وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
في الدرس الماضي تكلمنا عن أهم ركن من أركان الإسلام، وهو شهادة التوحيد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)، وتكلمنا عن معنى الشهادة، وأنها الركن الركين في أركان الإسلام، وأعلاها وأعظمها وأهمها، وأن من أتى بهذا الأصل ربما نفعه المقتضى، ومن أتى بدونه لم ينفعه المقتضى، ولا يصح عمل المرء وإن أتى بالطاعات والصالحات جميعاً حتى يدخل من هذا الباب الأساسي، وهو توحيد الله عز وجل.
وشروط توحيد الله عز وجل هي ما جاء في قول الناظم عليه رحمة الله:
وبشروط سبعة قد قيدت وفي نصوص الوحي حقاً وردت
فإنه لم ينتفع قائلها بالنطق إلا حيث يستكملها
العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه
هذه هي الشروط السبعة لقول لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأول: العلم، والثاني: اليقين: والثالث: القبول، والرابع، الانقياد، والخامس: الصدق، والسادس: الإخلاص، والسابع: المحبة.
وقول الناظم هنا: (وبشروط سبعة قد قيدت)، أي: قولك لا إله إلا الله محمد رسول الله، مقيد بهذه الشروط السبعة، وقد جاء ذلك في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: (وفي نصوص الوحي حقاً وردت)، أي: هذه الشروط أتت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة نبيه الصحيحة.
والدليل حتى يصح لابد أن يتوفر فيه شرطان:
الشرط الأول: أن يكون هذا الدليل صحيحاً.
والشرط الثاني: أن يكون هذا الدليل صريحاً في المسألة، فإذا احتججت بحديث صحيح في غير بابه، فنقول: نعم، إن هذا الحديث صحيح، ولكنه لا يصلح للاحتجاج به في هذه المسألة؛ لأنه يتكلم في باب، والنزاع في باب آخر.
فالدليل حتى يصح الاحتجاج به لابد أن يكون صحيحاً وصريحاً في محل النزاع، فإذا احتججت بحديث ضعيف في محل النزاع، قلنا: إن هذا الحديث لا يقوى على حل النزاع حتى وإن كان صريحاً في المسألة، لأنه غير صحيح.
فالأدلة التي يجوز الاحتجاج بها لابد أن تكون صحيحة من جهة، وصريحة من جهة أخرى.
قال الناظم: (فإنه لم ينتفع قائلها)، أي: لم ينتفع المتلفظ والناطق بالشهادتين إلا باستكمال هذه الشروط، وباجتماعها في القائل وفي الناطق بها.
وقوله: (بالنطق إلا حيث يستكملها)، أي: إلا إذا اجتمعت فيه، واستكمل هذه الشروط السبعة.
ثم بدأ يعدد هذه الشروط، فقال: (العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول)، أي: اسمع وأنصت إلى ما أقوله.
(والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه)، آمين.
فهذه الشروط السبعة لابد من توفرها فيمن وحد الله عز وجل، حتى يوحد الله عز وجل على علم وبصيرة وانقياد واستسلام وإخلاص ومحبة.
ولا بد من العلم بمعناها.. المراد منها نفياً وإثباتاً؛ لأن الكلمة في حد ذاتها تشمل النفي والإثبات، فقولك: لا إله نفي لجميع الآلهة، وإلا الله إثبات لإله واحد ورب لجميع من ادعى أنه إله من دون الله عز وجل.
فهذه الكلمة في حد ذاتها تشمل نفي جميع الآلهة، وإثبات إله وحد، وفي البلاغة تفيد الحصر؛ فهي هنا تفيد حصر الألوهية في الله عز وجل، وتنفي الألوهية عما عداه، كقول الله عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، فهي تفيد حصر الرسالة في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس معنى ذلك نفي الرسالة عمن عداه من إخوانه من المرسلين والأنبياء، وإنما هذا كلام خاص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإثبات أنه مبعوث مرسل من عند الله عز وجل.
وقال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]. وبوب الإمام البخاري في كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل، وقد أراد الإمام البخاري بهذا أن يبين أنه لا يصح قول ولا عمل إلا بعلم، وأنه لابد لكل قائل وكل عامل أن يكون قوله وعمله صادراً عن علم بالله عز وجل، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن عمل بغير علم فهو شبيه بالنصارى؛ لأن العمل بغير علم ضلال.
والتقول على الله عز وجل إنما هو من غضب الله عز وجل على المرء، ولذلك في أواخر سورة الفاتحة، يدعو المؤمنون الله عز وجل أن يهديهم الصراط المستقيم، لا صراط الذين غضب الله عليهم ولا الضالين، وهم اليهود والنصارى.
وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ [الزخرف:86]، أي: بلا إله إلا الله، فشهادة الحق هي لا إله إلا الله، قال: وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، أي: يعلمون بقلوبهم معنى لا إله إلا الله، وما نطقت به ألسنتهم.
وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، فالله عز وجل والملائكة وأولو العلم جميعاً شهدوا بأنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فكلما ازداد العبد علماً بالله عز وجل كلما ازداد منه خشية، ولذلك لما نودي الأعمش ، أو شعبة أيها العالم! قال: إنما العالم من يخشى الله. وأعلى مراتب العلم بالله عز وجل خشيته عز وجل.
وقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]. وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقد بوب الإمام النووي لهذا الحديث في صحيح مسلم بباب: الدليل على أن مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً.
والإيمان لا ينفع فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، أي: لم يشكوا في الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15].
فاشترط الله عز وجل في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا ولم يشكوا؛ لأن الارتياب صفة المنافقين والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ [التوبة:45]، أي: في التخلف عن الجهاد، الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة:45]، أي: في شكهم يتحيرون ويتيهون.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة).
فيشترط اليقين بالله عز وجل، وبأنه واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فمن شك في شيء من ذلك فإنه لم يحقق اليقين، وقد فقد شرطاً من شروط توحيد الله عز وجل، ولا شك أنه بفقد الشرط يفقد المشروط.
وفي رواية: (لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه وقال له: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت خلف هذا الحائط -أي: خلف هذا البستان- يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقي
فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المطلوب.
وقال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:103]، يعني: من قبل هذه الكلمة سماه الله مؤمناً، ومن ردها فهو إما كافر وإما منافق، ومعلوم ما وقع بالكافرين والمنافقين ممن رد هذه الكلمة، وكذلك معلوم جزاء المؤمنين عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة لقبولهم لهذه الكلمة والعمل بمقتضاها.
وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]. وكذلك أخبرنا بما أعده لمن ردها من العذاب فقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:22-24].. إلى قوله: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]، أي: يستكبرون عن قبولها ويردونها، وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36]، وهذا كأنه سؤال تعجب من هؤلاء الجهلة السفلة، وقد علموا أنه ليس بشاعر ولا مجنون.
فجعل الله تعالى علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله، وتكذيبهم من جاء بها، فلم ينفوا ما نفته، ولم يثبتوا ما أثبتته، بل إنهم قالوا إنكاراً واستكباراً: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص:5-6].
وسبحان الله! أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:53].
والله عز وجل في هذه الآية يصور المعركة بين أهل الإيمان وأهل الكفر والنكران، فقال تعالى: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ . وهذا قول أهل الكفر والجحود والنكران في ميدان عام التقى فيه أهل الإيمان وأهل الكفر، فقال أهل الكفر: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص:5-6]، أي: امشوا من أمام أهل الإيمان والعلم والحجة والبيان خشية أن تصابوا بما أصيبوا به، وانصرفوا من أمامهم حتى لا يصيبكم ما أصابهم، وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص:6] أي: وتمسكوا بآلهتكم، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، أي: يراد بكم، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7]، أي: ابتداع ابتدعوه من عند أنفسهم واصطنعوه، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً.
وقالوا هنا: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36]. فكذبهم الله عز وجل ورد عليهم ما اتهموا به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:37]، أي: بل جاء النبي عليه الصلاة والسلام بالحق من عند الله عز وجل، وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ، أي: ووافقت دعوته دعوة المرسلين من قبله، فلم يكن هذا اختلاقاً ولا ابتداعاً ولا اصطناعاً، وإنما هو موافق لأهل التوحيد من الأنبياء والمرسلين قبله، فلم يكن بدعاً من الرسل صلى الله عليه وسلم، فدعوته هي دعوة لتوحيد الله عز وجل، وتوحيد الطريق الموصل إلى الله عز وجل، كدعوة غيره من الأنبياء كذلك.
ثم قال في شأن من قبلها وأثنى عليهم الله عز وجل: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:40]، أي: الذين عبدوا الله تعالى بإخلاص، أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الصافات:41-43]، إلى آخر الآيات.
وقال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89].
وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث)، فشبه العلم الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث والمطر الذي نزل من السماء، (أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير)، أي: كان فيها أرض صالحة لأن تشرب الماء وتنبت الكلأ، فهذا مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه الله تعالى بما جاء به النبي من الهدى والنور والعلم، (وكانت منها أجادب أمسكت الماء)، أي: كانت منها أراض جدباء احتفظت بما نزل فيها من ماء، (فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً)، أي: كلما نزل عليها الماء غار في الأرض، فلم تمسكه الأرض، ولم تنبت به كلأ، (فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] ومعنى: وَهُوَ مُحْسِنٌ أي: وهو موحد، ومعنى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ، أي: انقاد لله عز وجل وهو موحد.
وقال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22]، أي: بلا إله إلا الله، والعروة الوثقى هي: العقد الأوثق المتين بينك وبين الله عز وجل في الدين، والسبب الموصل لرب العالمين. فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع لها.
وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22]، ومعنى: يُسْلِمْ وَجْهَهُ ، أي: ينقاد لله عز وجل، وَهُوَ مُحْسِنٌ ، يعني: موحد، ومن لم يسلم وجهه إلى الله ولم يك محسناً فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى، وهذا هو المقصود بقول الله عز وجل بعد ذلك: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ [لقمان:23]، أي: ومن لم يستمسك بهذه العروة الوثقى وبهذا العقد المتين في الدين بينه وبين الله فاعلم أنه قد آثر الكفر على الإيمان وفضل الضلالة على الهدى، والعمى على البصيرة، ولهذا قال الله عز وجل ذاماً لهم: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ، وفي هذا سلوى للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يضره كفر من كفر، كما لا ينفعه كذلك إيمان من آمن، إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:23-24].
فمن شروط هذه الكلمة: الصدق المنافي للكذب، أي: الصدق الذي ليس معه أدنى كذب، وهو أن يقولها صدقاً من قبله، ويوافق قلبه لسانه، يعني: يتفق ما يخرج من لسانه مع ما يعتقده ويستقر في قلبه، قال الله عز وجل: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، فلابد من الفتنة حتى يعلم الله عز وجل الصادق من الكاذب، وحتى يميز الخبيث من الطيب، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، إلى آخر الآيات.
وقال تعالى في شأن المنافقين الذين قالوها كذباً وزوراً وبهتاناً: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. و(ما) هنا نافية، فقولهم لا يوافق ما في قلوبهم من كفر ونفاق وضلال، وإنما: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، والله عز وجل لا يخدعه خادع ولا يمكر به ماكر، وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:9-10]، يعني: ليسوا صادقين في ادعائهم الإيمان وإنما هم كاذبون، ففضحهم الله عز وجل في مثل هذا الموطن وفي غيره كذلك.
وقد ذكر الله تعالى شأنهم، وكشف أستارهم وهتكها وأبدى فضائحهم في غير ما موضع من كتابه، كسورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة، وخصص لهم سورة كاملة في كتابه، وهي سورة المنافقون.
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه). فلابد من موافقة ومواطأة ما يخرج من اللسان مع ما هو مستقر في القلب، فلا بد أن يكون صادقاً من قلبه من يقول: لا إله إلا الله، فإن قالها كذباً فإنما هو من الكافرين أو المنافقين، والحال لا يختلف كثيراً بينهما.
قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار). فاشترط في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقاً من قلبه، فلا ينفعه مجرد التلفظ بها بدون مواطأة القلب لذلك.
وفيهما -أي: البخاري ومسلم - من حديث أنس بن مالك وطلحة بن عبيد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (في قصة الأعرابي -وهو
الشرط الأول: أن يكون خالصاً لله عز وجل، بحيث لا يبتغي بالعمل إلا وجه الله عز وجل.
الشرط الثاني: متابعة النبي عليه الصلاة والسلام في هذا العمل، ولذلك قلنا في تعريف قول لا إله إلا الله: هو توحيد المعبود، وفي قول: وأن محمداً رسول الله: هو توحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله عز وجل، ولابد أن يكون ذلك من خلال متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن تعدى حد العبودية لله عز وجل وقع في الكفر، ومن تعدى حد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم واجتهد في العبادة من عند نفسه أو بوصية شيخ أو طريقة أو غير ذلك، كان عمله غير مقبول ومردود على صاحبه؛ لأنه وقع في الابتداع، وقد جاء في الصحيح من حديث عائشة مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي اللفظ الآخر قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، أي: مردود عليه، ولا يؤجر عليه، وإنما هو مأزور.
قال: الإخلاص هو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال الله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]. والدين هنا بمعنى العبادة، وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية العبادة بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. فالخوف والرجاء والتوكل والرهبة والرغبة، والخشوع والخشية والإنابة والخضوع، والاستعانة والاستغاثة والنذر عبادة، لابد أن تؤدى لله عز وجل، فلا تشرك في هذه العبادة مع الله عز وجل أحداً غيره.
وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5].
وقال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2].
وقال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:11].
وقال تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14].
وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:145-146].
وغير ذلك من الآيات.
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، أو قال: خالصاً من نفسه).فليس هناك شريك لله ولا ند ولا مثيل.
وفي الصحيح عن عتبان بن مالك أيضاً أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل)، أي: لا يبتغي بذلك جاهاً ولا عرضاً. ولا غير ذلك مما يمكن أن يعترضه في حياته الدنيا.
قال الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
فأخبرنا الله عز وجل أن عباده المؤمنين أشد حباً له؛ وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحداً، كما فعل مدعو محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أنداداً يحبونهم كحبه، وعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه وشهوته، وبغض ما يبغضه الله عز وجل وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله تعالى ورسوله، ومعاداة من عاداه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره، واتباع هديه، وكل هذه علامات وشروط في المحبة لا يتصور وجود المحبة بدونها.
قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43].
وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية:23]؟
فكل من عبد مع الله غيره، فهو في الحقيقة عبد لهواه، بل كل ما عصي الله عز وجل به من الذنوب سببه تقديم العبد هواه على أوامر الله ونواهيه.
وقال الله تعالى في شأن الموالاة والمعادة: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].
فلا يمكن أن يجتمع أبداً محبتك لمن حاد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1].
إلى آخر السورة، وهي سورة الممتحنة.
وقال الله تعالى في اشتراط اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31].
قال الحسن البصري: ما ابتلي المحبون بمثل هذه الآية، فكل من ادعى محبة الله عز وجل ابتلي بمتابعة النبي عليه الصلاة والسلام واتباعه عليه الصلاة والسلام، فمن كان مدعياً محبة الله عز وجل فليكن متبعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31-32].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن يقذف في النار) وعن عمر بن الخطاب قال: والله يا رسول الله! إني لأحبك! ولكن ليس أكثر من نفسي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) أي: فلا يستقيم لك الإيمان حتى تحبني أكثر من نفسك التي بين جنبك، فقال: والله يا رسول الله! إني لأحبك أكثر من نفسي التي بين جنبي، قال: الآن يا عمر ، أي: الآن تحقق فيك كمال الإيمان.
وفي الصحيح أيضاً من حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
ولا يصح قبول الشهادة الأولى - أي: شهادة أن لا إله إلا الله - حتى يكون معها الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً عبده ورسوله، وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أن ما كان شرطاً في الأولى فهو شرط في الثانية، فلابد من تحقق هذه الشروط مجتمعة في الشهادة الأولى والشهادة الثانية.
وفي الحديث الضعيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، أي: حتى تكون مشيئتك وإرادتك وإقبالك نابع من محبة الله عز وجل ومشيئته عز وجل الشرعية، وهذا الحديث ضعيف على مذهب جمهور المحدثين.
والذي أتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو خبر السماء عن الله عز وجل، والأمر بما يحبه الله تعالى ويرضاه، والنهي عما يكرهه ويأباه، فإذا امتثل العبد ما أمره الله تعالى به واجتنب ما نهى الله عنه وإن كان ذلك مخالفاً لهواه كان مؤمناً حقاً، فكيف إذا كان لا يهوى العبد سوى ما كان في طاعة الله عز وجل وفي طاعة رسوله، لا شك أن إيمانه أكمل وأصح من إيمان من سبقه في هذه الحالة.
وفي الحديث: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). قال ابن عباس رضي الله عنهما: من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. وقد أصبح غالب مؤاخاة الناس في يومنا هذا في أمور تتعلق بالدنيا، وليس بالله عز وجل ولا برسوله صلى الله عليه وسلم ولا بدينه، ولا بالحب في الله ولا البغض فيه، وإنما هي مصالح دنيوية.
وقال الحسن البصري وغيره من السلف: ادعى قوم محبة الله عز وجل فابتلاهم الله تعالى بهذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31]، الآية.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى -أي: إلا من رفض أن يدخل الجنة- قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني دخل النار، أو قال: ومن عصاني فقد أبى)، يعني: دخل النار.
وفي الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً، فقالوا: إن مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة -أي: جعل فيها مائدة عظيمة - وبعث داعياً -أي: يدعو الناس إليها- فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقالوا: الدار هي الجنة، والداعي هو محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمداً صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس)، أي: فرق الله تعالى به بين معسكر أهل الإيمان ومعسكر أهل الكفر والضلال.
ومن هنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تتم محبة الله إلا بمحبة نبيه، وإذا علم أنه لا تتم محبة الله عز وجل إلا بمحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فليعلم أنه لا طريق إلى معرفة ما يحبه الله تعالى إلا من طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بالائتمار بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، فمحبته مستلزمة لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصديقه ومتابعته، ولهذا قرن محبته - أي: محبة الله عز وجل له - بمحبة رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كقوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، وغير ذلك من الآيات.
وجناحان لا ينفكان: إخلاص لله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تحليق بواحد منهما، قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، ولما سئل الفضيل بن عياض عليه رحمة الله عن هذه الآية قال: لا يكون العمل مقبولاً إلا إذا جمع العبد بين الإخلاص وبين المتابعة، هذا إحسان العمل، فمن عمل بدونهما فهو من المنقطعين الهالكين، ومن عمل بهما وقال لم ترد قولته، ومن تكلم بهما علت على الخصوم كلمته، فهما روح الأعمال ومحك الأحوال، وفي أيام الفتن لا يثبت إلا أصحابهما المخلصون العاملون المتبعون، ويشرفون بنصر الله وتمكينه لهم في الأرض؛ ليجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، ووالله ما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الصادق الصالح الثابت.
فانصب وجهك لله، واملأ قلبك بحب الله وخشيته، واجعل همك مرضاة الله تعالى لا مرضاة عباده، فإنك إن فعلت ذلك كفاك الله مئونة الخلق.
لا لك الدنيا ولا أنت لها فاجعل الهمين هماً واحداً
إني لأربأ بك واربأ بنفسك أيها الأخ المسلم! أن ترى في المسجد مصلياً خاشعاً ثم ترى في السوق مرابياً، أو ترى في البيت والشارع والمنتدى غير محكم لشرع الله في نفسك أو أهلك أو ولدك أو من تعول، وكيف يليق بك أن تنظم الحياة من حولك ثم تترك الفوضى في قلبك.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان والخفافيش.
فكيف يصنع من أقصاه خالقه لا ليس ينفعه طب الأطباء
من غص داوى بشرب الماء غصته فكيف يصنع من قد غص بالماء
إن الفيصل استقامة السر، فمتى استقام باطنك - أيها الأخ! - استقامت لك الأمور، وصدق عندها الفعل والقول في العلانية والسر، والمشهد المغيب، فإذا أنت بسام بالنهار بكاء بالليل، كاللؤلؤة أينما كانت فحسنها معها، وكسبيكة الذهب إن نفخت عليها النار احمرت، وإن وزنتها لم تنقص، ولسان الحال يقول: دع الذي يفنى لما هو باقٍ.
يا طالب العلم! إني أعوذك بالله أن تكون في عينيك عظيماً وعند الله وضيعاً حقيراً، وأن تتزين بما ليس فيك، ثم أعيذك أخرى أن تجمع الإخلاص مع حب المدح والثناء، فإنهما ضدان لا يجتمعان أبداً، يقول ابن القيم عليه رحمة الله: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء، قلت -والقائل هنا هو ابن القيم ، وأما نحن فلا ينبغي لنا أن ننصح في هذا، ففاقد الشيء لا يعطيه، فنحن نشكو مما تشكون منه-: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك اليقيني أنه ما من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله تعالى خزائنه، فإذا كان كل شيء خزائنه بيد الله عز وجل فعلام الطمع فيما في أيدي الناس؟
وصدق ابن القيم رحمه الله، فالقناعة بما يكفي وترك التطلع إلى الفضول هو أصل الأصول، والعز ألذ من كل لذة، وهل عز أعز من القناعة؟
ولما دخل أحدهم البصرة، قال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري ، قال: بم ساد على هؤلاء القوم؟ أو بم ساد أهل البصرة؟ قالوا: احتجنا إلى دينه واستغنى عن دنيانا.
مر الحياة لمن يريد فلاحاً حلو ويفلح من يريد فلاحاً
وأما الزهد في الثناء فيسهله عليك علمك أن أحداً لا ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله عز وجل، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وذم من لا يشينك ذمه، وارغب فيمن كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فإذا فقدتهما كنت كمن يريد السفر بلا دابة.
يقول مالك بن دينار : إن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً كما يبدو نبات النخلة، أي: ينبت في القلب نباتاً ضعيفاً، كما يبدو نبات النخلة، فهي تبدو غصناً واحداً؛ فيسقى فينتشر، ثم يسقى فينتشر، حتى يكون لها أصل أصيل عظيم يوطأ، وظل يستظل به، وثمرة يؤكل منها، كذلك الصدق مع الله عز وجل يَنبت في القلب ضعيفاً أولاً، ويتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى، حتى يجعله الله تعالى بركة على نفسه، فيكون كلامه دواء للخاطئين، ويحيي الله تعالى به الفئام من الناس، وربما صاحبه لا يعلم بذلك.
ويروى أن قاصاً كان بقرب محمد بن واسع عليه رحمة الله تبارك وتعالى يقول: ما لي أرى القلوب لا تخشع والعيون لا تدمع والجلود لا تقشعر؟ فقال ابن واسع : ما أرى القوم أوتوا إلا من قبلك، ما أرى القوم بمثل ما تنقصتهم به إلا من قبلك؛ إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب، فإن أقواماً تحيا القلوب بذكرهم ناهيك عن كلامهم، وإن أقواماً أحياء تقسو القلوب بذكرهم بل قد تموت، وناهيك عن كلامهم، وكم من كلمات ولدت ميتة، ومن ثم جعلت هباء مع أصحابها لتكون من أصحاب القبور، وكم من كلمات ولدت حية وبقيت فيها الحياة مع حياة أصحابها وبعد مماتهم، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها
الأذن سامعـة والعيـن دامعة والروح خاشعـة والقلب يهـواها
والسر هو وجود الإخلاص، والصدق يمنح الحياة روحاً فتبقى بها الحياة أبداً سرمداً، وإذا انعدم الصدق والإخلاص أو اضمحلا فإن الكلمات لا تهز أحياء ولا تنفع موتى، نوح مستأجر بلا روح، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
لا يعرف الشوق من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
أخي طالب العلم! اطلب العلم وكن صحيحاً سليماً في سرك تكن فصيحاً في علانيتك، فإنما صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومن صفا صفي له، ومن خَلص خُلص عليه، وإنما يكال للعبد كما كال، ومن صحت بدايته صحت نهايته.
والإخلاص لا يعني الانقطاع عن العمل خشية الرياء كما يفهم البعض، ولكن الإخلاص أن تعرف لله قدره، فلا تصرف العمل إلا له وحده لا شريك له، وبعد ذلك اعلم أن ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما، وعلامة الإخلاص أن تكون في الخلوة كالجلوة، بل خير من ذلك، ضحك في الملأ وبكاء في الخلاء، فاعقد مع الله عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب على صلاح النية والاتباع، وانو الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، وعامل الله فما خاب من عامله، واتق الله واقصد من ينفعك حفظه، ولا تتشاغل بمدح من لا ينفعك مدحه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم على نبينا محمد.
الجواب: هذا فيه تفصيل، فإن كانت السرقة بإهمال منك وتفريط فلا شك أنك ضامن لها، وإن أحرزتها وحفظتها ثم تسللت إليها الأيدي العابثة رغماً عنك فلا ضمان عليك، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضمان على مؤتمن). وفي حديث: (من أودع وديعة فلا ضمان عليه). وهذا محمول على أنه حافظ عليها ولم يفرط فيها، وأما حديث أنس : أن عمر بن الخطاب استودعه وديعة فسرقت هذه الوديعة من بين مال أنس فغرمه عمر بن الخطاب ثمنها فمحمول على أن أنساً رضي الله عنه فرط في حفظها وصيانتها. والله تعالى أعلم.
الجواب: العلماء في كل مساجد السنة يقولون: إن المجتمع ليس كافراً؛ وإن حكم بأحكام الكفر، ولا أرى إلا أن هذا بوابة إلى التكفير.
الجواب: هذا في الكفر الأصلي لا الكفر المختلف فيه.
الجواب: هذا حديث موضوع، لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة.
الجواب: لا تعارض؛ لأن معية الله تعالى لخلقه إنما هي معية علم وسمع وإحاطة وبصر.
الجواب: إطلاق لفظ الكفر لا يعني الخروج من الملة إلا بالنظر إلى الفعل وإلى الفاعل كذلك، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، لا يعني أن من حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً أو بغير الله عز وجل أنه كافر وخارج عن ملة الإسلام، فهذا كفر دون كفر، فإطلاق الكفر من الشارع لا يعني أنه المخرج من الملة، فربما يكون كفراً دون كفر.
الجواب: لا تعارض بين ما قررناه وبين قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ .
قال ابن مسعود : بيده، أي: واغلظ على المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فلتكفهر في وجوه المنافقين.
وقال ابن عباس : أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وذهاب الرفق عنهم.
وقال مجاهد : مجاهدة المنافقين بالكلام، وكذا قال قتادة والربيع ومقاتل، ولا منافاة بين هذه الأقوال؛ لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا حسب الأحوال.
وقال ابن جرير : إذا أظهروا النفاق جاهدهم بالسيف، وهذا شرط، وأما إذا كانوا مستورين فيتعامل معهم كما تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: الشيخ محمود أمين لم يبذل جهداً في هذا الكتاب، والذي بذل جهداً فعلاً في انتقاء هذه الأحاديث القدسية أخونا عصام الصابطي صاحب كتاب مجموعة الأحاديث القدسية، وهو في ثلاثة مجلدات، طبعة مؤسسة الريان، وهناك أيضاً كتاب صحيح الأحاديث القدسية لأخينا الشيخ مصطفى العدوي ، وهناك غيرهما من الكتب، فبإمكانك أن تقتني هذه الكتب وتستعين بها في طلبك للعلم.
الجواب: هذا الحديث صحيح، وهو متفق عليه بين البخاري ومسلم .
والمقصود بسوء القضاء سوء المقضي لا سوء القضاء نفسه؛ لأنه ما من قضاء يقضيه الله عز وجل إلا وهو حسن كله، وخيره كله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر