يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
التدليس -كما قلنا سابقاً- نوعان: تدليس إسناد وتدليس شيوخ، وكل قسم يندرج تحته أقسام أو أنواع كثيرة.
فتدليس الإسناد ينقسم إلى: تدليس القطع، وتدليس السكوت، وتدليس العطف، وتدليس التسوية.
ومثل العلماء على هذا القسم بما قاله علي بن خشرم عن ابن عيينة ، قال: جلس ابن عيينة معنا يحدثنا في مجلس التحديث، وابن عيينة كان فحلاً ثقة ثبتاً، قال فيه الإمام أحمد : تحسرنا حسرة كبيرة على ما فاتنا من الإمام مالك ، ولعل الله يجعل لنا في ابن عيينة خلفاً لـمالك ، أي: يستعيض به عن مالك ، فهو كان كثيراً ما يتردد على مالك ، ومالك هو شيخ من شيوخ الشافعي ، وكان ابن عيينة كذلك من شيوخ الشافعي ، فـابن عيينة كان دائماً يسأل الإمام الشافعي عن المسائل التي تعرض له في فقه الحديث، حتى إنه في مجلس التحديث روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً، فجاءت امرأته صفية تزوره، ثم خرج معها إلى بيتها، فرآه رجلان واقفاً معها، فمرا مسرعين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما، إنها
وقد يقول قائل: كيف يكفر من ظن سوءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يكون جاهلاً بذلك؟ فنقول: إن التعظيم والتبجيل والاستهزاء لا عذر بالجهل فيه، فهذه الثلاثة يكفر من وقع فيها دون أن ننظر إلى إقامة حجة ولا إزالة شبهة، فإن الاستهزاء أو التعظيم والتبجيل لا عذر فيه بالجهل في حال من الأحوال.
وهناك إشكال آخر، وهو أنه قد يقول قائل: إن عائشة ظنت برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيتركها ويذهب إلى إحدى نسائه، وهذا ظن سوء، ولذلك قال لها النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليها: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟)، يعني: ظنت هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ظلم بأن يتركها لا قسم لها، ويترك ليلتها، ويذهب إلى زوجة أخرى، وهذا عند بعض الفقهاء الذين يقولون: إن القسم واجب على النبي صلى الله عليه وسلم.
فنقول: إن الرجلين ليس لهما مسوغ، فإن المسألة كلها من تعظيم وتبجيل النبي صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة لـعائشة رضي الله عنها وأرضاها فلها مسوغ من وجهين: الوجه الأول: أنها ترى قسم النبي صلى الله عليه وسلم واجباً عليه، فلا يذهب لغيرها، والوجه الثاني: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قد أقر النبي صلى الله عليه وسلم غيرتها، وهذه من باب الغيرة التي إذا حصلت للمرأة فإنها تعذر في بعض الأحكام، كما قال الإمام مالك : إن المرأة إذا غارت فقذفت لا حد عليها؛ لأن الغيرة تغطي على العقل، فكان هذا عذراً لها في هذه المسألة، وهذا هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفق بها، ويقول لها: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله)؟ وكما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيت الله إلا يسارع في هواك، وذلك عندما أنزل الله: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا [الأحزاب:50] فلها عذر في هذه المسألة، وعذرها هي الغيرة القاتلة التي يمكن أن تغطي على العقل، بل هي تكلمت في خديجة كلمة أشد ما تكون، وما عوقبت، ولذلك استنبط الإمام مالك ، بفقه عالٍ، فقال: المرأة إذا غارت فقذفت لا حد عليها.
فـابن عيينة بعدما فهم هذا الحديث من الشافعي جلس بمجلس التحديث فقال لهم: الزهري عن أنس ، وابن عيينة تلميذ مباشر للزهري ، فقال له علي بن خشرم : يا ابن عيينة ! أسمعته من الزهري ؟ فسكت ولم يرد عليه، ثم سأله وقال: أسمعته من الزهري ؟ فسكت، ثم سأله الثالثة، فقال: لا والله ما سمعته من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري ، بل سمعته من عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ورواية ابن عيينة عن عبد الرزاق تعتبر من رواية الأقران؛ لأنهما من طبقة واحدة.
فهنا ابن عيينة قال: الزهري ، فقطع وأسقط الصيغة، فلم يقل: حدثني، ولا قال: أنبأني، ولا قال: قال، ولا قال: عن، بل قال: الزهري مباشرة، فلما قالوا: أسمعته من الزهري ؟ قال: لا ولا ممن حدث عن الزهري ، سمعته عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس ، فهذا هو النوع الأول من تدليس الإسناد.
فهذا هو تدليس السكوت، وهو أشد وأنكى من النوع الأول؛ لأن المحدث هنا يذكر الصيغة فيقول: حدثنا أو أخبرنا أو سمعت، ثم بعد ذلك يسكت، ويسمي من سمع منه في نفسه دون أن يعلم مجلس التحديث أنه سماه، ثم يأتي باسم من الطبقة التي فوقه، ويجري الإسناد على ذلك فيصبح كأنه لا إظلام فيه؛ لوجود صيغة التحديث، وكلها مستوية بين التلميذ وبين الشيخ، وهذا هو النوع الثاني من أنواع تدليس الإسناد.
فيقول مثلاً: حدثني فلان وفلان، وفلان الثاني هذا لم يسمع منه، بل هو سمع من الأول فقط، ولأن الأصل في العطف مقتضاه الاشتراك؛ فإن السامع له يظن أنه سمع منهما جميعاً.
ومن فعل هذا النوع من التدليس -كما مثّل العلماء به في هذا النوع- هو هشيم بن بشير ، أحد رجال الكتب الستة، ولكنه هو والوليد بن مسلم والثوري والأعمش اتهموا بتدليس التسوية الذي سيأتي تعريفه إن شاء الله.
فقد قام ذات يوم في مجلس التحديث، وكان له دعابة مع طلبة الحديث، والطلاب يعلمون أن هشيماً من الثقة بمكان، ومن الحفظ بمكان، وهو ثقة ثبت، لكنه يدلس ليعلو بالإسناد -وللتدليس بواعث كثيرة سنبينها إن شاء الله تعالى- ولهذا اجتمع طلبة العلم ذات يوم وقالوا: والله لا نأخذ منه حديثاً قد دلس فيه، واتفقوا على أنه إذا قال: عن، فإنهم سيقولون له: أسمعت هذا الحديث؟ فوقفوا بالمرصاد لكل عنعنة، فيأتي هشيم فيقول: عن فلان، فيقولون: لو سمحت يا شيخ! أسمعت هذا الحديث من شيخك؟ فيقول: لا، وهكذا حتى فطن هشيم أنهم تربصوا به الدوائر على ألا يدلس بحال من الأحوال، فقال: هل تظنون أنكم ستغلبونني؟ انتظروا مني ما سيأتيكم، فقال: حدثني حصين و-حصين بن عبد الرحمن ثقة ثبت- حدثني حصين والمغيرة و- المغيرة بن قاسم الضبي فقيه من فقهاء الكوفة؛ كان عابداً زاهداً- ثم سرد الإسناد، وأتى بأكثر من إسناد على مثل هذا بالعطف، فبعدما انتهى من مجلس التحديث، قال لهم: أدلست عليكم بشيء؟ قالوا: لا والله، قال: ما من حديث قلت فيه: حصين والمغيرة ، فإني لم أسمع من المغيرة حرفاً واحداً، أي: دلست عليكم في المغيرة ، ولأن كثرة الطرق تبين كثرة اطلاع طالب الحديث، فإن الطالب سيأتي ويقول: حدثني هشيم حدثني حصين ، وفي الطريق الآخر يقول: حدثني هشيم حدثني المغيرة ، فيكون قد وقع في التدليس، وهذا هو تدليس العطف.
وفي هذا تأديب لطالب العلم، بأن يجلس عند شيخه مجلس التلميذ حتى وإن كان الشيخ يتحدث عن مسألة قد أتقنها، فالشيخ هنا أدب طلابه وكأنه قال لكل واحد منهم: علمت مسألة وأنت تجهل حراً من المسائل، فتأدب حتى تصل، فإن جلست مجلس التلميذ فالبس ثوب التلميذ، وإن جلست مجلس الشيخ، فالبس ثوب الشيخ.
ففي هذه الحالة يأتي الراوي فيسقط الضعيف من بين الثقتين حتى يصبح السند مستقيماً كله، ثم يأتي بالعنعنة، ولذلك كثير من المدلسين لا يقبل منه إلا إذا صرح بالتحديث، كما قال الذهبي في بقية ، قال: أما بقية إن قال: عن، فلا تلتفت إليه، وإن صرح بالتحديث فذاك، يعني: إذا قال: حدثني، فخذ، فالمدلس هنا يقول: حدثني ثم يأتي بشيخه الثقة، ثم يقول: عن؛ لأنه لو قال: حدثني، لكان كاذباً، فيسقط الضعيف من بين الثقتين ويأتي بصيغة موهمة للسماع وهي عن، ويكون شيخه قد عاصر الثقة الذي بعد الضعيف.
فيكون الإسناد -أمام الناظر إليه- إسناداً! مستقيماً، فالمدلس صرح بالتحديث، وشيخه ثقة، وحدث عن شيخ معاصر له ثقة أيضاً، ومع أن ذلك بالعنعنة لكنه قد لقي هذا الشيخ أو عاصره.
ولذلك قال العلماء: إن شر أنواع التدليس هو تدليس التسوية، واتهم بذلك الثوري -وكان مقلاً- والأعمش والوليد بن مسلم وهشيم بن بشير وبقية بن الوليد ، وهو أبو الباب، ولذلك قالوا: أحاديث بقية ليست بنقية، فكن منها على تقية.
والعلماء غلظوا جداً على التدليس عامة، وعلى تدليس التسوية خاصة، وأغلظ ما رأيته قول ابن حزم حيث قال: إن الذي يدلس تدليس التسوية ساقط العدالة، رقيق الديانة؛ لأنه سيضيع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو نقول: يدخل في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منها.
القول الأول: الرد مطلقاً، وهذا قول المتشددين، وأبو الباب في ذلك هو شعبة بن الحجاج .
وأصحاب هذا القول قالوا: أما المدلس فمجروح عندنا، وإليك الأقوال التي قيلت فيه:
أما شعبة فقال: التدليس أخو الكذب، وقال في كلمة أخرى: لأن أخر من السماء خير لي من أن أدلس، وقال عن نفسه: لأن يزني خير له من أن يدلس، فجعل التدليس أخا الزنا، ولذلك ابن الصلاح لما سمع هذه الكلمة ونقلها عن الإمام أمير المؤمنين في الحديث شعبة أنكر عليه، وقال: وهذا فحش في القول، فجاء البلقيني فأنكر على ابن الصلاح وعضد قول شعبة ، وقال: ولم لا وهو يعمي على الناس حديث النبي صلى الله عليه وسلم! وإن التدليس أضر من الربا؛ لأن الربا فيه الظلم في أمور دنيوية، أما الحديث ففيه الظلم في أمور دينية، من تضييع للشرع، وجعل الحرام حلالاً، أو الحلال حراماً، فقال: فإن التدليس أضر من الربا، وقد وردت الآثار أن درهماً واحداً أشد من ست وثلاثين زنية، وقال: والتدليس أضر من الزنا، فيكون حديث واحد فيه تدليس أشد من ست وثلاثين زنية.
وورد عن عبد الرزاق الصنعاني ، وهو ثقة ثبت، وشيخ الإمام أحمد بن حنبل ، وكان فحلاً من أهل اليمن، ورد أنه كان يكره التدليس، بل يذم التدليس، ولأن المحدثين من أهل اليمن كانوا ينزلون مكة لبركتها، وكذلك كل المحدثين كانوا يتوافدون عليها، فيعقدون مجلس التحديث، فقد نزل عبد الرزاق مكة، وسمع به أهل الحديث ولم يأتوه، فكاد يموت، فذهب فتعلق بأستار الكعبة وبكى بكاءً شديداً، ثم قال: رب! لمَ لم يأتني أصحاب الحديث؟ أكنت كذاباً؟ أكنت مدلساً؟ فانظر كيف قرن التدليس بالكذب، وهو يقول: حق لمن يدلس ألا يسمع له أحد، فما لبث أن انتهى من دعائه حتى وجد الناس يكتظون على المسكن الذي نزل فيه، فيسمعون منه الحديث، فالمقصود أنه قرن الكذب بالتدليس.
وكان أبو عاصم النبيل يقول: إن التدليس شر كله، ودعا بعضهم على المدلسين فقال: خرب الله بيوت المدلسين، خرب الله بيوت المدلسين، ونقل عن أبي عاصم أنه قال: إن المدلس هو المتشبع بما لم يعط، والمتشبع بما لم يعط عنده تزوير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) ، لأن من فعل ذلك أصلاً ليس بمحدث، ويضع نفسه أمام الناس على أنه محدث، أو ليس بفقيه، ويضع نفسه أمام الناس على أنه فقيه.
وقال آخرون: إن التدليس غش، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا).
وكل هذه الأقوال تعضد قول من قال: إن المدلس مجروح، فلا يؤخذ منه حديث، فلذلك ردوا حديثه مطلقاً، سواء عنعن أو صرح بالتحديث، وموجب هذا القول رد الأحاديث التي وردت عن الأعمش وعن الثوري وعن ابن عيينة وعن الزهري وعن الوليد بن مسلم وعن هشيم بن بشير ، وهؤلاء جاوزوا القنطرة، فسوف تضيع ثلاثة أرباع السنة، إذاً هذا القول فيه غلو وتشد، فلا يقبل بحال من الأحوال؛ لأننا لو عملنا بموجب هذا القول لرددنا أغلب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: القبول مطلقاً، وأصحاب هذا القول يحتجون بقول الشافعية: إن المدلس ليس بكذاب، فقد ورد عن الشافعي أنه قال: إن التدليس ليس بالكذب، ولكنه ضرب من الإيهام بلفظ يحتمل، أي: يوهمك بأنه سمع وهو لم يسمع، ثم قال الشافعي رحمه الله: فلا نقبل حديثه حتى يقول: حدثني أو أخبرني، فهم لم يأخذوا الشطر الأخير من كلام الشافعي ، لكن قالوا: المدلس ليس بكذاب، وليس بمجروح، وحديثه حكمه حكم المرسل؛ لأن الإرسال إسقاط، والتدليس إسقاط كذلك -كما بينا ذلك في العلاقة بين التدليس والإرسال- فكل منهما أسقط واسطة، فلذلك قالوا: من قبل الإرسال لزاماً عليه أن يقبل التدليس.
وهذا قول أكثر الأحناف، وبعض المالكية، بأن الأصل في رواية المدلس القبول مطلقاً، سواء عنعن أو صرح بالتحديث.
القول الثالث: التفصيل: وهذا القول نقل عن المحدثين، فقد قالوا: إن الشافعي قال: إن التدليس ليس بالكذب، وهذا ليس بجرح صريح، فيكون المدلس غير مجروح، وكذلك قالوا: إنه قال: هو ضرب من الإيهام، أي: فيه إيهام، ونحن نريد أن نقف على الإسناد هل سمع أم لا، فلا نقبل منه حتى يقول: حدثني أو أخبرني أو أنبأني.
إذاً هم فصلوا وقالوا: إن المدلس إذا أتى بصيغة توهم السماع كأن يأتي بالعنعنة فلا نقبل حديثه، وإذا أتى بصيغة التصريح فيقبل حديثه؛ لأنه غير مجروح العدالة، وهذا القول من القوة بمكان، فإذا كان معنا إسناد فيه مدلس أتى بصيغة العنعنة مثل: الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، فنقول: إن هذا الإسناد ضعيف، والعلة في ذلك أن فيه إيهاماً يوجب لنا الانقطاع، أي: أن ضعف الحديث علته ليست العدالة والضبط، فإن العدالة والضبط متوافرتان، وإنما العلة هي إيهام بانقطاع، فإذا زال هذا الإيهام بأن صرح الراوي بالتحديث، فتكون الشروط قد توافرت، ويكون الإسناد صحيحاً، ولذلك نحن قلنا: إن الذهبي قال في بقية : إن قال: حدثني، فعض عليه بالنواجذ.
وليعلم أن أصحاب هذا القول يشترطون في المدلس أن يكون ثقة لا ضعيفاً، أي: أن الكلام في القول الثالث عن الثقات وليس عن الضعفاء؛ لأن الضعيف لو عنعن فإن هذا سيصبح ظلمات بعضها فوق بعض، فإن الراوي هنا متهم أصالة، فكيف إذا زاد فوق ذلك تدليساً!
القول الرابع: قالوا: ننظر للمدلس نفسه، فإن كان لا يدلس إلا عن الثقات فحديثه يكون صحيحاً ويقبل منه، ويعرف ذلك من خلال تصريحه عمن سمع منه، فإن كان دائماً يصرح عن ثقات فنقول: إنه يدلس عن الثقات فقط، وذلك مثل ابن عيينة ، فإنه كان إذا طلب منه التصريح لا يصرح إلا عن ثقة، أما إذا كان يصرح عن الثقات والضعفاء فلا يقبل منه حتى يصرح بالتحديث.
وقد قال أصحاب هذا القول: إن هذا الشرط لم يتوفر إلا في ابن عيينة .
القول الخامس: قالوا: يشترط في قبول حديث المدلس أن يكون المحدث كثير التحديث وقليل التدليس، قالوا: لأن القاعدة عند علمائنا تقول: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فيغمر قليل التدليس في كثير الحديث، ومثلوا على ذلك بـالثوري وابن عيينة وابن المديني وغيرهم، فـالثوري كثير الحديث، بل أمير المؤمنين في الحديث، فهو أكثر حفظاً من شعبة ، ولكنه كان يدلس، فقالوا: نقبل عنعنة الثوري؛ لأنه مكثر في الحديث، وكذلك الزهري ، فهو أيضاً أمير المؤمنين في الحديث، وأوسع الناس حفظاً منه، فتدليسه يغمر في بحر أحاديثه.
هذه هي الأقوال الخمسة، والراجح والصحيح في ذلك هو القول الثالث، والقولان الرابع والخامس يندرجان تحته، أي: أن هذين القولين تابعان للقول الثالث؛ لأننا قد ننزل العنعنة منزلة التصريح لعوارض وضوابط في المدلس، من حيث ثقته أو كثرة حديثه.
أيضاً الأعمش وأبو إسحاق السبيعي وقتادة ، هؤلاء إذا وجدت في الإسناد شعبة فخذ بأحاديثهم ولو عنعنوا؛ لأن شعبة قال: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وقتادة وأبي إسحاق السبيعي .
أيضاً رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر ، لأن الليث كان لا يحدث أحاديث أبي الزبير إلا وهو يعلم ما سمعه من جابر وما لم يسمعه؛ لأن أبا الزبير خاف أن يتهم بالكذب، فأخبر الليث بكل الأحاديث التي سمعها من جابر والتي لم يسمعها منه، فكان يقول: هذا سمعته من جابر ، وهذا لم أسمعه من جابر، فعلم الليث كل ما سمعه من جابر ، فحيث ما وجدت في الإسناد: الليث عن أبي الزبير عن جابر -وهذا السند موجود في صحيح مسلم - فإذا وجدت هذا السند فاضرب عن العنعنة ولا تتكلم عنها؛ لأنه لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر .
لكن هناك بعض الرواة في مستدرك الحاكم أكثروا عن مشايخهم وكانوا مدلسين، ويقول الحاكم في بعضها: هذا إسناد صحيح، أو يقول: إسناد على شرط الصحيح، لكن الذهبي يتعقبه ويقول: فلان مدلس، فأنى يكون هذا الإسناد صحيحاً! فهو هنا كأنه ناقض هذه القاعدة التي قالها، لكن بعضهم قال: إن المستدرك أصلاً كان في شباب الذهبي، فلم يكن وقتها طاعناً في العلم، أما في (ميزان الاعتدال) فقد كان قد أكثر من العلم، وصراحة هذا الكلام من الذهبي كلام وجيه ومعتبر، ومن أخذ به فلا ينكر عليه، أي: من قبل حديث الأعمش عن أبي وائل أو عن أبي صالح ، ومرر هذا الإسناد وقال: لا أعتبر العنعنة، ولا أجعلها قادحة في الإسناد، فلا ينكر عليه، ويكون الخلاف هنا خلافاً معتبراً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر