إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الزخرف [1]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة الزخرف من السور المكية، وهي داخلة فيما يسمى بالحواميم، والحواميم هي السور اللاتي بدأن بـ(حم)، والحواميم تسمى ديباج القرآن؛ لأنهن يحملن مواعظ ورقائق وأخبار، وليس فيهن أحكام. وفواتح سورة الزخرف تحدثت عن صدق القرآن وأنه منزل من عند الله جل وعلا.

    1.   

    بين يدي السورة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    في هذا اللقاء المبارك سنشرع في تفسير سورة الزخرف، وقبل أن نستفتح تفسيرها نعرّج إجمالاً على هذه السورة المباركة، وهي سورة مكية، وداخلة فيما يسمى سور آل حم، وسور الحم تسمى ديباج القرآن، وسيمت ديباج القرآن لأنهن حملن مواعظ ورقائق وأخبار وليس فيهن أحكام، وكلهن ابتداء بغافر وانتهاء بالأحقاف بدأن بقول الله جل وعلا: حم، ولهذا تسمى آل حم.

    وسورة الزخرف هي إحدى هذه السور المباركات، وقلنا: إنها سورة مكية، والزخرف في اللغة كمال الزينة والحسن، وهذه اللفظة المباركة وردت في القرآن في موضع أخر وردت في الإسراء: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الإسراء:93]، ووردت: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112] وهي في الأنعام، ووردت كذلك: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ [يونس:24]، فهذا الموضع الرابع لذكرها في القرآن، وبها سميت السورة.

    قال الله جل وعلا في فاتحتها: بسم الله الرحمن الرحيم حم [الزخرف:1] وقد بينا أن هذه فواتح القرآن، وذكرنا أقوال العلماء فيها في حلقات قد مضت.

    قال ربنا: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:2] هذا قسم، الواو للقسم، والمقسم به كلام الله جل وعلا، والمبين: الواضح البيّن، وسنقف عند الآية الخامسة ثم نعرج على جملة من القضايا، نبدأ بالأولى:

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)

    الرد على المعتزلة في قولهم بخلق القرآن

    قال الله جل وعلا: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية وأضرابها في أن القرآن مخلوق، وليس التغافل عن الرد على أهل الشبهات مما يرد به شبههم، فلابد في مجالس العلم من أن يحرر الخطاب، فهم يقولون: إن (جعل) في القرآن جاءت بمعنى خلق، قال الله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] بمعنى خلق الظلمات والنور، وقال هنا: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3]، فيقول رؤساء المعتزلة وأئمتهم لماذا هذه المكابرة؟ هذا نص صريح في أن (جعل) بمعنى خلق.

    وقلنا: إن الزمخشري لما ألف تفسيره قال في مقدمته: الحمد لله الذي خلق القرآن، وقيل له: إن أحداً لن يقرأه، فقال: الحمد لله الذي جعل القرآن، باعتبار أن الخلق بمعنى الجعل عند المعتزلة، وحتى يستقيم الأمر ننيخ المطايا بهدوء ونأتي بنظائر، فهذا منهجنا في التعليم، ثم نطبِّق تلك النظائر على ما نحن فيه؛ حتى يكون هناك حيادية في الطرح، فالأفعال أحياناً لا تظهر إلا من سياقتها؛ فهي تحتمل أكثر من معنى.

    قال الله جل وعلا على لسان أهل النفاق: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، فكلنا نحن والمعتزلة نفهم أن (انظرونا) هنا بمعنى انتظرونا، والفعل نفسه قال الله جل وعلا: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:99]، فعدي بحرف الجر (إلى) فتغير المعنى، فلا يأتي أحد ويقول إن نظر هنا بمعنى تمهل، وإنما المعنى النظر بعين الباصرة، ويقول الرجل منا: نظرت في الأمر، وليس المقصود أنني أبصرته بعيني؛ فقد يكون الأمر معنوياً، لكنني نظرت في الأمر بمعنى تدبرته وتأملته.

    ومنه قول الله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185] أي: يتدبروا ويتأملوا، فاختلف المعنى مع أن الفعل واحد؛ لاختلاف الاستعمال، لكن هذا الاستعمال لا بد له من ضوابط وقرائن تدل على كل معنى، فعلمنا أن الفعل (نظر) لما كان لازماً كان بمعنى تمهل، ولما تعدى بحرف الجر (إلى) أصبح بمعنى النظر بالعين الباصرة، ولما تعدى بحرف الجر (في) أصبح النظر بعين البصيرة، وهو التروي والتمهل أو التفكر في الشيء والتدبر فيه.

    وقال الله جل وعلا: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف:13] أي: ارتفعتم، وقال ربنا: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29] أي: انصرف وقصد، ثم قال ربنا: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص:14] ولم يتعدى، فنحن متفقون جميعاً على أن الفعل (استوى) في كل آية هنا له معنى مختلف عن الآخر، والفعل (جعل) يسمى من أمهات الأفعال، أي: التي تستخدم في مواطن كثيرة، مثل: عمل، وفعل، وطفق، وأخذ، ومنها جعل، فنقول إن (جعل) في القرآن يأتي على معان بحسب السياق مستصحبين شيئاً لا بد منه وهو: أنا نفيء ونرجع بالمتشابه إلى المحكم، ولا نفيء بالمحكم إلى المتشابه، فلما نص الله جل وعلا في مواطن كثيرة على لفظ التنزيل ما كان لنا أن نفر من لفظ التنزيل ونحن نجد معناً لجعل في غير الخلق، فنقول نعم جاءت بمعنى خلق في القرآن، قال الله: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189]، وقال: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، وهذا من المترادف؛ لأنه لا يمكن التبديل هنا، فجعل هنا بمعنى خلق، لكنك تلاحظ: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ [الأنعام:1]، وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189] تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول واحد، فإذا تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول واحد فهو بمعنى خلق، ويأتي جعل بمعنى التسمية، قال الله جل وعلا: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19] أي: سموهم إناثاً والدليل قول الله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى [النجم:27]، فقول الله جل وعلا: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19] أي: سموهم إناثاً.

    فإذا تعدى إلى مفعولين لا يكون بمعنى الخلق، وإنما يكون بمعنى التصيّيّر، يعني: صيّره، قال الله جل وعلا يحكي عن العرب الفصحاء في كتابه الفصيح أنهم قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] فتعدت لمفعولين: الآلِهَةَ إِلَهًا [ص:5]، وواحداً صفة، أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] ومعلوم أن القرشيين لم يريدوا أن يقولوا أبداً: إن النبي صلى الله عليه وسلم خلق ربه وخلق الآلهة؛ فهذا غير وارد أصلاً في الخطاب؛ لأن الله أصلاً غير مخلوق فهو خالق، والأمر الثاني: أن قريشاً لم تزعم أن النبي هو خالق آلهتهم، فليست (جعل) هنا بمعنى خلق، إنما هي بمعنى صيّر، فالتصيير غير الخلق، فقد يكون المصيَّر مخلوقاً وقد يكون غير مخلوق، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا [النبأ:10] أي صيّرناه لباساً، مع أنه في أصله مخلوق لكنها لوحدها لا تدل على أنه مخلوق، فلا بد من دليل آخر.

    فهنا نقول لهم ولمن سار على نهجهم؛ لأن المعتزلة تأثرت بهم بعض الفرق في هذا المعنى، نقول: إن (جعل) هنا ليست بمعنى خلق لأمرين:

    أولاً: أنه تأباه اللغة؛ فقد تعدى إلى مفعولين، ثانياً: أن السياق القرآني يأباه.

    ثم إن القرآن في مواطن كثيرة ذكر الله جل وعلا فيه التنزيل والإنزال والنزول بعدة طرائق، قال الله: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء:105]، وقال: تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، وقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر:9] وغيرها من الآيات، وهذه المحكمات لا يمكن أن نهدمها جميعاً -فليس هذا بقاعدة علمية- لفعل يحتمل أن يكون بمعنى الخلق، مع أننا بيّنا أنه إذا تعدى إلى مفعولين فلا يمكن أن يكون بمعنى الخلق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)

    ثم قال الله: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4] الأصل في كلمة (أم) أنها تأتي بإزاء الأب هذا هو الأصل، وإذا خرجت اللفظة عن أصلها وأدت معنىً آخر، ودلت قرينها على أننا لا نريد الأصل فهذا ما يسميه البلاغيون استعارة، وسأقرب المعنى إلى فهم المشاهدين، فعندما تذهب إلى رجل لديه فرح وتشاهد هذا الفرح بجوار داره، ثم أعجبك ذلك الفرش الذي أنت جالس عليه فظننت أن هذا الفرش ملك لصاحب الدعوة، ثم لم تلبث أن قلّبت الفرش فوجدت عليه علامة أو ختماً أو أمارة مكتوب عليها: مفروشات كذا وكذا، أو محلات كذا وكذا للتأجير، فإنك تفهم أن هذا الفرش مستعار وليس لصاحب الدار، فقد استعاره من صاحبه الأصلي، والقرينة تلك الورقة أو الختم أو الإشارة أو العلامة، وكذلك في اللغة فالكلمة يكون لها أصل، فإذا وجدناها استخدمت استخداماً غير الذي هو أصلها وجدنا من خلال القرينة ما يدل على أنها استعارة، وتنقسم الاستعارة إلى: استعارة تصريحية، واستعارة تبعية، واستعارة مكنية وهذا باب آخر، لكن نبدأ تدريجياً فهذا معنى الاستعارة، فالأصل في كلمة (أم) أنها التي تلد، قال الله: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ [طه:40]، فليس ههنا استعارة؛ لأن أم موسى هي التي ولدته، لكن قول الله جل وعلا هنا: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ [الزخرف:4] المقصود أصل الكتب، أي: أصل ما خط في اللوح المحفوظ، فـأُمِّ الْكِتَابِ [الزخرف:4] هو اللوح المحفوظ، فهذا يسمى استعارة، وقد تقول: إنه بمعنى واسع هنا، ولا أريد أن أدخل في ألفاظ حولها إشكال فالمهم المعنى، وأظن أن ابن قدامة أو ابن قتيبة -التبس عليَّ الآن وهذا من الحفظ القديم- يعبّر تعبيرات ويقول: لا عبرة بالمصطلح الذي يتنازع عليه الناس، وهذا كلام جيد فالعبرة بالمعنى، فكلمة (أم) في القرآن وردت على عدة معاني، وردت بمعنى الوالدة: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ [طه:40]، ووردت بمعنى المرضعة: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]، وتسمى المرضعة في اللغة ظئراً، ووردت بمعنى المآل، قال الله جل وعلا: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9] أي: مآله أن يهوي في جهنم، ووردت بمعان عدة منها: قول الله جل وعلا هنا: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ [الزخرف:4]، وأطلق على مكة أنها أم القرى، قيل: بمعنى الأصل، ومنه قول الله تعالى في آل عمران: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7] أي: أصل الكتاب، وغير ذلك مما هو مشهور، فالذي يعنينا أن (أُم) هنا استعير لها المعنى، فأم الكتاب هو اللوح المحفظ.

    الفرق بين اللوح المحفوظ وغيره من الكتب

    والفرق بينه وبين غيره من الكتب: أن ما في أم الكتاب لا يمكن أن يُبدّل، قال الله تعالى في سورة الرعد: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فقول الله تبارك وتعالى يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] أي: ما يُمحى ويثبت خارج أم الكتاب إنما يُمحى ويُثبت ليطابق أم الكتاب.

    وإنه الهاء في (إنه) عائدة على القرآن، فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4] أي: مذكور بالعلو والحكمة، ورفيع المقام، ولا شك أن له السلطان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين)

    ثم قال الله: أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [الزخرف:5] وهذه نختم بها: فالهمزة للاستفهام، والضرب في اللغة يُطلق على عدة معاني: يطلق على الصنف والنوع من الأشياء، ويُطلق على الرجل الخفيف اللحم، قال طرفة :

    أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد

    أنا الرجل الضرب أي: الرجل الخفيف، هذا من حيث اللغة, وأما في القرآن فقد ورد الضرب على معان عدة: ورد بمعنى السير في الأرض، قال الله جل وعلا: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20] أي: يسيرون في الأرض، يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20]، وقال: لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273] أي: لا يستطيعون سيراً في الأرض.

    وجاء الضرب بمعنى الضرب المعهود سواء كان بالسيف، كقوله جل وعلا: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ [الأنفال:12]، أو كان بمعنى الضرب باليد، كقوله جل وعلا: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34] في حق النساء، وأما قول الله جل وعلا: أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [الزخرف:5] فنحرر أولاً معنى كلمة (صفح)، الصفح: هو التغافل عن الشيء إما كبراً، تقول: لويت لفلان صفحة عنقي، أو أن يكون تجاهلاً بحيث يمر بك دون أن تدري عنه، قال الشاعر:

    تمر الصبا صفحاً بساكنة الغضا ويصدع قلبي أن يهب هبوبها

    قريبة عهد بالحبيب وإنما هوى كل نفس حيث حل حبيبها

    والصبا ريح معروفة، فيقول: هذه الصبا تأتي من ديار من أحب فتمر على بني قومي الذين أعيش معهم صفحاً، أي: يتغافلون عنها، وليس ذلك كبراً؛ لأنه لا يوجد كبر مع الرياح، لكن لأنها لا تعنيهم، وأما أنا -يتكلم عن نفسه-: ويصدع قلبي أن يهب هبوبها

    فهذا الصفح هو الإعراض عن الشيء إما كبراً وإما تغافلاً، أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [الزخرف:5] اتفقوا على أن المعنى: ليس إعراضكم سبباً مقنعاً لأن نترك إنذاركم، لكن اختلفوا في معنى الذكر: فذهب ابن عباس في رواية عنه وبعض العلماء إلى أن الذكر هنا المقصود به ذكر العذاب، فيصبح المعنى: أفيعقل أن نترك عذابكم لمجرد أنكم أعرضتم عن ذكر الله! وقال آخرون: إن الذكر هنا بمعنى الوعظ والإرشاد، وهذا الذي أرجحه، فيصبح المعنى: كيف يسوغ لكم أن تطالبونا بأن نترك وعظكم وإرشادكم وبيان الحق لكم بسبب أنكم قوم معرضون!

    وهذه الآية قريبة من قول الرب تبارك وتعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، وهذان المعنيان يرجحن الآخر منهما.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين...)

    ثم قال الله: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الزخرف:6-7] (كم) هنا خبرية وقد مرت معنا كثيراً، والمراد بها التكثير، وهي مضادة لكم الاستفهامية، والفرق الجلي بينهما: أن الأولى -أي: الاستفهامية- تحتاج إلى جواب، وأما (كم) الخبرية فلا تحتاج إلى جواب، قال الفرزدق يهجو جريراً :

    كم خالة لك يا جرير وعمة فدعاء قد حلبت عليَّ عشاري

    أراد الكثرة.

    وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ [الزخرف:6] (من) هنا لبيان الجنس، فِي الأَوَّلِينَ [الزخرف:6] أي في الأمم التي سبقت، وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الزخرف:7] هذه الآية وأضرابها داخلة في باب التسلية والتعزية لنبينا صلى الله عليه وسلم، وفواتيح سورة الزخرف تحدثت عن صدق القرآن، وأنه منزّل من عند الله جل وعلا، وقد أجبنا في حديثنا عن مسائل عدة منها القضية الأساسية العقدية وهي قول المعتزلة بأن القرآن مخلوق، والمعتزلة -من باب الاستطراد- بعض أهل الفرق أخذوا عنهم شيئاً مما تبنوه، والخوارج الأولون أقرب الناس إلى عقائد المعتزلة، فأكثرهم متفقون على القول بخلق القرآن، وبعض الخوارج في زماننا كذلك ما زالوا ينفون رؤية الله يوم القيامة، ويقولون بخلق القرآن، وإن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأما المعتزلة فيقولون: إنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين، وهناك كتاب لأحد خوارج الفرق المعاصرة تبنى قول الخوارج السابقين اسمه (الحق الدامغ)، وهذا الكتاب يقوم على ثلاثة مبادئ: إثبات أن القرآن مخلوق، وإثبات أن مرتكب الكبيرة كافر، وإثبات أن الله لا يُرى يوم القيامة، فأما الرد على أن القرآن مخلوق فقد حررنا كثيراً منه الآن، وأما بيان أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة كما هو قول أهل السنة فهذا قد بيناه في دروس سلفت، وكذلك بينا قضية أن الله تبارك وتعالى يُرى يوم القيامة ورددنا على ما يسمى بلن الزمخشرية.

    هذا بعض ما يسر الله إعداده، وأعان الله على قوله حول فواتح سورة الزخرف، نفعنا الله وإياكم بما نقول، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755953065