إسلام ويب

السعادة وأسبابهاللشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن ما يدور في العالم من صراع وقتل وتشريد إنما هو ناتج عن فقد الشعوب والمجتمعات لمفتاح الحياة، والكثير منهم ما يزالوا ينقبون عنه في شتى مناجم الحياة المادية .. وهذا المفتاح هو السعادة التي لا يعرف مواطنها إلا خالقها. ولما ظن كثير من البشر أن السعادة في غير الطريق الذي وصفه الله لهم أضاعوا العمر في البحث عن كل ما هو فانٍ، مما أثار تساؤلات كثير منهم فترددوا في حيرتهم، بل واختاروا طريق الموت والانتحار هرباً من الحياة التي فارقتها السعادة.

    1.   

    السعادة .. حقيقتها وحقيقة أهلها

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    أولاً: أقدم شكري وعظيم امتناني إلى أخي الدكتور/ يحيى ؛ عميد الكلية، وإلى الإخوة القائمين على نشاط التوجيه والتربية الإسلامية في هذه الكلية وعلى توجيه الدعوة لترتيب هذا اللقاء الذي أشعر -وأنتم كذلك تشعرون- بأهمية الحاجة إليه؛ لأن القلوب تحتاج إلى سماع العلم الشرعي والتوجيه الإسلامي أعظم من حاجة الأرض إلى نزول الغيث, فكما أن الأرض إذا انقطع عنها المطر أقفرت وأقحلت وانعدم خيرها وكثر شرها، كذلك القلوب إذا انقطع عنها الوحي الرباني والهدي السماوي فإنها تقسو وتتحجر ويكثر شرها وينعدم خيرها, وما ترونه اليوم من ممارسات غير صحيحة من قسوة في القلوب، وتحجر في العيون، وجرأة على المعاصي، وكسل في الطاعة، واستخفاف بالأوامر الربانية .. كل ذلك نتيجة لعدم الاستماع إلى الهدى الذي جعله الله عز وجل شفاء لما في الصدور: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57-58].

    ولا أشعر -أيها الإخوة- بغربة في مثل هذه المجالس، خصوصاً في أماكن التربية والتعليم؛ فلقد قطعت فيها عمراً طويلاً؛ أكثر من نصف عمري, بل أشعر بالأُنس والراحة والبيئة الصحيحة التي عرفتها طوال حياتي.

    الحديث عن السعادة حديث مشوق؛ لأنها مطلب كل إنسان وبغية كل كائن، والناس يختلفون بفئاتهم ومشاربهم وأشكالهم وعقائدهم وتصرفاتهم وأفكارهم .. يختلفون في أشياء كثيرة، لكنهم يتفقون في شيء واحد وهو البحث عن السعادة: المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعربي والعجمي، والأسود والأبيض، والمثقف والأمي، والكبير والصغير .. كل واحد يبحث عن السعادة, ولا أظن على وجه الأرض أحداً يود أن يكون شقياً, وما ترونه اليوم من تطاحن وصراعات في العالم .. كله من أجل البحث عن السعادة, ولكن المشكلة -أيها الإخوة- أن معظم البشر وأكثر الناس ضلوا الطريق وتاهوا عن القصد، وما عرفوا الطريق الموصل إلى السعادة.

    اللاهثون وراء السعادة من طريق الماديات

    لقد ظن بعض الناس أن السعادة في المال فقطعوا مراحل أعمارهم بتجميعه حتى حصلوا عليه, فلما حصلوا عليه كان المال سبباً لشقائهم, إذ المال وحده لا يكفي لإسعاد الإنسان, وإنما هو وسيلة من الوسائل التي تحقق السعادة, لكن إذا جعله الإنسان غاية وحصل عليه وجد الشقاء بعينه في المال.

    ابنة المليونير اليوناني التي ورثت خمسة آلاف مليون من أبيها -وهذا المبلغ يهز الدنيا- ربما يحلم الإنسان باقتنائه، وربما يموت ملايين البشر ولا يحصلون عليه, ولكن هذه ترث في صفقة واحدة بعد موت والدها خمسة آلاف مليون, وتمتلك جزراً كاملة وسفناً وطائرات وعمارات وشركات، ومع هذا لم تحقق لها هذه الثروة السعادة, فقد تزوجت بإنسان روسي وعاشت معه في غرفتين قبل سقوط الاتحاد السوفييتي -لأن الأنظمة الشيوعية لم تكن تسمح بأكثر من غرفتين- وكانت هي التي تطبخ الطعام بنفسها, وسئلت فقيل لها: كيف تعيشين هذه الحياة؟ قالت: أبحث عن السعادة. وظلت سنة كاملة تبحث عن السعادة فلم تجدها فطلقته؛ لأنها اشترطت يوم أن تزوجت أن تطلقه, وتزوجت بآخر فرنسي .. وتزوجت بأمريكي .. وتزوجت من كل النوعيات لتبحث عن السعادة ولم تجدها, وأخيراً وجدت مقتولة في بيتها! قيل: إنها منتحرة, لم تغن عنها الملايين شيئاً ولم تحقق لها الملايين سعادة, وهذا مقرر في كتاب الله؛ يقول الله سبحانه وتعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا [التوبة:55] بعض الناس يتصور العذاب بالمال في الآخرة، لا. ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا والآخرة إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [التوبة:55].

    سبحان الله! المال الذي هو أمل كل واحد، والذي هو رغبة كل إنسان يتحول عذاباً في الدنيا؟ نعم. عذاب في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كيف يكون المال سبباً في العذاب في الحياة الدنيا؟

    الجواب: من ثلاثة أمور:

    الأمر الأول: طريقة تحصيله: لا يأتي المال بالمجان, إذ لا بد من تعب وسهر وتفكير, ولا بد من مخاطرات وسفرات, والذي ينام لا يأتيه شيء, لكن ذلك الذي يشتغل ليل نهار هو الذي يرزق بالمال.

    الأمر الثاني: طريقة تشغيله: وبعدما يأتيه المال يأتيه هم وتعب في حفظه وتشغيله واستثماره وتحريكه.

    الأمر الثالث: القلق والحزن عند ضياعه: ثم يأتيه هم آخر عند مفارقته والحزن والقلق عند ضياعه, فالمال بطبيعته عذاب للإنسان, وليس طريقاً للسعادة.

    وبعضهم ظن أن السعادة في الرتب والمناصب واحتلال أرفع الدرجات، فيحاول أن يحصل على أحسن المؤهلات, فلما وصلوا إليها لم تتحقق لهم السعادة, ولست في هذه العجالة بحاجة إلى التدليل, فالذي ذاقها أو عرفها يعرف أنها ليست لإسعاده.

    وبعضهم ظن السعادة أن يرتمي في أحضان الغانيات .. ويستجيب لنداء النزوات والشهوات .. ويعيش حياة العاطفة؛ حياة الفن, والرقص, واللعب, والحب, والغرام, ظناً منه أن هذه هي السعادة.

    ولكنها في الحقيقة بعينها كانت عنوان الشقاء, فإن سألنا أهل الاختصاص فإنهم يجيبون بأصوات مرتفعة، فرائدة الغناء العربي تقول في إحدى أغانيها: (الحب عذاب) والعندليب الأسمر يقول: (حبك نار، وقربك نار، وبعدك نار، نار يا حبيبه نار) يعني هذا أقسى ما في الحياة من عذاب، بل توعد الله مثل هؤلاء بالعذاب في الآخرة بالنار ولقد حصل عليه في الدنيا قبل أن يلقاه, وهذا معنى قول الشاعر:

    فما في الأرض أشقى من محب     وإن ظن الهوى حلو المذاق

    تراه باكياً في كل حين     مخافة لوعة أو لاشتياق

    فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم     ويبكي إن دنوا خوف الفراق

    إذا كانت الحبيبة بعيدة يبكي؛ لأنها بعيدة عنه, وهو متشوق إليها، وإذا قربت منه يبكي توقعاً منه إنها سوف تفارقه.

    فتسخن عينه عن التداني     وتسخن عينه خوف الفراق

    فالقضية عذاب من أولها إلى آخرها, وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم العظيم الداء والدواء الذي أدعو الشباب إلى اقتنائه وقراءته؛ لأن فيه جواباً على كل التساؤلات التي في النفس البشرية حول هذا الأمر من العاطفة والحب ..، إني أظن ألا أحد من الناس إلا وعنده هذا المرض -مرض الحب- والحب طبعاً عاطفة في النفس البشرية التي خلقها الله, لكنه جعلها لشيء آخر غير ما يفهمه الناس, فالحب حب الله، وحب رسوله، والقرآن، والجنة، والدين .. هذا هو الحب.

    أذكر أن شاباً من شباب الصحوة وهو الآن يعمل دكتوراً في الجامعة في كلية اللغة في أبها ، ويوم أن كان في المدرسة الثانوية كان عنده مدرس علم النفس، وكان دائماً يتكلم عن الجنس والحب والغرام، ويفسر الحياة كلها على هذا المنوال, لأنه من تلاميذ فرويد , وفرويد هذا أنجس موجود على وجه الأرض؛ رجل خبيث مغمور في الجنس من رأسه إلى قدمه، لأن علماء التربية والنفس أكثرهم يأخذون هذه الأفكار والمناحي من تصرفات النفس البشرية بعيداً عن الهدي الذي يهذب النفس البشرية، فإن أعظم من يتكلم عنها صانعها وهو الله جل وعلا, فالجهاز أحسن من يتكلم عنه ويصفه هي الشركة التي صنعته, لكن لو أتينا بصاحب البنشر وقلنا: أعلمنا بأسرار هذا الجهاز, فإنه لا يعرف أسراره, ولكن يقول: لا يوجد زيت, ولا شحم, ولا هواء .. هذا عمله, وكذلك الذي يتحدث عن النفس الإنسانية وهو لا يعرفها سيكون حديثه كلام فارغ وهراء, وقد ابتدأهم ذلك الأول الذي قال: إن الإنسان قرد، اسمه " دارون " وهو قرد وأبوه قرد ابن قرد.

    والدارونية سقطت، وأصبحت هناك نظريات جديدة اسمها: الدارونية الحديثة -يعني بعيدة كل البعد عن نظرية دارون - لأن الأبحاث والآثار أثبتت أن الإنسان إنسان منذ خلقه الله، وأنه لم يتطور؛ وهذا البحث بعيد كل البعد عن نظرية دارون التي قال فيها: إن الإنسان كان خلية، ثم تطور وتطور إلى أن أصبح إنساناً, ولما سئل: ما دامت القضية قضية تطور فلماذا بقي الإنسان إنساناً ولم يتطور؟ قال: سيتطور, قالوا: متى؟ قال: بعد خمسة آلاف مليون سنة! كبّر الكذبة حتى لا يدركها أحد, قالوا: ما الذي يحدث بعد هذا؟ قال: يصير فأراً -يقول: يتطور الإنسان حتى يصير فأراً بعد هذا- طبعاً سقطت هذه النظرية وقامت نظريات أخرى كنظرية ماريا منتسوني , ونظرية فروبل في اللعب, ونظرية المشروع الدونديوي, ونظرية دوركايم في العقل الجمعي, ونظرية ماركس التي سقطت في التطبيق العملي، وهي نظرية: لا إله والحياة مادة.

    نظرية فرويد هذا تعني أن الحياة كلها جنس, حتى يفسر الطفل، يقول: عندما يرضع ثدي أمه فإنه يمارس عملية الجنس -والعياذ بالله- وهذا المدرس كان من تلامذة فرويد ، فدائماً يدغدغ مشاعر التلاميذ وهم في سن المراهقة -ثالث ثانوي- ويتكلم معهم عن الجنس، وتمر نصف ساعة أو ساعة كلها في الجنس, فيحبه الطلاب, فأحد الطلاب قال: يا أستاذ.. قال: نعم. قال: لماذا الملتزمون لا يحبون -وكان يوجد أربعة من الطلاب في الفصل ملتزمين-؟ لأن بقية الطلاب كل واحد منهم له محبوبة, إلا هؤلاء الأربعة الملتزمين لا يحبون, قال: يا أستاذ لماذا المطاوعة لا يحبون؟ فقال الأستاذ الشيطان الرجيم: أولئك قوم مات في قلوبهم الوجدان, يقول: الوجدان في قلوب هؤلاء ميت, ومعقدون مكبوتون -يعني في الدين- وليس عندهم وجدان حي, فقام الشاب المبارك -الذي أسأل الله أن يوفقه وهو كان عميد كلية اللغة والآن مدرس في الكلية- وقف وقال: لا يا أستاذ. نحن لم يمت الوجدان في قلوبنا, نحن نحب ولكننا نحب الله ورسوله والدار الآخرة, وأنتم تحبون ولكنكم تحبون ما يحب الحمار, ماذا يحب الحمار؟ يحب هذا الشيء, أي: إذا رأى أنثى رفع مسامعه وجرى وراءها، هذا عمله، وهؤلاء يعيشون حياة البهائم كما قال الله سبحانه وتعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].

    فالسعادة -أيها الإخوة- ليست في الحب, ولا في الاستجابة لنداء الشهوة والنزوة.

    تعريف السعادة

    ما هي السعادة؟

    السعادة في تعريفها عند العلماء هي: الشعور بالأمن والراحة والطمأنينة في هذه الحياة التي هي مشاهدة، وأيضاً في المستقبل الذي هو محجوب عن الإنسان، هنا مربط الفرس, فإن الذي ليس عنده عن الآخرة علم، ولا عمل لها، وهو يعلم أنه سائر إليها لا يشعر بسعادة, لماذا؟ لأنه على يقين من الموت, ولا يوجد أحد في الدنيا يقول: لا أريد أن أموت, بل تموت رغماً عنك, والرحلات ماشية الآن, وكل يوم تسمعون عن موت أناس، فما بعد الموت ؟ الآخرة, وما بعد الآخرة؟ وهنا المشكلة, فالذين يقولون: لا يوجد شيء، نقول لهم: من قال لكم: إنه لا يوجد شيء؟ من الذي مات وذهب إلى الآخرة واكتشف أنه لا يوجد شيء ورجع ليقول لنا: لا يوجد شيء .. هل أحد فعل ذلك؟ لا. نحن عندنا يقين حينما نقول: يوجد شيء بعد الموت؛ لأن الله أرسل رسولاً وأنزل عليه كتاباً، وضمَّن هذا الكتاب أخبار الآخرة, وضمَّن هذا الكتاب أيضاً إعجازاً ليدل على أنه من عند الله, ولا يمكن أن يكون من عند بشر, فأنت عندما تقرأ القرآن وتلمسه وتحس به وتستشعره تعرف أنه من عند الله, فالله تعالى يقول فيه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51] أي: كفى بالقرآن معجزة, ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري : (ما من نبي قبلي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر, وإني أوتيت أكثرهم -أي: القرآن- وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) وقد تحققت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فهاهو دينه باق على وجه البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- كذاباً لما بقي دينه, فكم من أناس ادعوا النبوة وكان لديهم من الإمكانات ما يؤهلهم بأن يقودوا أممهم في الباطل الذي انتحلوه, لكن هل بقيت دعواتهم؟ فقد ادعى النبوة شخص اسمه مسيلمة ! من يعرف أباه أو جده؟ أبوه الكذاب، اسمه: مسيلمة الكذاب , ادعى النبوة وكان عنده رجال وجيش ومقاتلون أشداء أشاوس، لكن لا يوجد الآن على وجه الأرض خبر على أن مسيلمة رسول الله، حتى أولاده من صلبه لو سلسلنا ذريته ووجدنا من ذريته شخصاً لقلنا له: أنت فلان بن فلان بن فلان بن مسيلمة الكذاب .

    وطليحة بن خويلد الأسدي ادعى النبوة أيضاً، وهو من طي من بلد حائل , ولكنه أسلم بعد ذلك -سبقت له من الله الحسنى وأسلم- قام وادعى النبوة وقاتل الصحابة في حروب الردة وقتل اثنين من الصحابة: قتل زيد بن أرقم وعكاشة بن محصن رضي الله عنهم وأرضاهم, ومع هذا أسلم ورجع وقاتل في معارك إسلامية عظيمة واستشهد.

    والأسود العنسي أيضاً ادعى النبوة في اليمن , وسجاح بنت الحارث ادعت النبوة .. حتى النسوة ادعين النبوة! ولكن هل بقيت دعواتهم؟ لا. لماذا؟ لأنها باطلة, لماذا بقيت دعوة الإسلام ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم؟ كم على وجه الأرض اليوم ممن يشهد أن محمداً رسول الله؟ أكثر من ألف مليون مسلم يشهدون .. وتكفينا الشهادة, صحيح أن الأمة الإسلامية الآن ضعيفة ومقهورة وغير رائدة ولا قائدة، لكنها لا تضيع عقيدتها, ولهذا تجد حتى أضعف الناس إيماناً إذا سمع أن هناك أي تعرض أو إساءة لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم يثور ويغضب ولا يمكن أن يرضى, ويقول: كيف يهان الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهذا دليل على أنه رسول الله.

    ضمَّن الله هذا الكتاب الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم الخبر عن الآخرة, وعمل الناس للأعمال التي تنفع بعد الموت, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) ما الذي ينفع بعد الموت؟

    العمل الصالح, وأما المال فلا ينفع بعد الموت إلا من كان مؤمناً؛ لأن الله يقول: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].

    فالسعادة في تعريفها: شعور داخلي بالأمن والطمأنينة والراحة والسكينة في الحياة الدنيا وما بعد الموت، فالمال يوفر لك الراحة والسعادة في الدنيا فقط, والزوجة والأولاد والمنصب والمكانة الاجتماعية كلها توفر لك الراحة لكن في الدنيا فقط, وفي الآخرة لا توفر لك السعادة فيبقى القلق, والإمكانات المادية توفر الراحة للكائن الجسدي فقط, ويبقى الكائن الروحي هنا في قلق, وحيرة, واضطراب إلى أن يجد الغذاء الذي من أجله وجد، والذي في عالمه وجد، وهو غذاء الروح؛ أي: إذا وجد الإيمان وجدت السعادة .. هذه هي السعادة وتعريفها.

    1.   

    أسباب السعادة

    أما أسبابها وكيفية الحصول عليها فتكمن في الآتي:

    الإيمان بالله والعمل الصالح

    أول عنصر من عناصر السعادة: هو الإيمان بالله والعمل الصالح:

    وقد جاء هذا مصرحاً به في كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] وهذه الكلمة: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ) يعرف أهل اللغة ما فيها من المؤكدات؛ فاللام المؤكدة والنون المثقلة شديدة التوكيد (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، ما هي الحياة الطيبة؟ ليست حياة البطون ولا الفروج ولا الشهوات, إنها حياة القلب -والنفس- وقد كان حياً قبل أن يعمل الإيمان والعمل الصالح؟ قالوا: كانت حياته حياة خبيثة؛ بعيدة عن الله, فليس بحي بل هو ميت، والله تعالى يقول: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً [الأنعام:122] كان ميتاً بالكفر والمعاصي والذنوب (فأحييناه) بالإيمان, ولا يستوي الحي والميت كما قال الله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [فاطر:19]* وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [فاطر:21]* وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، فرق بين هذا وذاك, فمن يعش حقيقة الإيمان ليس كمن يعيش حياة اللهو, ولهذا يقول الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ [الرعد:19].

    فالإيمان هو أساس السعادة؛ وهو عنصر السعادة الأول, فإذا وجد الإيمان وجدت السعادة ولو لم توجد البقية, وإذا فقد الإيمان والعمل الصالح فقدت السعادة ولو توفرت للإنسان جميع أسباب السعادة الأخرى؛ لأنه هو الأساس, وهل يمكن أن تقوم عمارة بغير أساس؟ لا. بل أول شيء الأساس, ثم بعد ذلك يمكنك أن تكمل الدور الثاني والثالث والرابع .. فلا يمكن أن تبني الدور الثاني في الهواء بدون أساس وقواعد, ولذلك الناس الآن يبنون عمارة السعادة في الهواء؛ يبنون السعادة بالمال، وبالزوجة، والمنصب، والأفلام والمسلسلات، والتمشيات، يبنون سعادة في البر والبحر والرحلات، لا. ابدأ السعادة من تحت, ابنِ سعادتك على الإيمان والعمل الصالح، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [النحل:30] ما هي الحسنة هذه؟ قالوا: هي الحياة الطيبة التي يعيشها المؤمن, ويقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، لا تطمئن القلوب بالمال, المال تنتفخ به الجيوب وترتفع الأرصدة, وبالأكل تطمئن البطون, وبالزوجات تطمئن الفروج, لكن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله -أي: دين الله- ولهذا جاء بإشارة هنا وسبقها بأداة الإشعار (ألا) للاستهلال أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]* الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ [الرعد:29] قال العلماء: طوبى جنة الدنيا وبعدها قال سبحانه: وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:29] أي: الجنة. طوبى لهم، أي: في هذه الدنيا العاجلة، ولهذا يقول أحد العلماء: إن في الدنيا جنة من لم يذقها لم يدخل جنة الآخرة. ويقول آخر: مساكين أهل هذه الحياة؛ جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بطاعة الله. وآخر يقول: والله لو يعلم أهل الجاه والسلطة ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف.

    كان شيخ الإسلام رحمه الله مسجوناً في سجن القلعة بـدمشق ، يقول ابن القيم : كنا إذا أظلمت علينا الدنيا وضاقت بنا النفوس ذهبنا إليه نزوره في القلعة, فوالله ما هو إلا نراه حتى نشعر بالسعادة.

    وكان شيخ الإسلام يقول: المسجون من سجنه هواه, والمأسور من أسره شيطانه. ثم يقول: ما يصنع بي أعدائي؟! إن جنتي وبستاني في صدري, أنى سرت فهي معي. إن قتلي شهادة, وإخراجي من بلدي سياحة, وسجني خلوة. فما يصنع بي أعدائي أكثر من هذا؟!

    انظروا! يعيش في سجن ومع هذا يشعر بالسعادة, من الذي أدخل السعادة في قلبه؟ إنه الإيمان والعمل الصالح, بينما لو لم يكن عنده إيمان ولا عمل صالح وهو يعيش في قصر فإنه يشعر بالضيق, هأنتم ترون الآن في أوروبا وهم يعيشون في ناطحات السحاب ولكنهم في عذاب.

    يخبرني أحد الإخوة ممن يقيم في السويد ، يقول: السويد من الدول الإسكندنافية الراقية: فـالدنمارك والسويد والنرويج مستوى الدخل فيها مرتفع, والحياة والمعيشة شيء لا يتصوره العقل, والدولة تصرف لكل واحد منهم مبالغ، وضماناً صحياً واجتماعياً، وتصرف رواتب ضخمة, والآلات مطورة ومسخرة، والنظافة معممة لدرجة أنك لا تجد عقب سيجارة ولا قصاصة ورق في شوارعهم, بل حتى الكلاب تعرف أنظمة السير؛ يأتي الكلب ويقف عند الإشارة حتى تؤشر ويمشي، والبقر تغتسل في هولندا كل يوم مرتين -حمام في الصباح وحمام في الليل- ومع هذا يقول لي الأخ: هم في أسوأ حياة يعيشونها, يقول: لا ينامون إلا بفعل الحبوب والمخدرات, وإذا نام الإنسان في (24) ساعة نصف ساعة أو ساعة يأتي إلى زملائه في المصنع أو المكتب أو العمل ويبشرهم بأنه نام في البارحة, وعندنا يضع الشخص رأسه (8) ساعات بدون حبوب أو أي منوم وهذا من فضل الله, لماذا؟ لأنه مؤمن بالله, وإن كان إيمانه ضعيفاً فهو أفضل بكثير من فقدان أولئك للدين.

    مليونير أمريكي يدعى روكفلر اشترى جزيرة من جزر المحيط الهادي , وغرس فيها وسواها وضبطها، ثم قال: أريد أن أجلس فيها, قالوا: لماذا؟ قال: ضجيج المصانع وأزيز الطائرات وهدير الناس أزعجني! أريد أن أنام, فذهب، وعندما وصل إليها وجدها هادئة لا صياح فيها ولا صراخ, فجلس نصف ساعة وركب طيارة وقال: لا تصلح! يبحث عن السعادة.

    وبعضهم ينتحر لماذا؟ لأن المادة تضغط عليه حتى تفجر النفس الداخلية, فلا يجد مخرجاً من هذا العذاب الذي هو فيه إلا بالموت, ويسأل نفسه: لماذا أنا أعيش؟ فتجيبه النفس: تعيش من أجل أن تأكل, ويقول: لماذا آكل؟ فتقول: تأكل من أجل أن تعيش, فيقول: أعيش لآكل وآكل لأعيش! وبعدها .. تموت, قال: ما دمت سأموت فسوف أموت الآن, فيقدم على الانتحار؛ وأعلى نسبة للانتحار هي في تلك الدول؛ لأنهم فقدوا الإيمان بالله والعمل الصالح.

    فأعظم شيء هو الإيمان, فبالإيمان والعمل الصالح تجيب على التساؤلات التي تنبعث داخل النفس البشرية عن الحياة: ما هذه الحياة؟ من أين جئت إليها؟ ولماذا؟ وما دوري؟ وبعد أن أموت أين سيذهب بي؟ هذه التساؤلات لا تجيب عليها الماديات أبداً. لا يجيب عليها إلا الدين, فإذا عرف الإنسان حقيقته وأنه جاء ليعبد الله، وأنه بعد هذه الحياة سيلقى الله, فإنه يجد أمناً وطمأنينة.

    مثلاً: فأنتم بعد المحاضرة يذهب كل واحد إلى بيته أو عزبته, وما عندكم الآن أي قلق, لماذا؟ لأنكم تعرفون إلى أين أنتم ذاهبون, فكل واحد يخرج ويقود سيارته أو يركب مع زميله ويمشي, ولو أخذنا شريحة من نفسه وحللناها لوجدناها طبيعية وليس عنده أي قلق أو هم, لكن لو خرج شخص من هنا وعند باب الكلية اعتدي عليه من قبل مجموعة مسلحة، وغطوا عيونه ورموه في صندوق السيارة, ومشوا به وأخرجوه إلى منطقة بعيدة في صحراء, ثم فكوا الرباط الذي على عينه, وبعد ذلك جئنا لنحلل نفسيته أهي مطمئنة أو قلقة؟

    الجواب: قلقه، لماذا؟ لأنه لا يعرف أين يذهب, وتبدأ عنده الاحتمالات: ماذا يريدون مني؟ يقتلونني، أم يسجنونني، أم يرمونني؟ لماذا جئت إلى هنا؟ ويبدأ القلق يتزايد. هذا مثال مصغر لطبيعة الحياة.

    ولكن عندما تذهب إلى مكان باختيارك وتعرف إلى أين أنت ذاهب باختيارك تكون مطمئناً, ولكن عندما تؤخذ إلى مكان ليس لك فيه رأي ولا تدري ما الذي سيحصل لك فإن القلق يبدأ بالسيطرة عليك، فهل أنت -أيها الإنسان- يوم جئت إلى هذه الحياة كان باختيارك أم جيء بك رغم إرادتك؟ وبعدها عندما تمضي فترة العمر ثم تموت، أتموت باختيارك أم رغم إرادتك؟

    الجواب: رغم إرادتك، فأنت جئت بغير اختيارك وكذلك تموت بغير اختيار، وحينها يبقى عندك القلق إلى أن تعرف لماذا جئت؟

    وإلى أين تذهب بعد أن تموت؟

    أما سؤالك: لماذا جئت قد أخبرك الله تعالى بجوابه، وحل لك المشكلة وقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وأخبرك أن بعد الموت حياة، وبعد الحياة حساب وجزاء، قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم في الدار الآخرة: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26]* وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس:27] هل تتصور وأنت تعمل السيئات أن يكون جزاؤك مثل جزاء الذي يعمل الصالحات؟ لا. هذا سوء ظن بالله, ولهذا يقول الله وهو يستبعد هذا عن الناس: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثـية:21]* وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثـية:22] لا يمكن أبداً أن يكون مصير الفاجر ومصير الطيب سواء قال الله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35] وفي آية أخرى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] ونحن الآن نرى أن سوق الحياة ينتهي دون أن تصل يد العدالة إلى المجرم فتقتص منه، أو إلى المحسن فتعطيه ثوابه, بل يعيش بعض الناس وهو محسن طوال حياته والنكبات تتوالى عليه, ويعيش المجرم وهو يسيء طوال حياته والدنيا تصفق له وتتسابق إليه, ثم يموت الاثنين .. وعلى هذا نجزم بالعقول أن هناك يوم فيه يقتص من المسيء ويعطى المحسن ثوابه, واسمه يوم الدين، لماذا سمي بيوم الدين؟ لأنه يدان الناس هناك بأعمالهم, فلا ينفع هناك أموال ولا أولاد ولا مناصب إلا الحسنات, فإذا كان عندك حسنات فزت, وإذا لم يكن عندك شيء خسرت والعياذ بالله.

    ويحصل الأمن بكل صوره، والطمأنينة بجميع مفاهيمها، والسعادة بكل أطرافها .. تحصل بناء على العنصر الأول من عناصر السعادة وهو الإيمان بالله والعمل والصالح.

    الإيمان بالقضاء والقدر

    ومن أسباب إيجاد السعادة عند الإنسان: الإيمان بالقضاء والقدر.

    والقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان وهو: سر الله في خلقه، والخوض فيه يعرض الإنسان لخطورة الوقوع في إحدى فئتين ضالتين وهما: الجبرية أو القدرية ؛ أما الجبرية فقد سلبوا العبد فعله, وأسندوا فعل العبد لربه، وقالوا: العبد مجبور, فإذا زنا قالوا: مجبور؛ لأن الله كتب عليه فعلها, وإذا سرق قالوا: مجبور؛ لأنه ليس إلا كالسعفة في مهب الريح, فجعلوا العبد آلة ليس لها أي تصرف. وقابلتهم فرقة أخرى -والمذاهب والنحل كلها ردود فعل؛ لأن الابتعاد عن الكتاب والسنة يفعل ردود فعل للتصرفات المقابلة- وهم القدرية الذين سلبوا الرب فعله وأسندوا الفعل كله للعبد وجعلوا العبد هو الذي يخلق فعله وليس لله أي شأن ولا إرادة ولا مشيئة في فعل العبد, وكلا الأمرين باطل.

    وأهل السنة والجماعة هدوا إلى الحق، وهو: أن للعبد مشيئة وللرب مشيئة, ولكن مشيئة العبد داخلة ضمن مشيئة الله, والله تعالى يقول: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] وأن العبد مسئول عن تصرفاته, إذ لا يمكن أن يحاسبه الله عن غيره وهو غير مسئول عنه, فأنت نفسك لو جئت على ولدك وقد كسر جهازاً فإنك تعاقبه, ولكن لو أن الجهاز وقع من نفسه والولد واقف عنده ولم يلمسه, أتعاقب الولد؛ لأنه كان واقفاً عند الجهاز؟ ولو عاقبته فسوف يقول: لماذا تضربني؟ أنا لم ألمسه، فهو الذي سقط فجأة, وحينئذٍ لا تستطيع أن تعاقبه؛ لأنك تعرف أنه لم يذنب, وكذلك الله سبحانه وتعالى, أيريد الناس أن يكون الله ظالماً؟! ينـزهون أنفسهم عن الظلم ويسندونه إلى الله! ويقولون: إن الله يعذب بغير اختيار من الإنسان! واعتقادهم هذا خطأ. لأن الله إذا سلب القدرة أسقط التكليف, فإذا احتلم الإنسان في رمضان وهو يقظان، أي: مارس عملية إخراج المني بنفسه، ما حكم صيامه؟ إذا أخرج المني عامداً فسد صومه, لكن لو نام واحتلم وخرج المني في حال نومه لا يفسد لأن الأول بتعمده فسد صيامه وأثم, وذاك تم بغير اختياره فصيامه صحيح وعليه أن يغتسل ويصلي ولا شيء عليه. والصلاة فرضها الله، ومن أركانها القيام ولكن عندما تكون مريضاً، من الذي أمرضك؟ حينها يقول الله تعالى: صل قاعداً, وكذلك في كل التكاليف.

    فالإيمان بالقضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب المقادير، وقدر الأمور في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق، هذا هو التقدير, والقضاء هو الذي يتم الآن في عالم الواقع.

    ونضرب مثلاً ولله المثل الأعلى: إذا أراد مهندس أن يبني عمارة فإنه لا يبنيها عشوائياً بل لا بد أن يصمم لها مخططاً -ولله المثل الأعلى- وهذا من باب تقريب المعنى, وكذلك لما أراد الله خلق الكون والحياة وضع له تقديراً -أي: مخططاً- ثم بعد ذلك يتم التنفيذ, ولكن هذا العلم الإلهي كما يسمونه العلماء: سابق لا سائق, أي: أن الله علم أن (زيداً) من الناس وأنه سوف يخلق وأن هذا المخلوق اسمه زيد، وسوف يبلغ سن التكليف وتصله أوامر الشرع فيستجيب لها باختياره، ويهتدي ويلتزم ويتمسك فتكون نهايته الجنة، فيكتب أنه سعيد ومن أهل الجنة. فهذا سبق علم لا سوق, أي: ما ساقه الله سوقاً بحيث نقول: ليس له اختيار, بل كان عنده اختيار ويقدر أن يكون فاسداً، وكذلك يقدر أن يكون مجرماً، لكنه اختار طريق الهداية.

    وكذلك علم الله أن (عمراً) من الناس، وأنه سيخلق ويبلغ سن التكليف، ويسير في طريق الانحراف والجريمة والكفر والفساد، ثم يموت على هذا، فعلم الله أن هذا سيكون فكتب عليه الشقاء بحسب سابق علمه.

    هل يوجد أحد من البشرية الآن في الدنيا يعلم ماذا سيحدث غداً؟ لا. لكن الله يعلم ما سيحدث غداً؛ لأن الله إذا كان لا يعلم ما يكون غداً فكيف يكون رباً وهو لا يعلم؟ جل جلاله وحاشاه! ولذلك من صفاته تعالى أنه عليم وأنه علام الغيوب, وأنه يعلم ما سيكون إلى يوم القيامة, وأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى, وأنه أيضاً يعلم السر وأخفى, السر: الذي في قلبك يعلمه الله, أخفى: الذي سوف تسره وأنت لا تعلمه فإن الله يعلمه الآن, إذ لا يغيب عن علمه شيء: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] فالله يعلم أن فلاناً سيكون فاسداً وكتب عليه أنه سيكون شقياً لا سوقاً وإنما سبق علم وصفة كمال في الرب سبحانه وتعالى.

    فالإيمان بالقضاء والقدر يشعرك بالأمن والراحة، لماذا؟ لأنك وأنت تعيش في هذه الحياة تكون عرضة للإصابة بأشياء لا ترضيك؛ إما بموت حبيب، أو بمرض قريب، أو بمصيبة، أو بكارثة، أو بحادث، فإذا عرفت أن هذا الشيء مكتوب, وأن الله قدره, وأن الله سيثيبك عليه إن صبرت وتلقيت هذه المصيبة والكارثة بصدر رحب، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم اجبرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها, فسينـزل الله على قلبك طمأنينة ويمنحك السكينة، وتتحول هذه المحنة في حقك إلى منحة, لماذا؟ لأنك استعضت الله فيها, وجعلت عوضك عند الله منها, وفي نفس الوقت ادخرت ثوابها؛ لأن الله لا يظلم مثقال ذرة, فإذا أصابك بمصيبة فإنما ليرفع درجتك أو ليكفر خطيئتك, أو ليخفي لك من الثواب ما لا يعلمه إلا هو.

    ولهذا ورد في الحديث أن أصحاب المصائب والبلايا في الدنيا يأتون يوم القيامة فيجدون حسنات كأمثال الجبال، فيقولون: يا ربنا! بم هذه الحسنات التي ما عملناها؟ فيقال: بالبلاء الذي تعرضتم به في الدنيا, فيتمنى أصحاب العافية أنهم عاشوا في غير عافية, فالعافية ذهبت، وبقي أجر أصحاب البلاء, وهذا يأتي -أيها الإخوة- عن طريق الإيمان بالقضاء والقدر, فإنك تجد الذي عنده إيمان بالقضاء والقدر لا يتحرك ولا يضجر ولا يجزع مهما جاءه من خبر: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23].

    ذكر الله سبحانه وتعالى

    ومن الأسباب التي تجلب السعادة للإنسان: ذكر الله سبحانه وتعالى.

    فإن ذكر الله شرح للصدر وإزالة للهم؛ لأن القلوب بيد الله، فإذا ذكرت الله ذكرك الله وشرح صدرك وذكرك فيمن عنده, ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بذكره في كل الحالات, وبين أن أهل العقول السليمة يذكرونه في كل المناسبات: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].

    إن ذكر الله من أعظم الأدوية لأمراض القلوب, ولذلك إذا رأيت إنساناً ذاكراً فإنك تحكم عليه بمحبة الله وسلامة قلبه, (مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت) وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس ذكراً لله, تقول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري : [كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله في سائر أحواله], فما كان يفتر لسانه عن ذكر الله ولما جاء عبد الله بن بسر في حديث في سنن الترمذي ، قال: (يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة وينجيني من النار وأوجز -يقول: قلل فأنا لا أريد كثيراً, أريد شيئاً بسيطاً- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) يقول العلماء: إن هذه الإجابة دليل من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم, فإنه دله بحديث بسيط على عمل عظيم, فإن الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله هو الذي جمع الدين كله, فهل هناك شخص يزني أو يسكر أو يتناول المخدرات أو يروجها أو يسعى إليها ولسانه رطب من ذكر الله؟ من ذا الذي يعمل هذه الجرائم إلا من لسانه قاسٍ عن ذكر الله, أما الذي لسانه رطب من ذكر الله تجده مع الله في كل حين وفي كل وقت. فذكر الله من أعظم أسباب السعادة.

    ومن أعظم أنواع الذكر: قراءة القرآن, فإن القرآن -كما ذكرنا- يقول الله تعالى فيه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً [فصلت:44] ويقول سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] فأنزله الله عز وجل شفاء لما في الصدور وهي القلوب, فالقلب لا يطمئن إلا إلى ذكر الله, وإذا جعلت لك موعداً مع الله في تلاوة كتابه ومناجاته، يقول أحد السلف: "من أراد أن يناجي ربه فليقرأ القرآن أو ليقم إلى الصلاة", كأنك تناجي الله سبحانه وتعالى، وأنت بهذه المناجاة والتلاوة والقرب من الله تعرض نفسك لأعظم سبب من أسباب السعادة.

    قضاء الفراغ في عمل مباح أو طاعة ما

    من أسباب السعادة: أن يكون لك عمل تقضي فيه وقتك وتجمع منه مالاً تقضي به حاجاتك .. هذا من السعادة؛ لأن البطالة وعدم وجود العمل يولد للإنسان حاجة وفقراً, (كاد الفقر أن يكون كفراً، فإنه بئس الضجيع) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم, إذ لابد أن يكون هذا العمل مباحاً أو طاعة، أما أن يكون حراماً فلا. لا تبحث عن عمل حرام يسبب لك دخلاً حراماً, وإنما يجب أن يكون العمل شرعياً ومباحاً في الشريعة, ومن أفضل الأعمال التي تزاول على الحياة وظيفتكم أنتم في هذا المعقل العلمي؛ وظيفة التربية والتعليم, فالمعلم هذا ليس صاحب وظيفة وإنما صاحب رسالة, ولهذا إذا دخل في هذا المجال فعليه أن يستشعر الرسالة, وأن يعلم أنه ليس مرتزقاً ولا طالب عيش, بل صاحب رسالة وطالب علم يحمل أمانة ومسئولية, وسوف يتخرج بعد أيام ليسلم أمانة -وهم فلذات أكبادنا- فحينما تستلم التعليم وتدخل الفصل وأمامك ثلاثون طالباً، هؤلاء أمانة الله في عنقك يوم القيامة, فقد جاء بهم آباؤهم وسلمتهم الدولة لك من أجل أن تشكل منهم لبنات صالحة في المجتمع, ولن يكونوا صالحين إلا بصلاحك أنت؛ لأنك القدوة والمثل لهم, ولأن المدرس هو الموجه والمربي وليس الأب, ولذلك الأب إذا سأل الولد فقد يقوم أو قد لا يقوم, لكن المدرس إذا أراد أن يسأل الطلاب، هل يقوم واحد أم الكل؟ أي: إذا قال المدرس: من يجيب على كذا وكذا..؟ كل يتشرف أن يلبي غرض الأستاذ وأن يخدمه, لماذا؟ لأنهم يحترمونه ويقدرونه, وإذا قال الأستاذ كلاماً وقال الأب كلاماً، من يصدق؟ يصدق الأستاذ.

    قبل فترة كان عندي طفل في السنة الثالثة الابتدائي ويثق في ويعرف أن عندي قدرة علمية وأقدر أن أقنعه، ولذا فبيني وبينه علاقة على الرغم أنه في الثالثة الابتدائي, ومرة قال الأستاذ كلمة -وجهة نظر في قضية من القضايا- وجاء الطفل وقال لي: قال الأستاذ: كذا.. قلت: لا. هذه وجهة نظره، لكن الصحيح: كذا وكذا.. قال: لا، أبداً. الأستاذ أحسن.

    فالأستاذ في نظره أكثر علماً وفهماً، لماذا؟ إنه يقول لي: لو أنك تربيني لكنت درستني في البيت، ولكنك تذهب بي إلى الأستاذ لأنه هو المربي, أي: أنت -مغذي فقط- تعطيني الأكل والشرب والكسوة والتربية اتركها له, ولهذا كان دورك أيها المعلم دور عظيم في بناء الأجيال والأمة, وإذا استلمت على هذا أجراً كان هذا أفضل أجر وعمل, ولهذا يقول الشاعر:

    قم للمعلم ووفه التبجيلا     كاد المعلم أن يكون رسولا

    أرأيت أفضل أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفساً وعقولاً..؟ المهندس يبني العمارات, والطبيب يبني الأجسام, والمهندس الزراعي يعمل في الأرض, لكن أنت المدرس، ماذا تبني؟ تبني العقول والأجسام والأرواح والقلوب, فمهمتك عظيمة ودورك عظيم, ومهنتك أحسن الوظائف, هذه نعمة من نعم الله عز وجل.

    فيجب عليك حتى تكون سعيداً أن يكون لك دخل وعمل مباح، ومثل عملكم ليس مباحاً فقط، بل مشروع ومطلوب وهذا جزء من السعادة, وإلى جانب ذلك ما تتميزون به من مميزات: فوقت العطلات كبير, والدوام قليل, فأنتم تذهبون الساعة السادسة والنصف وترجعون الساعة 12 وكل واحد في بيته, وعطلة رمضان كاملة, والحج تأخذون إجازة قبله, والصيف كله إجازة, وهكذا كل العام أكثره إجازات وهذه من نعم الله عليكم, فهذه نعمة ستشعروها أنتم ولا تغبطون غيركم.

    وبعض الشباب يغبط طالباً -مثلاً- في كلية الأمن, يقول: ذهب كلية الأمن ليتخرج ضابطاً, والطبيب كذلك ويقولون: طبيب وعليه الزي الأبيض، والسماعة حول عنقه، ويدخل والناس طوابير على بابه.. ويكشف.. لكن اسمعوا ماذا تقول الطبيبة في مجلة اليمامة قبل سنوات، تقول: الساعة السابعة تدق وتدق معها أعصابي وقلبي وراحتي, ثم أخرج وألبس معطفي الأبيض وأركب خلف السائق وأذهب وكأني أذهب إلى قبري أو زنزانتي -أي: غرفتي- وعندما أدخل وأجد الناس ينتظرونني أشعر أنهم يغبطونني وأنا أغبطهم على أنهم ليسوا في مكاني, وتقول: وأجلس على الماسة وأضع السماعة في رقبتي وكأنها حبل مشنقة يلتقط روحي, تقول: وهكذا أجلس طوال حياتي! خذوا شهاداتي! وأوراقي! وأرصدتي! أعطوني جزءاً من السعادة، أريد أن أسمع كلمة ماما! تريد أن تتزوج ويأتي لها طفل صغير يقول: ماما! هذه هي السعادة.

    أجل أنت في سعادة في هذا العمل إن شاء الله, وكل إنسان في موقعه الآخر في أي جانب من الحياة سيكون سعيداً إن شاء الله بعمله إذا أداه على الوجه الشرعي، وخدم فيه الأمة على الوجه الصحيح، وأخذ هذا الراتب واستعان به على طاعة الله، فهذا أيضاً يحقق له جزء من السعادة؛ لأننا نتكلم عن السعادة بجميع صورها, إذ لا نريد السعادة في جانب دون الآخر.

    الإحسان إلى الناس

    ومما يجلب السعادة للإنسان: الإحسان للناس.

    بقدر ما تحسن ويكون مردود السعادة في قلبك, وكذلك الإساءة؛ بقدر ما تسيء يكون الشقاء في قلبك, فتعود على الإحسان بالكلمة الطيبة, فالكلمة الطيبة صدقة, وبإمكانك أن تدخل الفصل من دون أن تسلم لتبني شخصية! وبإمكانك أن تدخل وأنت مبتسم وتقول: السلام عليكم.. صباح الخير يا أولاد.. كيف حالكم، طيبون؟ وحينها كل الطلاب تنشرح صدورهم لك ويحترمونك ويألفونك ويصغون لمادتك, لكن إذا دخلت وتقول: قيام.. جلوس.. امسح اللوح.. اسكت.. أين الواجبات؟ قال: (الله أكبر على هذا الأستاذ العفريت! من أين جاء لنا؟) لماذا لا تحسن؟ تحسن إلى زوجتك, وأولادك, وجارك, والفقير, والمسكين, وكل أحد, فالإحسان هو مطلب شرعي، والله كتبه في كل شيء حتى في الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان في كل شيء؛ فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) هو موت لكن لابد من الإحسان فلا تشق على الذبيحة حتى تعذبها، لكن حدّ الشفرة واذبحها بسرعة, حتى في الموت لابد من الإحسان, فكيف في العافية؟!

    فالإحسان إلى الناس والتفضل عليهم بالخير وبالكلمة الطيبة وبالهدية وبالبسمة قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بأخلاقكم، وإن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) فمن الناس من هو مليونير في الأخلاق يسع الناس كلهم, وكل واحد يحبه, ومن الناس من هو فقير ليس عنده شيء من الأخلاق، وكل واحد يكرهه, لماذا؟ لأنه من اكتسب كراهية الناس بتصرفاته وسلوكه, وبالتالي تجده في نفسيته معقداً، وتجده في شقاء وعذاب، لماذا؟ لأنه أساء إلى الناس! لكن كلما أحسنت إلى الناس كان المردود بالسعادة عليك أنت أولاً، ولهذا يقولون: إن إحسان الخلق بذرة أنت من يأكلها؛ تأكل ثمرتها أنت وليس الناس, صحيح. إن حسن الخلق ينال الناس لكن أنت الذي تجني الثمرة الكبرى.

    النظر إلى الدون في الدنيا وإلى الأعلى في الدين

    ومن أسباب السعادة: أن تنظر إلى من دونك في المستوى المادي وفوقك من المستوى الديني.

    فإذا كنت تمشي على قدمين لا تنظر إلى صاحب السيارة وانظر إلى من يمشي وهو معوق ليس عنده أرجل -يمشي في عربية- وقل: الحمد لله! عندي أرجل أمشي عليها, وإذا كانت عندك سيارة موديلها (85 أو 86) فانظر إلى الذي يمشي برجليه ولا تنظر إلى الذي عنده سيارة موديلها (96 أو 97).

    ودائماً انظر إلى من هو دونك في المستوى, فإذا كنت تعيش في بيت إيجار فانظر إلى من يعيش في الكوخ أو العراء ولا تنظر إلى صاحب الفلة والقصر؛ لأنك كلما نظرت إلى من هو دونك كلما عظَّمت نعمة الله, أما إذا نظرت إلى من هو فوقك فستجد فوقك كثير؛ لأن الله قَسَّم الأرزاق بين الناس، ورفع بعضهم فوق بعض درجات, لماذا؟ لكي يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً؛ لأن الناس لو كانوا كلهم في درجة واحدة لتعطلت الحياة, وحينها من يكنس الشوارع؟ ومن الذي يقوم بالواجبات الأخرى؟ ويؤدي الخدمات؟ فلو كان الناس كلهم أغنياء كما يقال: إذا كنت أميراً وأنا أمير من يسوق الحمير! فتنعدم الحياة, فيتبين لنا أن الله رفع هذا ووضع هذا من أجل أن تمضي الحياة, فأنتم تجدون صاحب العمارة الذي يبنيها -مثلاً- عشرة أدوار وهو واقف تحت, وهناك مليس يليس في الدور العاشر على خشبة صغيرة؛ يد فيها الخلطة ويد فيها الملعقة وتراه يعمل كأنه جالس, ولو أتينا بصاحب العمارة ورفعناه بالونش إلى مكان هذا المليس وقلنا له: ليس هذا الجدار, ماذا يفعل؟ بلا شك أنه سيقع على رأسه, ولا يستطيع أن يمسك نفسه فضلاً من أن يعمل.

    فالله جعل هذا من أجل أن تعمر الحياة, فانظر دائماً إلى من هو دونك في المستوى المادي الدنيوي, لكن انظر إلى من هو فوقك في المستوى الديني الشرعي, فإذا رأيت إنساناً عابداً انظر إليه وإلى من يماثله, فالذي يأتي إلى المسجد قبل الأذان سابق مثله, والذي يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع صم مثله, والذي يكثر من قراءة القرآن, ويدعو إلى الله, ويحب الخير ويدعو إليه؛ عليك أن تنافسه فيه, لماذا؟ لأنك تنافس فيما يبقى, وتزداد رفعة ودرجة عند الله سبحانه وتعالى.

    حسن اختيار الصحبة

    ومن أسباب السعادة: حسن الاختيار للصحبة. إذا كان صاحبك طيباً فإنه يدخل الراحة والأمن والسعادة عليك؛ لأنه لا يجرك، ولا يدعوك إلا إلى الخير؛ إن غضبت استرضاك, وإن كسلت نشطك, وإن عصيت جعلك تطيع. المهم أنه طيب معك, لكن إذا كان زميلك سيئ -والعياذ بالله- فإنه يجلب لك السوء من كل جانب، ولهذا يقول:

    فلا تصحب أخا     الفسق وإياك وإياه

    فكم من صاحب أردى     مطيعاً حين آخاه

    يقاس المرء بالمرء إذا     ما المرء ما شاه

    وللناس على الناس     مقاييس وأشباه

    وللقلب على القلب     دليل حين يلقاه

    والآخر يقول:

    إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم     ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

    عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه     وكل قرين بالمقارن يقتدي

    وإذا أردت أن تعرف الرجل فاسأل عن أصحابه, فإن كان أصحابه طيبون فهو طيب، وإن كانوا سيئين فهو سيء ولو كان طيباً في نظرك, لماذا؟ لأننا ما رأينا أبداً غراباً يمشي مع الحمام, ولكن رأينا الغراب مع الغربان, ولا رأينا قرداً يمشي مع الغزلان, فكل واحد يمشي مع صنفه, وحتى تكون سعيداً ابحث لك عن رفقة صالحة؛ ولهذا عليه الصلاة والسلام في توجيه نبوي كريم في الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير) حامل المسك لا تجد منه إلا خيراً، إما أن يحذيك -أي: هدية- أو تشتري منه شيئاً، أو تجد ريحاً طيبة, لكن نافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، يضع شرارة على ثوبك، أو أن تخرج وقد وجدت رائحة كريهة من عنده -والعياذ بالله-.

    فعليك بحسن الصحبة والاختيار للصاحب, ولكن كيف تختار الصاحب؟

    يجب أن تكون هناك مميزات للصاحب الذي تختاره، أولاً: أن يكون صاحب دين وعقيدة والتزام, وخلق كريم, ومبادئ وفضائل, وشهم وشجاع لكن إذا رأيت إنساناً -والعياذ بالله- شهوانياً أو قذراً, أو فاسقاً, أو يحب المعاصي ويكره المساجد, فهذا لا تقربه، لماذا؟ لأنك سوف تردى بردائته -والعياذ بالله- فلو قيل لك: أحد زملائك مصاب بداء الإيدز, هل ستجلس معه؟ لن تجلس معه, ولن تكلمه حتى في التلفون لأنك تخاف أن يأتي الفيروس عبر التلفون! تخاف من الإيدز, لماذا؟ تقول: انتهى أمرك. أنت مصاب بالإيدز. وكذلك الذي عنده إيدز في إيمانه, وكوليرا في عقيدته, وسل في أخلاقه, هذا أخطر عليك من ذلك, فابتعد عنه ولا تصحب إلا الرجل الصالح الذي يعينك على طاعة الله حتى تكون سعيداً.

    وكم من إخوة وشباب عاشوا على الشقاء بجميع صوره وأشكاله بسبب صحبة السيئين!

    أذكر فيما أذكر من قصص الحياة, شاب -عندنا في المنطقة الجنوبية - له زميل سيئ والاثنين سيئين, وكان الشاب يستعد لنومه وإذا بزميله السيئ يطرق عليه الباب وتستجيب الأم, فيقول: أريد فلاناً, قالت: نائم, قال: أيقظيه, قالت: يا ولدي الآن نصف الليل فالساعة (12) ليلاً، وهو الآن نائم, قال: أيقظيه الأمر هام, فذهبت إلى ولدها وقالت: فلان يريدك في أمر هام, فنزل عليه, قال له: أنا عندي موعد الليلة -يسميها صيدة, يصطاد محارم الله- وأنا عندي صيدة الليلة وأريدك أن تمشي معي من أجل أن تحميني, قال: أبشر, فرجع البيت ولبس ثيابه وأخذ المسدس في جنبه وركب وإياه في السيارة، وذهبوا إلى المكان الذي يصطادون فيه المحرم -الإنسان يصطاد طاعة الله في هذه الحياة وهؤلاء يصطادون محارم الله ومحارم المسلمين- وأمره بالوقوف في مكان معين عند شجرة، وقال: اجلس هنا إلى أن أطلبك .. وجاء واقتحم جدار البيت وفتح الباب ودخل, فشعر صاحب البيت بأن هناك شخصاً فتح الباب, فقام وأسرج الكهرباء, وخرج وطارده بالحجارة والعصا لكن لم يلحقه فقفز وهرب, ففتح الباب وخرج يبحث عنه وإذا به يفاجأ بالحارس فطارده, فلما أدرك أنه رآه أخذ المسدس وقتل صاحب البيت..! اجتمع الناس على إطلاق الرصاص وقبض على الجاني وحقق معه, وذكر الأمر، وقال: أنا كنت نائماً في البيت وجاءني فلان ودعاني.. وأعطاه نفس الكلام ..., ثم قبض على زميل السوء فأنكر كل ذلك, قال: أبداً. لا أعرفه ولا يعرفني، وعندي شهود على أني في تلك الليلة التي يدعي هذا أنني جئت ودخلت عليه أني كنت في القرية الفلانية سامر عندهم من المغرب إلى الفجر, وفعلاً أتى بشهود، قالوا: إنه كان عندنا وأنه ما خرج ولم يثبت عليه شيء, وهذا الرجل -طبعاً- حكم عليه بالإعدام وانتظر في السجن فترة طويلة ثم اقتيد إلى ساحة القصاص وقتل! انظروا كيف الشقاء -أيها الإخوة!- من جرّه إليه؟! الزميل السيئ ... وقس على هذا.

    فاحذر يا أخي من صديق السوء.

    الزوجة الصالحة

    ومن العوامل التي تدعو إلى السعادة: الزوجة الصالحة.

    طبعاً كل واحد يقول: يا الله: ارزقنا من فضلك يا رب! طبعاً نحن نقول هذا الكلام -أي: عن الزوجة الصالحة- ونعني به الشباب الذين سوف يتزوجون إن شاء الله، حتى يضعوا مقاييس وضوابط الاختيار؛ لأن الزوجة ليست بيعة ليل ولا صفقة سيارة، لا. الزوجة مصير، ولهذا ينبغي أن يكون اختيارك مبني على أسس قويمة لا على مجرد نظرات عاطفية، أو نزوات نفسية وجنسية، لا. ولهذا حدد النبي صلى الله عليه وسلم الضوابط التي يضعها الرجل في نظره وهو يختار، قال صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك) تربت يداك، أي: تلطخت يداك بالتراب, كناية عن الخسارة, فالذي عنده زوجة ليس عندها دين خاسر, فاجعل همك الأول هو الدين، ثم لا مانع أن تبحث عن بقية المقومات كالجمال وغيره, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في السنن : (الدنيا متاع -أي: لذة ومتعة- وخير متاعها المرأة الصالحة) ثم ذكر مقوماتها الثلاث: (إن نظرت إليها سرتك) وهذه تعني الجمال، والجمال نسبي, فبعض الناس يريد ملكة جمال وهو نفسه ليس ملك جمال .. إذا أردت واحدة جميلة أولاً انظر إلى نفسك: هل أنت جميل أو نصف بنصف؟ ثم خذ واحدة على مستواك؛ لأنك لو مكثت تبحث عن أجمل واحدة فلن تجدها, وإذا وجدتها فسوف تعيش معها في عذاب؛ لأنها كلما نظرت إليك زفرت، تقول: ابتلاني ربي بهذا الجني! لكن اختر واحدة مثلك في الجمال حتى لا يرفع أحد نفسه عن الثاني؛ ولأن البحث عن المثاليات في الزوجة الجميلة قد لا تبلغها, والجمال أحياناً يكون مكتسباً ليس خلقياً -فقط يكون وهمياً- وجمال الخلق يغطي كل عيب, وجمال الدين يغطي كل العيوب.

    ولعلك ترى بعض العمارات الضخمة والطويلة والعريضة, ولها بروزات ولها انحناءات لكنها ليست جميلة وليس لها قبول, بينما تجد عمارة بسيطة لكنها جميلة ومقبولة. فالقضية قضية قابلية، فأنت ابحث عن الجمال لكن النسبي, ولا تضع شروطاً خيالية مفصلة كأنك في مصنع؛ طول في عرض, بل البعض الآن يشترط فحصاً طبياً؛ لا سكر ولا ربو .. يريد واحدة جاهزة, لا. تزوج على بركة الله ولكن اجعل همك الأول هو الدين والخلق، فإذا توفر هذا فهو المهم.

    قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظرت إليها سرتك -وهذه تمثل الجمال- وإن أمرتها أطاعتك -وهذه تمثل الخلق- وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك -وهذه تمثل الدين-) فإذا وفر الله لك هذه الزوجة فاحمد الله عليها, أو تزوجت ولم تجد؛ لأن بعض الناس يغلط أو يقدر له أن يغلط في أول حياته ويتزوج بواحدة ثم يستمر في الغلط حتى يموت, لا -يا أخي- فقد جعل الله تعالى لك مجالاً آخر أي: إذا ما نجحت في الأولى تنجح في الثانية, ولهذا يقول الله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] وما جعل الله في التعدد فرصة إلا لمثل هذه الأشياء؛ لأنه من الصعب أن تجري اختيارات واختبارات دقيقة للزوجة التي ستأخذها، إنما هي بالتوفيق والحظ وهي قسمة ونصيب, مثل ما كانوا يقسمون اللحم قبل العزائم على الضيوف فواحد يكون حظه (كرشه) وآخر لحمة, وكل واحد ونصيبه, فالجميلة مشكلة والقبيحة مشكلة؛ لأن بعض الناس لو عنده زوجة جميلة يبلغ الناس, فتطول أعينهم إلى زوجته, وبعضهم عنده زوجة قبيحة فيظهرها للناس فيرحمونه، وكلما رأوه قالوا: مسكين! ولهذا هي امرأتك فاسترها. فإن كانت جميلة فهي لك وإن كانت قبيحة فهي عليك.

    مقابلة السيئة بالحسنة

    ومن أسباب السعادة: مقابلة السيئة من الناس بالحسنى.

    وهذه من أعظم أسباب السعادة وهو: معالجة الأمور بالهدوء, وعدم الاندفاع، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة) أي: ليس الشجاع الذي ينفعل ويندفع ويتصرف تصرفات سريعة بدون نظر، وإنما هذا أجبن الناس (إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب) لأنك حينما تغضب ستكون تصرفاتك دائماً غير مسئولة وغير معقولة ويترتب عليها مشاكل, فإذا مسكتها سلمت, لكن إذا اندفعت وراءها ندمت, وقد علمنا صلى الله عليه وسلم في سنته أشياء كثيرة، منها:

    1/ جاءه الأعرابي وبال في المسجد وهذا عمل ليس بهين, ولو رأيناه الآن لقطعناه قطعة قطعة .. والصحابة كذلك، قالوا: لماذا تأتي لتنجس المسجد؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سمعهم ينتهرونه أسكتهم، وترك الرجل حتى انتهى, ولما انتهى دعاه والصحابة قد أرادوا الفتك به وضربه بالسيوف, قال: (يا أخا العرب! إن المساجد لم تبن لهذا) يقول: هذه ليست أماكن الوساخة والنجاسة، وإنما بنيت لذكر الله وعبادته، فإذا أردت أن تصنع شيئاً فاذهب إلى مكان آخر, ثم دعا بذنوب من ماء وصبه على بول الأعرابي وانتهت المسألة, والأعرابي هذا المسكين، قال:(اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا)، يقول: هؤلاء لا تغفر لهم؛ لأنهم أرادوا قتلي!

    انظر! كيف حوله صلى الله عليه وسلم من إنسان جاهل إلى إنسان يحبه ويدعو له, ويخصه بالدعاء من بين الناس, ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم تركهم في نهره وضربه، ما الذي سيحصل؟

    أولاً: فبدلاً من أن يكون البول في نقطة فسيجعله في المسجد كله؛ لأنهم سيطاردونه والأعرابي لن يتوقف عن البول.

    ثانياً: سيسببون له مرضاً؛ لأن الإنسان إذا أخرج البول ثم حبسه يحصل عنده اختلال في المثانة, وبعد ذلك يسبب كراهية له وللصحابة؛ لأن الرجل سيقول: أهذا دين؟ يضربونني من أول ما أتيت؟! وربما ارتد إلى دينه ولا يسلم, فالهدوء في علاج القضايا هو أسلم طريقة.

    2/ جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسترد ديناً عنده، وقال: إنكم يا بني عبد مناف قوم مطل -أي: تماطلون في القضاء- فقام عمر فأراد أن يقطع رقبته؛ لأنه ما سب الرسول، بل سب نسب الرسول كله, قال: (لا يا عمر ! كان الأولى بك أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن الطلب) ثم أعطاه وتركه يمشي.

    3/ كان الخليفة عمر بن عبد العزيز يمشي في الطريق، ومن غير قصد دق أحد المارة وهو يمشي, ولم يعلم الرجل أنه أمير المؤمنين، قال: أأنت أعمى؟ قال: لا. فأخذ العسكري الذي معه وسل السيف يريد قطع رأسه, قال: لماذا؟ قال: تكلم عليك, قال: لا. وإنما سألني: أنت أعمى؟ فقلت له: لا. لست بأعمى, وانتهت المسألة, والله تعالى يقول: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

    وأذكر قصة وقد ذكرتها في مناسبة ولكن نعيدها اليوم؛ لأنها حصلت في جدة : كنت في مراجعة إحدى السفارات فدخلت في شارع، وهذا الشارع ليس له منفذ -يعني مقفول- فمشيت بالسيارة حتى وصلت إلى النهاية، ولا أستطيع أن أدور بالسيارة لضيق الطريق فرجعت على الوراء من أجل أن أخلص من هذه المشكلة, ثم جاء شخص صاحب سيارة ورآني وأنا أرجع على الوراء والإضاءة مسرجة، وكان من المفروض أن ينتظرني حتى أرجع, لكن أنا أرجع وهو جاء من خلفي, فأخذ يؤشر لي أن أمشي للأمام -كأن بيته في الأمام- وكان غاضباً فالساعة (2 ونصف) نهاية الدوام، وهو جائع أيضاً, فأنا نظرت وقد أخطأ علي ولا شك؛ لأنه لما رآني أرجع على الخلف كان من المفروض أن ينتظرني حتى أخرج, حينها لم أجد خياراً إلا أن أجنب له حتى يمشي, وكنت أتوقع أن يقابل هذا التصرف مني بقوله: شكراً؛ لأني عملت معه تصرفاً لائقاً, لكن ماذا حصل؟ جاء الرجل حتى حاذاني وأرخى الزجاج ونظر إليّ وقال: أنت لا تفهم يا قليل الحياء.. وسبني وسب الأب والجد -يعني (كلام أقذع من كل قذيعة)- حقيقة اشتعلت من الغضب! ولكن رفعت نفسي قليلاً وقلت: لا. أدفع بالتي هي أحسن, فلما انتهى قلت له: أقول لك, قال: نعم. قلت: أسأل الله أن يدخلك الجنة وينجيك من النار! يعلم الله -أيها الإخوة- أن هذه الكلمة أحدثت فيه هزة لكأني صببت عليه ماء, فلقد كان يتكلم وعيونه بارزة، ووجهه محمر، وعروقه منتفخة من الغضب, ولكن عندما قلت له الكلمة هذه برد, وأطفأ السيارة ونزل إليَّ وسلم علي يدي ورأسي وهو يقول: من أين أتيت؟ قلت: جئت من مكة ولي معاملة هنا وأرجع إلى مكة , قال: جزاك الله خيراً, يا أخي! أنا أسبك وأشتمك وأنت ترد علي بهذا الرد؟ قلت: ماذا أفعل؟ كان من المفروض أن أجنب لك من أجل أن تمشي، ولكن أخطأت في الرجوع! فأنا آسف لأني أخطأت! قال: لا والله ما أخطأت, بل أنا المخطئ، فقد كنت مهموماً وعندي مشكلة في العمل, ثم جئت ووجدتك أمامي، أنا آسف يا شيخ! ويقول: الاسم الكريم؟ قلت: فلان, قال: هل من الممكن أن تعطيني العنوان؟ قلت: تفضل, قال: تتغدى معي اليوم؟! فبدلاً من أن يضاربني يدعوني! فذكرت قول الله عز وجل: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] فسلمت من شره, لكن ما رأيكم لو نزلت عليه وضاربته, طبعاً هو رجل مثلي ربما يضربني أو أضربه, وربما يقتلني أو أقتله, حينها قد يبيت أحدنا في السجن والآخر في القبر, أو يكون كلانا في القبور من أجل ماذا ..؟! لكن بكلمة واحدة هدأت المشكلة, ولهذا يقول الشافعي رحمه الله في بعض أبياته:

    لما عفوت ولم أحقد على أحد     أرحت نفسي من هم العداوات

    إني أحيي عدوي عند رؤيتـه     لأدفع الشر عني بالتحيات

    وأملأ الوجه بشراً حين مقدمه     كأنما قد حشا قلبي موداتي

    والإمام الشافعي كان جالساً في يوم من الأيام في حلقة من حلقات العلم فدخل عليه رجل أحمق يسبه ويشتمه، فما رد عليه بكلمة واحدة, فلما انتهى، قالوا له: يرحمك الله يا إمام! ألا دافعت عن نفسك؟ قال لهم ثلاثة أبيات:

    قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهـم     إن الجواب لباب الشر مفتاح

    والصمت عن جاهل أو أحمق شـرف     وفيه أيضاً لصون العرض إصلاح

    أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة     والكلب يخسى لعمري وهو نباح

    الكل يخاف من الأسد وهو صامت, والكلب يرجم وهو ينبح, فهل الكلام والنباح دليل على أفضلية صاحبه؟ لا. الأفضلية في الدفع بالتي هي أحسن، هكذا علمنا الإسلام وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي من الحلم والأخلاق بأعلى قدر, حتى قال لـابن عبد قيس : (إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) الحلم: الصبر على الناس, والأناة: عدم الاستعجال في اتخاذ القرار.

    كثرة الدعاء واللجوء إلى الله

    ومن الأسباب التي تجلب السعادة للإنسان: كثرة الدعاء واللجوء إلى الله لشعورك بالافتقار خصوصاً عند الحاجة.

    فأكثر صلتك بالله تعالى؛ لأنك إذا شعرت بأنك تدعو الله، وأنك تلح عليه؛ أكسبك هذا الشعور فرجاً ونصراً يبعث في قلبك الأمل والطمأنينة.

    عدم التفكير في مشاكل المستقبل

    ومن أسباب السعادة: عدم التفكير في مشاكل المستقبل.

    من الناس من يعيش مشكلة ليس لها وجود أصلاً -مثلاً- عنده ولد يحبه، ويقول: ولدي هذا لو يخرج من البيت فتصدمه سيارة.. طيب .. الحمد لله! الولد سالم ولم تصدمه سيارة، فلماذا تعيش في مشكلة غير موجودة؟ أو في هم غير موجود؟ اجعل لكل حادثة حديثاً, وعندنا مثل عامي يقول: "خلي الدموع لحزة البكاء" إذا جاء البكاء فاسكب الدموع في ذلك اليوم، لكن تدمع ولا يوجد بكاء .. غلط, وكذلك بعض الناس تجده في قلق وعذاب ومشاكل .. لماذا؟ يخاف أن يمرض وأن يأتيه السرطان، أو أن يفصل من الوظيفة, أو أن ينقل في قرية, لا تخف على شيء في المستقبل, دع المستقبل لله, وفوض أمرك إلى الله سبحانه وتعالى! وإذا حدثت المشكلة فاصبر لها، واطلب من الله عز وجل العوض عنها.

    إنجاز العمل أولاً بأول

    العمل الذي يطلب منك اليوم أنجزه ولا تؤخره لغد؛ لأن غداً فيه عمل جديد, فكل يوم له عمله، فإذا أخرت عمل اليوم إلى الغد جئت في اليوم الثاني وقد تراكمت عليك الأعمال, وإذا أخرته لليوم الثالث صار عمل ثلاثة أيام .. وإذا تراكمت الأعمال على الإنسان وجاء في لحظة من اللحظات وأراد أن ينجزها وجدها كثيرة، وحينها يشعر بالقلق والاضطراب والحزن, لكن عندما ينجز عمله أولاً بأول بحيث يخرج من مكتبه وليس على مكتبه أي معاملة إلا واحدة تحت الإجراء, لكن هذا عندما يكون كل شيء أولاً بأول, بحيث يأتي في اليوم الثاني وهو نشيط للوظيفة, ولكن عندما يأتي والأعمال متراكمة، يقول: (الله أكبر على هذه المعاملات)، هات الجريدة لنعرف أخبار الكرة أمس، ويضيع الوقت مع صديقه: أين ذهبت أمس .. وكوم فوق كوم .. حتى يأتي يوم من الأيام فيه يَفْصِل أو يُفصَل.

    وكذلك الطالب الذي يذاكر أولاً بأول: اليوم درست مادة وذهبت الليلة للمذاكرة. وبعض الناس يتصور المذاكرة أنها حل الواجبات فقط، لا. هذه اسمها حل الواجبات، وأما المذاكرة فهي ثلاثة أقسام:

    أولاً: مراجعة الماضي, ثانياً: حل الواجب, ثالثاً: تحضير المادة للغد, -مثلاً- عندي غداً مادة الفقه في باب القرض والأستاذ سيدرسنا غداً، إذاً أقرؤه الليلة وأراجع شرحه، بحيث يأتي الأستاذ وأنا جاهز حتى يضع الأستاذ بذر العلم والأرض عندي محروثة, ولكن عندما أترك التحضير إلى أن يأتي الأستاذ ويكون شرحه للدرس مثل الألغاز لا أفهمه؛ لأني لم أحضر المادة, فأنجز عملك وواجباتك أولاً بأول حتى تشعر بالسعادة.

    تنظيم الأوقات وترتيب الأمور

    وأخيراً وليس بأخير: من أعظم أنواع السعادة: تنظيم الأوقات وترتيب الأمور، وجعل حياتك كلها منظمة, بحيث لا يكون هناك فوضوية في حياتك, فبعض الشباب تجده في غرفته عندما تدخلها تقول: هذه الغرفة نام فيها عفريت: مخدته في زاوية .. وسرواله في زاوية .. وكتاب هناك .. ودفتر هنا .. وإبريق الشاي هنا له ثلاثة أيام لم يغسله .. وفنجان مرمي هنا .. بينما تجد طالباً آخر عندما تدخل غرفته: السرير منظم، والدفاتر وحدها والكتب وحدها, وكل شيء منظم، هذا نوع من السعادة, وعندما تدخل غرفتك وهي بهذا الشكل تعيش سعيداً, لكن عندما تدخل غرفتك وهي بذلك الشكل الغير المنظم تشعر بالشقاء, لكنك عندما تريد كتاباً من عند شخص منظم سرعان ما يجده, وعندما تريد كتاباً من عند شخص غير منظم تجده يستعرض المكتبة من أولها لآخرها، وبعد ست ساعات يأتي بالكتاب، ولكن لو نظم الكتب: كتب العقيدة وحدها, والفقه وحدها, والسيرة وحدها, والأدب وحدها, والثقافة الإسلامية وحدها, فيصنفها حسب التصنيف المعروف أو التصنيف الجديد فستجده سعيداً, ولو أردت أي كتاب سرعان ما يأتي به .. هذا نوع من السعادة.

    هذه -أيها الإخوة- بعض المفاهيم في السعادة، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً السعادة, وأن يسكب في قلوبنا الإيمان، وأن يدلنا على العمل الصالح حتى نحقق أكبر قدر من السعادة.

    وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما أقوله حجة لي وليس عليّ، وأن ينفعكم به وينفعني، إنه ولي ذلك والقادر عليه, والله أعلم.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767497823