إسلام ويب

تفسير سورة غافر [82-85]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد دعا الله تعالى المشركين وغيرهم إلى التفكر في الأرض وفي المخلوقات، والنظر في عاقبة الأمم السابقة، والاتعاظ بما جرى لهم، فقد كان المشركون يمرون على ديار بعض الأمم المعذبة فلم يتعظوا ولم يعتبروا، وذلك يدل على غفلة عقولهم، وقسوة قلوبهم، وغلبة الهوى عليهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ...)

    قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر:82].

    هؤلاء الذين ينكرون قدرة الله وإرادته ووحدانيته من قبل ومن بعد وفي عصرنا سلهم: (أفلم يسيروا في الأرض) ألم يتنقلوا بين القارات والمدائن والقرى فيرون آثار الماضين وقدرتهم في الحضارة، وفي البناء، وفي المال، وفي قوة الأجسام؟ كل ذلك نرى أثره في الأرض، وطالما شاهدنا صخوراً ضخمة فنتساءل: كيف قطعت؟ وكيف نقلت من أماكنها وهي بعيدة في أرض ما؟ وكيف وضعت حجراً على حجر؟ وكيف بقيت وعاشت على القرون؟ وتلك الموميات بأي شيء حفظت حتى بقيت كل هذه القرون؟ وأحد هذه الموميات هو فرعون موسى الذي أبقاه الله لمن بعده آية، فقد ادعى الألوهية، وقالوا: لن يموت الإله، فأبقاه الله بجسده؛ لكي يكون لمن خلفه آية، وبقيت موميات الفراعنة المتألهين عظة وعبرة لكل طاغ متجبر متكبر على الله ممن هلك وممن لم يهلك وهو على سيرة فرعون كذلك.

    وهذه الحفريات والآثار يجدون فيها ما بين كل مرة وأخرى جثثاً وهياكل عظمية في الطول والعرض، كما وصف الله قوة أجسام عاد وأمم سابقة، أفلا نأخذ العظة والعبرة والدروس من آثارهم التي نراها في حفريات الأرض ونحن نقطع المشارق والمغارب، ونتنقل بين القارات؟

    أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا[غافر:82] نظر العين والبصيرة، كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[غافر:82] أي: كيف كانت عاقبتهم؟ فقد كانت دماراً وهلاكاً ووبالاً.

    كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ[غافر:82] أي: كانوا أكثر عدداً، وأكثر شعوباً، وإذا عددنا اليوم: فالهند نجدهم سبعمائة أو ثمانمائة مليون، فهم كانوا ملياراً، فلم تفدهم تلك الكثرة، ولم تمنعهم من عقاب الله وانتقامه ومن صواعق الله من السماء وزلازله من الأرض.

    فالذين كانوا من قبلهم كانوا أشد قوة في سلطانهم وفي سلاحهم وفي حضارتهم، وفي قصورهم وفي آثارهم، وقد قالوا: إن أمريكا اكتشفت منذ خمسمائة عام، وقد اكتشفها العرب الأندلسيون، وقد وجدوا فيها آثاراً للعرب بحروف العرب وكلام العرب، ووجدوا آثاراً لحضارة العرب، وهم كانوا يظنون أن أمريكا كانت قارة مجهولة قبل، ولم يكونوا يعرفون تاريخ البشرية منذ عشرة آلاف عام إلا عن طرق الكتب السماوية، والإنجيل قد بدل وغير وكذلك الزبور والتوراة، ولم يبقَ إلا كتاب الله الذي تعهد الله بحفظه، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك فالآثار التي تكتشف والحفريات التي تعرف وترى تؤكد كل ما قاله القرآن حرفاً حرفا وآية آية، وسورةً سورة.

    وقبل سنتين أو ثلاث كتب فرنسي نصراني كتاباً قارن فيه بين الكتب السماوية: القرآن والتوراة والإنجيل، وقال: كل ما نص عليه القرآن من علوم فلكية وجغرافية وتاريخية وبشرية وإنسانية أكده العلم الواقع، فلم يوجد فيه شيء مخالف للحقائق، وأما تلك الكتب فقد خالفت الحقائق وأتت بالأوهام وبالأكاذيب وبالخرافات، ولقد أتى ذلك ممن زادوا فيها وحرفوها وبدلوها وإلا فهي أيضاً كتب سماوية، ولكن بدلت وغيرت، فقد الله استحفظ عليها رهبانهم وعلماءهم فعجزوا عن ذلك وضلوا وأضلوا.

