الركن الأول: العلم. وهو: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، ويعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأنه سبحانه وتعالى يعلم أفعال العباد وما هم عاملون قبل أن يخلقهم سبحانه وتعالى، وهذا الركن تدل عليه عشرات النصوص من القرآن والسنة التي فيها إثبات علم الله سبحانه وتعالى الشامل لكل شيء.
والركن الثاني: الكتابة. وهي: أن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة عندما خلق القلم، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، فكتب القلم مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، وكتبه في اللوح المحفوظ).
وركن الكتابة يدل عليه كثير من النصوص؛ وأما الأدلة من الحديث فمنها: هذا الحديث، وهو في صحيح البخاري .
والركن الثالث: المشيئة. وهي: الإيمان بمشيئة الله سبحانه وتعالى الشاملة العامة لكل شيء، وأنه لا يمكن أن يكون شيء في خلق الله عز وجل إذا كان الله عز وجل لم يرده، ولم يشئه سبحانه وتعالى.
والركن الرابع: الخلق. وهو: أن الله عز وجل خلق أفعال العباد، فأفعال العباد من الخير والشر، والحسن والقبيح، والطاعة والمعصية، مخلوقة لله سبحانه وتعالى، والعبد لا يخلق فعل نفسه، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، فكل ما يعمله العباد هو من خلق الله سبحانه وتعالى.
وهذا حديث صحيح، رواه الإمام أحمد في مسنده، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
وثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) وهذا الحديث رواه الآجري رحمه الله في (الشريعة)، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وابن بطة في (الإبانة)، ورواه أبو داود والحاكم ، وهو حديث حسن، وقد حسنه الحافظ ابن حجر رحمه الله بمجموع طرقه، وحسنه كذلك الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في (ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة) لـابن أبي عاصم .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن وجود هذه الطائفة التي تنكر القدر، وسماهم: القدرية. وسماهم أيضاً: مجوس هذه الأمة، وأمر بهجرهم فقال: (إذا مرضوا فلا تعودوهم، وإذا ماتوا فلا تشهدوهم)، يعني: لا تشهدوا الصلاة عليهم، ولا تشيعوهم.
وهذا يدل على خطورة هذه الفرقة، ويدل على خطورة الانحراف في القدر، ويدل على الأمر بهجر المبتدع، وخطورة التساهل معهم.
ونشأت هذه الفرقة أول ما نشأت على يد رجل نصراني أعلن أنه مسلم ثم عاد وتنصر مرةً أخرى، وهو: سوسن النصراني .
وعن سوسن النصراني هذا أخذ رجل من أهل البصرة يقال له: معبد الجهني ، وعن معبد الجهني أخذها غيلان الدمشقي ، ثم انتشرت بعد ذلك.
يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله تعال: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن . وقد كان في البصرة، وكان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد . وهذا ثابت عن الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى.
ويرجح بعض العلماء: أن مصدر القدرية ليس النصارى -كما قال الإمام الأوزاعي - ويرى أنها فكرة نشأت عند بعض العراقيين، ثم قالوا بالقدر بعد ذلك.
والحقيقة: أنه ليس هناك تعارض بين هذين القولين؛ فإن القول بأن القدرية نشأت من سوسن النصراني ثابت عن الإمام الأوزاعي ، ولا يمنع هذا من وجود أشخاص عظموا الكلام في المعاصي إلى درجة إنكار أن تكون هذه المعاصي من قدر الله عز وجل.
وفي رواية: لو أنفقوا مثل جبال الأرض ذهباً لا يتقبلها الله منهم حتى يؤمنوا بالقدر.
وهذا يدل على إنكار الصحابة رضوان الله عليهم لهذه المقالة الفاسدة الخبيثة.
وكذلك أنكر هذه المقالة الفاسدة من الصحابة: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد ثبت أن طاوساً رحمه الله -وهو من التابعين- كان هو وأبو الزبير في المطاف فرأيا معبداً الجهني ، فكلمه طاوس وأنكر عليه، وتكلم عليه بشدة، ثم اتجه إلى ابن عباس وأخبره بذلك، فقال وقد عمي: أمسكوني إياه أو بهذا المعنى، فقيل له: وماذا تفعل؟ قال: لئن أخذت برأسه لأدقن عنقه. وهذا يدل على شدة الإنكار من ابن عباس رضي الله عنه.
ومن الصحابة الذين كانوا في تلك الفترة وأنكروا هذه البدعة: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وواثلة بن الأسقع ، وغيرهما، وكلهم أنكروا هذه البدعة المنحرفة الضالة.
وقد انتشرت هذه الفكرة في البصرة وفي العراق بشكل عام، وفي بلاد الشام والحجاز، وكانت قليلة جداً في الحجاز، وكان المعتنقون لهذه الفكرة والعقيدة في بدايتها عبارة عن أفراد فقط، وكان عموم الأمة على منهج السلف رضوان الله عليهم.
وقد ورد في كتب الرجال مثل: (ميزان الاعتدال)، و(تهذيب الكمال)، و(تهذيب التهذيب)، وغيرها عن مجموعة من التابعين أنهم رموا بالقدر، ومنهم: أبو سعيد الحسن البصري رحمه الله تعالى، ومنهم: مكحول ، وهو من التابعين ولم يثبت ذلك عنهما، وهو باطل عليهما.
يقول الأوزاعي رحمه الله تعالى: لم يبلغنا أن أحداً من التابعين تكلم في القدر إلا الحسن ومكحولاً فكشفنا عن ذلك فإذا هو باطل. وهذا النص نقله الذهبي رحمه الله تعالى في (ميزان الاعتدال).
النوع الأول: لم تثبت عنهم هذه المقالة الفاسدة، وإنما هي كذب وافتراء عليهم، ومنهم: الحسن البصري، ومكحول رحمهما الله تعالى.
وقد ذكرنا أن الحسن البصري بدع معبداً وقال: هو ضال مضل.
النوع الثاني: من كان منهم ينهى عن المعاصي، وكان قوياً وشديداً في النهي عنهما، وكان متعبداً من الزهاد، فظن الناس أنه ينكر أن تكون هذه المعاصي بقدر الله عز وجل؛ لشدته في إنكار هذه المعاصي، فنسب إلى القدر وهو لم يقل به، ومنهم: ابن أبي ذئب رحمه الله عالم المدينة وقرين الإمام مالك بن أنس رحمهما الله أجمعين.
فقد ورد عن أبي عبد الله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قال: إذا قيل: إن ابن أبي ذئب قدري، فيقال: ما كان قدرياً، إنما كان ينكر على الناس الذنوب والمعاصي فنسب إلى القدر.
النوع الثالث: من كان فيه عبادة وزهد وتقوى لله سبحانه وتعالى، ولكنه أخطأ في فهم القدر فوقع في زلة من الزلات، ومنهم: قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى وغفر له.
وهذا النوع ليس مثل معبد الجهني وغيلان الدمشقي وغيرهما من هذه الفرقة، وقد كان قتادة عالماً من أئمة الدين وعلماء المسلمين، الصادقين في دعوتهم، المخلصين فيما يقولون ويعملون، ولكنه وقع في زلة وخطأ، وهذا من الأخطاء التي لا يتابع عليها العالم، ولا نقول: إنه مبتدع، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلمة رائعة في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) إذ يقول: المجتهد لا نعصمه ولا نؤثمه. فقوله: لا نعصمه أي: لا نعتقد أنه معصوم فنتابعه في زلاته وأخطائه، وقوله: ولا نؤثمه أي: لا نتكلم عليه ونسبه ونعتقد أنه آثم، وإنما نقول: اجتهد فأخطأ.
ولكن معبداً ليس حاله كحال هؤلاء، فهو ليس إماماً من أئمة السنة، وكذلك غيلان الدمشقي ، وغيرهم من أئمة البدع ليسوا من أئمة السنة، وليس لهم قدم راسخة في العلم، وإنما كانوا جهالاً أخذوا إما من النصارى، أو من اليهود، كما هو حال بعض السبئية. فمثل هؤلاء لا يعذرون لا من قريب ولا من بعيد، كـالجهم بن صفوان ومعبد الجهني فقد هجرهما السلف وتكلموا عليهما كلاماً شديداً.
وأما غيلان الدمشقي فإنه التقى بـعمر بن عبد العزيز ، وقد كانت لـعمر بن عبد العزيز جهود عظيمة في مناظرة أهل البدع ومحاولة إقناعهم، وقد حاول إقناع الخوارج، وإقناع غيلان الدمشقي ، وأقنعه بالفعل وأفحمه وأسكته وجعله عنده في دمشق، ولكن غيلان الدمشقي بعد وفاة عمر بن عبد العزيز عاد مرةً أخرى للدعوة إلى إنكار القدر، فأخذه هشام بن عبد الملك فقطع يده فاجتمع الذباب عليها فجاءه رجل فقال له: هل هذا بقدر الله؟ قال: لا، ليس هذا من قدر الله، فأخذه هشام فقتله وصلبه، وقصته معروفة. ولـمعبد الجهني وغيلان الدمشقي ترجمة في (تهذيب التهذيب)، و(ميزان الاعتدال)، و(سير أعلام النبلاء).
والطائفة الثانية: القدرية المشركية.
والطائفة الثالثة: القدرية الإبليسية.
ومن جهة أخرى قالوا: إن الشرع أمر ونهى، ورتبوا الثواب والعقاب على الأمر والنهي، ولا يمكن أن يكون هناك تقدير سابق للإنسان؛ لأنه لو كان هناك تقدير سابق للإنسان لكان في هذا ظلم له، وحينئذ أنكروا القدر وقالوا: ليس هناك قدر؛ لأنهم إما توقفوا في مفترق طرق: فإما أن ينكروا القدر، وهذا الذي حصل منهم، وإما أن ينكروا الأمر والنهي، فيلزمهم من هذا تكذيب الرسل وإنكار الشرائع، ويلزم من هذا لوازم كثيرة جداً، فأثبتوا الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وأنكروا القدر.
الإرادة الأولى: هي الإرادة الكونية: وهي التي نتج عنها كل المخلوقات بحسنها وقبيحها، وخيرها وشرها، وطيبها وخبيثها، فجميع الأشياء مخلوقة بإرادة الله سبحانه وتعالى العامة، ولا يمكن أن يوجد في خلق الله عز وجل شيء لم يرده الله سبحانه وتعالى.
والإرادة الثانية: هي الإرادة الشرعية: وهي التي نتج عنها الأمر والنهي، والثواب والعقاب، ونتج عنها الوعد بالثواب، والوعيد بالعقاب، وهذه الإرادة إما أن تقع كما هو الحال في المؤمن الطائع، وإما ألا تقع.
