إسلام ويب

العلم طريقك إلى الجنةللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فضل العلم عظيم، فهو الطريق الموصل إلى رضوان الله عز وجل وجنته، وفضل أهله تبع لفضله، فما ارتفع شأن العلماء إلا به، فهم به أحياء بعد موتهم، وبه خلد ذكرهم بين الأنام، في حين أن أصحاب المال والجاه والسلطان إذا ماتوا يموت ذكرهم معهم. فينبغي للمؤمن أن يجتهد في طلب العلم النافع، الذي به نجاته وفوزه وفلاحه في الدنيا والآخرة.

    1.   

    الحض على حفظ العلم وفهمه

    الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل ، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.

    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: ليهلك من هلك عن بينه ويحيا من حي عن بينه وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً.

    أما بعد: عباد الله:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

    روى أبو نعيم في الحلية عن كميل بن زياد قال: أخذ علي رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر جعل يتنفس، ثم قال: يا كميل بن زياد ! القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، ومحبة العلم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، آه.. آه، إن هاهنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة، بل أصبته لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذات، سلس القياد للشهوات، أو مغري بجمع الأموال والادخار، ليس من دعاة الدين، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه -لكي لا تبطل حجج الله وبيناته- أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته، حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك هم خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقاً إلى أولئك، وأستغفر الله لي ولك، إن شئت فقم.

    هذا الحديث الموقوف على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما قال الخطيب البغدادي من أحسن الأحاديث معنى، وهو من كلام علي رضي الله عنه، وهو أول من أسلم من الفتيان، أسلم وله ثماني سنين، وتربى في بيت النبوة، وزوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء الأمة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، كان العلم يتفجر من جوانبه، وكان عمر على جلالته في العلم يسأله، وكان يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن .

    فهذا من كلامه رضي الله عنه.

    يقول كميل بن زياد: أخذ علي رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر. أي: صار في الصحراء.

    ثم قال: يا كميل بن زياد! القلوب أوعية فخيرها أوعاها. أي: أن الأوعية إذا أودعتها شيئاً حفظته، فهناك أوعية تملأ بالخير، وهناك أوعية تملأ بالشر: وكل إناء بالذي فيه ينضح.

    فيقول: القلوب أوعية فخيرها أوعاها. أي: أنصحها وأعقلها وأحفظها للحق.

    ثم قال: احفظ عني ما أقول لك. وهذا يدل على أهمية الحفظ لطالب العلم، ما قال: ادرس، ولا قال: افهم، ولكن قال: احفظ عني ما أقول لك.

    1.   

    تقسيم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للناس

    قال رضي الله عنه: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. فهو قسم الناس إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: هو الكامل الذي قد تعلم العلم وعمل به وعلمه، فهذا العالم الرباني نسبة إلى الرب عز وجل، كما تقول: لحياني وجبهاني عظيم اللحية أو عظيم الجبهة.

    وقيل: نسبة إلى التربية، فالعلماء الربانيون هم الذين يعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره، والعلماء الربانيون هم خواص العلماء، وهم الذين وصلوا إلى الذروة في العلم والعمل والتعليم، كما قال عز وجل: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [المائدة:63]، فالأحبار هم العلماء، والربانيون هم خواص العلماء.

    القسم الثاني: متعلم على سبيل نجاة. حتى يكون المتعلم على سبيل نجاة وليس على سبيل هلكة فينبغي له ثلاثة أمور:

    الأمر الأول: أن يتعلم العلم النافع، وهو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم.

    العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه

    ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه

    كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

    العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين

    لا يتعلم علم الكلام أو المنطق أو الفلسفة ويظن أنه على سبيل نجاة، بل ينبغي أن يتعلم العلم النافع، علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رضي الله عنهم.

    الأمر الثاني: أن يبتغي بتعلمه وجه الله عز وجل؛ لما ورد في الحديث: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لن يجد عرف الجنة يوم القيامة).

    فمن تعلم العلم النافع علم الكتاب والسنة ولم يرد بذلك الآخرة، ولم يرد بذلك وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا، يريد الوجاهة في الدنيا أو يريد منصباً أو مالاً لن يجد رائحة الجنة يوم القيامة.

    الأمر الثالث حتى يكون المتعلم على سبيل نجاة وليس على سبيل هلكة: أن يعمل بعلمه، كما قال بعض السلف: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.

    وقال بعضهم: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به.

    قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

    وقال بعض السلف: من عمل بما علم أورثه الله عز وجل علماً جديداً.

    إذاً: فالعبد إذا تعلم مسألة من مسائل الدين وعمل بها؛ فإن الله عز وجل يعلمه مسألة أخرى.

    القسم الثالث: وهمج رعاع، والهمج: جمع همجة وهو الذباب الذي يقف على وجوه الماشية.

    قوله: رعاع. أي: كثير منتشر، وهؤلاء هم الغافلون عن العلم وطلبه، ليسوا من العلماء، وليسوا من طلاب العلم، رضوا بالدرجة الخسيسة، ورضوا بالحضيض، ورضوا بالجهل فهؤلاء هم حطب كل فتنة، وهم كثير لا كثرهم الله عز وجل.

    فقوله: وهمج رعاع أتباع كل ناعق. شبههم بالأنعام السائمة؛ لأنه وصف الذي يدعوهم بالناعق لا يفرقون بين الدعوات؛ ليس عندهم نور العلم الذي يفرقون به بين الدعوات؛ فإن دعاهم أحد إلى سنة أجابوا، وإن دعاهم أحد إلى بدعة أجابوا، ولذلك كانوا حطب كل فتنة؛ لأنهم ليس عندهم علم يميزون به بين الدعوات، ويفرقون به بين الهدى والضلال، وبين البدعة والسنة، وبين الحق والباطل.

    ثم قال: يميلون مع كل ريح. شبه قلوبهم الضعيفة الخالية من العلم النافع بالغصن الأخضر، الذي إذا أتته ريح من جهة الشمال مال معها، وإذا أتته ريح من جهة الشرق مال معها، فليس في قلوبهم علم نافع، والذي يثبت هو الذي يقف على الحق: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68]، فهؤلاء ليسوا على بصيرة، وليسوا على علم نافع، ولذلك يميلون مع كل ريح.

    ثم بين سبب ذلك فقال: لم يستضيئوا بنور العلم. أي: ليس في قلوبهم نور العلم، قال عز وجل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، فالمؤمن العالم على نور وعلى بصيرة.

    وقال عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

    فالعلم النافع نور يفرق به العبد بين الهدى والضلال، وبين البدعة والسنة.

    فهؤلاء ليسوا من أهل العلم، وليس نور العلم في قلوبهم، وكذلك لم يلجئوا إلى عالم مجتهد أو حتى متبع يسيرون بأوامره، ويهتدون بهديه على بصيرة.

    فالعبد إما أن يكون مبصراً بنفسه يرى الطريق ويرى العقبات ويرى المنحنيات، أو يكون فاقداً للبصر فيمسك بيد بصير، أما إذا كان فاقداً للبصر ولم يمسك بيد بصير فكيف يسلم عباد الله؟!

    1.   

    فضل العلم على المال

    ثم شرع علي رضي الله عنه في بيان فضل العلم على المال، فقال: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم، والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها. أي: العلم خير من المال؛ لأن العلم يحرسك من البدع ومن الشبهات ومن الشهوات، أما المال فيحتاج إلى حارس.

    وقال: العلم يزكو على الإنفاق. أي: إذا علم العالم العلم ثبت في قلبه وتفجرت ينابيعه في قلبه، وأورثه الله عز وجل علماً جديداً؛ لأن زكاة العلم العمل به وتعليمه.

    ثم قال: العلم حاكم والمال محكوم عليه. أي: العلم يحكم على الملوك فمن دونهم، والمال محكوم عليه.

    ثم قال: ومحبة العلم. وفي رواية: ومحبة العلماء دين يدان بها. أي: من الدين أن تحب العلم وأن تحب أهل العلم، لأن محبة العلم تدعو إلى تعلمه، وتدعو إلى العمل به، ومحبة العلماء تدعو إلى العمل بعلمهم والاقتداء بهديهم.

    دخل رجل البصرة فقال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري . قال: فبم سادهم؟ قالوا: احتاجوا إلى علمه، واستغنى عن دنياهم.

    وذكر الإمام العلامة ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة) أربعين وجهاً من فضل العلم على المال، من ذلك: أن حرص العبد على العلم عين كماله، وأن حرص العبد على المال عين نقصه.

    من ذلك: أن لذة العلم لذة حقيقية يتنعم العبد بعلمه في الدنيا وفي الآخرة. أما لذة المال فلذة بهيمية أو وهمية، إما أنه يشترك مع البهائم فيها كالأكل والشرب، أو لذة وهمية فهو يفرح بأن يزداد رصيده أو يزداد ماله، كما قال عز وجل: وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14] فهذه شهوة من شهوات النفوس، ولا يمكن لأحد مهما عاش في الدنيا أن ينفق قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، ولكنها لذة وهمية.

    من محبة المال أن يفرح صاحبه أن يزداد، وإن كان لا ينفقه ولا ينتفع به ويتركه لورثته.

    من ذلك: أن المال ينتفع به في الدنيا، أما العلم فيدخل به قبره.

    من ذلك: أن التمتع والتزين بالمال تزين بشيء خارج عن نفسه، أما التزين بالعلم فشيء في صلب نفسه.

    ثم قال رضي الله عنه: مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر. كم في بلادنا -عباد الله!- من يملك المليارات ولا يعرفهم أحد ولا يحبهم أحد ولا ينتفع بهم أحد، وهم مغموسون في الشهوات واللذات عباد الله، فهم أموات بالنسبة إلى الناس لا ينتفع بهم، وليس لهم محبة في قلوب الخلق.

    وكم مات من علماء الأمة الأعلام كالسفيانين والحمادين والأئمة الأربعة أئمة الفقه، وأئمة الحديث، وأئمة الجرح والتعديل، وعلماء الأمة الأعلام كـشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وابن رجب وابن كثير وغيرهم، مات هؤلاء منذ أزمنة طويلة ولا يكاد يمر يوم حتى يذكرهم الناس ويثنوا عليهم، وحتى ينتفع الناس ببركة علمهم وفضلهم.

    قال هارون الرشيد لأحد تلامذته: من أنبل الناس؟ قال: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، فقال: بلى، رجل جالس في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا اسمه مرتبط باسم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حلقة في سلسلة أعلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: نحن نموت -أي: الملوك يموتون- أما هؤلاء العلماء فلا يموتون.

    ثم قال رضي الله عنه: أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. أي: ما يفقد الناس إلا أجسامهم وأعيانهم، وإلا فأمثالهم ومحبتهم وعلمهم والثناء عليهم موجود في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    1.   

    افتقار العلم إلى من يحمله حق الحمل وأصناف الناس في ذلك

    ثم اشتكى علي رضي الله عنه من قلة طلبة العلم الذين يحملون عنه هذا العلم الجم الغزير، فقال: إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة. يجوز للعالم أن يخبر عما عنده من العلم، ليس على سبيل التفاخر والتعاظم، بل من أجل أن ينتفع به، ومن أجل أن يتعلم منه الناس، ومن أجل أن يسأله من يحتاج أن يسأل، ولذلك قال بعضهم: لا يجوز للعالم أن يضيع نفسه، بأن يكون في مكان لا يعرف فلا ينتفع به ولا يحمل عنه العلم، فقال رضي الله عنه: إن هاهنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة. أي: يقومون بحمل هذا العلم ويقومون بحقه وبالواجب نحوه. ثم ذكر أربعة أصناف من طلاب العلم الذين لا يستحقون أن يكونوا من حملة هذا العلم، فقال: بل أصبت لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده.

    وهذا هو الصنف الأول: من عنده ذكاء وليس عنده زكاء، أي: ليس عنده طهارة في قلبه، فهو يمكن أن يحفظ شيئاً من العلم، ولكنه لا يؤثر فيه ولا ينتفع به، وإنما يتكبر به على عباد الله عز وجل، لا يتواضع لله عز وجل، كما قال أيوب السختياني : ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله عز وجل.

    فهؤلاء يتكبرون بما علموا على عباد الله، وقد يردوا الحجج الشرعية بالجدال والمخاصمة. وقوله: وبنعمه على عباده. أي: يتعالى بنعم الله عز وجل عليه على عباد الله.

    ثم ذكر الصنف الثاني فقال: أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة. أي: المقلد تقليداً محضاً.

    والتقليد: هو أن تأخذ كلام غيرك من غير أن تعرف دليله من الكتاب والسنة، وأجمعوا على أن المقلد ليس من أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين مقلد وبين بهيمة تقاد.

    فقال: أو منقاداً لأهل العلم لا بصيرة له في أحنائه، أي: لا علم له بأدلة هذا الحق، فمثل هذا -عباد الله- ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة؛ لأنه ليس على بصيرة، وليس على علم، والعلم هو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وهؤلاء ليس عندهم إلا قال فلان وقال فلان، والسند منقطع بينهم وبين القرآن، وبينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم.

    ثم ذكر الصنف الثالث فقال: أو منهوماً باللذات، سلس القياد للشهوات. أي: ليس له هم إلا أن يحصل على شهواته، فهو واقف مع حظوظه وشهواته، لا يلتفت في رضا الله عز وجل أم في غضب الله؟!

    ما لهؤلاء ووراثة النبوة؟ وهذه الأمة -عباد الله- جعل الله عز وجل لها في كل فترة منها بقايا من أهل العلم، كما كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي بعث الله عز وجل لهم نبياً، فهذه الأمة تسوسها العلماء، والعلماء هم ورثة الأنبياء.

    فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد

    ثم قال: أو مغرىً بجمع الأموال والادخار. أي: ليس له هم إلا أن يجمع المال، فهو يسعى ليله ونهاره في جمع الأموال.

    ثم قال: كذلك يموت العلم بموت حامليه استناداً إلى الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

    فقبض العلم من صدور العلماء جائز في القدرة، فالله عز وجل قادر على أن يقبض العلم من صدور العلماء، ولكن الذي يحصل إذا أراد الله عز وجل أن يرفع العلم فإنه لا يقبضه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بقبض علماء السنة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    عدم خلو الأرض من قائم لله بحجة

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    فيقول علي رضي الله عنه: اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه، لكي لا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك هم خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه.

    من رحمة الله عز وجل بأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ألا تضل، كما ضلت اليهود وكما ضلت النصارى، حرفت الكتب وبدلت الكتب، وضل الناس عن الحق، وضاع الحق في هذه الأمم السابقة.

    أما أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وأمته خير الأمم، وهي نصف الجنة ببركة سفارة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حفظ الله عز وجل كتابها وحفظ سنة نبيها، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] والذكر في الآية هو الكتاب والسنة، لأن السنة من الذكر.

    وقال عز وجل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] فما نزل إليهم هو القرآن بلا مرية، والذكر في هذه الآية هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومن كمال حفظ القرآن حفظ السنة، فحفظ الله عز وجل كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظ الله عز وجل إجماع أمته، فلا يمكن أن تجتمع أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة.

    كما حفظ الله عز وجل -وله الحمد والمنة على كل نعمة- حفظ طائفة من هذه الأمة، فهي لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم كذلك، كما ورد في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).

    وهذا الظهور قد يكون ظهوراً كاملاً، ظهور سيف وسنان، وظهور حكم وسلطان، وأدنى هذا الظهور أن يكون ظهور حجة وبيان، فلا بد أن يوجد في الأمة من يقيم الحجة على سائر أهل زمانهم، ومن ينصر دين الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    فهذه الطائفة الظاهرة بالحق عباد الله، وهذه الطائفة المنصورة مهما كادها أعداء الإسلام ومهما مكروا بها ليل نهار، فلا بد أن يبقى هذا الظهور، ولا بد أن تبقى هذه الطائفة ظاهرة تقيم الحجة على سائر عباد الله، وعلى سائر أهل زمانهم.

    ثم قال: أولئك الأقلون عدداً أي: قد يقلون في الأعصار والأمصار، ولكن لا بد أن يبقى منهم طائفة، كما كانوا في زمن الإمام أحمد لما اقتنع الخليفة بما قالت المعتزلة الرديئة وأقنع كثيراً من الناس، وخضع له كثير من العلماء تقية وخوفاً، فقالوا بهذه المقالة، وثبت الإمام أحمد وطائفة يسيرة على عقيدة أهل السنة والجماعة.

    وقيل للخليفة: أتكون أنت وولاتك وقضاتك والعلماء وعوام الناس على الباطل وأحمد وحده على الحق؟ ولم يتسع صدر الخليفة لتهدئة القضية، فأخذ الإمام أحمد بالضرب الشديد بعد الحبس الطويل، ثم ظهر الحق وبطل ما كانوا يدعون، وحفظ الإمام أحمد لهذه الأمة عقيدة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

    فبثبات هذه الطائفة اليسيرة يبقى دين الله عز وجل، وتبقى حجج الله عز وجل، فلا بد أن يوجد بقايا من أهل العلم ومن أهل السنة والجماعة كما جاء في الحديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) لا بد أن يبقى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقايا من أهل العلم؛ لقيام الحجة على سائر أهل زمانهم.

    فهؤلاء صنف فريد من الناس عباد الله، بل لو ذهب هذا الصنف لقامت القيامة، لا يذهبون حتى تأتي ريح من جهة الشمال فتقبض كل روح مؤمنة، ثم تقوم الساعة على شرار الخلق، فلو لم يوجد هذا الصنف في الأرض عباد الله! لوقعت الواقعة وقامت القيامة، فلا بد أن يبقى طائفة على الحق.

    فقوله: أولئك الأقلون عدداً، وقد يكون الواحد منهم بألف أو بآلاف، فلا نغتر بالعدد، ولا نغتر بالكثرة، فقد يكون داعية واحد وعالم واحد في الأمة بالأمة بأسرها.

    ويقول: أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته. وهم الذين يتصدون لأهل البدع ولأهل الشبهات، ولأهل الشهوات ولأعداء دين رب الأرض والسماوات.

    أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم. أي: لا بد أن يوفق الله عز وجل لهم من يكون مثلهم؛ ليحمل هم الدين وهم الدعوة، لا بد أن يوفق الله عز وجل لهم من هذا الغرس الكريم الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).

    فلا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته، وهذا الغرس الطيب هو الذي يستعمل في طاعة الله عز وجل، وهو الذي يحمل دين الله عز وجل، وهو الذي يتعرض للسجن والاستهزاء والتكذيب والتعذيب، ولكنه صابر ثابت على دين الله عز وجل؛ يقيم الحجة على سائر عباد الله.

    ثم قال: ويزرعوها في قلوب أشباههم، أي: أمثالهم ممن يستحق حمل هذا العلم، وممن يتشرف بالدعوة إلى دين الله عز وجل، وإقامة الحجة على عباد الله.

    ثم قال: هجم بهم العلم على حقيقة الأمر. والهجوم هو الدخول بلا استئذان، فكأنهم دخلوا بقوة على حقيقة الأمر، وعلموا الدنيا وزوالها، وعلموا الآخرة وبقاءها، وعلموا شرف هذا الدين وشرف الانتساب إليه وشرف الدعوة إليه، وشرف الاستشهاد في سبيل رفع رايته.

    فاستلانوا بذلك ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون. أي: الذين أنسوا الترف وبخلوا بالبذل في سبيل الله عز وجل وبالتضحية في سبيل الله عز وجل، وأحبوا أن يعيشوا في الدنيا منهمكين في الشهوات واللذات، ليس عندهم استعداد للبذل والتضحية لرفع راية رب الأرض والسماوات.

    فطريق الجنة ليس محفوفاً بالورود، ولكن حفت الجنة بالمكاره، وطريق النار محفوف بالشهوات، فهؤلاء -عباد الله- كلما رأوا شيئاً من العقبات وشيئاً من التعذيب والسجن والإرهاب وغير ذلك، فإنهم يتأكدون بأنهم في طريق الجنة، وبأن هذا الطريق هو طريق الجنة، وأنه بالصبر على هذه المكاره وهذه العقبات وبالثبات على دين رب الأرض والسماوات سوف يكون مآلهم إلى الجنة في النهاية.

    ثم قال: صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى. أي: فهم معنا بصورهم وأجسادهم، ولكن قلوبهم صعدت إلى الله عز وجل، أرواحهم تسبح حول العرش مع الأرواح القدسية ومع الملائكة المقربين، فهم سعادتهم في قلوبهم وليست في أجسامهم.

    والمحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

    فلو كان الواحد من هؤلاء محبوس الجسد فقلبه يطير في السماء، فهو لا يبالي بالبدن، لأن قلبه في فرح وفي أنس مع الله عز وجل، يرى ما الناس فيه من شهوات بهيمية ولذات دنيوية، ولا يرى الناس ما هو فيه من أنس بالله، ومن سعادة بالله عز وجل، ومن استغناء بالله عز وجل، كما كان سيدهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم، كان يقول: (إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني، وساق يسقيني) أي: هناك من يفيض على قلبه من المعارف والأحوال، ومن العلوم الإلهية والربانية ما يغنيه عن كثير من طعام الجسد، فكان يواصل اليومين والثلاثة بدون إفطار، وكان عند الصحابة همة عالية فكانوا يواصلون معه صلى الله عليه وسلم وهو ينهاهم، فيقولون: (إنك تواصل؟ فيقول: إني ليست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني، وساق يسقيني) ومهما تغذى القلب وفرح القلب استغنى عن غذاء البدن، كما قال بعضهم:

    لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد

    وكان صلى الله عليه وسلم لا يبالي ما يصيب جسده في سبيل عبادة ربه ومحبة ربه عز وجل، فكان يقوم حتى تفطر قدماه، فيقولون له: (أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً) من حبه لله عز وجل وقيامه بواجب شكر الله عز وجل لا يبالي ما تضرر به البدن، لأن سعادة القلب تشغل عن البدن، فقوله: (وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك؟) أي: أنك لا تحتاج إلى كثير من العبادة وإلى هذا التشدد في العبادة، وإلى هذا التضرر الذي حصل لجسدك بسبب كثرة العبادة، لأنه قد غفر لك ما تقدم من ذنبك، (فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً) بل هو بأبي وأمي سيد الشاكرين وسيد الصابرين.

    ثم قال: أولئك هم خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه. أي: هؤلاء هم الذين يدعون إلى الدين الحق وإلى الدعوة الصحيحة دعوة الكتاب والسنة.

    ثم يشتاق إليهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في آخر عصر الصحابة فيقول: آه.. آه. شوقاً إلى أولئك، وأستغفر الله لي ولك.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فرد كيده في نحره، فرد كيده في نحره، فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، وأشغله بنفسه، وأشغله بنفسه.

    اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا.

    اللهم عليك بالكفار والمنافقين والعلمانيين، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755917214