إسلام ويب

تفسير سورة الحج [3 - 5]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد ذم الله في كتابه من كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه، متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن، وهذا حل أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق المتبعين للباطل، الذين يجادلون في الله بغير علم صحيح، ويتبعون كل شيطان مريد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3].

    أخبرنا الله سبحانه وتعالى في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3] أي: من الناس من يجادل في أمر الله سبحانه، وفي أمر دين رب العالمين، وفي أمر خلق الله سبحانه وتعالى؛ كـالنضر بن الحارث الذي أنكر أن يحيي الله عز وجل الموتى بعد أن يصيروا تراباً وعظاماً، فربنا يخبر عن هذا وأمثاله، أنهم يجادلون بغير علم، ولو أنهم تعلموا لعرفوا الحق في ذلك، ولو أنهم نظروا في هذا الكون واطلعوا على كتب الله سبحانه لوجدوا الموافقة بين الكون وهو كتاب الله الذي ينظر الإنسان إليه في كل يوم في آياته، وبين ما نزل من عند الله من السماء وهو كتاب الله القرآن العظيم الذي إذا قرأه وتأمل الواقع عرف الحق وتعلم ما يكون من أمر ربه سبحانه، ولكن العجيب ممن يجادل بجهل ويتكلم بغير علم ويرد كلام النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيعجبنا الله عز وجل من أمثال هؤلاء الذين يجادلون بغير علم.

    فالذي ينبغي على الإنسان المؤمن ألا يعرض نفسه أبداً لأمر الجدل، إلا في الدفاع عن دين الله سبحانه إن احتاج إلى ذلك، وإذا جادل لا يجادل إلا بعلم، يقول الله عز وجل: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] أي: إذا جادلت إنساناً لتدعوه إلى الحق فينبغي أن تتعلم ما هو الحق قبل أن تجادل، ولذلك قالوا: إن الإنسان الذي لا يتعلم ويتكلم بغير علم، يرى هذا الإنسان في لغط مضل أو غلط مذل، فهذا الإنسان الجاهل حين يجادل إما أنه كثير اللغط الذي يؤدي به إلى الضلال، أو أنه يظن نفسه عالماً فيتكلم في أشياء لا يفهمها ولا يعرفها أمام من يعلم، فيذلونه بجهله ويقولون له: إنك جاهل ولست بفاهم، ما هذا الذي تقوله؟!

    إذاً: على الإنسان المؤمن أن يتعلم العلم الشرعي قبل أن يتكلم في دين الله سبحانه وتعالى، ولا يكون كأمثال هؤلاء الجهلة بأمر ربهم سبحانه وتعالى، فكفروا وأشركوا وجادلوا بالباطل.

    وهذا الذي يجادل بالباطل يأخذ الشيطان بناصيته يوم القيامة إلى نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4] أي: الله عز وجل كتب وقدر أنه من يتولى الشيطان من دون الله سبحانه فإن الشيطان يضله، وهنا الذي يهدي والذي يضل هو الله سبحانه وتعالى، ولكن أسباب الهداية وأسباب الضلالة يجعلها الله عز وجل على يد من يشاء سبحانه، فالشيطان خلقه الله عز وجل بصفاته، وقد علم أنه يضل عباده ويبعدهم عن أمر دينه، ويدفعهم إلى المعصية، ويسول لهم الشبهات ويزين لهم الشهوات، ويصرفهم إلى المنكرات، فهذه أسباب.

    فالله عز وجل يقدر فهو يهدي ويضل بتقديره سبحانه وتعالى، والشيطان يضل العباد ويبعدهم عن طاعة الله كسبب من الأسباب، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] قوله: ولو شاء أي: هذا قضاء الله سبحانه وتعالى، فهو إذا قضى بالهداية لا يمكن أن يكون العكس، وإذا قضى بالضلالة لن يكون العكس، وورد في الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) فهذا ينقلب ويعمل بعمل أهل النار، وذاك ينقلب فيعمل بعمل أهل الجنة كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالشيطان يضل الإنسان الذي يطيعه والذي يعصي الله سبحانه، ويأخذ به إلى طريق عذاب السعير والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث ...)

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].

    أمرنا سبحانه أن نتدبر فيما حولنا في هذا الكون، نتدبر في خلقتنا كيف خلقنا الله سبحانه وتعالى، وقال في كتابه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] هذا جهل الإنسان حين يجادل ويقول: من الذي سيحيي هذه العظام بعدما صارت رميماً؟ نقول: أنت نسيت من الذي خلقها أول مرة، الذي خلقها أول مرة هو الذي يعيدها مرة ثانية، فلم لم تتعجب من الخلق الأول وتتعجب من الإعادة؟! وهل الإعادة أصعب من بدء الخلق؟ فالله سبحانه بدأ الخلق وكان عدماً، فجعله تراباً وماء ثم جعله إنساناً، ثم فني هذا الإنسان ورجع للتراب، فهل الذي خلقه من العدم غير قادر على أن يركبه مرة ثانية من هذا التراب الذي صار إليه؟! وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79].

    والخطاب هنا في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب قرآن مكي؛ لأن في مكة كان الكفار أكثر من المسلمين، وكان الخطاب لهؤلاء أمة الدعوة، فهو يدعوهم ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أما في المدينة فقد كان الخطاب للمؤمنين؛ لأن المدينة امتلأت بالمؤمنين، فكان الخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104].

    هنا قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الحج:5]، الريب: هو الشك، أي: أن الله عز وجل يحييكم ويبعثكم بعدما أماتكم.

    قوله: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ، قال: (فإنا) جاء بنون العظمة هنا، فالخلق عظيم، وهذا يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، فهو أتى بنون العظمة تعظيماً لنفسه وشأنه وقدرته سبحانه وتعالى، فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ أي: هو الذي تفرد بالخلق والأمر سبحانه لا شريك له، فجمع بين الاثنين فقال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] أي: هو الذي تفرد بأن يخلق سبحانه، وهو الذي تفرد بأن يشرع لهذا المخلوق، وبأن يدله على الطريق الصحيح الذي يسلكه إلى جنة رب العالمين وإلى رضاه.

    مراحل خلق الإنسان

    قال الله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ، هذا بدء الخلق، فقد خلق آدم من هذا التراب، وتركيب جسم الإنسان كتركيب التراب الموجود في الأرض، وعناصره موجودة في جسم الإنسان، فهذا أصل خلقته، لذلك يموت الإنسان ويتحلل ويرجع إلى هذا التراب مرة ثانية.

    قال: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي: بعد ذلك كان الخلق من النطفة، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ هذه مراحل خلق الإنسان جاءت في كتاب الله عز وجل بترتيب عظيم بديع، يقول العلماء: إنه أعظم ما يدل على الخلق ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا الترتيب كيف عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن قد تعلم الطب ولا تعلم التشريح من أجل أن يعرف هذه المراحل الموجودة في رحم المرأة، تأتي النطفة من الرجل إلى رحم المرأة، وهذه النطفة يمضي عليها فترة فتتحول إلى علقة، ويمضي عليها فترة فتتحول إلى مضغة، والمضغة مخلقة وغير مخلقة ليبين الله سبحانه وتعالى لنا.

    فذكر لنا هنا سبحانه وتعالى أن هذه مراحل خلق الإنسان، خلق الله عز وجل الإنسان وجعله نطفة في قرار مكين، قال عز وجل: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] عندما يقرأ الإنسان هذه الآية وغيرها ويقرأ كلام علماء أوروبا وأمريكا في أمر مراحل الجنين وخلق الجنين واعتراف هؤلاء بأن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ذكر الترتيب الصحيح بهذا النحو، فيقول المؤمن: صدق الله العظيم الذي يقول: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].

    قوله ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ النطفة معناها: الماء القليل، ينطف الشيء يعني: يسيل منه الماء القليل، فسميت بذلك لقلتها، أيضاً قد تطلق على الماء الكثير، ولكن هذا الإطلاق ليس إطلاقاً دائماً، فيقولون: إن النطف معناه القطر، وليلة نطوفة، أي: دائمة القطر، فهي ليلة ممطرة، لكن الأصل أن النطفة الشيء اليسير من الماء وهو المني.

    قال لنا هنا: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج:5] هذه المراحل توجد بين كل مرحلة فترة زمنية، ولذلك عبر عنها بـ(ثم) التي تفيد التراخي.

    إذاً: النطفة تمكث فترة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات)، فهنا خلق الإنسان في رحم الأم يبدأ من النطفة التي يمضي عليها أربعون في أربعين في أربعين، حتى ينفخ فيها الروح بعد ذلك.

    قال سبحانه وتعالى: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ العلقة: هي القطعة من الدم التي تكون مثل الدودة، فهي معلقة في رحم المرأة، وبعد ذلك تكون مرحلة المضغة، والمضغة كما هو واضح من تسميتها كأنها الشيء الممضوغ، كأنها قطعة لحم ممضوغة، ولذلك بعض علماء الأمريكان لما سأله بعض المسلمين وهو الشيخ الزنداني عن هذه المرحلة: ماذا تسميها؟ وما الوصف الدقيق لها؟ فمكث يفكر ثم قال: لبانة، فاللبانة ممضوغة، فقال الشيخ الزنداني : القرآن ذكر ذلك! فتعجب الرجل جداً كيف أن القرآن ذكر المضغة؛ لأن هذا أدق وصف توصف به هذه المرحلة مرحلة المضغة التي سماها الرجل لبانة ممضوغة، بحيث يكون هيئة الجنين في بطن أمه كقطعة لحم ممضوغة، قال: ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، فهذه المضغة إما أن يقضي الله عز وجل بتخليقها فتصير إنساناً، وإما أن يقضي بنزولها فتنزل ولا تكون شيئاً، فمن قدر الله عز وجل له أن ينمو عبر عنه بأن المضغة التي يكون منها تكون مخلقة، أما من قدر الله عز وجل أنه لا يموت فعبر عنه بأن المضغة تكون غير مخلقة، وعلماء الطب الحديث يقولون: فعلاً المضغة مخلقة وغير مخلقة؛ لأن فيها من الخلايا ما هو قابل لأن ينمو الآن فينمو، ومنها ما هو غير قابل للنمو الآن، وسيأتي على الإنسان وقت يحتاج إلى خلايا، هذه خلية في المضغة هي أصل من أصول خلايا الجلد، وهذه أصل من أصول خلايا العظم، وهذه أصل من أصول خلايا الدم، فلما يحتاج إليها في يوم من الأيام تخلق، وإذا لم يحتج إليها تبقى على ما هي، فكأن بداخل المضغة ما هو مخلق وما هو غير مخلق كما ذكر الله سبحانه وتعالى، وهذا يذكره علماء التحليل وعلماء الطب الآن في زماننا، فهنا انظر قال تعالى عنهم: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83] أي: هؤلاء عرفوا هذه الآيات وعرفوا كلام الله عز وجل وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومع ذلك هم أبعد ما يكونون عن ربهم سبحانه!

    قال: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي: نبين القدرة العظيمة من الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق.

    قال تعالى: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: ما شاء الله عز وجل أن ينمو في الرحم كان، فهو يعلم مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8].

    (يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد)، غاض الرحم انكمش ثم نزل ما فيه على هيئة الحيض أو على هيئة السقط، أو ازداد الرحم في النمو حتى أصبح بداخله جنيناً فمكث تسعة أشهر أو أقل من ذلك، ثم نزل طفلاً بعد ذلك.

    وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أما ما لم يشأه الله أسقطه.

    مراحل حياة الإنسان بعد خروجه من بطن أمه

    قال تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج:5]، بعد ذلك مرحلة الطفولية، وهي من ساعة نزول الإنسان إلى هذه الدنيا إلى قبل بلوغه، فهو في مرحلة طفوليته.

    قوله: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ [الحج:5] أي: تصل إلى الرشاد والشدة والقوة في حال البلوغ.

    قوله: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج:5] أي: حين ينزل الإنسان طفلاً قد يتوفى في هذه المرحلة، ومنهم من يبقى إلى أن يصل إلى أرذل العمر، كما ذكر لنا في سورة غافر، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ .

    إذاً: الإنسان قد يموت وهو في بطن أمه، وقد يموت حين يولد، وقد يموت بعد ذلك، وقد يعيش أمداً طويلاً ويصل إلى أرذل العمر، فهو ينمو حتى يصل إلى أقصى شيء وأكمله، ثم يبدأ ينزل حتى يصل كما كان طفلاً، فهو في هذه المرحلة يصير شيخاً كبيراً، ويرد إلى أرذل العمر، العمر الطويل الرذيل، الذي معه يذهب عقل الإنسان، يصل إلى مرحلة التخريف، إلا أن يحفظه الله سبحانه وتعالى بحفظه لدينه، وبحفظه لكتاب الله سبحانه وتعالى ولسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    فمرحلة الشيخوخة الإنسان ينسى فيها كثيراً، بعدما كان يحفظ كثيراً ينسى كثيراً، وبعدما كان يجيد النطق والتكلم تسقط أسنانه ويثقل لسانه ولا يقدر على التكلم بعد ذلك، وفرق بين الطفل الصغير الذي يكون بهذه الصفة، صفة الضعف وصفة اللثغة وصفة عدم القدرة، وبين الشيخ الكبير، فهذا الطفل الصغير محبوب لدى أهله ويحمل ويقبل، ويكون الإنسان فرحاً به، أما هذا الشيخ الكبير فيقولون: متى سيموت هذا الإنسان؟!

    قال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا [النحل:70] يعني: الإنسان الذي سيعيش ألف سنة، ماذا ستعلم عندما تعيش ألف سنة؟! إن لم تعلم من هو خالقك، وإن لم تتعلم كيف تعبد هذا الخالق، فكأنك لم تتعلم شيئاً في هذه الدنيا، فيظل الإنسان مهما وصل إلى العلم فإنه سيصل إلى هذه الشيخوخة التي سينسى فيها ما تعلم قبل ذلك، انظروا هنا هل يستطيع الإنسان أن يأتي بالشيخ الذي بدأ ينسى وبدأ يخرف ويرجعه مرة ثانية كما كان في حالة الكمال العقلي؟! هاهم يحاولون في هذا الشيخ، لكن لم يصلوا إلى شيء، انظروا إلى رئيس أمريكا ريغان الذي كان رئيس أمريكا وماذا عمل في العالم كله، أصابه مرض (زهيمر) فلا يعرف زوجته ولا أولاده، ولا يعرف شيئاً مما حوله، ذهب عقل هذا الإنسان بمرض أصابه من عند الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يتأمل الإنسان أنه مهما وصل إلى شيء من كمال قدرة وكمال قوة وكمال فهم وعلم، فإنه في النهاية يصل إلى هذا المنحنى الصعب الذي لا يعلم بعد علم شيئاً.

    هذا مثال ذكره لنا ربنا سبحانه لنعرف قدرة الله سبحانه.

    قال سبحانه: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً [الحج:5] هذا مثال قريب من المثال السابق، وهو إحياء الإنسان ونمو الإنسان كإحياء الزرع ونموه، فنحن كل يوم نرى إنساناً يولد وإنساناً يموت، ونرى الأرض كيف أنها تكون هامدة جامدة يابسة فعندما ينزل عليها الماء من السماء تحيا بفضل الله سبحانه.

    قال: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ أي: هذه الأرض اهتزت بنمو النبات فوقها، وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ؛ لنرى قدرة الله الذي خلق هذا وجعله ينمو، ثم أماته وهو في دورة قصيرة سنة أو دونها، فنرى الحياة والموت في الأرض لنتعظ من ذلك، ونرى حياة الإنسان وموته؛ لنعلم أنه ليس أحد يبقى على الدنيا، قال عز وجل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756241223