بربوبية الله تبارك وتعالى لهؤلاء الملائكة الثلاثة، جبريل وميكائيل وإسرافيل.
وهنا أيضاً مالك خازن النار، قال الله تبارك وتعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77].
وهناك رضوان، وهو خازن الجنة، وقد جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث.
ومن الملائكة الذين سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم منكر ونكير، وقد استفاض في الأحاديث ذكرهما في سؤال القبر.
ومنهم ملائكة سياحون في الأرض يلتمسون حلق الذكر والعلم، فإذا رأوها جلسوا يحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، يعني: أن الملائكة تحف مجالس العلم ويصعد بعضهم فوق بعض حتى يكون هناك اتصال بين مجلس العلم في الأرض وبين السماء.
ومنهم ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، كما قال الله تبارك وتعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].
ومنهم ملائكة ركع وسجد لله في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط -والأطيط: هو صرير الرحل- ما من موضع أربع أصابع منها إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد).
وهم أجساد بدليل قوله تعالى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ [فاطر:1]، يعني: أصحاب أجنحة وذوات أجنحة، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم- جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح قد سد الأفق، وهذا خلافاً لمن قال: إنهم أرواح، فهم أجساد نورانية.
وقد أخطأ رجل من أكابر أهل العلم وأهل السنة فقال: الملائكة لا يعقلون؛ لأنهم أجساد نورانية، فليس لهم عقول، ونقول: قد قال الله تبارك وتعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ، ومعلوم أن الأمر لا يكلف به إلا عاقل.
وقال الله تبارك وتعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]. فهل هؤلاء الذين يسبحون ليست لهم عقول؟ وهل يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمرهم الله به، ويبلغون الوحي وليس لهم عقول؟! فأحق من يوصف بعدم العقل من قال: إن الملائكة لا عقول لهم.
وملك الموت هو الذي وكل بقبض الروح، قال الله تبارك وتعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة:11]. ومعنى: يَتَوَفَّاكُمْ أي: يقبض أرواحكم.
وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61].
وهنا إشكال، فقد قال في الآية الأولى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ، فأخبر أن الذي يتوفى هو ملك الموت، وقال: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ، ولم يقل: توفاه ملك الموت، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]. فهذه ثلاث آيات، فهل الذي يتوفى الأنفس الله تبارك وتعالى، أم الرسل، أم ملك الموت؟
والجواب: أنه لا منافاة بين هذه الآيات الثلاث؛ فملك الموت يخرجها من البدن ويكون معه ملائكة، فإذا أخرج الروح من البدن تلقفها الملائكة الذين بجوار ملك الموت، فإذا كان الرجل من أهل الجنة كان معهم حنوط من الجنة وأكفان من أكفان الجنة، فيأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل، حتى تقف بين يدي الله، ثم يقول: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار في القبر، فيسأله الملكان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن -والعياذ بالله- فإنه ينزل إليه ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من حنوط النار، فيأخذون الروح ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. ثم يقول الله تبارك وتعالى: اكتبوا كتاب عبدي في سجين. نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
فهؤلاء الملائكة يأخذون الروح بعد أن يقبضها ملك الموت.
فالذي يقبض الروح من أصلها هو ملك الموت، ثم يتسلمها منه هؤلاء الرسل الذين قال الله عنهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]. فهؤلاء موكلون بأخذ الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر مسألة قبض الروح بنفسه، فلا منافاة بينهما. ولما كان الآمر بقبض الروح على الحقيقة هو الله تبارك وتعالى نسبت الوفاة إليه في قول الله تبارك وتعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42].
ومما يدل أيضاً على أنهم يموتون قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]. والوجه هنا تعبير عن ذات الله تبارك وتعالى.
وأما هل يموت أحد منهم قبل نفخة الصور؟ فهذا ما لا نعلمه ولا يعلمه أحد من البشر، فهو مما استأثر الله تبارك وتعالى بعلمه.
وقد روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق فله أجران).
فهذا وصف لبيان أن الملائكة تستحي، والحياء خلق عظيم، وهو من أخلاق أهل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، ثم خص الحياء من بين شعب الإيمان بالذكر، فقال: (والحياء شعبة من شعب الإيمان).
ومعنى الآية: قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً فابعد عني ولا تمسني بسوء وأذى؛ لأنها لما رأته في صورة بشر ظنته من البشر ولم تظنه جبريل ولا الروح الأمين، فاستعاذت بالله من شر الإنس، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19].
وإبراهيم عليه السلام جاءته الملائكة في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم.
وجاءوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه، وضاق لوط بهم، وخشي عليهم قومه؛ لأنهم كانوا يأتون الذكران شهوة من دون النساء، والملائكة أحسن صورة من البشر، ولذلك خاف لوط عليه السلام أن يفضح بين أضيافه من فعل قومه، فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات ويأتون الذكران من العالمين، كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود:77]، يعني: أن هذا اليوم لن يمر على خير إن رآكم قومي الذين أرسلت فيهم.
يقول ابن كثير : تبدى لهم الملائكة في صورة شباب حسان امتحاناً واختباراً حتى قامت على قوم لوط الحجة، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وقد كان جبريل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة، فتارة يأتيه في صورة دحية بن خليفة الكلبي الصحابي، وقد كان جميل الصورة جداً، وتارة في صورة أعرابي كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد أن السائل الذي جاءه وسأله هذه الأسئلة عن الإيمان والإحسان وأشراط الساعة، هو جبريل؛ ليعلمهم دينهم.
وقد رأت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي -أي: عرف الفرس- ودحية الكلبي راكب عليه يحدث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سألته عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، وهو يقرئك السلام. فهي تصورت أنه دحية ، ولكنه جبريل.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن سعد بسند حسن.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه لما هاجر تائباً جاءه الموت في منتصف الطريق، وهو مسافر إلى الأرض التي هاجر إليها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فحكموا بينهما ملكاً أرسله الله تبارك وتعالى إليهم في صورة آدمي، يقول عليه السلام: (فجاءهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو لهم). وهم إنما حكموه بأمر الله تبارك وتعالى. والقصة في صحيح مسلم في باب التوبة.
وكذلك جاء في قصة الثلاثة الأبرص والأعمى والأقرع الذين ابتلاهم الله تبارك وتعالى من بني إسرائيل أن الملك تشكل بصورة كل منهم، وأتى كل واحد منهم على حدة.
وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى منح الملائكة القدرة على التشكل والتلون.
وأما عن عظم سرعتهم فإنهم بلغوا الذروة في السرعة، فقد كان السائل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فينزل جبريل عليه السلام بالجواب من السماء قبل أن ينصرف السائل، وهذا قد ورد في مناسبات كثيرة جداً.
وقد أعطوا علماً عظيماً وهو علم الكتابة، قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
والملائكة تتحاور فيما بينها فيما خفي عليها من وحي ربها، ويدور بينها مناظرات ومحاورات كما يدور أيضاً بين أهل العلم من البشر.
ففي سنن الترمذي ومسند أحمد عن ابن عباس بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة) وهذا الحديث هو حديث اختصام الملأ الأعلى، وفيه إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه رؤية منامية.
والكافرون محجوبون عن الله تبارك وتعالى، فلا يرونه حتى في يوم القيامة، ولا يدخلون الجنة حتى يرونه، وأما المؤمنون فإنهم يرون الله تبارك وتعالى في عرصات القيامة قبل أن يدخلوا الجنة، فإذا دخلوها رأوا الله تبارك وتعالى على رأس كل أسبوع في يوم المزيد الذي هو يوم الجمعة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم لما سئل: (هل نرى ربنا يا رسول الله؟! قال: هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم -أي: في الجنة ويوم القيامة- كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب).
فكل من يدخل الجنة يرى الله تبارك وتعالى في يوم المزيد.
فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة). وهذه الرؤية رؤية منامية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عياناً في اليقظة قط، وإنما رآه في المنام. (فقال -أي: الله تبارك وتعالى-: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات، فأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة إلى الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، قال: صدقت يا محمد! ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون).
وهذا الحديث قال عنه ابن كثير رحمه الله: هو حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة فقد غلط في ذلك.
وقد فضلنا الله على بقية الأمم بأن جعل صفوفنا كصفوف الملائكة، وهذا الحديث في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان .
وفي يوم القيامة كذلك تأتي الملائكة صفوفاً منتظمة، كما في قول الله تبارك وتعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]. ويقفون صفوفاً بين يدي الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38]. والروح هو جبريل عليه السلام.
ونلاحظ دقة تنفيذ الملائكة للأوامر من الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن -واسمه رضوان-: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك).
وفي حديث الإسراء جبريل كان يستأذن في كل سماء، ولا يفتح له إلا بعد الاستفسار، من أنت؟ ومن معك؟ وهل بعث؟ وهل أرسل؟ وغير ذلك.
ولعل هذا هو الذي دعا فريقاً من العلماء إلى القول: بأن الملائكة ليسوا مكلفين، ولا داخلين في الوعد والوعيد، ونحن نقول: إنهم ليسوا مكلفين بنفس التكاليف التي كلف بها بنو آدم، وأما القول بعدم تكليفهم مطلقاً فهو قول مردود، ترده الآيات والأحاديث، ومنها قول الله تبارك وتعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50]. فقد قال في الآية: إنهم يخافون ربهم، والخوف نوع من أنواع التكاليف الشرعية، بل هو من أعلى أنواع العبودية.
وقال تعالى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].
والملائكة لهم مكانة عظيمة عند الله تبارك وتعالى، وهذا بخلاف ما افتراه المشركون في قولهم: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [الأنبياء:26]، فرد عليهم سبحانه بقوله: سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26] فالله تبارك وتعالى وصفهم بأنهم عباد مكرمون، فوصفهم بأنهم عباد، أي: حق العبودية، فهم يعبدون الله تبارك وتعالى حق العبادة، ويقدرون الله حق قدره، وهم كذلك مكرمون.
ثم قال: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:27-29].
فالملائكة عباد يتصفون بكل صفات العبودية، وهم قائمون بالخدمة، ومنفذون للأوامر، وعلم الله تبارك وتعالى بهم محيط، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا الأوامر أو يخالفوا التعليمات الملقاة إليهم، بل هم خائفون وجلون، وعلى احتمال أن يتعدى أحدهم حده فإن الله تبارك وتعالى يعذبه جزاء تمرده.
ومن تمام عبوديتهم لله تبارك وتعالى أنهم لا يتقدمون بين يدي ربهم مقترحين، ولا يعترضون على أمر من أوامره، بل هم عاملون بأمره، مسارعون مجيبون، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]. وهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به، فالأمر هو الذي يحركهم ويوقفهم، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ -يعني: هل لك أن تزرونا أكثر من هذا؟- فنزل قول الله تبارك وتعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]. والشاهد من ذلك: أن الملائكة لا يصدر منهم فعل ولا قول ولا حركة ولا سكنة إلا بأمر الله تبارك وتعالى. والملائكة يسبحون الله تبارك وتعالى، ويذكرونه بالتسبيح والتهليل والتعظيم، كما قال تعالى عن حملة العرش: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر:7]. وليس حملة العرش هم الذين يسبحون الله تبارك وتعالى فقط، بل التسبيح ورد في عموم الملائكة، كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى:5]
وتسبيح الملائكة لله تبارك وتعالى دائم لا ينقطع، لا في الليل ولا في النهار، قال تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، أي: لا يملون ولا يسأمون.
ولكثرة تسبيحهم كانوا هم المسبحون حقاً، وحق لهم أن يفخروا بذلك، وقد قالوا: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات:165-166]. فلما اتصل تسبيحهم وذكرهم لله تبارك وتعالى ولم ينقطع، ولم يفتروا أو يسأموا من ذلك حق لهم أن يفخروا بأنهم هم المسبحون على الحقيقة؛ وغيرهم يعتريه الملل والسأم والكلل، فحق للملائكة أن ينسب إليهم أنهم هم المسبحون حقاً.
والتسبيح أفضل الذكر، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر أنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده -أي: الذي اصطفى الله لملائكته أو لعباده، وما هنا اسم موصول بمعنى الذي والذي اصطفاه الله تبارك وتعالى من الذكر- سبحان الله وبحمده). وهذا كان تسبيح الملائكة.
وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بالملائكة في الاصطفاف في الصلاة فقال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها). وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن كيفية اصطفافهم قال: (يتمون الصف الأول ثم الذي يليه، ويتراصون في الصف). رواه البخاري في صحيحه.
وفي كتاب الله تبارك وتعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات:165]، أي: الذين نقف صفوفاً.
وهم يقومون ويركعون ويسجدون كما روي ذلك في مشكل الآثار للطحاوي رحمه الله، وفي المعجم الكبير للطبراني عن حكيم بن حزام قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا رسول الله! قال: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، -أي: وليس عليها لوم أن تئط- أو قال: وحق لها أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا عليه ملك ساجد أو قائم). وهذا الحديث حديث صحيح.
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته السماء السابعة: (ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، يعني: يتعبدون فيه، ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، والبيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، فلما بنى الكعبة لأهل الأرض أكرمه الله تعالى بدخول الكعبة التي هي في السماء السابعة.
وذكر ابن كثير أن البيت المعمور بحيال الكعبة، أي: في موازاة ومحاذاة الكعبة، ولذلك ورد في الخبر أن البيت المعمور لو خر على الأرض لخر على الكعبة، أي: لسقط على الكعبة، فالبيت المعمور في السماء السابعة في مقابلة الكعبة، أي: فوقها، فلو وقع لوقع عليها. وذكر أن في كل سماء بيتاً يتعبد فيه أهلها، ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيت العزة.
وقد ثبت من حديث علي بن أبي طالب : (أنه سئل: ما البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء يقال له: الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ولا يعودون فيه أبداً). وهذا موقوف على علي بن أبي طالب، وهو لا يقال من قبل الرأي، وهو إن كان فيه خالد بن عرعرة وهو مستور إلا أن له شاهداً مرسلاً من حديث قتادة بن دعامة ، وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه مسجد في السماء تحته الكعبة، لو خر لخر عليها).
قال الشيخ الألباني رحمه الله: وجملة القول: إن هذه الزيادة -أي: (حيال الكعبة)- ثابتة بمجموع طرقها، وهذا يدل على ثبوت الحديث.
وعند الطبراني في الأوسط بسند حسن عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى).
والحلس البالي: هو الكساء الذي يبسط في أرض البيت، مثل السجادة عندما تصبح قديمة جداً ومهلهلة، فكذلك كان جبريل في حال خوفه من الله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم على نبينا محمد.
الجواب: نحن لسنا في الجامعة، ولسنا مطالبين بمنهج نكمله في ستة أشهر، وأنا لم أقل: إنني سأنتهي من شرح صحيح مسلم في أربع سنوات، فقد تصحف عليك السماع، بل قلت: إنني الآن أشرح كتاب المساجد في مسجد الهدى في الهرم، وكتاب المساجد في الجزء الخامس من شرح صحيح مسلم ، وقد بدأت في شرح صحيح مسلم هناك من قبل وقضيت هناك في كتاب الإيمان عاماً ونصف عام، وكان الدرس في يومي الأحد والأربعاء، ثم ائذن لي أن أسألك: ما الذي يضرك في هذا؟ وهل تهتم بالكم أو بالكيف؟ نحن نعلم أن حديث جبريل عليه السلام حديث يشمل الدين كله، وهناك مقولة لبعض أهل العلم تقول: ينبغي على من تعرض لشرح هذا الحديث أن يشرح الدين كله، ونحن لا نقوم بهذا ولا بعشره؛ لأننا لا نعلم من الدين عشره ولا أقل من ذلك، ولكنه جهد المقل، وإنما نجمع مقولات أهل العلم؛ لنبلغها لطلاب العلم والمحبين لهذا الدين.
ونحن الآن نشرح كتاب الإيمان، ولابد من استقصاء الكلام في الإيمان الذي منه الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، وبيان معنى الإيمان والإسلام؛ لأننا بعد كتاب الإيمان سوف ندخل في الأحكام والفرائض والنوافل والسنن.
وهذه فرصة للتعرف على الإيمان بأركانه وحقائقه ومذهب السلف في كل مسألة من مسائله من خلال شرحنا لكتاب الإيمان، الذي عموده حديث جبريل، وهذا الكلام الذي تسمعه 90% منه فوائد لي أنا، لم أكن وقفت عليها من قبل، فأنا أريد أن أبلغه إليك، ونحن إن شاء الله سنحاول إنها كتاب الإيمان في ثلاث سنوات.
الجواب: الصلاة لا تجوز ولا تصح، وأما الصيام ففيه خلاف كبير بين أهل العلم، فالجمهور قالوا: لا يجوز الصيام عن الميت، وحملوا الأحاديث التي فيها قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) على الإطعام عنه. وهذا تأويل يغاير ظاهر النص، ولا بأس بإجراء النص على ظاهره، وقد اختلف العلماء في هل يصوم عنه الفرض أو الواجب، فصيام النذر واجب، والراجح جواز الصيام عن الميت. والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر