إسلام ويب

تفسير سورة سبأ [48-54]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يشتهي الكفار حين يأتي الموت أن يعودوا إلى الدنيا لكي يؤمنوا ويتوبوا، لكن هيهات هيهات، فقد حيل بينهم وبين ذلك، ولن يقبل منهم إيمانهم ولا توبتهم، ولن يعودوا لشهواتهم التي عاشوا عليها ولها في الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يقذف بالحق ...)

    قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [سبأ:48].

    أي: قل يا محمد: إن ربي جل جلاله يقذف بالحق، بمعنى: يرمي بالحق، فيضرب كل داعية للباطل بخسار في الدنيا والآخرة.

    والحق هو القرآن الكريم، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وما كان من الله فهو حق.

    والله جل جلاله يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول لهؤلاء: إن الله يقذف ويرمي باطلكم بالحق وهو الدليل والبرهان واليقين الذي لا شائبة فيه ولا مرية ولا ريبة، فمن جاء بالحق فله الحق، ومن جاء بالباطل فعليه ما على الشيطان وأتباعه من عذابه وسعيره، ومن عذاب دائم في جهنم.

    قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [سبأ:48] أي: أنا عندما أمرتكم بما أمرتكم به لا علم لي بالغيب ولا أحد يعلم الغيب إلا الله وحده المنفرد به، وهذا الغيب هو غيب الله، وهو الذي يعلم كل شيء جل جلاله، فأمرني بتبليغ رسالته وبتبليغ كتابه، وأمرني بأن أدعوكم إلى أن تدعوا الباطل والفواحش كلها، وتتمسكوا بالحق ومحاسن الأمور ومعاليها كلها.

    فالله جل جلاله هو الذي أطلعني من غيبه على ما أطلعني فجعلني نبياً ورسولاً، وأوحى إلي بالحق وهو القرآن الكريم؛ لأدعوكم إليه ولما جاء فيه، وإلا فأنا لا أعلم الغيب من ذاتي، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ...)

    قال تعالى: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49].

    هذه الآية كقوله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81] أي: قل يا محمد لهؤلاء: ما كنتم عليه من ضلالة ووثنية وعبادة للأصنام، ذهب كل ذلك وبطل، وحصحص الحق وبان لكل عقل سليم أن ما كنتم تفعلونه من عبادة للأوثان وشرك بالله؛ كل ذلك باطل وزاهق.

    قد جاء الحق من الله يدعو إلى المحاسن كلها وإلى الطاعات كلها، ويذم عبادة الأوثان والأصنام، ويزيف الباطل ويبطله، وذلك بإرسال محمد هادي الخلق وداعيهم إلى الله، خاتم الرسل والأنبياء، فقد جاءكم بالحق المبين.

    وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ [الإسراء:81] أي: جاء الإسلام وهو حق، وجاء كتاب الله القرآن الكريم وهو حق، جاء محمد عليه الصلاة والسلام وهو حق، فقد جاء الحق بكل أشكاله وأنواعه، جاء كتاباً مقروءاً وجاء رسولاً ناطقاً، وجاء وحياً من الله جل جلاله.

    قوله: وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]:

    الباطل: هو الشيطان، والباطل كل ما أبطله الشرع ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة، والباطل كل ما أنكرته العقول من شرك ووثنية، ومن ظلم وسفك للدماء، ومن فواحش ومن جميع أنواع البلايا والمنكرات.

    فالباطل لا يبدئ ولا يعيد، فلا يستطيع أن يفعل شيئاً ولا أن يبتدئ شيئاً، وإذا ذهب هذا الباطل فليس بإمكانه أن يعيده، فلن يخلق ذبابة ولو اجتمع مع جميع الشياطين، بل إن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.

    والنبي عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة فاتحاً، دخل بيت الله الحرام مطهراً وناشراً للتوحيد، دخل للكعبة ووجدها محاطة بثلاثمائة وستين صنماً، وبيده القوس والعصا، فأخذ يشير إلى كل صنم فيهوي على وجهه، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)؛ ولذلك كما قال مفسرو هذه الآية الكريمة: يستحب للداعية إلى الله إذا رأى باطلاً يزيفه، أو منكراً ينهى عنه أن يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. أي لا يدوم الباطل بحال وهو هالك، ومتى ما ظهر يوماً فالنهاية زواله ودماره والقضاء عليه؛ لأنه لا دليل عليه من عقل سليم ولا من نفس مؤمنة، وإنما هي أوهام وضلالات من وحي الشيطان ومن وحي النزوات والشهوات وليس غير.

    قل يا محمد وقد جئت بما أمرتك به من رسالة هادية ودعوة شاملة لتزييف الأصنام وعبادتها والدعوة إلى عبادة الخالق الرازق خالق الكل ورازق الكل جل جلاله وعز مقامه، فقل لهؤلاء: انتهت أيامكم وزهق باطلكم، والباطل الشيطان الذي تتلون منه أعمالكم لا يستطيع بداءة شيء، وإذا زهق ذلك فلن يستطيع إعادته بحال، والله الخالق المبدئ المعيد لا غيره جل جلاله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي ...)

    قال تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ:50].

    قل لهؤلاء: أتقولون عني قد ضللت، تقولون: عني صبأت، تقولون قد تركت ديانتكم، فإن كان ما تقولونه حقاً، فإنما أضل على نفسي، وهذا لا يتجاوزني ولا يمسكم بحال، ولكن: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50] فالنفوس لا تدعو إلا إلى شر، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53].

    ولو كانت الهداية والرسالة من نفسي لكنت رسولاً من اليوم الذي ولدت فيه، وأنتم تعلمون أني عشت بينكم أربعين عاماً، فما ادعيت نبوءة ولا طلبت رسالة، ولم يخطر لي ذلك ببال، تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ [هود:49] .

    فلم يكن النبي كاتباً وكان أمياً، ولم يكن يعلم ديناً ولم يكن يعلم عن الله شيئاً، ولكن الفطرة تنبذ تلك الأصنام فلم يسجد لها يوماً ولم يعبدها يوماً، ولكنه كان ينتظر، وإلى الأيام الأخيرة من السنة الأربعين أخذ يفكر ويخلو بنفسه في غار حراء، وتقول له نفسه التي فطرت على الخير من أول يوم: أهذا الكون كان بلا مكون؟ أو وجد بغير موجد؟ هذه الأصنام وهي كلها حجارة وجمادات لا تضر ولا تنفع أهي التي خلقتني وخلقت غيري؟ لا يمكن ذلك، ذلك باطل وهراء!

    وهكذا تهيأت نفسه لقبول الحق ودعوة الناس إليه، فجاءه جبريل فعلمه وقال له بعد أن ضمه إليه مرة ومرة ومرة: اقرأ، وهكذا ابتدأ الوحي وتتابع.

    فقوله: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50] إن كان هادياً مهدياً فذلك بسبب هداية ربه له، وبما أنزل عليه من كتاب كريم، وبما أوحى إليه من نبوءة ورسالة، فكانت الهداية من الله، وكانت النبوءة والرسالة من الله، فأنتم الضالون حقاً، وأنتم المبطلون حقاً، وأنتم الذين تعبدون أوثاناً ما أنزل الله بها من سلطان، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.

    قوله: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ:50]، أي: إن ربي يسمع تحاورنا ويسمع كلام كل خلقه، فيسمع كلام الملائكة والجن والإنس، ويسمع من هتف بلا إله إلا الله، ومن هتف بعبادة الأوثان، ويسمع الآن ويعلم تحاورنا، وهو جل جلاله قريب من عباده وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    فربنا سميع لكل شيء وهو أقرب إليكم من حبل الوريد، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاجاً وقائداً لقوافل الحجيج في حجة الوداع، فأخذ الحجيج يرفعون أصواتهم بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربعوا على أنفسكم إن الله سميع قريب) فهو سميع الدعاء قريب ممن دعاه، فلا حاجة إلى رفع الأصوات بما يتجاوز الحد، ولا حاجة لرفع الأصوات لدرجة أن تصل للأصوات المنكرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت ...)

    قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51].

    أي: لو ترى يا محمد ما سيحصل لهؤلاء الذين أنكروا النبوءة والرسالة، وأنكروا قدرة الله وما أنزله من كتب من السماء وأوحى بها إلى رسله.

    وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا [سبأ:51] لو ترى بعينك إذ رعبوا، ولو ترى إذ زلزلوا، ولو ترى ما سيلاقي هؤلاء من هول عظيم.

    ولو ترى هؤلاء في يوم مقداره كألف سنة مما تعدون، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] عيونهم زائغة، وأجسامهم هالكة، يرجون الموت وهيهات فلا موت!

    قوله: فَلا فَوْتَ [سبأ:51] أي: فلا مفر ولا منجاة، ولات حين مناص، وليس الوقت وقت الندم وليس الوقت وقت نجاة، فهؤلاء قد عاشوا عشرات السنين وأنبياؤهم تدعوهم إلى الله فلم يستجيبوا.

    ثم خاتم الأنبياء قد دعاهم ليلاً ونهاراً، لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، كان يدعوهم لكتاب الله القرآن الكريم، ويدعوهم لبيانه البليغ وحكمته وسنته، ثم كان يدعوهم أصحابه، ويدعوهم من جاء بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء، ومع ذلك أبوا إلا الإعراض والصد عن الله، وأبوا إلا الجحود والكفران، فهؤلاء عندما يموتون ثم يبعثون وقد أنكروا الله في حال الحياة لا يستطيعون الفرار من العذاب.

    وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [سبأ:51] أي: لا يفوتوننا ولا يفرون ولا يقدرون على ذلك، ولا منجى لهم من عذاب الله وعقاب الله وحساب الله.

    قوله: وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51]:

    أي: أخذوا أخذ عزيز مقتدر، قال الحسن البصري : يؤخذون بمجرد خروجهم من قبورهم يوم القيامة، يسحبون من أقدامهم سحباً إلى العرض على الله والحساب ثم العقاب، وهم في غاية الفزع الذي تتهاوى له الجبال الصم والكون كله، ولكن هيهات لا فناء بعد ذلك في الآخرة ولا موت.

    وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51] فلن يكونوا بعداء عن يد الله وقدرته، ولو كانوا بعداء فذلك قريب إلى الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد)

    عندما يحدث ذلك وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:52]:

    أي: بعد أن بعثوا وخرجوا من قبورهم للعرض على الله، أخذوا يقولون ما أنكروه في دار الدنيا، وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ [سبأ:52] أي: آمنا بالله، وآمنا برسل الله، وآمنا بكتب الله، وهيهات فقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان، وقد كان الإيمان إيمان غيب.

    فقد خرجوا من دار التكليف ودار الابتلاء إلى الدار التي ليس فيها إلا عذاب الكافرين ونعمة الله للمؤمنين، وما سوى ذلك فالآخرة ليست دار عبادة ولا دار تكليف، وكانوا قد طولبوا في دار الدنيا وهم أحياء بالإيمان بالله صباح مساء، وحيث ذهبوا في أرض الله يجدون من الدعاة إلى الله من يدعوهم للتوحيد، فيأبون إلا الكفران ويصرون على الجحود، وأما الآن فهيهات فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

    وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:52] التناوش: التناول والأخذ، ومنه ناوش جيش جيشاً، وتناوش الخصوم، أي: نال بعضهم من بعض بالسيوف أو أنواع السلاح، أو بالنية، أو حتى باللسان.

    فقوله: وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ [سبأ:52] أي: أنى لهم تناول الإيمان وتعاطيه، مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:52] من الآخرة إلى الدنيا.

    وأين الدنيا؟ ذهبت الدنيا وأصبحت قاعاً صفصفاً، لا وجود لها، فقد فنيت مع ما فني، وكل ما وجد بعد ذلك فهو من خلق جديد.

    وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ [سبأ:52] كيف لهم التناوش؟ وكيف لهم التناول؟ وكيف سيتناولون الإيمان وهم في مكان بعيد؟ بعيدين عن دار الدنيا، وبعيدين عن دار التكليف، وبعيدين عن دعوات الأنبياء والرسل، فبالموت انتهى كل شيء وطويت الصحف، فمن مات على الشرك بقي مشركاً وخلد في النار، ومن مات على الإيمان بقي موحداً وخلد في الجنة، وأما أن يؤمن بعد ذلك فهيهات هيهات.

    وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:52] آمنوا بعد أن رأوا ما كانوا يكفرون به رأي العين، فأخذوا يقولون: آمنا بمحمد رسولاً، وآمنا بالقرآن إماماً، وآمنا بالله واحداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقد كفروا به من قبل ...)

    قال تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:53].

    وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ [سبأ:53] حال كونهم جاءوا للآخرة وهم كافرون برسل ربهم، كافرون بكتاب ربهم، كافرون بكل النبوءات والرسالات، لأن من يكفر برسول واحد فقد كفر بكل الرسل؛ لأن الكفر بالرسول كفر بالوحي، ومن كفر بالوحي كفر بالكل.

    ولذلك فنحن ولله الحمد كما نؤمن بنبينا وهو خاتم الأنبياء نؤمن بمن سبقه من الأنبياء المذكورين في كتاب الله وعددهم أربعة وعشرون نبياً، فقد آمنا بهم تفصيلاً، فآمنا بآدم ونوح وإبراهيم وجميع سلالته من الأنبياء: إسماعيل وإسحاق، ومن بعده يعقوب، وبولده يوسف وبكل سلالته من الأنبياء الذين ذكر الله أسماءهم إلى عيسى وهو آخر أنبياء بني إسرائيل.

    ولكن غيرنا قد كفروا بنبينا، وكفر اليهود بعيسى، وكفر النصارى بمحمد، فكان الجميع كفرة جاحدين، وحرم الله الجنة على الكافرين، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).

    فأولئك الأنبياء لو أدركوا حياة رسول الله لكان واجباً عليهم أن يؤمنوا برسالته ويكونوا من أتباعه، ويكون لهم بذلك الشرف، وعيسى الذي هو خاتم الأنبياء من بني إسرائيل لا يزال حياً في السماء الدنيا، وسينزل إلى الأرض في آخر الزمان على دين محمد صلى الله عليه وسلم، يصلي صلاة المسلمين، ويحج حج المسلمين، ويصلي مؤتماً بإمام المسلمين، ويموت على ذلك؛ ولذلك اعتبر صاحباً من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ [سبأ:53] آمنوا بالآخرة بعد فوات الأوان حين جاءوا كفرة بالله وبكل مقدسات الرسل والأنبياء والكتب، فلم ينفعهم ذلك.

    قوله: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:53] أي: كانوا يقذفون بالغيب بمعنى: يرجمون بالظن، ويهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون، ويقولون ما خطر ببالهم من كل هفوة صلعاء لم ينزل الله بها سلطاناً، وهؤلاء قذفوا بالغيب وكفروا بشيء غائب عنهم.

    فقالوا عن القرآن الكريم وهو كلام الله إنه كلام محمد، وقالوا عن النبي عليه الصلاة والسلام الذي جاء بالأدلة العقلية القاطعة على أنه رسول من عند الله؛ قالوا عنه كاذب، وقالوا ساحر، وقالوا كاهن ومجنون، وحاشاه من كل ذلك، فقذفوا بالغيب ورجموا بالظن، وقد أتاهم الله بأدلة واضحة وبراهين بينة فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراً.

    وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:53] أي: من عقلية بعيدة عن الحق، ومن أنفس بعيدة عن الله، ومن عقائد زائغة لا دليل عليها من كتاب سماوي ولا من برهان عقلي، وإنما هي ترهات وأباطيل أوحى لهم بها الشيطان، فذكروا ذلك وكرروه وأعادوه إعادة الببغاوات والقردة.

    وهكذا كفار عصرنا ومنافقوه رجعوا للكفر القديم، وهم الرجعيون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) فنفس التعبير أطلقه عليهم، وقال عن المسلمين إنهم المجددون؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)؛ ولذلك يعتبر العلماء المجتهدون مجددين، وقد جددوا في الإسلام.

    جددوا من الفهوم ومن العقائد ما عادوا فيه إلى كتاب الله البين وإلى الحكمة النبوية، وهي السنة الواضحة، وأزالوا ما علق في الأذهان من إسرائيليات ومن ضلالات ومن بواطل، ولا يتبعون في ذلك إلا الكتاب والسنة، فإذا سمعوا علماً أو قرءوا كتاباً إذا لم يكن عليه دليل من الله وبرهان من سنة وقبول من عقل سليم لا يقبلونه بحال، فالكتب كالناس فيها الغث والسمين.

    ولذلك فإن من يدعي العلم وهو ضال مضل، فلا صلاة ولا زكاة ولا حج، وهو مرتكب لأنواع الذنوب والمعاصي والكبائر والمنكرات فهو إلى الجهل أقرب، وعلمه علم جهالة وضلال، وقد كان إبليس يوم طرد من الجنة أعلم الناس، ومع ذلك لم يوصله علمه إلا إلى النار؛ لأنه لم يع ذلك ولم يتفهمه جيداً ولم يصل إلى قلبه وعقيدته، وهكذا كل من آمن بشيء عن غير دليل ولا برهان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون ...)

    قال تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54].

    أي: منعوا وجعلت هناك حيلولة وسد بينهم وبين ما يشتهون، وماذا كانوا يشتهون؟

    اشتهوا أن يعودوا إلى الدنيا، وأن يؤمنوا، وأن يتوبوا، اشتهوا أن لم يكونوا ماتوا ليبقوا في ترفهم وقصورهم وكفرهم، ولكن هيهات هيهات! فإنما هي أمان تمنى بها النفس من وحي الشيطان.

    قوله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ:54] فقد حصل لهم ما حصل للكافرين السابقين عندما كفروا ثم ماتوا وأخذوا بعد الموت، فهم يطلبون العودة لدار الدنيا ليقولوا: آمنا، فحيل بينهم وبين ذلك، ولن يقبل منهم إيمانهم ولا توبتهم، ولن يعودوا لشهواتهم التي عاشوا عليها في الدنيا.

    والأشياع جمع الجمع، والجمع شيعة، والمفرد شيعي.

    فمن كانوا أشباههم في الكفر في دار الدنيا ثم هلكوا وفزعوا ورعبوا بعد الموت، وقالوا: آمنا، وقد ماتوا على الكفر، اشتهوا أن يعودوا لدار الدنيا، واشتهوا أن تقبل التوبة منهم وأن يعودوا للطاعة والعبادة، فحيل بينهم وبين ذلك كما فُعل بالكافرين من قبل ممن كانوا على شكل الكافرين الحاضرين في الحياة الدنيوية ومن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة.

    وكل من لم يؤمن قبل أن تبلغ الروح الحلقوم لا ينفعه إيمانه، لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].

    قوله: إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54] أي: إنهم عاشوا على الشك، فلم يؤمنوا بالله عن يقين، ولم يؤمنوا بمحمد رسولاً وهادياً، ولم يؤمنوا بالقرآن كتاباً أوحاه الله لنبيه؛ فهم يشكون ويرتابون، والشك لا يرفع اليقين، ولكن اليقين يرفع الشك.

    والإيمان يجب أن يكون إيمان تحقيق صادر عن يقين، وهؤلاء عاشوا في شك مريب، فقد كانوا في ريبة وشك، وكانوا متهمين بذلك، وألسنتهم تدل عليه وأعمالهم تؤكده، ثم ماتوا على الشك.

    ومعنى ذلك أن المؤمن الشاك لا يعتبر مؤمناً وأن الكافر الشاك كافر؛ لأنه بنى إيمانه على الشك ولا يجبر إلا بيقين، ونحن عندما نقول: لا إله إلا الله، نقولها امتثالاً لأمر الله ونوقن بأدلة العقل، ونقول: من خلقني؟ من خلق هذا الكون بما فيه علواً وسفلاً؟ فبالقاطع من العقل السليم أنه لا بد من خالق، والخالق لا بد أن يكون قديماً أزلياً.

    ولذلك هؤلاء الذين أضلهم الله على علم قالوا عن عيسى إنه إله، وعن مريم إنها إله، ويقولون: مريم هي صاحبة الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ثم عادوا فقالوا: اليهود قتلوا عيسى، فكيف يقتل إله ويصلب، إذاً فالذي صلبه هو أعظم منه وأكثر منه في القدرة، فليس بإله.

    وقد جاء الإسلام فأعاد منا من كان ضائعاً تائهاً فثبته، وقال إن الخالق هو الله المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص؛ فمن عاش شاكاً عاش كافراً، ومن مات شاكاً مات كافراً، وهكذا حكم الله على هؤلاء، رغم ما كان فيهم من شاكين.

    ولذلك علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نقول: آمنت: أي صدقت عن يقين وقطع، آمنت بالله رباً، وبالقران إماماً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوة، فمن آمن بغير الكعبة قبلة يكون ضالاً وصلاته باطلة، ومن آمن بأن إخوته المسلمين أعداء فهو ضال مضل، ومن اتخذ من اليهود والنصارى والمنافقين أحباباً فهو ضال مضل، فقد قال الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] وليس المنافق وليس النصراني وليس اليهودي داخلاً فيها، وكونه أخاً بالآدمية فجميعنا أبناء آدم وحواء، وذاك شيء لا علاقة له بالدين والإسلام، وعندما نذكر الأنساب والأحفاد نقول: آدم أبو البشر، لكن المؤمنين غير الكافرين.

    وهكذا أضلوا المسلمين ونشروا في جامعاتهم وفي كتب دراستهم الكثير من الشعارات المشركة الوثنية الضالة المضلة، وإنما شعار الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] ولا يوجد إله غير الله، ولا رسول إلا محمد عليه الصلاة والسلام، ومن سبق فليسوا رسلنا، وكانوا رسل أقوامهم، ومع ذلك انتهت رسالتهم.

    أما نبينا فكما خاطب الأولين خاطبنا نحن، ويخاطب الآتين إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعده ولا رسول، وكتاب الله الكريم المنزل عليه، سيبقى لكل المسلمين إلى يوم النفخ بالصور، فهو الإمام في الأحكام، والإمام في الحلال والحرام، والإمام في الحقائق، والإمام في قصص الأنبياء.

    وبهذا نكون قد ختمنا سورة سبأ، حامدين الله وشاكريه، وكما أكرمنا الله، ووصلنا من بداية كتابه إلى نهاية سورة سبأ، نرجو الله تعالى ونتضرع إليه أن يعيننا على إتمامه وختمه، فضلاً منه جل جلاله، ونحن نشرع الآن في السورة التالية سورة فاطر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755922126