إسلام ويب

أبواب الخيرللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فتح الله عز وجل لعباده أبواب الخير وضاعف أجورهم، ترغيباً لهم في دخولها، والتنافس فيها، ونوع عز وجل هذه الأبواب؛ حتى إذا تعذر على المرء أحدها وجد غيره أمامه مفتوحاً، فعلى المسلم أن يشمر عن ساعد الجد لاغتنام أعمال الخير والتزود منها لملاقاة ربه عز وجل.

    1.   

    فضل تفريج كربات المسلمين

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

    ثم أما بعد:

    يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

    هذه أبواب عظيمة -عباد الله!- من أبواب الخير يعلمها لنا معلم الخير صلى الله عليه وآله وسلم، فأول هذه الأبواب: تنفيس كربات المؤمنين، (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) ، فالجزاء من جنس العمل، كما قال عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .

    وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) ، فالجزاء من جنس العمل.

    فـ(من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) .

    فإن قال قائل: لماذا قابل النبي صلى الله عليه وسلم كربة الدنيا بكربة يوم القيامة فقال: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، ثم قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) ، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الدنيا وكربة من كرب يوم القيامة؟

    فالجواب: أن الكربة هي: الشدة الشديدة، وأكثر الناس لا يصابون بذلك، وإنما قليل منهم من يصاب بهذه الكرب العظيمة في الدنيا، ثم إن تنفيس كربة يوم القيامة أضعاف مضاعفة من تنفيس كرب الدنيا، كما دلت على ذلك الأدلة.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين في الشفاعة: (يترك الله عز وجل الناس بعضهم يموج في بعض. أي: لا يقضي بينهم بحساب، فيبلغون من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم؟ ألا تنظرون أحداً يشفع لكم عند ربكم؟ فيذهبون إلى آدم فيقول: لست لها، ويحيلهم على نوح عليه السلام، وهو أول أولي العزم من الرسل، فيقول: لست لها، فيحيلهم على إبراهيم، ثم يحيلهم إبراهيم على موسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم، ثم يذكر موسى القبطي الذي قتله فيحيلهم على عيسى، فيقول عيسى: لست لها، ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيدخل على ربه عز وجل، فإذا رأى ربه عز وجل خر ساجداً فيقال: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع في الخلائق كلهم) .

    فالله عز وجل يترك الناس يموج بعضهم في بعض، كما قال تعالى: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف:99].

    يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (تدنو الشمس من العباد فتكون على قدر ميل أو ميلين)، ثم يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لا أدري الميل مسافة أو الميل ما يكتحل به، (فتكون على قدر ميل أو ميلين فتصهرهم الشمس، فمنهم من يبلغ عرقه إلى عقبيه، ومنهم من يبلغ عرقه إلى حقويه -أي: إلى وسطه- ومنهم من يلجمه إلجاماً).

    وفي الحديث الآخر: (تدنو الشمس من العباد فتصهرهم، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، فمنهم من يغيب في رشحه -أي: في عرقه- إلى عقبيه، ومنهم من يغيب في عرقه إلى حقويه -أي: عظام الحوض- ومنهم من يبلغ عرقه إلى أنصاف أذنيه) .

    فكربات الآخرة الشديدة هذه يخففها الله عز وجل عمن يخفف كربات المؤمنين، فتنفيس الكربة: هو تخفيفها، وإزالة الكربة أبلغ من التخفيف، فتنفيس الكربة مأخوذ من فك الخناق حتى يأخذ نفساً، فجزاء التخفيف التخفيف، وجزا التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج بالكلية التفريج بالكلية، فمن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.

    (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، والتيسير من جهة المال إن كان مديناً، كما قال الله عز وجل: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، أي: من كان لك عنده حق وعلمت أنه معسر لا يستطيع السداد فالشرع يوجب عليك أن تنظره وتؤجله حتى يتيسر حاله، وأبلغ من ذلك أن تترك له هذا المال من أجل أن تساعد في تيسير حاله، وأبلغ من ذلك أن تمده بمال جديد حتى يتيسر حاله على الفور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان رجل يداين الناس -أي: يعطيهم المال يقرضهم- فإذا رأى معسراً قال: تجاوزوا عنه -أي: سامحوه في هذا الدين- لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه)، وفي رواية: (قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه)، وليس ذلك في الحقوق المادية وحدها بل من ظلمك أو كان لك عنده حق أدبي فسامحه رجاء أن يسامحك الله عز وجل ويتجاوز عنك، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

    1.   

    فضل ستر المسلمين والتحذير من تتبع عوراتهم

    قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة). والناس أحد رجلين: إما أن يكون مشهوراً بالصلاح، أو مستور الحال على كل حال لا يعرف منه جرأة على الله عز وجل، ولا فسق عن شرع الله عز وجل، فمثل هذا إذا وقع في معصية فينبغي على المسلمين أن يجتهدوا في ستره، ولا يرفعوا أمره إلى السلطان لإقامة الحد عليه، ويؤمر بأن يستر على نفسه، وأن يتوب بينه وبين الله عز وجل.

    وكان أحد العلماء يأمر من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقول له: اجتهد في ستر عصاة المسلمين، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، والمعاصي إذا ظهرت وعرفت فإنها تضر الناس كلهم، وإذا كانت مستورة لم تضر إلا صاحبها، فينبغي للمسلم أن يسعى في ستر عصاة المسلمين.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يبلغ الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم -أي: عيوبهم وذنوبهم- فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته). فإذا كان يجتهد في كشف الستر عن العصاة وفضح من يعصي الله عز وجل فإن الله عز وجل يتتبع عورته حتى يظهر للناس فضائحه ومعاصيه.

    فينبغي للمسلمين أن يجتهدوا في ستر عصاة المسلمين، والمجتمع المسلم مجتمع طاهر نظيف لا تظهر فيه المعاصي ولا الفواحش، ومن عصى الله عز وجل اجتهد الناس في ستره.

    والصنف الثاني من الناس: من يكون مجاهراً بمعصية الله عز وجل، ولا يبالي إذا ذكر بهذه المعاصي بل يتباهى بمعصيته لله عز وجل، فمثل هذا ينبغي للناس أن يأخذوا على يديه، وأن يرفعوا أمره إلى ولاة الأمر من أجل أن يقام الحد عليه؛ حتى ينزجر هو وأمثاله عن الجرأة على معصية الله عز وجل وعلى شرعه.

    1.   

    فضل إعانة المسلمين

    قال صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) وهذا أيضاً لأن الجزاء من جنس العمل، فمن كان يساعد إخوانه ويسعى في قضاء حوائجهم فالله عز وجل يساعده ويقضي له حوائجه.

    وأرسل الحسن البصري جماعة من أصحابه في قضاء حاجة لأخ لهم، وقال لهم: مروا بـثابت البناني فخذوه معكم، فمروا بـثابت فاعتذر وقال: أنا معتكف، فلما بلغوا الحسن البصري قال لهم: قولوا له: يا أعمش! أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجة بعد حجة -والأعمش لقبه- فذهبوا إلى ثابت فأخبروه بقول الحسن فخرج معهم.

    وكان أبو بكر رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم؛ لأنه كان من العيب عند العرب أن تحلب النساء الغنم، فكان إذا غاب الرجال لا تجد النساء من يحلب الغنم، فكان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف، قالوا: الآن لا يحلبها، قال: إني لأرجو ألا يمنعني ما دخلت فيه عن عمل كنت أعمله.

    وكان عمر رضي الله عنه يتعاهد الأرامل ويقضي لهن حوائجهن، فرآه طلحة بن عبيد الله -أحد العشرة المبشرين بالجنة- يتردد على بيت امرأة في الليل، فدخل طلحة بالنهار فرأى عجوزاً عمياء مقعدة، فقال: ما يفعل هذا الرجل عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فقال طلحة : ويحك يا طلحة ! أوعورات عمر تتبع؟

    وكان أبو وائل يدور على عجائز الحي يقضي لهن حوائجهن من السوق.

