يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نتكلم عن المرتبة الثانية من مراتب التدليس، فالمرتبة الثانية لها أصناف وأنواع وأقسام وهي خمسة أقسام:
منها: قوم ثبت عليهم التدليس، لكن لا يدلسون إلا عن ثقة؛ كـابن عيينة ، وحميد الطويل ، والذي دلس مرة واحدة هو يزيد بن هارون الواسطي ، وابن حبان استوعب المسألة فقال: وأكاد أقول في هذه الأصناف: لا يوجد إلا ابن عيينة ، وذلك بعد الاستقراء والبحث؛ لأنه لو سمى ابن جريج ، أو سمى معمر بن راشد ، أو سمى عبد الرزاق مثلاً فوف نقول: ما سمى إلا الثقات.
الصنف الثاني من المرتبة الثانية: قوم دلسوا وثبت تدليسهم، ولكن التدليس بالنسبة لسعة الرواية قليل، فنقول: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، وهذا الباب أساسه هو الثوري ؛ ولذلك نحن نتكلم اليوم عن تدليس ابن عيينة والثوري .
يقول شعبة : أمير المؤمنين في الحديث الثوري ، وكان إذا خالف الثوري شعبة قال شعبة : قدموا الثوري ، فكان يقدم الثوري على نفسه؛ ولذلك كان ابن مهدي يقول: يقدم الثوري ، فهو إمام زمانه، وكان يحيى بن سعيد القطان إذا قورن عنده بين شعبة والثوري قدم الثوري في علم الرجال، وأيضاً في حفظ المتون والروايات.
قال بشر الحافي : الثوري في زماننا كـأبي بكر وعمر في زمانهما، وهذه دلالة على إمامته وجلالة قدره، وكان الثوري مع حفظه للحديث وعلمه بالسنة عابداً زاهداً ورعاً تقياً، وكان يصلي بوضوء العشاء، كان يقوم الليل حتى الفجر، وكان يأكل كثيراً ويقول: أتقوى به على قيام الليل، فهو كمن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره)، وقد طلبه الخليفة للقضاء فرفض ورعاً منه وتقوى، فطلبه الوالي، وهم بقتله؛ فهرب منه، ثم طلبه، فقالوا: هو في مكة قد دخل الحرم فتعلق بأستار الكعبة، وقال: عذت بربي جل في علاه أن يصل إلي؛ فجاءه الخبر أن الوالي مات في الطريق قبل أن يصل إلى مكة.
وهذا أيضاً من ورعه وتقواه تثبيتاً للحفظ والعمل به؛ لأنه قال: ما سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فحفظته إلا وعملت به ولو مرة واحدة في حياتي، ولذلك ورد عنه أنه قال: يا أهل الحديث! إن تعملوا بالحديث مرة واحدة تكونوا من أهله.
ومن درر كلام الثوري أنه قال: من اعتاد أفخاذ النساء ضيع عليه العلم. وأيضاً من درر كلام الثوري -وهذا الكلام فيه نظر- أنه قال: من تزوج فقد ركب البحر، ومن أنجب له أو ولد له فقد كسرت سفينته، يعني: قارب على الغرق والهلاك، مع أنه تزوج، وكذلك الشافعي ومالك وأبو حنيفة ، ولكن إذا دققت النظر في كلام العلماء تجد بالتحليل والتدقيق أنهم كانوا ينهون الناس عن أن يتزوجوا قبل أن يتفقهوا، ولذلك كان الشافعي كثيراً ما يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا. فأنت إذا طلبت الأصول وأتقنتها ثم تزوجت بعد ذلك فإن البركة تكون معك.
كذلك من درر كلام الثوري أنه قال: على طالب العلم أن ينتقي. يعني: يعرف من يدخل عليه؛ لأن كثيراً من الناس لا ينتقون من يدخلون عليهم عند التعلم، وقد كان الثوري وابن عيينة والشافعي يقولون: الانتقاء هو أول الطريق، أي: انتقاء العالم هو أول الطريق؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من علامات الساعة طلب العلم عند الأصاغر) يعني: الأصاغر في العلم، الذين لم يتقنوه وما درسوه على أيدي مشايخ كبار في العلم، وما قرءوا على عالم فأجازهم، ولا أتقنوا المسائل، ما هي إلا نقل أقوال، أو سماع لبعض الأشرطة، مع عدم الإتقان والتمحيص والتنقيح والتدقيق.
الإمام الثوري رغم أنه كان أمير المؤمنين في الحديث وكان أوسع الناس حفظاً فقد كان فقيهاً مدققاً منقحاً، وهذه هي بركة العلم، وكان له مذهب مستقل، مع أنه كان من الكوفة، وكان مذهبه مذهب الكوفيين في كثير من المسائل كمسألة النبيذ وغيرها، لكن كان فقيهاً فحلاً، فجمع بين الفقه والحديث، لكن لم يحمله أصحابه في الفقه، وحملوه في الحديث فقط؛ ولذلك ترى أقوالاً متناثرة من أقوال الثوري في الفقه، وكان ينشغل بالحديث وفقهه؛ لذلك ذاع صيته بين الناس، وظهر علمه ودقة نظره في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومرة كان يحدث عن الزهري ، وبين الزهري وبين ابن عيينة ثلاث طبقات؛ ولكن الزهري كان شيخاً مباشراً له؛ لأن ابن عيينة تعمر واحداً وتسعين سنة، فأدرك الزهري -هذا على الراجح- وكان يروي عنه وهو شيخه المباشر، فيقول: عن الزهري ، فيقولون: سمعته من الزهري ؟ فيقول: اتركوه، فيقولون: لا والله، سمعته من الزهري ؟ فيقول: لا، ولا ممن سمعه من الزهري ، سمعته من عبد الرزاق عن معمر بن راشد عن الزهري ، ويسرد الحديث.
الجواب: لا تعارض بين أن يذهب لطلب العلم وينوي الحج؛ لأن الله يقول: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28] وبما أن الله قد أباح المنافع الدنيوية فمن باب أولى أن تكون المنافع الأخروية مباحة كطلب العلم.
إذاً: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، ومن أهم المنافع: طلب العلم؛ لأنه بالعلم تستقيم العبادة، فـابن عيينة كانوا يرحلون له، حتى إنه ذات مرة لما جلس مجلسه للحديث بكى وقال: (خلت الديار فسدت، إن هذا لزمان سوء)، رضي الله عنه وأرضاه، وقد قال فيه الشافعي : ما رأيت أحسن تفسيراً للحديث من ابن عيينة .
كان مجلس ابن عيينة يضج بطلبة العلم الذين يطلبون منه الحديث، ولكنه لم يكن واسع الرواية كـسفيان الثوري ، لكنه كان ثقة ثبتاً، وكان له اعتبار بين علماء الحديث، وكان من كبار أهل العلم.
وكان أيضاً عابداً ورعاً تقياً يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويعمل به؛ ولذلك بارك الله له في العلم.
ومن درر كلامه رحمه الله قوله: بوابة العلم الصبر، وهذا الكلام أيضاً استقاه منه الشافعي ، فقد بين أن بوابة العلم الصبر على الطلب، وإن كان الأمر فيه مشقة، فإن المشقة دائماً يلازمها بعد ذلك التيسير: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]، وأنعم بقول السبكي عندما قال: من ألح الطرق فقد ولج، يعني: من أدام الطرق على الباب فقد ولج.
فلنعم الرجال هؤلاء العلماء! وآخر ما أقول: إن المرء لا يعيش مع أهل زمانه، إن أراد الرفعة والارتقاء فعليه مد بصره إلى هؤلاء الأخيار.. إلى هؤلاء الأكارم.. إلى هؤلاء الأماجد، إن عاش معهم ارتقى بنفسه وبهمته كما ارتقوا بهمتهم، وإن كان يدب كدبيب النمل فإنه سيصل، كما قال الحسن البصري : من سار على الدرب وصل وإن مشى ببطء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر