إسلام ويب

تفسير سورة القصص [79-84]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد بطر قارون بماله وطغى بجماله واستكبر على قومه، وخرج في زينته، فتمنى ضعفاء النفوس لو كانوا أمثاله، فلما خسف الله به وبداره أشفقوا على حاله ومآله، وحمدوا الله أن لم يكونوا في سلطانه وماله، وعلموا أن الدار الآخرة خير للمؤمن وأبقى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال الذين يريدون الحياة الدنيا ...)

    قال الله جلت قدرته: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79].

    قارون الذي طغى على قومه واتخذ نعم الله وآلائه، وخيراته وأرزاقه كفراً ومساعدة في الشر، وعوناً على العصيان والكفر، فقد ضرب الله به مثلاً للذين يريدون الحياة الدنيا ولا يريدون الآخرة.

    وذات يوم خرج على قومه بني إسرائيل في زينته، في مهرجانه، وصولجانه، فقد خرج معه كذا وكذا ألفاً من الرجال والشباب والغلمان، والجواري على أنواع من الخيول والبغال في حرير وديباج وذهب وفضة وأنواع من الطرب والموسيقى، وهو يتيه بنفسه، ويأشر بماله، ويطغى بما يكسب، ويتعالى بذلك على قومه، وإذا بضعاف النفوس من قومه ممن يريدون الحياة الدنيا ولا يريدون الآخرة يقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79]، فلما رأوا هذا المنظر تمنوا على ربهم أن يكون لهم ما لـقارون من المال والجاه والزينة والنشب، وأنواع ما يتيه به ذوو المال والجاه العريض في الأرض.

    وقوله تعالى: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79].

    أي: إنه لذو مال وجاه عظيم فقد أدركه الحظ والذكر الحسن بين قومه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ...)

    هكذا كان ضعاف النفوس عندما رأوا قارون في هذه الزينة الفاتنة وإذا بقوم آخرين وهم قلة ينكرون عليهم كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ [القصص:80].

    أي: قال الذين أوتوا العلم والمعرفة بالله ممن رأوا قارون وهو في هذا التيه والخيلاء، ورأوا أولئك الذين يتمنون زينته وماله وجاهه، فقال هؤلاء العلماء بالله، والعارفون بالدنيا وزوالها، والمدركون لخلود الآخرة وما فيها من نعيم دائم.

    فقالوا لهؤلاء: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80] وكلمة الويل تقال إشفاقاً، وتقال طعناً وشتماً.

    والويل: واد في جنهم، فهم قالوا لهؤلاء: يا ويلهم، وسوء تدبيرهم وأفكارهم، عندما يتمنون هذه الدنيا الزائلة، وهذه الزينة الباطلة، ولم يتمنوا ما عند الله من خير، ومن إفضال، ومن نعمة دائمة ورضاً يفوزون به في الدنيا والآخرة.

    وعبادة الله في الدنيا يترتب عنها الثواب في الآخرة، وهو خير من كنوز قارون ومال قارون وزينة قارون ، فثواب الله خير لمن آمن بالله رباً وعمل الأعمال الصالحة من الفرائض والنوافل، أما الفرائض فقد قام بها جميعها، وأما النوافل فقد قام بما يستطيع منها جهد طاقته.

    ثم قالوا لهم: وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، أي: لا يلقى ولا يجازى ولا يصل هذا المقام من رضا الله وكرمه وإفضاله الله إلا الصابرون على طاعة الله، وامتثال أمر الله، وطاعة رسول الله وامتثال أمره صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.

    وصدق بجنانه، وعمل بأركانه، ولا يلقى مثل هذا إلا الصابرون على الطاعات، والفرائض، والنوافل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض ...)

    قال تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

    هذا الذي تمنوا مكانه، وقالوا إنه ذو حظ عظيم، وتمنوا أن يكون لهم من الزينة والكنوز والأموال، وإذا به وهو في زينته، وهو يطأ الأرض يتيه في خيلاء، وتعاظم وتعالى على خلق الله، وإذا بالله الكريم يخسف به الأرض، فتغيب به الأرض وتزول من تحت قدميه، وإذا به يهبط إلى أن يصبح داخلها، وكأنه لم يكن يوماً في هذه الدنيا.

    فالله تعالى أخسف به الأرض، فانشقت، وأصبحت ذا هوة سحيقة وإذا به يدهده ويغيب فيها ثم تغيب داره، وكنوزه وأمواله وزينته وكل ما كان عنده.

    فهذا الذي تعاظم على الله وعلا على خلق الله، وطغى بما ملكه الله من زينة وأموال وجاه، فعوضاً عن أن يشكر الله عليها، ويأتيه مما آتاه الله، ويحسن كما أحسن الله إليه، طغى وبغى في الأرض، فكان جزاؤه أن عذبه الله على ذلك في الدنيا، وسلبه تلك النعمة، بل وغيبه في الأرض ودفنه فيها حياً، هو وداره وجميع ما فيها من كنوز وزينة ونشب وأموال، وإذا بتلك الطائفتين: الطائفة التي كانت تريد الدنيا، وتريد مثل ما أوتي قارون ، وغاروا منه، واغتبطوا بحاله، بل وحسدوه على أمواله.

    وأولئك الذين قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80]، وإذا بالطائفتين معاً تريان هذا المنظر، وأن قارون الذي كان قبل ساعات مضت ذا حول وطول وسلطان وعلو وطغيان في الأرض، وإذا بالأرض تخسف به، وإذا به يغيب في الأرض والتراب، فيذهب في أمس الدابر، ويذهب قصره وتذهب كنوزه، وكأنه لم يكن يوماً من الأيام متعالياً بكنوزه وجاهه.

    وعندما خسف الله به الأرض لم تكن له جماعة، ولا أنصار، من أولئك الذين يصحبونه في الذهاب والإياب، فيكثرون جموعه، ويتقدمونه ويتأخرون عنه، ويكونون عن اليمين وعن الشمال، فكل أولئك لم يستطيعوا نصرته، ولا إغاثته، ولا إنقاذه من هذا الخسف، وهذا التغييب في الأرض، وهذا البوار وهذه اللعنة.

    ولم يجد أحداً ينصره من دون الله، إذ كان مخذولاً هافتاً ضائعاً، ومن الذي يجير على الله؟ ومن الذي يتطاول على أن يغيث أحداً من غضب الله ولعنته؟

    إن كل من في الأرض والسماء ومن في الكون إلا آتي الله عبداً، فليس في قدرة أحد أن ينصر من غضب الله عليه.

    وقوله: وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

    أي: لم يكن من الذين انتصروا، وأنقذوا، وتعالوا، وقد حلّ عليه قول الله وغضبه ولعنته، وإذا بالطائفتين: الدنيوية والأخروية اللتين رأتا أعماله وزينته، فتمنى ذلك البعض ممن يريد الدنيا، وقالت الأخرى العارفة بالله: إن الإيمان بالله وطاعته خير من قارون وجميع أمواله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس ...)

    قال تعالى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82].

    (أصبح) يمعنى: صار، يقال: أصبح إذا صار وانتقل من حال إلى حال، وليس من الضروري أن يكون ذلك في وقت الصباح، يقال: أصبح فلان عالماً، فليس معناه عندما أصبح الصباح صار عالماً، فقد يكون ذلك في الصباح أو في المساء ويفهم ذلك من سياق الكلام، تقول: أصبح وأمسى بمعنى بمعنى: الصيرورة والتحول.

    وإذا بهؤلاء الذين تمنوا مكانه، فقالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] عندما رأوا ذلك فزعوا ورعبوا وندموا على ما صدر عنهم، وحمدوا الله وشكروه أن لم يكونوا مكان قارون ليعذبوا ويعاقبوا عقاب قارون بسبب اغتراره بماله وكنوزه وجاهه.

    وقوله: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82] كان هذا بالأمس الدابر، والأمس المبني على الكسر يعني به اليوم الذي قبل يومك.

    ففي اليوم الماضي رأوه وهو على عزه وسلطانه قد خرج في زينته الكاملة، حتى تمنوا مكانه وأعلنوا ذلك، وإذا بهم بعد ذلك يرون قارون وقد خسف الله به الأرض بنفسه وزينته وقصره وكنوزه، فقالوا متعجبين لذلك: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ [القصص:82].

    وي: كلمة تعجب، والمعنى: نظن ونعلم أن الله هو الذي يرزق من يشاء بلا حساب ويضيق على من يشاء، يفعل ما يشاء كيف يشاء جل جلاله، فليس الرزق بسبب علم العالم ومعرفة العارف من التجار أو الحكام أو الزراع أو الصناع كما قال قارون وزعم: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78].

    فليس ذلك بعلمه ولا بقدرته، ولا بسلطانه، ولكن الله ابتلاه وفتنه واختبره، فلم يفز عند هذا الابتلاء، ولم ينجح بل رسب وخسر، فلم يشكر الله على هذه النعمة، ولم يصرفها في نعم الله، ولم يحسن للفقير واليتيم والأرملة، كما أحسن الله إليه، وإذا بالله الكريم الذي أنعم عليه وابتلاه، نزع ذلك عنه، وسلبه إياه، وقضى عليه وعلى ما يملك، وكأنه لم يكن، فعلم هؤلاء المتعجبين أن الله يغني من يشاء من عباده بلا حساب، ويقدر على من شاء من عباده، أي: يجعل رزقه بقدر وحساب، فهو المغني والمفقر، جل جلاله يفعل ما يشاء، له الأمر والخلق، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

    وقوله تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا [القصص:82]، ندموا على التمني السابق، وعجبوا مرة أخرى، فقالوا: يا عجباً! لولا أن منّ الله علينا، وكان هذا المنّ والإفضال في أن الله لم يرزقهم ما رزق قارون ، فندموا فيما كانوا قد تمنوه من زينة قارون وكنوزه، ثم حمدوا الله على أن أبقاهم فقراء، ولم يعطهم ما أعطى قارون ، ولم يخسف بهم وبدورهم الأرض، ولم ينزع نعمته عليهم، من شباب وقوة وحواس، ومن إيمان بالله كذلك.

    فهؤلاء إنما كانوا يريدون الحياة الدنيا، وهم ممن آمنوا بموسى من بني إسرائيل الذين نصرهم الله على فرعون ، بعد أن عاشوا عبيداً أرقاء له ولقومه قروناً تتبعها قرون، فحمدوا الله على الفقر والمسكنة، ولم يجر بهم ما جرى لـقارون من خسف الأرض به، وبداره وبكنوزه وبجاهه، وبكل ما أتى به وطغى، أن لو كان لهم ذلك بعد أن تمنوه على الله.

    وقوله تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا [القصص:82] جواب (لولا) لخسف بنا، أي: لو لم يبقهم الله فقراء، ولم يعطهم ما تمنوا عليه من ملك قارون وجاهه لخسف بهم الأرض كما خسف بـقارون .

    وقوله: وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82]، وهذا مما يزيد التأكيد أن قارون لم يسلم ولم يؤمن بموسى، فلم يكن مؤمناً كما ادعت الروايات الإسرائيليات التي نقلت في أكثر التفاسير أنه كان مؤمناً، وكان إذا تلا التوراة يكون من جمال صوته ما يتأثر به كل سامع مؤمن بالتوراة إذ ذاك، ثم نافق بعد ذلك، وليس في آيات القرآن ما يدل عليه.

    فالذين تمنوا مكانه بالأمس قالوا عنه كافر، وأيقنوا أن الكافر لا يفلح ولا ينجو ولا يفوز لا في الدنيا ولا في الآخرة، فكانت هذه الكنوز والأموال ابتلاء واختباراً له، فما تمتع بها، بل كانت سبب هلاكه ولعنته وعقابه في الدنيا، ومات مع الكافرين، ولعذاب الله أشد.

    فالكافر لا يفلح إن عاش كافراً ومات على ذلك.

    والله قص علينا هذه القصة للعظة وللاعتبار، لنأخذ منها الدروس والحكم حتى إذا رأينا في عصرنا قوارين، لا نأبه لهم ولا نحسدهم على ذلك، ولا نطمع في أموالهم، فنحن لا ندري هل هذه الأموال والكنوز ستكون عليهم وبالاً كما كانت على قارون الذي قص الله علينا، فإذا كان كذلك فما الفائدة من مال وكنوز لا تدوم، ويكون نهايتها الذل والغضب واللعنة والموت على سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.

    والمسلم إذا دعا الله يدعوه من خيره وإفضاله ما يكون خيراً له في الدنيا والآخرة، لا فتنة وابتلاءً له في دينه، ولا ضرراً عليه، وصدق رسول الله القائل عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون، -أي: هلك ذوو الأموال الكثيرة- إلا من قال: هكذا وهكذا، وهكذا)، أي: إلا من صرف الفاضل من أمواله، في كل جهة من جهات الخير، في الزكوات، والنفقات للسائلين وللمحاويج، لما يعود على الناس بالخير، وليحسن كما أحسن الله إليه.

    والله تعالى لم يمنع عباده مما أخرج لهم من الطيبات من الرزق، ولم يمنعهم أن يتركوا نصيبهم من الدنيا، فإن كان حلالاً طيباً فليحسنوا كما أحسن الله إليهم، فهذه بعض العبر والحكم من هذه القصة، ولم يؤتَ بها للحكاية والرواية.

    فقد أوتي بها ليعتبر بها المؤمن والكافر، فالمؤمن يزداد إيماناً ويعيش في حياته عابداً مطيعاً، والكافر تقام حجة الله عليه، وأنه قد ضربت له الأمثال، وذكرت له القصص ليتخذ منها العبر والحكم، لتكون الحجة لله بالغة يوم القيامة، ولا يجد لنفسه عذراً ولا جواباً عندما يسأل عما قدم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ...)

    قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

    (تلك الدار) الإشارة للتنويه والتهويل، أي: تلك الدار التي وصفها الله تعالى في كتابه المبين ووصفها نبيه عليه الصلاة والسلام فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ما لم تره عين ولا سمعت به أذن، ولا خطر من ذلك على قلب بشر.

    وهي الجنة ذات الأرزاق والنعم الدائمة الخالدة السائدة بفضل الله ورحمته.

    والدار الباقية لم يجعلها الله لمن كان في الدنيا ذا سلطان ولا حاكماً ولا غنياً ولا ذا أرزاق وكنوز، ولكن جعلها للأتقياء الصالحين الأبرار، كانوا ملوكاً أو خلفاء أو مساكين، أو محاويج، أو ذوي أنساب وأحساب، فتلك الدار جعلها الله تعالى لمن قال فيهم: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ [القصص:83] أي: لا يريدون التكبر على خلق الله، ولا الاستعلاء على عباد الله، ولا يتيهون بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بأمومتهم أو أبوتهم، ولا بأموالهم ولا بما ملكهم الله في هذه الدنيا، وإلا لكان ذلك ابتلاءً وفتنة، كما كانت كنوز قارون لـقارون ، فقد فتن بها وعذب في الدنيا، ولعذاب يوم القيامة أشد.

    والدار الآخرة إنما جعلها الله للذين لا يستعلون على عباد الله، ولا يتكبرون على الإيمان والمؤمنين، إذا قيل لهم: قال الله، قال رسول الله، قالوا: السمع والطاعة، على الرأس وسواد العين، وإذا قيل: هذا مؤمن أخوك، قال: أخي وهو أكرم مني، ولا يعلم الأكرم يوم القيامة إلا الله، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] ومن كان في ظاهره متقياً لله سواء في الصلاة وبقية العبادات ومع ذلك حتى لو لم يكن كذلك، فهو لا يدري كيف سيختم له؟

    كثيراً ما يكون الخصوص من اللصوص، فقد يتوبون ويغفر الله لهم، ويصبحون في أعلى الدرجات والمقامات، ويكونون خياراً، وما المؤمنون الأُول من الصحابة الأوَل إلا ممن كانوا يعبدون الأوثان والأحجار في أيامهم الأولى، فلما شملتهم العناية الإلهية، والرحمة الربانية، عندما ظهر فيهم سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإيمان بالله وبه، وبما جاء به من عند الله، آمنوا واستسلموا فأذهب الله عنهم نخوة الجاهلية ومعصيتها، وصاروا سادات الدنيا وأئمتها، لم يسبقهم في الفضل والخير إلا الأنبياء، فهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فكانوا من الخصوص بعدما كان مما لم يذكر، ولا حاجة لذكره بعد أن ذهب، والإسلام يجب ما قبله.

    الدار الآخرة وجنتها ورضاها ورحمتها مقصورة على الذين لا يتكبرون، ومن ينازع الله في كبريائه أذله وحقره.

    وقوله: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص:83].

    أي: لا يريدون الفساد في الأرض، وكلمة (فساد) تشمل كل أنواع الفساد من كبرياء وجبروت وعلو على البشر ومعصية لله وإعلانها، من ظلم للخلق وأخذ أموالهم بالباطل، ومن كل ما يطلق عليه إفساد، فمن كان كذلك لا حظ له في الآخرة، ولا في رحمة الله ولا في رضاه.

    والعلو في الأرض والكبرياء هو الذي أفسد الكافر الأول، ما كان إبليس إلا مع الملائكة، وإن كان جنياً بينهم، فقد كان من العابدين العارفين، ثم ارتد وكفر، وكان ارتداده بسبب كبريائه وطغيانه، وتعاليه على آدم، عندما أمره الله بالسجود إليه أبى واستكبر، وكان من الكافرين كما وصفه الله جل جلاله، وعندما قيل له: لِمَ لم تسجد؟ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وجعل نفسه خيراً من آدم، مع أنه رأى وعلم وسمع أن آدم خصه الله بأن خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له جميع الملائكة، سجود احترام وتقدير، لا سجود عبادة، ومع ذلك تعالى إبليس، فكان بكبريائه على آدم كافراً مرتداً، وقلما يتكبر أحد على خلق الله، وعلى عباد الله المؤمنين فيفلح، وقد تنتهي أيامه بسوء الخاتمة والردة كما انتهت أيام قارون ، وتتبعه اللعنة إلى يوم القيامة، كما تبعت قارون في كتاب الله وفي كل ما يذكر فيه عندما يذكر التاريخ الأول وقصص الأولين.

    وقوله تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، ليست للأغنياء ولا للحكام، ولا للطغاة، ولا للجبابرة، ولكن للمتقين، والمتقي قد يكون حاكماً وقد يكون سلطاناً، وقد يكون خليفة، فالرابط هي التقوى وليس سواها، والتقوى أن تجعل بينك وبين ربك وقاية من غضبه ولعنته، ولا تكون هذه الوقاية إلا بطاعته وامتثال أمره، والخضوع لكتابه والامتثال لنبيه، وما جاء به من أمر ونهي، تمتثل أمره وتجتنب نهيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها ....)

    قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص:84].

    مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [القصص:84] كما قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160].

    أي: من جاء بالحسنة جزي عنها بعشر إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله.

    وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160] أي: سيئة بسيئة، وقد يغفرها الله ويرحم مرتكبها إن كان موحداً ثم تاب منها.

    والحسنة هنا: هي كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله، ولا شيء أعلى وأخير من (لا إله إلا الله) إلا رؤية الله في الآخرة، فمن مات موحداً يعتقد أن لا إله إلا الله بالجنان ونطق بها اللسان وعملت بها الأركان، يكرمه الله يوم القيامة بدخول الجنان، وبرؤية الله جل جلاله، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، عليها نضرة النعيم، وفيها جمال النعمة، وراحة النعمة، ثم تكرم بالنظر إلى وجه الله الكريم.

    ومعنى آخر للحسنة أنها بعشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى ولا يكافأ ولا يعاقب ولا يقابل إلا بما عمله، أي: سيئة بسيئة إذا لم يغفرها الله، ولا تغفر السيئة إن كانت كفراً أو شركاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755960814