    ويقول مجاهد أحد التابعين: صحبت ابن عمر في سفر لأخدمه فكان يخدمني. هذا هدي السلف رضي الله عنهم، وهذا حرصهم على طاعة الله عز وجل وعلى قضاء حوائج إخوانهم، (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

    1.   

    فضل تعلم العلم

    قال صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة) والطريق إلى تحصيل العلم إما أن يسعى إلى عالم يتعلم منه أو يسأله، أو يسعى إلى معهد أو مدرسة يتعلم منها العلوم الشريفة علوم الشرع، وإما أن يكون طريقاً معنوياً كأن ينوي دراسة علم معين، أو ينظم إلى معهد أو مدرسة أو دار تحفيظ؛ من أجل أن يدرس علماً من العلوم الشرعية. ف (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة). قالوا: وتسهيل الطريق إلى الجنة إما أن يسهل الله عز وجل له هذا العلم، والعلم يوصل إلى الله عز وجل وإلى الجنة من أقرب طريق، كما قال بعضهم: هل من طالب علم فيعان عليه؟ والعبد لا يعرف كيف يتقي الله عز وجل حتى يعلم ما يحبه الله عز وجل ويرضاه، إذ كيف يتقي من لا يدري كيف يتقي؟ فلا بد أن يتعلم العلم حتى يتقي الله عز وجل، بل إن الله عز وجل حصر الخشية منه في العلماء، فقال عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. وإنما أداة حصر في اللغة.

    وقال عبد الله بن مسعود : كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله عز وجل جهلاً.

    وقيل للإمام الشعبي : يا عالم! قال: إنما العالم من يخشى الله.

    فالعلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان.

    أما علم اللسان فلا ينتفع به العبد، وأما علم القلب فهو الذي ينتفع به العبد، وهو أول علم يرفع من الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) .

    فنزع العلم من قلوب العلماء جائز في قدرة الله عز وجل؛ لأن الله على كل شيء قدير، ولكن هذا الحديث يبين أن ذلك لا يحدث، وأن الله عز وجل إذا أراد أن يرفع العلم فإنه يقبض العلماء، ولا ينزع العلم من صدورهم، ولكن يقبض علماء السنة، الذين هم علماء القلب والخشية، فيتخذ الناس رءوساً جهالاً فيسألون فيفتون بغير علم فيَضِلُّوا ويُضِلُّوا، فهذا أول علم يرفع كما قال بعضهم: ألا أخبركم بأول علم يرفع هو الخشوع.

    فينزع هذا العلم أولاً -عباد الله- ثم ينزع كذلك علم اللسان، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب -أي: نقش الثوب- فلا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الرجل الكبير والمرأة العجوز يقولون: لا إله إلا الله وجدنا آباءنا عليها فنحن عليها إلى أن يتوفانا الله) .

    فقال صلة بن زفر لـحذيفة : يا حذيفة ! ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة حتى كررها ثلاثاً، فقال حذيفة : تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار.

    فبعد أن يرفع علم القلب وهو الخشية يرفع كذلك العلم من السطور ومن الصدور، ونعوذ بالله من أن ندرك هذا الزمان.

    فالله عز وجل يرفع القرآن قبل قيام الساعة، فلا يبقى في الأرض منه آية.

    فاعرفوا عباد الله! نعمة العلم النافع ونعمة القرآن، وتصوروا هذا الزمان الذي يرفع فيه القرآن من السطور ومن الصدور فيعيش الناس بلا قرآن كأنهم البهائم، ويبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، وتأتي ريح من جهة الشمال فتأخذ المؤمنين من تحت آباطهم فتقبض كل روح مؤمنة، ولا يبقى إلا الكفرة والفجرة، فكيف تكون الأرض بعد ذلك؟ ثم تقوم القيامة بعد ذلك على شرار الخلق بعد أن يرفع القرآن، وبعد أن تهدم الكعبة على يد ذي السويقتين الحبشي حجراً حجراً، فتهدم الكعبة ويرفع القرآن. فينبغي أن نعرف نعمة وجود الكعبة وحج الناس وعمرتهم إليها، ونعمة وجود العلم النافع والعمل الصالح، ونعمة القرآن وهذا يرفع في آخر الزمان، فيرفع أولاً علم القلب وهو الخشوع، ثم يرفع كذلك علم اللسان، فيرتفع القرآن من الصدور ومن السطور، فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى ناس لا يعرفون من الإسلام إلا كلمة: لا إله إلا الله. فيقول صلة بن زفر أحد التابعين لـحذيفة : ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة؟ فقال: تنجيهم من النار.

    وهذا فيه دليل على الحكم بإسلام من نطق بالشهادتين إذا جهل كل شرائع الإسلام من الصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك، وهو من أدلة العذر بالجهل، فإن في آخر الزمان يبقى ناس لا يعرفون صلاة ولا صيام ولا صدقة ويجهلون ذلك، ولا سبيل لتحصيل علم ذلك؛ لأن ذلك قد رفع من الأرض وتعذر الوصول إليه.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    فضل الجلوس في حلقات العلم

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً.

    قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم فيمن عنده). والصحابة لقوة يقينهم وشدة إيمانهم رأوا هذه الأمور الغيبية عياناً في عالم المشاهدة، كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين: (كان رجل يقرأ القرآن فغشيته مثل السحابة فجعلت تدور وتدنو، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه السكينة تنزلت بالقرآن). فرأى السكينة في صورة سحابة كلما قرأ تدنو وتقترب منه، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هذه السكينة تنزلت بالقرآن).

    وكذلك الرحمة رآها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سلمان الفارسي فقد روى الحاكم في مستدركه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على جماعة فقال: ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها) فكانوا في ذكر الله عز وجل وفي طاعته عز وجل، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة وهي تنزل على أصحابه فانضم إليهم حتى يأخذ نصيبه منها.

    وفي الصحيحين كذلك من حديث أسيد بن حضير : أنه كان يقرأ في مربده أي: في مربط فرسه، فكلما قرأ جالت فرسه -أي: تحركت فرسه- فإذا سكت سكنت الفرس، قال: فخشيت أن تطأ يحيى -أي: ولده- فنظرت في السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، أو أمثال السرج فعرجت في السماء حتى ما أراها، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: (هذه الملائكة نزلت تسمع القرآن، ولو قرأت لأصبحت ينظر إليها الناس ما تستر منهم)؛ لأن الملائكة والجن وعذاب القبر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وتلميذه ابن رجب : من الغيب الذي يكشفه الله عز وجل لمن شاء من خلقه.

    ولكن الله عز وجل قد يري بعض خلقه الملائكة كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورة دحية الكلبي ، ورآه الصحابة رضي الله عنهم، ففي الحديث: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ولا يعرفه منا أحد، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم سأله عن علامات الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرف: علي بالرجل، فطلبوه فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.)

    فالملائكة يريها الله عز وجل من يشاء من عباده، فـأسيد بن حضير رأى الملائكة وهي تنزل في مثل الظلة، قالوا: وهذا الظلة هي السحابة في الحديث المذكور آنفاً؛ لأن هذه ملائكة الرحمة تنزل معها الرحمة والسكينة.

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (إن لله ملائكة سيارة يطوفون في الطرقات يلتمسون أهل الذكر، فإذا رأوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف وجدتم عبادي؟ قال: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، قال: هل رأوني؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوني؟ قالوا: لو رأوك لكانوا أكثر لك تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً، قال: فماذا يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أشد لها طلباً، وأكثر لها سعياً، قال: ومما يتعوذون؟ قالوا: يتعوذون من النار، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أكثر منها استعاذة، وأشد منها فراراً، قال: أشهدكم يا عبادي! أني قد غفرت لهم، فيقال: فيهم فلان ليس منهم وإنما أتى لحاجة، فيقول عز وجل: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.)

    فهذه الملائكة تحب ما يحبه المؤمنون من ذكر الله عز وجل، فهي تبحث عن أهل الذكر، فإذا رأتهم تسابقت في رفع أعمالهم الصالحة إلى الله عز وجل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع أن رجلاً يصلي خلفه فلما قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم لك الحمد حمداً طيباً مباركاً فيه، كما تحب ربنا وترضى، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قائل هذه المقالة فأخبر فقال: (والله لقد ابتدرها كذا وكذا ملك أيهم يصعد بها إلى الله عز وجل من حبهم للمؤمنين).

    فهم يحبون أن يرفعوا الكلام الطيب إلى الله عز وجل، ويتسابقون في ذلك؛ لأنهم يعلمون أن الله عز وجل يحب أن يتفضل على عباده ويكرمهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وبالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم -أي: أعلم بعباده، ولكنه هذا سؤال مباهاة كما في الحديث السابق- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون). فالله عز وجل يقول لهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون؛ لأنهم يعلمون أن الله عز وجل يحب أن يتفضل على عباده المؤمنين، فزادوا في موجب ذلك في الإجابة، (وأتيناهم وهم يصلون).

    والمؤمن يحب ملائكة الله عز وجل؛ لأن الملائكة تحب المؤمنين، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]. فمع أنهم موكلون بهذه المهمة العظيمة -حمل العرش فهم يستغفرون للذين آمنوا، وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [غافر:9].

    ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وذكرهم الله فيمن عنده) ؛ لأنهم يذكرون الله عز وجل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيراً منهم). وهم الملائكة المقربون، وهم الملأ الأعلى.

    1.   

    التفاضل عند الله بالأعمال لا بالأنساب

    قال صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي: لا يساعده ولا يسرع به أن أباه أحد المشايخ أو الصالحين أو الأولياء، أو أنه من نسب النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، ولا ينفع نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل الإيمان والطاعة والعمل الصالح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل نسب مقطوعة يوم القيامة إلا نسبي وصهري) ، تزوج عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب قال: والله ما بي حاجة إلى الزواج، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل نسب مقطوعة يوم القيامة إلا نسبي وصهري). فلا ينفع نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلا من كان من أهل الإيمان والعمل الصالح. فهم النبي صلى الله عليه وسلم وشقيق أبيه أبو لهب ينزل فيه في الدنيا: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5] فلم ينفعه نسب النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فلا ينفع نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل الإيمان وأهل العمل الصالح، وأما سائر الأنساب فلا تنفع بحال من الأحوال، بل إن الأنساب يوم القيامة تتقطع، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضرب الصراط على ظهري جهنم فأكون أول من يجيزها، ويمر الناس بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل، أي: إسراع الرجل في المشي، ومنهم من يتلبط على بطنه فتعلق يد فيجرها، وتعلق رجل فيجرها، فيقول: يا رب! لم أبطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطئ بك ولكن أبطأ بك عملك). فتكون قوة مشي العبد على الصراط بحسب قوة عمله، والصراط على متن جهنم، فمنهم من يكردس في جهنم، ومنهم الناجي، ومنهم الناجي المخدوش وغير ذلك، فمن أبطأ به عمله في المرور على الصراط لم يسرع به نسبه.

    فهذا الحديث النبوي الشريف يتضمن وصايا عظيمة، وأبواباً كبيرة من أبواب الخير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

    اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.

    اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين. اللهم فرج كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، ورد غائبنا بخير وعافية يا رب العالمين!

    اللهم بلغنا رمضان، اللهم سلمنا إلى رمضان، وتسلمه منا متقبلاً. اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.

    اللهم إنا نسألك أن تذل اليهود والأمريكان، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من العلمانيين والمنافقين.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755765305