إسلام ويب

من حياة عمر بن عبد العزيزللشيخ : خالد الراشد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن عمر بن عبد العزيز من مشاعل الحضارة الإسلامية الذين يفتخر المسلمون أنهم كانوا في يوم من الأيام رعية لمثل هذا الرجل. إنه من العادلين إذا ذكر العدل، ومن الخائفين من الله إذا ذكر الخوف، وبسبب خوفه هذا ما تكبر أو تجبر أو تعالى على الناس، وإنما خشي الله فعدل فأمن فرضي. لقد ترك الدنيا وأعطاها غيره، بعد أن حرم نفسه كل ملذاتها ومتاعها الزائف.

    1.   

    لقد كان في قصصهم عبرة

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    عباد الله! يقول المولى سبحانه وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

    أمتكم أمة مجيدة كريمة عظيمة، اختارها الله لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهد على الناس والرسول عليها شهيد يوم القيامة، إنها أمة تمرض ولكنها لا تموت، وقد تغفو أحياناً ولكنها لا تنام، وتغلب أحياناً لكنها لا تقهر بإذن الله.

    أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر ومشاعل للحضارة الحقة.

    فمع علم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، علم يجب على الأمة أن تجعله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، حتى يكون حديث شيوخها في المنتديات وقصصاً لأطفالها الذين شغلوا بالقصص الهابطة والرسوم المتحركة، وحديثاً لشبابها الذين طالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات، إنه من جعل كبير المسلمين له أباً، وأوسطهم له أخاً، وأصغرهم له ابناً، فوقر أباه وأكرم أخاه وعطف على ولده، إنه القيم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المثل والأخلاق رجالاً وواقعاً ملموساً!

    إنه من العادلين إذا ذكر العدل، ومن الخائفين من الله إذا ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بأكملها، فتولى عنها يريد ما عند الله، فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي.

    أظنكم قد عرفتموه، إنه عمر بن عبد العزيز ، وما أدراكم ما عمر ؟

    إنها الهمم تتكلم وتتحدث، كان يقول لزوجه فاطمة : يا فاطمة ! إن لي نفساً تواقة اشتاقت إلى الإمارة، فتولى الإمارة، فارتفعت الهمم، فقال لها: يا فاطمة ! إن لي نفساً تواقة اشتاقت إلى الخلافة، فتولى الخلافة، فارتفعت الهمم: فقال لها: يا فاطمة : إن لي نفساً تواقة تشتاق إلى الجنة، إنه رجل لا كالرجال، وسيرته لا كالسير، وعذراً أن نفيه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض المواقف، نقف ونتذكر ونعتبر، ونقرأ التاريخ.

    اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر

    لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] فهيا بنا نبحر في بحر عمر ، ومن لآلئه نقتبس ونتذكر، ومن درره ننهل، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.

    تولى الخلافة رضي الله عنه فكان مجدداً بحق، كانت خلافته ثلاثين شهراً، لكنها خير من ثلاثين قرناً، لم يضيعها في كسب دنيوي، ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها وقفاً لله رب العالمين، فبارك الله في سنتين ونيف، بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر: فتعثر في طريقه إلى المنبر من ثقل المسئولية، ومن خوف رب البرية، فوقف يتحدث إلى الناس قائلاً: لقد بويعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم رجلاً، فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك يا عمر ورضينا بك، فبكى وقال: الله المستعان! ثم أوصاهم من على المنبر قائلاً: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، ونزل من على المنبر باكياً.

    بعد ذلك عرضت عليه الخيل والدواب ليركبها لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه، فأعرض قائلاً: ما أنا إلا رجل من المسلمين أغدو كما يغدون، وأروح كما يروحون.

    عاد إلى بيته معلناً أنه من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة ودخل غرفته المتواضعة، وجلس حزيناً يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة مبتدئاً بالأقربين، استدعى فاطمة العابدة الزاهدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء، قال لها: إني بعت نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، وهذه الحلي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك، رديها إلى بيت المال، والله! لا أجتمع مع هذه الحلي في دار واحدة، قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها، والحياة حياتك يا عمر ، وللآخرة خير وأبقى للذين آمنوا واتقوا.

    خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار فكان فعله يصدق قوله، كان لا يشغله عن الله شاغل، ليله قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء، فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.

    اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا قيوم السماوات والأرضين.

    1.   

    عدل عمر بن عبد العزيز وخشيته لله

    ملأ الأرض عدلاً بعد أن كادت تملأ جوراً، إيه يا عمر!

    قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر

    أتعبت من سيجيء بعـ دك في الخلافة يا عمر!

    بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظمأى ما دام في الأرض بطن جائعة أو كبد ظمأى.

    هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله

    ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله

    رزقه الله الخشية، ومن رزق الخشية فقد رزق خيراً كثيراً، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

    فتح الله على عمر فتحاً لا يخطر على البال ولا يدور بالخيال، فكان أخوف الناس لله، وهو يرجو الأمان من الله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]، وفي الحديث القدسي يقول الحق تبارك وتعالى: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة).

    دخل عليه أحد العباد وهو محمد بن كعب القرظي، فجعل ينظر في وجهه، فإذا هو وجه شاحب، وبدن نحيل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر ! ماذا دهاك؟ يا عمر ! ما الذي أصابك؟ والله! لقد رأيتك وأنت أجمل فتيان قريش تلبس اللين، وتجلس على الوثير، لقد كنت لين العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك يا عمر في غير هذا المكان ما عرفتك، فتنهد عمر باكياً، قال: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليالٍ من دفني وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاثت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد إنكاراً وأشد عجباً!

    فبكى محمد وبكى عمر وبكى الناس حتى ضج المجلس بالبكاء.

    جعل الهم هماً واحداً، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هم الآخرة وكفى، عرف عمر نفسه، وعرف همه وغايته، فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه، لقد كسدت عنده بضاعات المنافقين والشعراء والدجالين، وقام عنده سوق المساكين والفقراء، يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد سماعاً لما يقول، ولم يعطه عمر شيئاً من أموال المسلمين، فخرج وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.

    وجدت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقيا

    1.   

    تقريب عمر للصالحين

    أدنى الصالحين والعباد فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوفوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني، فكتب له أحدهم: صم هذا اليوم يا عمر ! ولا تفطر حتى تلقى الله.

    وكتب له مطرف بن عبد الله : يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصمين؟ كيف بثلاثة؟ كيف وخصمك يوم القيامة أمة محمد صلوات ربي وسلامه عليه؟!

    جمع سبعة من الصالحين وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطاً ثلاثة -ليتنا اشترطنا هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوا وبلغوا هذه الشروط، فرب مبلغ أوعى من سامع-:

    أولها: لا تغتابوا، ولا تعيبوا في مجلسي أحداً.

    ثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.

    ثالثها: لا تمزحوا وأنا جالس أبداً.

    فكانوا يجتمعون بعد العشاء، فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون عن مجلسهم، وكأنهم انفضوا عن جنازة.

    كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله بن عمر كتاباً شديداً يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صرعوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون إلى اللذات بعيون فأكلت، ويأكلون ببطون فنهشت، ويتلفتون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تحبس في جهنم يوم أن يطلق العادلون، فلما قرأ ذلك انهد باكياً قائلاً: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم أن يطلق العادلون.

    1.   

    تقوى عمر وورعه

    لقد حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يأخذ قليلاً ولا كثيراً، همه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حتى مع الناس، وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره، إن السابق من غفر له في هذا اليوم.

    كان شديد الخوف والمراقبة لله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بالك يا عمر ؟ فيقول: تذكرت قول الله: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، فخفت خوفاً أورثني ما ترين.

    فما حالنا مع القرآن؟! فما حالنا مع الآيات والذكر؟!

    عمينا عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأبكاه

    مقياسه في تقييم الناس هو التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، يقول عمر : والله ما رأيت متقياً إلا وددت أني في جلده.

    استدعى مزاحماً يوماً فقال له: يا مزاحم ! لقد رأيتك تصلي الضحى في شعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله، فأحببتك والله! فكن عوني على نفسي، فإذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا ابن عبد العزيز !

    فما بالهم إذا نصحوا أخذتهم العزة بالإثم؟

    1.   

    عفو عمر وإحسانه ومحاسبته لنفسه

    لقد كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال منه رجل يوماً، فقيل له: رد على هذا السفيه يا عمر ، فقال: إن التقي ملجم.

    والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وإن فيه لصون العرض إصلاح

    أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يخسأ لعمري وهو نباح

    كان رضي الله عنه لا يرد مظلمة، دخل أحدهم يبايعه فقبض يده، قال له: يا أمير المؤمنين! لم قبضت يدك؟ قال: اغرب عني، تجلد فلاناً سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك! ما غضبت لله، ولكن غضبت لنفسك ولولدك، والله لن تلي لي عملاً بعد اليوم، فعزله عمر .

    قطع أعطيات بني أمية وصلاتهم، فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك، فقال له: قل لهم يا بني: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].

    ألجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا ألجمنا أنفسنا بهذا اللجام؟ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].

    ولى العباد والزهاد واختارهم، فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران : لقد أخبرنا رعاة الأغنام بأن الذئاب أيام خلافة عمر ما كانت تعدو على الأغنام!

    سبحان الله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن، فلما توفي عمر عدت الذئاب على الأغنام فعرف أهل البوادي أنه قد مات رجل عادل، فالعدل أمن وطمأنينة وسكينة، وبالعدل قامت السماوات والأرض.

    وكان شديد المحاسبة لنفسه، ورعاً تقياً، كان يقسم تفاحاً أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها عمر من فمه، وأوجع فم الصغير، وذهب الصغير لأمه باكياً، فأرسلت من اشترى له تفاحاً.

    عاد عمر إلى البيت، وما عاد بتفاحة واحدة، فقال لـفاطمة : هل في البيت تفاح؟ إني أشم رائحة تفاح في البيت، قالت: لا والله! وقصت عليه قصة الصغير، فذرفت عيناه، وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأني انتزعتها من قلبي، ولكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من مال المسلمين، سبحان الله! ورب مشهد كهذا خير لـعمر من الدنيا وما فيها وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

    كان متواضعاً لله، مدحه رجل في وجهه، فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

    ليل عمر بن عبد العزيز

    كان شديد الخوف من الله، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، كان يذكر الله في فراشه كما تقول زوجه، ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل حتى أقول - يعني زوجه-: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم، ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، والله ما رأينا من سرور منذ تولى عمر الخلافة.

    تقول زوجه فاطمة : أمسى ذات ليلة وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فصلى ركعتين، ثم جلس واضعاً رأسه على يديه، ودموعه تسيل على خده، ويشهق الشهقة فأقول: خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح وهو باكٍ يتألم، ثم أصبح صائماً، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين! كثير منك ما كان ليلة البارحة، أأمر ألم بك أم ماذا دهاك؟! فأجابها - وقد نصب خوف الله أمام عينيه- قائلاً: إني نظرت في نفسي فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأحمرها وأسودها، يتيمها وأرملتها، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سيسألني عنهم، وأن محمداً سيكون خصمي في ذلك اليوم، فخفت لعله يثبت لي عند الله عذراً، فدمعت عيناي، ووجل قلبي، وكلما ذكرت ذلك ازداد وجلي، ثم انهد باكياً رضي الله عنه ورحمه.

    أواه! من لنا بمثل عمر ؟ عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر !

    بكته فاطمة زوجه بعد وفاته حتى ذهب بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة ؟! أتجزعين على عمر فهو والله أحق من يجزع عليه، أم جزعاً على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديك، فخذي ما أحببت واتركي ما شئت، قالت: لا والله لا هذا ولا ذاك، لكني رأيت من عمر ليلة منظراً ما تذكرته إلا بكيت، رأيته ليلة قائماً يصلي، فجلس يقرأ حتى أتى على قول الله جل في علاه: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:4-5] فصاح: واسوء صباحاه، ثم وثب، ثم سقط يئن حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ، ثم صاح: واسوء صباحاه، ثم قام وهو يقول: ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، وتكون الجبال فيه كالعهن المنفوش، حتى طلع الفجر، ثم سقط مغشياً عليه، فلما سمع الأذان قام، فصلى بالمسلمين، تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي.

    فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:4-5]، خاف الله في الدنيا فنسأل الله أن يؤمنه في الآخرة.

    هذه مواقف من حياة عمر وخوفه من الله، وزهده وعدله، وهذا هو عمر الذي جلس للناس مربياً وأباً وأخاً، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بـعمر (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (ما من راع استرعاه الله رعية فمات حين يموت وهو لها غاش إلا حرم الله عليه الجنة).

    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

    إن التشبه بالكرام فلاح

    اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً كـعمر يردون الأمة إليك رداً جميلاً.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.

    أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    وفاة عمر بن عبد العزيز

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    عباد الله! فلكل أجل كتاب، ولكل بداية نهاية، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] يموت كل صغير وكبير، وذكر وأنثى، ومقر وجاحد، وزاهد وعابد فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، تنتهي حياة الأخيار بنهاية حميدة، فكأن الأخيار ما بئسوا مع من بئس، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم غمسوا غمسة في الجنة فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب، وتنتهي في المقابل حياة الفجار في حفرة من حفر النار، ما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا فعند أول غمسة في النار يزول كل نعيم، ولا خير في لذة من بعدها النار.

    وتأتي وفاة عمر الذي كان أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت، اشتد عليه المرض وأدخل عليه الأطباء ووضعوا له العلاج المناسب، والشفاء بيد رب العالمين، فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمني إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، ولكني أسأل الله أن يُسلِّم.

    استدعى خادماً ثم قال: أسألك بمن سيجمع الناس ليوم لا ريب فيه، أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم: إي والله قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار، قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين.

    دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال: اعف عني عفا الله عنك.

    قام وخطب بالناس، فكان مما قال في آخر كلامه: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم، إني لأقول هذا وما أعلم أحداً عنده من الذنوب أكثر مما عندي، ثم خنقته عبرته، فأخذ طرف ردائه، فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله.

    في ضحى يوم عيد الفطر حلت بـعمر سكرات الموت التي لا بد من حلولها في كل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن لنا الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له: إنه قد نزل بك ما ترى، وإنك تركت صبيتك صغاراً لا مال لهم، فأوص بهم إلي، فجلس عمر وقال: والله! ما منعتهم حقاً هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بني هؤلاء أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، وإما مكب على المعصية فلم أكن لأعينه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعاً، فدعوهم وكانوا بضعة عشر صبياً كأنهم فراخ، نظر إليهم بحنان الوالد، نظر إلى ضعف طفولتهم، وبراءة أعينهم، فذرفت عيناه الدموع، ثم قال: أفديكم بنفسي أيها الفتية الصغار الذين تركتكم ولا مال لكم، أي بني! إن أباكم كان بين أمرين، إما أن يغنيكم فيدخل النار، أو يفقركم فيدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن وليي الله فيكم الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، انصرفوا عصمكم الله.

    فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه! أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، رباه! ما عندي ما أعددته للقائك إلا خوفي منك، وحسن ظني بك، وأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا، فكانوا يسمعونه يردد: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

    أسلم عمر الروح إلى باريها، فرحمة الله عليه:

    جسد لفف في أكفانه رحمة الله على ذلك الجسد

    كان يقول قبل وفاته: إذا غسلتموني وكفنتموني ووضعتموني في لحدي، فاكشفوا عن وجهي، فإن ابيض فاهنئوا، وإن اسود فويل لي ثم ويل لي.

    يقول رجاء : فكنت فيمن غسله وكفنه، وأدخله في لحده، وحللت العقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو كالقراطيس بياضاً.

    بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

    أسلم الروح عمر فأُسكت فم لطالما تلجلج بذكر الله، وأغمضت عينان لطالما ذرفتا من خشية الله، واستراحت يدان لطالما مدتا إلى ما يرضي الله، ودع الأمة والجياع قد شبعوا، والخائفون قد أمنوا، والمستضعفون قد نصروا بإذن الله، وجد اليتامى فيه أباً لهم، والأيامى كافلاً لهم، والتائهون دليلاً لهم، والمظلومون نصيراً لهم.

    وحلت المصيبة بالمسلمين وأغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.

    فاليوم تنعم يا عمر بجوار من أهدى البشر

    فسقي رفاتك وابل من ماء غيث منهمر

    يقول مسلمة : يرحمك الله يا عمر ! لقد لينت قلوباً قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً.

    ذهب عمر بعد أن حقق العدل والطمأنينة والسكينة والأمن والإيمان في سنتين وبضعة أشهر وخمسة أيام، فما حققنا نحن على مدى سنوات طوال؟

    كان كثيراً ما يقول ويردد: إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما، إن الأعمار لا تقاس بالأعمار، لكن بالهمم والمقاصد والأهداف.

    مات عمر وما مات ذكره، ولا يموت ذكر الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، فها هو ملك الروم ليون الثالث يقول: لو كان رجل يحيي الموتى بعد عيسى لكان عمر ، والله لا أعجب من راهب جلس في صومعته وقال: إني زاهد، لكني أعجب من عمر يوم أتته الدنيا حتى أناخت تحت قدميه، فركلها بقدميه وأعرض عنها وهو يقول: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].

    هذه سيرة عمر أيها الأخ الكريم، هل أعجبتك، إن أعجبتك فاقتدِ بها، اقتد بـعمر وبالصالحين لعلك تكون منهم، فإن لم تستطع وجاهدت نفسك فأحبهم، فإن المرء مع من أحب.

    اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم اجز عمر عن المسلمين خير الجزاء يا رب العالمين!

    اللهم اجز كل العادلين عن رعيتهم خير الجزاء يا حي يا قيوم!

    اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا حي يا قيوم!

    اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!

    اللهم قيض لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.

    اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، يا حي يا قيوم!

    اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.

    اللهم انصر المستضعفين في العراق وفي الشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان، اللهم انصرهم في كل مكان يا حي يا قيوم، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم.

    اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم تقبل شهداءنا وشهداءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين!

    اللهم اجمع كلمتنا على الحق يا حي يا قيوم!

    اللهم قيض لهذه الأمة ولاة أمر صالحين، وعلماء ربانيين ودعاة مخلصين يردونها إليك رداً جميلاً يا حي يا قيوم!

    اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن، يا رب العالمين!

    اللهم من أرادنا وبيوت المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين!

    اللهم من حاربنا عبر الشاشات والقنوات، اللهم فلا تبارك لهم يا حي يا قيوم! اللهم اجعل كيدهم تدبيراً ومكراً عليهم يا قوي يا عزيز!

    اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا، يا عليم يا خبير!

    عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756247403