    فهذا الذي قاله الله تعالى ولفت أنظارنا إلى أن نراه بأعيننا، ونبحث في مختلف بقاع الأرض وقاراتها؛ لنزداد إيماناً برؤيته وبقراءته وسماعه، هو حق لا شك فيه ولا مرية، وقد قال عن النصارى عندما جعلوا الله ثلاثة: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ[التوبة:30] أي: في كذبهم أن الله ثالث ثلاثة، والنصارى لم يخترعوا ذلك، فهم كفروا وأصبحوا وثنيين تقليداً، فهم قلدوا من سبقهم، فقال الله: يُضَاهِئُونَ[التوبة:30] أي: يشبهون من سبقهم.

    وقد كنت مرة في متحف من متاحف النصارى في لبنان فقال لي ذاك المشرف على تلك الآثار والمتاحف: أرأيت هذا الصليب، قلت: رأيت، فقال: مضى عليه آلاف السنين، قلت: كيف؟ أليست النصرانية لم يمضِ عليها أكثر من ألف وتسعمائة سنة وعشرات السنين، قال: لا، قد كان الصليب قبل ذلك بآلاف السنين، قلت: صدق الله: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ[التوبة:30]، فهم في كفرهم مقلدون، وفي وثنيتهم ببغاويون، فدهش من هذا الكلام وكأنه ما سمعه قط، فقال: أصحيح هذا في القرآن؟! قلت: نعم، أنا أقصه عليك وأتلو عليك ما قاله الله في كتابه، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ[غافر:82] أكثر قوة وآثاراً وحضارة وبناء وعمارة ودراسة وكتاباً، ومع ذلك كانت النتيجة فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[غافر:82]، فلم يفلتوا مع ذلك من عقاب الله، فدمروا وأهلكوا، وجاءتهم صواعق من السماء، وزلازل من الأرض وصيحات أسكتتهم في ساعتها، كما قص الله علينا عن قوم نوح وعاد وثمود ولوط، الذين عاقبهم الله بما عاقبهم، فأرسل عليهم الصواعق من السماء ورجفت الأرض بمدائنهم، وأزيلت من مكان البحر الميت ورفعت إلى أن صار يسمع نباح كلابها ونهيق حميرها ملائكة السماء، ثم قلبها الملائكة بأمر الله رأساً على عقب، فذهبوا كأمس الدابر وكأن لم يكونوا، ثم جاء الملاحدة من روسيا وحفروا حفريات هناك وقالوا: القنبلة الذرية كانت معروفة قديماً، نعم الله خالق الذرة والقنبلة وخالق من صنعها، وهم ينكرون هذا فرأوا آثارهم ونسبوها لمن سبقهم، والأرض الميتة هناك تسمى الآن بالبحر الميت، فهو لا ينبت فيه شجر ولا يعيش فيه سمك، وماؤه لو شرب لا يروي، ولا يطبخ به الطعام، وهذا الماء كان أثراً من آثار قوم لوط عندما عاقبهم الله بفعلتهم الشنعاء التي فعلوها ولم يسبقهم إليها أحد من الخلق قبلهم.

    قال تعالى: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[غافر:82] فحضارتهم وقوتهم وشدتهم وكثرتهم لم تغنِ عنهم من عقاب الله شيئاً.

    وهكذا يا قريش ويا عرب ويا عجم ويا روم ويا فرس، ويا من كلفوا وأمروا بدين الإسلام وبطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام! إن كفرتم وكذبتم وأشركتم فستكون عاقبتكم لعاقبة أولئك، وأين أنتم من أولئك قوة وبطشاً وحضارة!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ...)

    قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [غافر:83].

    وتجد المفسرين يتكلمون على القرآن وكأن الله ما أنزله إلا على قرن أو على العرب، وتجدهم يقولون: كانت قريش وكان العرب، بل رأيت مجنوناً يجلس في باب الحرم ويقول: كان العرب فيهم وفيهم ونحن لم يكن فينا شيء، والكفرة اليوم فيهم كل ما كان في كفار الأمس، فمثلاً: الموءودة لا تزال إلى اليوم، ويومياً نقرأ في الصحف والمجلات أن هناك في أمريكاً وأوروبا والهند واليابان من يقتلون أطفالهم بعد ولادتهم، وذلك بعشرات الآلاف من الملايين كل سنة، والعرب لم يعد يفعل أحد منهم هذا، فنسبة هذا للعرب أو للعجم فقط جهل.

    والقرآن كان الكثير من آياته سبب ورودها فلان وفلان، ولكن ذلك السبب لم يكن هو المقصود فقط، بل كان سبباً ومثالاً ونموذجاً لكل كافر موجود الآن، ومن سيكون بعد، ومن سيأتي إلى يوم القيامة، ومثل هذه الآية: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] أي: جاءت رسل الله عباد الله بالبينات الواضحات والأدلة القاطعة على صدق نبوتهم ورسالتهم وحق ما جاءوا به، ففرحوا بعلمهم، وقالوا: نحن العلماء الذين نعرف ولا يعرف المسلمون، وماذا يعرف الذي يعتمد على كتاب سماوي وكتاب ديني؟! فهذه الأشياء دينية لا نتكلم عنها، فهم فرحوا بما عندهم من العلم، وماذا عندهم من العلم؟ تتكلم مع إنسان فيقول لك: أنا فيلسوف، وأنا أستاذ في الجامعة، وماذا يعرف؟ يعرف حشرة، أو طائرة طارت في الجو، أو أن هناك ما يسمى بالهيدروجين والأكسجين، ويورد من هذه الأسماء، ولم يعلم ذلك إلا عندما رأى الطائرة بالجو ولم يعلمها من قبل، وأخذ ذلك من فعل الله وصفاته، وهو ما قاله الله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7] أي: يعلمون ظواهر أشياء ولا يعلمون شيئاً عن بواطنها. ولنتفكر في هذا الجو وما فيه مما يسمونه الأثير أو الهيدروجين أو الأكسجين: من خلق ذلك فيه؟ ومن الذي جعله كذلك لتطير الطائرة؟

    وهم يقولون: إن الأرض محاطة بغلاف من تجاوزه يبقى لا وزن له، ويستطيع أن يطير في الجو، وفي العالم الآن ما يسمى بالأقمار الصناعية، يستخبرون بها، ويجعلون فيها الكثير من الأشياء المدنية والعسكرية، وإذا وصلت إلى هذا المكان ودفعت فيه فإنها تبقى عائمة كعوم الأرض والسماء في الجو، فمن حملها غير الله؟ وهم لا يفكرون في هذا الحال، وإنما يفكرون في تلك الأشياء التي خلقها الخالق، فيفكرون في الأسباب ولا يفكرون في المسبب جل جلاله وعز مقامه.

    قال تعالى: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] أي قالوا: نحن الذين نعلم وندرك وأما أنتم فماذا تعلمون؟ وقد سمعنا من يدعي أنه أعلم من فلان، وأنه من أبناء العلماء، ويقول: ماذا في الفقه والشريعة: كيف أتوضأ وأستنجي وأستجمر؟! وهذا كلام لا يقوله إلا مرتد كافر.

    والقرآن هو كلام الله، وفيه علوم الإسلام، يقول تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، ففيه علم السماء، وعلم الأرض، وعلم جميع العلوم، وعلم الأولين والآخرين، والعلم الذي جهلوه ولا يعلمونه كعلم الخلق والأمر والآخرة، وعلم ما كان وما يكون وما سيكون.

    قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] فقالوا ويقولون: ألا ينبغي أن نغير التفاسير بما يناسب العصر، ويقصدون بالعصر الكفر، وهل اليهودية والنصرانية هي العصر أم نحن؟ والعصر لا يتغير، وإنما نحن الذين نتغير، فالسماء هي السماء منذ كان آدم، والأرض هي الأرض، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، ولكن الإنسان هو الذي يتغير، أنحن عبيد لهذا الإنسان فإذا كفر كفرنا، وإذا تهود تهودنا؟! فما فائدة الرسل إذاً إذا كنا سنتبع كل كافر في عصرنا ونكون إمعة، فإن أصابوا أصبنا، وإن أخطأوا أخطأنا؟ وهذا لا يفعله إنسان له مسكة من العقل والفهم والإدراك.

    قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [غافر:83] أي: نزل بهم وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون، وهزؤهم تكذيبهم بالرسل وبعلوم الإسلام والحق والمعارف، فحاق بهم وأحاط، وأذلهم ودمرهم، وكان سبب هلاكهم وضلال عقولهم وقلوبهم وظلمهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ...)

    قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر:84].

    لما جاء البأس والبلاء والغرغرة بالموت والعذاب ورأوا واقعاً مشهوداً ما كان غيباً أرادوا الإيمان، وقالوا: أمنا بالله وحده، وكفروا بالشركاء؛ كفروا بالثاني والثالث وما كانوا يعبدونه في دار الدنيا، وكفروا بما كانوا يشركون به، فكفروا بعيسى وبـمريم وبالعزير وبالأصنام، ولكن هيهات هيهات، فالآن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل حال حياتها، أو كسبت في إيمانها خيراً، والإيمان عند الغرغرة قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينفع نفساً لم تكن آمنت قبل أن تغرغر).

    فإذا وصلت الروح إلى الحلقوم وأخذ يغرغر ويحشرج بالروح، فهيهات هيهات؛ لأنه في ذلك الوقت يكون قد رأى الملك، ورأى الجنة والنار، وما كان إيماناً بالغيب أصبح يراه شهوداً، وهو أمر أن يؤمن بما أنزله الله في كتابه وفي سنة رسوله، فإن كذب ذلك كان كافراً مشركاً.

    قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:84] أي: عذابنا ونقمتنا وموتنا وقد وصلت الروح إلى الغرغرة والحلقوم، قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر:84].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ...)

    قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:85].

    يقول تعالى جل جلاله: لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:85] أي: لما رأوا البأس والعقاب والدمار لم يكن ينفعهم إيمانهم ولا يقبل منهم، فلا توبة ولا إيمان ولا عمل صالح، ولهذا ليس هناك بعد الموت عمل ولا تكليف ولا طاعة، فالطاعة يجب أن تكون قبل الموت، وكذلك الإيمان والعمل الصالح، وأما بعد وقوع العذاب ووصول الروح إلى الغرغرة فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.

    قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ [غافر:85] وسنته: عادته فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43].

    وعادة الله في خلقه أنه لم يكن يقبل من الأمم السابقة أن تؤمن بعد الموت، ولا أن تؤمن وقد وصلت الروح إلى الحلقوم، ولم يفعل ذلك، والله قص علينا قصة فرعون فقال: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فقال الله له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92]، فلم يقبل الله إيمانه ولا إسلامه، وقال له: هل آمنت الآن وقد أصبح الإيمان شهوداً عياناً، وقد كنت من قبل مفسداً طاغياً متألهاً جباراً؟

    وهكذا سنة الله في الأمم السابقة قبل فرعون وبعده، وإلى اليوم وإلى قيام الساعة، فلابد من الإيمان والإنسان حي، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يحضنا ويحثنا بأن نتدارك حياتنا قبل موتنا، وشبابنا قبل شيخوختنا، وقوتنا قبل ضعفنا، وفراغنا قبل شغلنا، وأما إذا فات الوقت فهيهات، وكما يقول أصحاب الرقائق والآداب والحقائق: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

    قال تعالى: وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:85] (هنالك) أي: يوم القيامة والعرض على الله، وهو يوم لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:158]، ويوم يحاول الكفار أن يؤمنوا ويسلموا وأن يكفروا بشركهم، وبما كانوا يفعلونه في دار الدنيا، وهيهاتَ هيهات أن يقبل ذلك، وهنالك يوم العرض على الله ويوم القيامة ويوم الساعة يخسر الكافرون الذين كفروا بالله رباً واحداً، وكفروا بنبيه عبداً ورسولاً وخاتماً للأنبياء، وكفروا بكتب الله، فلم تنفعهم الدنيا وما عليها ليفتدوا بها، وماذا يصنع الناس بالذهب وبالفضة يوم القيامة؟ فمن هو في الجنة فهو في غنى عنهما، ومن هو في النار لو أخذه لذاب واحترق به، ولأصبح عذاباً من عذابهم، وبهذا نكون -ولله الحمد- قد ختمنا سورة غافر، سورة المؤمن، وهي أول سورة في الحواميم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755937941