ولاشك أن هذا فهم سقيم لأصول الدين ولحقيقة القدر، فالله عز وجل لم يجبر أحداً فيما أمر به ونهى عنه، والإنسان يشعر بهذا في حياته العملية فهو إن شاء فعل، وإن شاء ترك، وإنما الله عز وجل قبل أن يخلق المخلوقات علم ما هم عاملون، وكتب ما علمه سبحانه وتعالى، وأراد الخير والشر للابتلاء، ولهذا لابد من الإيمان بالقدر بهذه الصورة، وهي: أن نجمع بين هذين الأمرين: فنؤمن بالقدر السابق، وأن الله علم ما سنعمله قبل أن نعمله وأنه كتب ذلك، ونؤمن بأننا لا يمكن أن نفعل هذا الاختيار وهذا العمل إلا إذا مكننا الله منه بخلقه سبحانه وتعالى للفعل فينا، وحينئذ نكون قد آمنا بالقدر بشكله الصحيح، وحققنا جميع أركان القدر في هذا الإيمان.
فليس هناك تعارض بين قدر الله السابق وبين الفعل الذي نفعله، فنحن مختارون نستطيع أن نعمل الشيء متى شئنا، ونتركه متى شئنا، وقد علم الله سابقاً ما سنعمل؛ لسعة علمه وشموليته سبحانه وتعالى، فلا غرابة في ذلك، وقد كتب ما علم سبحانه وتعالى، ولا يمكن للإنسان أن يعمل عملاً إلا بمشيئة الله وإرادته سبحانه وتعالى، وهو الخالق لأفعالنا جميعاً.
النوع الأول: أنكروا العلم السابق وقالوا: إن الله لا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع، فشبهوا علم الله بعلم المخلوق القاصر، وهو: أنه لا يعلم بالشيء إلا بعد أن يقع وحينئذ يعلم به، وهؤلاء كفرهم السلف رضوان الله عليهم، وقالوا: إن من أنكر العلم كفر، ولهذا سئل الإمام أحمد رحمه الله عن القدرية هل هم كفار؟ قال: هم من المسلمين، فقيل له: ينكرون العلم؟ قال: إذا أنكروا كفروا.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أجابوا -يعني: اعترفوا بأن الله عالم بأعمال العباد قبل أن توجد- خصموا، وإن أنكروا كفروا.
أي: ناظروا القدرية بالعلم فإن اعترفوا وأجابوا خصموا، وإن أنكروا كفروا، فالقدرية الأوائل الذين أنكروا العلم تكلم عليهم السلف، وكفروهم بهذه المقالة الشنيعة.
النوع الثاني من القدرية: وهم الذين رأوا شناعة إنكار علم الله سبحانه وتعالى، ورأوا شناعة إنكار ما أخبر الله سبحانه وتعالى به من الكتابة، وعرفوا أنه كفر، فاكتفوا بإنكار المشيئة والخلق، وقالوا: إن الله عز وجل ليست له مشيئة متعلقة بأفعال العباد، وأفعال العباد ليست مخلوقة لله عز وجل، بل الله يخلق فعل نفسه.
ولما انتهت القدرية الأولى ظهرت المعتزلة، وتبنت مقالة القدرية، فأصبحت القدرية معتزلة، والمعتزلة قدرية.
ولهذا لابد أن ننتبه في مسألة الفرق إلى أمرين:
فإذا قلنا: المعتزلة القدرية، أو قلنا: القدرية المعتزلة فليس في هذا إشكال؛ لأن الأفكار مثل الكائنات الحية، التي تنمو وتتطور قليلاً ثم تتشعب، ولها ظروف في نشأتها وبدايتها، وهكذا الأفكار، بل إن الأفكار أعقد من ناحية تطورها وامتزاجها بالظروف البيئية التي حولها، فهي تتطور وتنتقل من قرن إلى الذي يليه بين فرقة وأخرى، ولهذا قد تبقى أصول الفرقة وينتهي اسمها.
وسنلاحظ عند النظر إلى الواقع أنه لا توجد فرقة بهذا الاسم -القدرية- ولكنها موجودة ضمن فرقة أخرى، أو موجودة في اتجاه من الاتجاهات الأخرى.
إذاً: فقد أصبحت المعتزلة قدرية، وصار من أصول المعتزلة: إنكار القدر، ويسمونه: العدل؛ فهم يرون أن إنكار القدر عدل، ولاشك أنه ليس عدلاً حسب ما تصوروا.
وبعد أن تبنت المعتزلة فكرة القدرية بالصورة التي أشرنا إليها، وهي: أنهم أثبتوا العلم والكتابة، وأنكروا المشيئة والخلق رد عليهم السلف رضوان الله عليهم عموماً في كل أصولهم الاعتقادية.
والمعتزلة في بداية أمرهم لم يصرحوا بأن العبد يخلق فعل نفسه، وإنما قالوا: إن العبد يوجد فعل نفسه، وسموه إيجاداً. ثم لما بعد عهدهم بالسلف صرحوا بالإنكار وقالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه؛ ولهذا ألف البخاري رحمه الله كتاب (خلق أفعال العباد) يعني: أن الله هو الذي خلق أفعال العباد، وليس العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، فإن العبد كله مخلوق، ولهذا صار عند القدرية والمعتزلة شرك في الربوبية؛ لأن الخلق يجب إفراده لله عز وجل، وأن الله هو الخالق وحده وليس معه خالق آخر. وهم جعلوا العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، وقسموا أفعال العباد إلى قسمين:
الأفعال الاضطرارية، وهذه يقولون عنها: هي من خلق الله، مثل: اللون والطول، والسن، والمولد، ونحو ذلك، فهذه كلها من خلق الله عز وجل عندهم.
والأفعال الاختيارية، وهي: الأفعال التي يفعلها الإنسان بمحض مشيئته وإرادته، فيقولون: إن العبد هو الذي يخلقها، ولاشك أن هذا انحراف في توحيد الربوبية، وهو من الشرك؛ فإن الله عز وجل يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]. فحصر الخلق والأمر فيه سبحانه وتعالى، ووجه الحصر في هذه الآية هو: أنه قدم ما حقه التأخير، فأصل الجملة: الخلق والأمر له، فقدم الجار والمجرور لفائدة بلاغية، وهي: إفادة الحصر والقصر والانفراد والاختصاص.
ومن هنا: نعلم أن الله عز وجل هو الخالق وحده لأفعال العبد الاختيارية، وليس العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.
وأما مدى تأثير قدرة العبد في وجود فعله فإن للعبد قدرة وله إرادة، وعندما يعمل أي عمل من الأعمال فلابد له من أمرين:
إرادة جازمة وقدرة عليه.
فإذا وجدت الإرادة الجازمة على فعل العمل والقدرة عليه وقع العمل مباشرةً.
والعبد قدرته مخلوقة لله عز وجل، وما ينتج عنها مخلوق أيضاً لله سبحانه وتعالى، والله عز وجل هو الذي خلق هذه القدرة، وإرادة العبد لها خاصية معينة، وهي: الاختيار والانتقاء، وخاصية قدرة العبد هي: إيجاد العمل مع وجود هذه الإرادة، فهذا الإيجاد ليس فعلاً مستقلاً عن الله عز وجل بالمرة، وإنما هو تابع لله عز وجل؛ لأن الذي خلق القدرة وخلق الإرادة هو الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا يقول العلماء: إن قدرة العبد في إيجاد فعله: هي عبارة عن سبب من الأسباب، مثل: الري، عندما يروي الماء العطشان. فالماء ليس هو الذي يروي وإنما الله عز وجل هو الذي يروي، ولكن الله عز وجل جعل الماء سبباً للري، ومثل: التدفي بلحاف قوي، أو بالنار فإنه يمنع الإنسان من البرودة الشديدة في الشتاء البارد، والنار ليست هي التي تأتي بالدفء في حد ذاتها، بمعنى: أنها مستقلة بذلك، وإنما هي سبب خلقها الله بهذه الخاصية؛ ولهذا قد تتأخر هذه المسببات عندما يريد الله عز وجل عدم إنفاذها، فمثلاً: النار من خصائصها: الإحراق، وهكذا خلقها الله عز وجل، ولكن خاصية الإحراق تأخرت عندما ألقي إبراهيم عليه السلام فيها، فقال الله عز وجل: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].
فمع أن خاصيتها الإحراق إلا أن هذه الخاصية سلبها الله عز وجل منها؛ لأنه هو سبحانه وتعالى الذي جعلها سبباً للإحراق، وكذلك السكين: أداة من أدوات القطع، والقطع من خصائصها، وقد سلب الله هذه السكين القطع عندما أراد إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل، -ولم يسلبها عن كل السكاكين، وإنما سلب خاصية هذه السكين المعينة، وهذا يدل على أن الأسباب موجودة وهي واقع يمارسه الإنسان، حتى في القضايا الدينية، فإن الجنة لا يمكن أن يصل الإنسان إليها إلا بطاعة الله وطاعة الرسول، ومحبة الله لا يمكن أن يصل الإنسان إليها إلا بقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك؛ ولهذا لابد من أن يتعامل الإنسان مع هذه الأسباب بدون أن يعتمد عليها، فإذا اعتمد عليها وقع في الشرك، والعياذ بالله، وإذا أنكرها بالمرة؛ فإنه يكون مخرفاً ضالاً.
ومنها أيضاً: (شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل) لـابن القيم ، وأيضاً لـابن تيمية كتاب: (أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، وللأئمة السابقين كتب مفردة في القدر، مثل: (القدر) لـأبي بكر الفريابي ، و(القدر) لـعبد الله بن وهب ، وغيرهما، وأيضاً ردوا على القدرية في ضمن كتب الصحيح: فـ(صحيح البخاري ) فيه كتاب القدر، و(صحيح مسلم ) فيه كتاب القدر، وهكذا بقية كتب أهل العلم.
النوع الأول: الشيعة؛ فإن الشيعة قدرية وينكرون القدر.
والنوع الثاني: الكتاب المتأثرون بالمعتزلة.
وهكذا مثلاً: الدكتور علي سامي النشار في كتابه: (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)، يمدح المعتزلة، ومن ضمن مدحه للمعتزلة: أنه يثني عليهم في أنهم دعوا إلى حرية الإنسانية، وما يلحق ذلك من المدح، وهكذا كثير ممن كتب عن الفكر الفلسفي، وعن الفلسفة الإسلامية -كما يسمونها- يمجد في المعتزلة عدة أمور منها: أنه يقول: إن هؤلاء أصحاب حرية الإرادة الإنسانية، ولاشك أن هذا ضلال وانحراف كما سبق بيانه.
وكثير من الكتاب والصحفيين الذين يكتبون عن قضايا القدر، وعن قضية إرادة الإنسان يتبنون بعض عقائد المعتزلة، خصوصاً: أنهم يرون أن المعتزلة أصحاب فكر حر، يعارض ما يسمونه المنهج التقليدي، فيرون أن السلف الصالح رضوان الله عليهم -كالإمام أحمد ومن قبله من الأئمة مثل: سفيان الثوري ، ومالك بن أنس - أصحاب فكر تقليدي محدود ومحصور، وأنهم نصيين، ليس عندهم إطلاق للفكر ونحو ذلك، ولهذا نجد مثلاً: الدكتور محمد عمارة طبع مجموعة من رسائل المعتزلة في كتاب سماه: (رسائل العدل والتوحيد).
وهذا الدكتور الآن يظهر في الصحف ويطلب في المنتديات على أنه المفكر الإسلامي -كما يصفونه- وهو رجل حليق ليس له لحية ولا شارب، وكان قبل ذلك شيوعياً ثم تاب إلى عقيدة ضالة أخرى، فاتجه من عقيدته الجديدة إلى تراث الفرق الضالة وبدأ ينبشه من جديد، ويثني على المعتزلة وعلى جهودهم، ويثني على دعوتهم بحرية الإرادة، ومع هذا تجد كثيراً من الناس مخدوعين به، ويعتبرونه مفكراً إسلامياً، وهكذا غيره من أصحاب الاتجاه الذي يسمونه: الاتجاه المستنير، حسب زعمهم، ويتهمون السلف رضوان الله عليهم بأنهم نصيون، وأنهم لا يعملون عقولهم في النص، وأنهم جبروا الإنسان على فعل نفسه، ونحو ذلك من الاتهامات الباطلة، ويمدحون المعتزلة من جهة أخرى.
والدكتور محمد عمارة طبع كتاباً في مجلد بعنوان (رسائل العدل والتوحيد)، وقد أخذها من كتب للجاحظ ، وكتب للأئمة المعتزلة وطبعها، والعدل عندهم يعني: إنكار القدر. والتوحيد يعني: إنكار الصفات، فهم يقولون: نثبت العدل لله، ومعنى العدل عندهم: أنهم يجعلون الإنسان حراً يخلق فعله، وأن الله لم يقدر الأقدار السابقة، والتوحيد عندهم معناه: تجريد الله من جميع الصفات، وإنكار الصفات كلها، وهذا من الضلال والانحراف المخالف لمنهج القرآن والسنة.
وقد سميت القدرية بالمجوسية، أخذاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة)؛ لأن المجوس ألهوا إلهين: الإله الأول: إله النور، وهو الذي يخلق الخير.
والإله الثاني: هو إله الظلمة، وهو الذي يخلق الشر، فجعلوا مع الإله إلهاً آخر يخلق الشر. وقد أرادوا تنزيه الإله عن خلق الشر، فأوجدوا للشر إلهاً آخر غير الإله الذي يخلق الخير، وهو الله عز وجل، وهكذا القدرية فإنهم قالوا: إن الله عز وجل أراد الخير وخلقه، وأما الشر فهو من إرادة الإنسان ومن إنشائه وفعله، فهو خالق لفعل نفسه كما يقولون، فهم مجوس هذه الأمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
والطائفتان متقاربتان إلى حد كبير.
أما القدرية المشركية: فهم الذين شابهوا المشركين، فإن المشركين احتجوا بالقدر، كما قال الله عز وجل عنهم: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148]، فهم ينسبون شركهم إلى الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فهم يقولون: لو شاء الله ما أشركنا، وشركنا هذا شاءه الله بمعنى: أحبه، فلا يعرفون من المشيئة إلا المحبة؛ ولهذا سمي القدرية الذين يثبتون القدر وينكرون الأمر والنهي: مشركية، أو القدرية الشركية، نسبة إلى المشركين الذين احتجوا بالقدر.
وأول هؤلاء القدرية هو: جهم بن صفوان الذي قال: إن العبد مجبور على فعله، وأنه مثل الريشة في مهب الريح، تسيره الأقدار وليست له إرادة، ولا أي عمل من الأعمال، وهذا باطل من حيث الواقع؛ فالإنسان يشعر أنه مختار ويستطيع أن يختار الشيء الذي يريده، وهو باطل من حيث إخبار الشرع بذلك؛ فإن الله عز وجل أمر العباد ونهاهم ورتب الثواب والعقاب على اختيارهم، قال الله عز وجل: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152].
والإرادة: هي الاختيار المحض من العبد نفسه، وهم يقولون: إن العبد مجبور على فعله، فهذه مقالة باطلة وانحراف كبير، وهذه الطائفة أشد ضلالاً من الطائفة الأولى؛ لأن الطائفة الأولى أنكرت القدر وهم ضالين في هذا، وأما الطائفة الثانية فإنهم أشد ضلالاً منهم؛ حيث أنهم عطلوا الأمر والنهي وعطلوا الشرائع وعطلوا الرسل والكتب، وعطلوا الثواب والعقاب والجنة والنار، وما يلحق بذلك، وهم وإن لم يقولوا بتعطيلها صراحة إلا أن هذه لوازم لهذه العقيدة الباطلة التي تبنوها، والقدرية الشركية ليسوا على درجة واحدة وإنما هم طوائف:
الطائفة الأولى: طائفة الغلاة، وهم: قدرية الجهمية، أتباع جهم بن صفوان ، الذي قال: إن الإنسان مثل الريشة في مهب الريح، وأنه ليس له أي اختيار بالمرة، وهذا لاشك أنه كفر، ولهذا كفر السلف الصالح رضوان الله عليهم الجهمية.
حتى قال ابن المبارك : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجهمية.
وسئل كثير من السلف: هل الجهمية يدخلون في حديث الافتراق أم لا؟ فقالوا: الجهمية ليست فرق الأمة، وقد كفر السلف الجهمية بمقالات متعددة.
الطائفة الثانية: جبرية الأشاعرة، فإن الأشاعرة في موضوع القدر لهم نظرية معينة تسمى: الكسب، ومؤداها النهائي الجبر، فإنهم يقولون: إن الإنسان كاسب لفعله، وليس فاعلاً له على الحقيقة، ويقولون: إن الإنسان ليست له استطاعة قبل الفعل، وإنما تكون استطاعته حال الفعل حيث يوجدها الله عز وجل فيسمى الإنسان حينئذ فاعلاً لهذا الفعل، وإن كان في الحقيقة ليس فاعلاً له، ويعبر الرازي والتهتازاني من الماتريدية عن نظرية الكسب بقولهما: إن الإنسان مجبور في صورة مختار. يعني: أنه في الشكل الظاهر مختار. وقد وضح أبو منصور البغدادي في كتابه (أصول الدين) مثالاً يقرب فكرة نظرية الكسب، فقال: إن نظرية الكسب بالنسبة لفعل العبد مثل: حجر كبير يحمله رجل قادر على أن يحمله وحده، ويحمله معه صبي صغير، فالصبي الصغير يسمى حاملاً لهذا الحجر؛ لأنه مشترك مع الكبير، مع أن الصبي الصغير لو رفع يده لاستطاع الكبير حمله، وليس لرفع الصغير يده تأثير. ثم يقولون حينئذ: إن الله عز وجل هو الذي خلق فعل العبد في نفسه، وأن العبد إنما سمي فاعلاً؛ لأنه محل الفعل فقط، مثل: الإناء الذي يكون محل الماء، فإنه في الحقيقة ليس عنده قدرة على اختيار العمل الذي يريده، وهذا -كما نلاحظ- موافق لعقيدة الجبرية الذين ينكرون الأمر والنهي، وينكرون اختيار الإنسان وإرادته، والأشاعرة لم يفصحوا بشكل دقيق عن هذه النظرية، ولهذا يقولون:
مما يقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام
أي: أن هذه الثلاثة الأشياء لا يعبرون عنها بتعبير واضح، وإن كان المؤدى من خلال كلامهم واضح، وقد نص الإيجي منهم في كتابه (المواقف) -وكتاب المواقف يدرس إلى الآن في الأزهر- بأن الجبرية طائفتان:
الجبرية الخالصة: وهم الجهمية الأوائل الذين كفرهم السلف.
والجبرية المتوسطة: وهم الأشاعرة. فهذا إمام من أئمة الأشاعرة يثبت أن عقيدة الأشاعرة في القدر هي: عقيدة الجبرية، وهي: نفي اختيار الإنسان؛ ولهذا فإن المفكرين حاولوا أن يبرزوا بأن دور المعتزلة جاء كردة فعل لعقيدة الأشاعرة؛ لأنهم درسوا هذه العقائد فوجدوا أنها توصل إلى أن العبد مجبور على فعل نفسه، والأشاعرة يرددون في كل مكان أنهم هم أهل السنة والجماعة؛ ولهذا فإن هؤلاء الذين عظموا الفلاسفة وعظموا جهود المعتزلة اعتبروا منهج السلف هو نفسه منهج الجبر، والحقيقة: أن منهج السلف لا يقول: بأن العبد مجبور على الفعل، وإنما يثبتونه له اختياراً خلقه الله عز وجل له، وصفة هذا الخلق هو: أن الله خلق له إرادة من خصائصها: الانتقاء، وخلق له قدرة تدفع هذا العمل إلى وجوده في الخارج قبل أن يوجد، فليس هناك جبر للإنسان، وفي نفس الوقت فالله عز وجل هو الذي خلق فعله، وقدرة العبد تؤثر في وجود مقدروها من ناحية أنها سبب من الأسباب، وليست مستقلة على الإطلاق.
الطائفة الثالثة من طوائف القدرية: الصوفية، فإن الصوفية تبنوا عقيدة الجبر.
ومن مجالات انحراف الأمة: الانحراف في مفهوم القدر والتوكل. فإن الصوفية فهموا أن التوكل يقتضي ترك الأعمال، وتبنوا هذه الفكرة ونشروها، وجعلوا من معاني العبودية: التسليم المطلق للقدر، وعدم بذل الأسباب في العمل الصالح أو في مواجهة الأقدار، ولهذا قسم هؤلاء الشريعة أو الدين إلى قسمين:
حقيقة، وشريعة.
وقالوا: إن الحقيقة: هي ما أراده الله أن يكون.
والشريعة: ما أمر به أن يكون.
فمن التزم بما أمر به الله سبحانه وتعالى فهذا من العوام، وأما الذي توصل إلى إنكار القدر، وإنكار الأمر والنهي فقد صار من أصحاب الحقيقة، وتسقط عنه التكاليف إلى آخر ما قالوه من هذا الهراء الباطل.
والقدرية الجبرية لها واقع معاصر، فالجبرية الأشاعرة كتبهم موجودة، وكذلك أشخاصهم، والمعاهد التي يدرسون فيها موجودة في طول البلاد الإسلامية وعرضها، وكتبهم مقررة على الطلاب في المراحل المتوسطة والثانوية والجامعات والدراسات العليا، بل إنه توجد جماعات تتبنى هذه الفكرة -فكرة الجبر- وقد أخذوها من الأشاعرة، مثل: طائفة الأحباش، الذين يوجدون الآن في لبنان، فهم يتبنون عقائد الأشاعرة، وينفون الأمر والنهي، بمعنى: أنهم يقللون من شأن الأمر والنهي؛ لإثباتهم القدر.
وأما الصوفية فلهم أيضاً واقع ملموس موجود من خلال المؤلفات، ومن خلال المراكز والمعاهد والطوائف التي تتبعهم، وأيضاً: من خلال الطرق الصوفية التي تملأ البلدان الإسلامية، والمؤلفات التي توجد وتطبعها المطابع في كل وقت.
الجواب: العبد مسير في أشياء، مثل: ولادته من هذه الأم وهذا الأب، ومثل: لونه وطوله وشكله. فهو في هذه الأشياء مسير لا مخير، فهو لم يخير في أمه وفي أبيه، ولم يخير في طوله وفي قصره، ولم يخير في البلد التي يولد فيها. وهو مخير فيما أمر الله به وما نهى عنه، فيستطيع الفعل ويستطيع الترك؛ ولهذا رتب الله عز وجل الثواب والعقاب على هذا الأمر الذي يعتبر العبد مخيراً فيه، وهو محاسب عليه يوم القيام.
الجواب: عقائد الشيعة الإسماعيلية عقائد كفرية، وهم باطنية، ويكفرهم الروافض القدماء والموجودون الآن في إيران؛ لأنهم يعتقدون أنهم من الغلاة، وهم يعتقدون أن الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك عبارة عن تسمية أشخاص بأسمائهم، فالصلاة علي والحسن والحسين ومحسن وفاطمة فإذا قلتها انتهت الصلوات الخمس.
والصيام هو: أن تكتم أسرارهم، والحج: أن تقصد مشايخهم، وهكذا يؤولون الأركان الإسلامية العملية، ويؤولون أيضاً اعتقادات الإسلام، وينفون البعث والنشور يوم القيامة، ويعتقدون أن العباد لا يبعثون يوم القيامة، ودينهم في الحقيقة وضعه الزنادقة، ولهذا لا يكاد يوجد في دينهم مقالات منضبطة تماماً عند كل طوائفهم، ولكن هذه سمات عامة عندهم، فعقائدهم من وضع الزنادقة، ولا يمكن لشخص أن يأتي بهذه العقائد ويدعي أنه مسلم، إلا إذا كان ضالاً مضلاً على طريقة عبد الله بن أبي بن سلول الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: لعل الحكمة في ذلك: هو أن القدر سر من أسرار الله سبحانه وتعالى، وهو متعلق بصفاته سبحانه وتعالى جميعها، والحاجة ملحة إلى الإيمان فيما لا يفهمه الإنسان حتى يحفظ الإنسان عقيدته.
الجواب: المعتزلة وهم المرحلة الثانية من مراحل القدرية أثبتوا أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما سيكون من أفعال العباد قبل أن يوجدوا، وقد كتب هذه الأشياء عليهم، ولكنهم يقولون: إن الأشياء الموجودة الآن في الكون ليست بمشيئة الله؛ لأن مشيئة الله عندهم هي: ما يحبه الله، والأشياء الموجودة الآن ليست من مشيئة الله؛ لأن فيها الكفر والمعاصي كما يتصورون، وليست أيضاً من خلق الله، بل عندهم العبد هو الذي يخلق فعله؛ لأنه إذا كان الله يخلق فعله فمعنى هذا: أن العبد ملزم بهذا الخلق حسب ما يتصورون، وحينئذ أنكروا المشيئة، وأنكروا الخلق، والصحيح: أن الله عز وجل عالم بكل شيء، ومن ضمن ذلك: أعمال العباد قبل أن يوجدوا، وكتب ذلك عنده سبحانه وتعالى، وقد أراد سبحانه وتعالى وجود الأعمال الصالحة والأعمال السيئة إرادةً كونية عامة، وأمر بالأعمال الصالحة إرادةً شرعية، وخلق للعبد قدرة وإرادة يتكون منهما فعله، وإرادته هي اختياره لأي عمل من الأعمال بدون جبر.
الجواب: يعني: أن الإنسان إذا أراد أن يعمل أي عمل من الأعمال فلابد من أن يريد هذا العمل، ولابد أن تكون له قدرة على أخذه، والأفعال كثيرة جداً، فالصلاة والصيام والقتال وفعل المعاصي جميعاً وكل الأفعال، سواء كانت أفعالاً قلبية، أو بدنية من أفعال الجوارح، يتكون فعلها من وجود إرادة للفعل، وقدرة عليه، فلو لم توجد الإرادة لما وجد الفعل، ولو كان الشخص قادراً عليه.
فلا يقع الفعل إلا بوجود إرادة في النفس وقدرة عند الإنسان عليه حتى يحصل الفعل، هذا هو المقصود.
الجواب: القدرية قالوا: إن هذه الإرادة والقدرة من فعل العبد نفسه، ولا تنسب إلى الله، وقالوا: هذه الإرادة الموجودة الآن على الفعل والقدرة عليه من إيجاد العبد نفسه، وليس لها علاقة بالله لا من قريب ولا من بعيد، فاعتبروا أن العبد يخلق كما أن الله يخلق، ولكن قالوا: إن العبد يخلق فعلاً محدداً، وهو: الأمور الاختيارية التي يريدها، والله يخلق ما يشاء من الأشياء الأخرى، فأشركوا العبد في هذا مع الله في صفة الخلق؛ لأن الخلق صفة من صفاته سبحانه وتعالى، وهم أشركوا معه العبد في الخلق.
الجواب: قلنا: إن العبد له قدرة وإرادة على الفعل، فهذه القدرة ما مدى تأثيرها في وجود الفعل؟ ولنفترض أن الفعل هو أخذ ورقة ولنقسم عليها آلاف الأفعال، فهل القدرة على أخذ الورقة مستقلة عن الله عز وجل وملك للإنسان مائة بالمائة؟ فالقدرية يقولون: هي قدرة مستقلة ويملكها العبد مائة بالمائة، وليست من خلق الله، ويقولون: والإرادة هي إرادة العبد مائة بالمائة، وليست من خلق الله، وحينئذ ينتج عنها الفعل الذي هو من خلق العبد وليس من خلق الله، ومن هنا كان انحراف القدرية عظيماً؛ لأنهم جعلوا ما يفعله العباد من العباد أنفسهم، وهذا خطير جداً؛ لأنهم أشركوا مع الله، فعندهم مثلاً: أنك إذا أخذت هذه الورقة فقد خلقت أنت هذا الأخذ، وصلاتك أنت خلقتها، وذهابك وإيابك أنت خلقته، وصناعاتك وأعمالك أنت خلقتها، وهذا لاشك أنه شرك عظيم، حيث أوجدوا مع الله خالقاً غيره، ويسمون عقيدتهم هذه: العدل، ويعتقدون أن هذا عدل، ويقولون: إنه يجب على الله عز وجل أن يهيئ للعبد الظروف للاهتداء، ويجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد. ويقولون: لا يمكن أن يفعل الإله إلا الأصلح، وكل شيء يرونه من فعل الله يقولون: هذا هو الأصلح للعباد.
على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب
وبعضهم يكتبها على سيارته فما رأيكم فيه؟
الجواب: من الممكن أن يكون لها معنى حق وهو: أن المصائب والأقدار التي تحصل للإنسان قبل أن تحصل له لا يدري متى ستحصل له، وأنه إنما يمشي بتقدير الله عز وجل.
ويمكن أن تحتمل معنى باطلاً وهو: أن العبد مجبور على فعله، ولا يدري عن شيء، وإنما يسير في منظومة جبرية واحدة، فالكلام عام.
الجواب: القدرية لهم وجود في هذا العصر، وأما كيف نتعامل معهم، فإن الإنسان لا ينبغي له أن يناقش أحداً إلا إذا كان عنده علم وقدرة على الإقناع والتأثير، وأما إذا كان الإنسان ليس عنده علم فلا يجوز له أن يناقش أحداً، وإنما يتعلم قبل أن يناقش، ولهذا من أخطار القنوات الفضائية الموجودة الآن: أنها تبث النقاشات بين أشخاص في قضايا اعتقادية حساسة وخطيرة، وينظر إلى هذه المناقشات أشخاص كثيرون في بيوتهم، ولم يدرسوا هذه الأشياء ولم يتعلموها، وقد يتبنى بعض هؤلاء بعض هذه العقائد الضالة المنحرفة من خلال هذه القنوات الفاسدة الضالة.
الجواب: نعم، هناك كتاب الفرق والمذاهب المعاصرة الذي طبعه الندوة العالمية للشباب الإسلامي وهو من أفضل الكتب المختصرة والمنظمة إلى حد كبير.
الجواب: التلفاز بحسب ما يعرض فيه، والواقع الآن: هو أنه يعرض التمثيليات التي توجد فيها النساء الكاسيات العاريات، ويوجد فيه الأغاني التي فيها المعازف، والتي تتحدث عن العشق والغرام. وكل هذه من الأمور المحرمة التي لا يجوز للإنسان أن ينظر إليها، ولا أن يستمع إليها، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يدخله إلى بيته، أو يترك أبناءه يستمعون إليه.
ومن المحرمات الظاهرة فيه: وجود التمثيليات التي تدعوا إلى الحب والعشق والغرام، والتي فيها إثارة للعواطف الجنسية عند الرجال والنساء، بل إن فيها في بعض الأحيان دعوة إلى الزنا بشكل صريح، كالقنوات الفضائية، وأيضاً يوجد في هذه التمثيليات دعوة إلى تمرد الفتاة على والدها، فتجد أنهم يصورون مثلاً: والد الفتاة المسكينة التي يحرمها من العشق، ويحرمها من الحب ويضايقها على أنه قبيح الشكل، وسيء وغبي وملابسه رثة وسيئة، ويصورون الرجل الذي يترك لابنته المجال في الخروج مع الرجال هنا وهناك بأنه رجل منظم، ويلبس ملابس جميلة، وهذه تورث إيحاء عند الناس بأن المجتمع المتحضر الممتاز هو الذي يترك المجال للبنات يخرجن بدون حسيب ولا رقيب، إلى نماذج كثيرة. وفي بعض الأحيان يصورون أن الاهتمام بالحجاب في عصر التقدم والعولمة والحضارة المعاصرة قضية تافهة، وأن الواجب هو ألا تنشغل الفتاة بهذا، وقد يصورون في بعض الأحيان بعض هؤلاء في مشهد مضحك؛ حتى يصورون أن الاهتمام بالحجاب غير لائق. فيأتون بشخص مثلاً: يمشي ويضع على زوجته عباءة وفرشة وأشياء كثيرة جداً، حتى تتغطى المرأة، ويصورونه بشكل مقزز وغير لائق بحيث أن النفس تنفر منه، ويصورون الفتاة الأخرى التي تظهر والطرحة على نصف رأسها وقد كشفت وجهها على أنها متحضرة، وأن هذا هو الذي ينبغي أن تكون عليه النساء في المجتمع، وهذا لا شك أنه دعوة إلى السفور وإلى نزع الحجاب، وهو محرم، ويمكن أن يقرأ في هذا كتاب للشيخ بكر أبو زيد بعنوان (حراسة الفضيلة)، والشيخ بكر أبو زيد أحد أعضاء كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، وكتابه هذا قد طبع مؤخراً وهو موجود في المكتبات، وهذا الكتاب بين فيه -حفظه الله- أهمية الحرص على الفضيلة، وبين بأدلة كثيرة إبطال دعوى المساواة بين المرأة والرجل، وموضوع المساواة بين المرأة والرجل أصبح قضية تكاد تكون مقررة عند كل الناس أن المرأة مثل الرجل، وهذا خطأ، فهي ليست مثله شرعاً ولا طبيعةً أيضاً.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر