إسلام ويب

وقفات مع سورة صللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حوت سورة ص على تساؤلات تساءل بها أهل الكفر والضلال من مشركي قريش، ينكرون فيها رسالة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام فردّ الله عليهم في هذه السورة بردود مفحمة ملجمة لأفواههم. ثم ذكر الله بعضاً من قصص الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام مثل: داود وسليمان وأيوب وغيرهم، وفي هذا تسلية لقلب الرسول الكريم، وتسريح لما قد يصيبه من الهم والحزن من جراء صدود جهلاء الناس عن الرسالة ..

    1.   

    بين يدي سورة صّ

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي خلق آدم من طين، وأسجد له ملائكته المقربين.

    وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، هدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، أغنى به من العيلة، وكثر به من القلة، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه، اللهم وعلى من اقتفى أثرهم واتبع نهجهم وسلك مسلكهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا أحد دروس التفسير تحت العنوان الأكمل والشامل: وقفات قرآنية.

    وفي هذا اليوم معنا وقفات مع سورة ص:

    وقد صدر الله جل وعلا هذه السورة الكريمة بحرف هو (ص)، وهي لها مثيلات في القرآن صدرنَّ وكانت فواتح تلك السور حروف متقطعة، ولعله كما هو معلوم أظهر ما قيل في هذه الحروف: أن مرد علمها إلى الله جل وعلا، والتوقف في بيانها لعله أبرأ وأكمل وأفضل. والعرب لها ثمانية وعشرون حرفاً وقد رتبت أحياناً كما تدرس اليوم: ألف، باء، تاء.. إلى آخره، ورتبت قديماً على قاعدة قولهم: أبجد، هوز.. إلى آخره، ورتبها الخليل بن أحمد الفراهيدي بحسب مخارجها من الحلق فبدأ بالعين، وسمى معجمه معجم العين، وأياً كان ذلك الترتيب فإن من هذه الحروف تكون لغة العرب التي نزل الله جل وعلا بها القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله جل ذكره: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] ، وقال جل ذكره: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] .

    1.   

    وقفة مع قوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر .. فليرتقوا في الأسباب)

    ثم صدر الله تبارك وتعالى هذه السورة بالقسم فقال جل ذكره: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:1-2].

    أخبر جل ذكره: أن هذا القرآن الذي تدعو إليه وترشد إليه وتأمر الأمة أن تتبعك عليه أن فيه ذكر لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وفيه ذكر لخيري الدنيا والآخرة، وفيه ذكر لما يصلح للعباد في أمر دينهم وفي أمر دنياهم، قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] ، وكون هؤلاء الملأ من الكفار يعرضون عن ذكرك فهذا نقص فيهم ليس في الكتاب الذي أنزل عليك.

    سبب نزول الآيات

    (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) أي: في منعة واستكبار ومجادلة من الحق منعتهم أن يتبعوه وأن يسترشدوا به، وقد قيل: إن نفراً من قريش قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعوته، وقدموا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يخبرونه بما كان من أمر ابن أخيه، وما فرق الناس عليه - حسب زعمهم - فلما لام أبوطالب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وأخذ يعاتبه ويسأله على ما كان منه قال: (يا عماه! إنما دعوتهم إلى كلمة تدين لهم بها العرب، ويسودون بها العجم. فقال أبوطالب مستفهماً: وما هي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا إلـه إلا الله)، هنا انتفض الملأ من قريش، وأخذوا ينفضون ثيابهم ويقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] ، وهذا يدل على سعة إدراكهم؛ ولأنهم علموا المعنى الحقيقي لكلمة (لا إله إلا الله)، ولأنهم علموا معناها وعلموا أنهم لا يستطيعون تطبيق ذلك المعنى على الوجه الأتم؛ ولأنه يعني البراءة من كل مظاهر الشرك التي كانوا يصنعونها ويفعلونها ويزعمون أنها حق فقاوموا تلك الكلمة بقولهم: (أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)، وتكاتفوا على الباطل واجتمعوا عليه، وحث بعضهم بعضاً عليه، قال الله جل وعلا: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ [ص:6] أي: أشرافهم، أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] ، وإنها لكلمة تجعل في القلب رنة أسى، إن كان هؤلاء وهم أهل باطل وعباد وثن ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، يعبدون أصناماً لا تقدم ولا تؤخر بل إنها لا تنطق أصلاً كما قال الخليل إبراهيم: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67] ، ومع الباطل الذي هم فيه فقد كانوا متكاتفين، ويزعمون أنهم يؤيد بعضهم بعضاً، ويوصي كل خل منهم خليله بأن يصبر على هذا الأمر الذي كانوا عليه (واصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ).

    ثم ذكروا ما يدعوهم إلى الصبر، وذكروا ما يرونه سبباً في بقائهم على ذلك الدين الباطل فقالوا: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7] ، وهذه الآية فيها دليل صريح على أن التقليد المحض غير المبني على برهان ولا دليل ولا بينة إنما التقليد لمجرد التقليد والإمعة في القول والعمل أمر مرفوض مذموم في ذاته، فإن هؤلاء الأقوام قالوا: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ)، أي: لا نحن أدركنا آباءنا ولا آباؤنا أدركوا أجدادهم على هذا الأمر، وإنما نشئوا جيلاً بعد جيل على ملة الكفر.

    (ما سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)، فزعموا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أمر مختلق من عنده، وما ذلك إلا لكبر في أنفسهم.

    ثم نال صلى الله عليه وسلم منهم ما ناله قبله إخوانه النبيين، فإنه ما جاء أحد بحق كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء أحد بالحق من عند الله إلا وحورب من أئمة الكفر، وهذا الأمر من لدن آدم أو من يوم أن بعث الله على الصحيح نوحاً إلى أن تقوم الساعة، والصراع بين الحق والباطل قائم، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين القويم من ربه أنف أولئك الأقوام وحاربوه واتهموه بالتهم التي لا أساس لها فتارة يزعمون أنه ساحر، وتارة يزعمون أنه كاهن، وتارة يزعمون أنه كذاب.. إلى غير ذلك من الاختلاقات التي وصفوا بها أكمل البشر على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم.

    ومن هنا تعلم أن قدح الناس فيك إن كان مبنياً على باطل أمر لا يضر ولا يقدم ولا يؤخر، لكن المهم أن توصف بشيء من الحق، أما أن يتجرأ عليك سفهاء أو سقطاء الناس أو الرعاع الذين لا يميزون بين حق والباطل فقد تعرض لهذا الأمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله إخوانه من النبيين عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولهذا صبر صلى الله عليه وسلم على قولهم وعلى أذاهم حتى بلغ دين الله - كما هو معلوم - على الوجه الأكمل.

    ثم إن هؤلاء الأقوام حجَّهم الله جل وعلا بأمور عدة، قالوا فيما قالوه: أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص:8] يقولون هذا مستغربين: فلأي سبب أنزل عليه الذكر؟ ولأي مزية يخُتَص هذا الرجل بالنبوة والحكمة وإنزال القرآن؟ وهنا غاب عن رشدهم أمر لا ينبغي أن يغيب عن أحد، إن أي أمر يمنحه الله جل وعلا لعبد إنما هوفضل من الله ورحمة، وليس لي ولا لك أن نمنع رحمة الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ [آل عمران:74] ، فالله تبارك وتعالى هو صاحب الفضل، وهو صاحب المنة، وله تبارك وتعالى الأمر من قبل ومن بعد، ولذلك قال الله تبارك وتعالى يرد على أولئك الأقوام لما قالوا: أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [ص:8] قال الله تبارك وتعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [ص:9] أي: هل بيد هؤلاء الأقوام خزائن رحمة الله فيعطون من شاءوا ويحرمون من شاءوا حتى لا يكون لك حظ ولا نصيب من قسمتهم؟ والجواب: بالتأكيد لا، ليس لهم ولا لغيرهم خزائن رحمة الله تبارك وتعالى.

    ثم قال الله جل وعلا قامعاً إياهم بالحجة: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ [ص:10] ، أي: إن كانوا يملكون السماوات، وما فيها ويملكون الأرض وما فيها وما بينهما فليرتقوا فيها، وليمنعوا رحمة الله من أن تصيبك، وأنى لهم ذلك بل هم من أضعف خلق الله جل وعلا قال الله تبارك وتعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28] ، فإن مردهم إلى ضعف، بل مردهم إلى جيفة قذرة، وهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً على أن يمنعوا رحمة الله أن تصيبك أو أن تنالك، يا نبينا يا محمد! صلى الله عليه وسلم.

    ثم لما كان هذا الأمر في أول الدعوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقى ما يلقى من أذى قومه حتى إنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح عرض نفسه على شيوخ القبائل لما قالت له عائشة : (يا رسول الله! ما أشد ما لقيت من قومك؟! قال: يا عائشة ! إن أشد ما لقيت من قومك يوم العقبة عندما عرضت نفسي على فلان وفلان وفلان فصدوني، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وهذا مكان بين مكة والطائف، وكان ذلك بعد أن انطلق صلى الله عليه وسلم مهموماً على صدره، ثم قال: (فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب وإذا بسحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل فعرفته فسلم علي، ثم قال: يا محمد! هذا ملك الجبال بعثه الله إليك لتأمره بما شئت. فسلم ملك الجبال على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الله بعثني إليك لتأمرني بما شئت، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين..) وقد كان صلى الله عليه وسلم في ذروة الهم مما رآه من قومه ومع ذلك قال وهو الرحيم الرءوف بالأمة عليه الصلاة والسلام: (لا، إني لأرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) .

    وإنها من أعظم الدلائل على سعة رحمته صلى الله عليه وسلم، وعلى سعة أفقه، وعلى النظرة البعدية للداعية، فمن تصدر للدعوة إلى دين الله جل وعلا ينبغي ألا يكون أنفه هو حدود نظره، وإنما ينظر إلى مستقبل الأيام وإلى من يدعوه، فرب صغير مررت عليه بجوار المسجد لا يصلي ولو أغلظت له القول لما صلى أبداً، ولكن لو ألنت له القول ولو لم يصل في تلك اللحظة التي ذهبت فيها، لو قابلته بعد سنين لتذكر لينك ورفقتك معه، وقبل رأسك ربما، وأخبرك أن الله جل وعلا منّ عليه بالهداية، ولكن الناس طبعوا على العجلة قال الله جل وعلا: وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11] .

    ومن شدة ما رآه صلى الله عليه وسلم من أذى قومه ومن تكالبهم عليه حتى إنه كان يمشي في أسواق مكة فيمر به الرجل ويناديه مناداة ملاطفة يطوي في طيها الخبث يقول: يا أيها الذي نزل عليه الذكر! فيلتفت صلى الله عليه وسلم مستبشراً فإذا استبشر ونظر إلى من سأله قال له ذلك الشيطان المارد من الإنس: إنك لمجنون. قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] ، ومع ذلك كله وغيره صبر صلى الله عليه وسلم ليكون حجة على العالمين، وليكون صلى الله عليه وسلم إماماً للصابرين من العلماء والدعاة بعده صلوات الله وسلامه عليه بكرة وأصيلاً.

    أقول في هذا الخضم: عز الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلاه بخبر إخوانه من النبيين قبله حتى يكون له عليه الصلاة والسلام أسوة فيمن مضى من النبيين، وحتى يعلم أن هذا الطريق الذي هو عليه قد مر على من قبله من النبيين وإن كان عليه الصلاة والسلام أكملهم وأعظمهم إيماناً.. إلى غير ذلك من صفات الكمال التي آتاها الله هذا النبي المعصوم.

    1.   

    تسلية الله لنبيه بذكره الأنبياء السابقين

    ذكر نبي الله داود في السورة

    فقال جل ذكره: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ص:17] أي: فاصبر على ما يقولون لك، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20] .

    ذكر الله جل وعلا لنبيه نبياً من أنبياء بني إسرائيل قبله وهو داود عليه الصلاة والسلام، والعجيب أن قصة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام جاءت بها السنة حتى قبل مولده، فقد أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره، فأخرج من ظهره ذريته إلى يوم القيامة، فرآهم بين يديه فقال: يا رب من هؤلاء؟! قال الله جل وعلا له: هؤلاء ذريتك إلى يوم القيامة. فجعل الله بين عيني كل فرد من تلك الذرية وبيصاً بين عينيه، فرأى وبيصاً -أي نوراً- من عيني داود أعجبه قال: يا رب! من هذا؟ فقال الله جل وعلا له: هذا فرد من أمتك يكون في آخر الزمان يقال له: داود، قال: يا رب! كم جعلت عمره؟ قال الله تبارك وتعالى: ستين عاماً، فقال آدم: يا رب! زده من عمري أربعين سنة، قال صلى الله عليه وسلم: فلما جاء ملك الموت إلى آدم قال: بقي من عمري أربعين سنة، فقال له ملك الموت: ألم تعطها ابنك داود؟ قال صلى الله عليه وسلم: فنسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم وخطئت ذريته ، وجحد آدم فجحدت ذريته) .

    فهذا خبر داود عليه الصلاة والسلام في السنة، وأول ظهوره عليه الصلاة والسلام أنه كان فرداً في الجيش الذي حارب به طالوت جالوت ، ومعلوم أن الله جل وعلا سلط الملوك الجبابرة على بني إسرائيل فترة من الزمن، ثم إن الله تبارك وتعالى اصطفى طالوت من هؤلاء ملكاً عليهم قال الله تبارك وتعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247] ، فقاتل طالوت ببني إسرائيل ملوك الجبابرة، كان يوم ذاك داود شاباً أزهر من ضمن جنود طالوت ، فلما وقعت المعركة قتل داود جالوت بإذن الله جل وعلا.

    وقد ذكر المفسرون: أن داود عليه السلام قتل جالوت بمقلاع كان في يده، والمقلاع: حبل ليس بالطويل يوضع في آخره حجر ثم يعقد عليه ثم يلفه الرامي مرة ومرتين وثلاث ثم يرميه بقوة إلى الخصم فيصيبه، فقيل: إن داود عليه الصلاة والسلام قتل جالوت بهذه الطريقة حتى قيل: إنه مر على حجر، فقيل إن الحجر كلمَّه وقال: يا داود! خذني معك فأخذه ووضعه في كمه، فلما كانت أرض المعركة فعل به ما فعل. وقد أعاد هذا المقلاع شباب الانتفاضة اليوم ورجالها وأطفالها في أرض فلسطين وأعادوا سيرة المقلاع من جديد، فإن المتأمل في شاشات التلفاز أوفي أوراق الصحف أوفي غيرهما إذا نظر على اللقطات التي يظهر قليل منها عن أخبار المؤمنين في أرض فلسطين يجد أن كثيراً من أطفال الانتفاضة يحملون بأيديهم مقلاعاً يحاربون به بني إسرائيل، وهذا فيه من التذكير بما كانت عليه الأمة سلفاً من مجد سابق، والحق أن هؤلاء الفتية على قلة ما في أيديهم، وعلى قلة عددهم، وعلى عظمة من يقاومونه ظاهرياً وإلا فهم عبدة الطواغيت أحفاد القردة والخنازير إلا أنه رغم كل مظاهر التأييد التي تتلقاها إسرائيل إلا أن هؤلاء الفتية قدموا للعالم خلال أكثر من سنين عديدة صورة حقيقية للمؤمن إذا كان في عز وشموخ وإباء وأنه بحجر ومقلاع وما شابهه يحارب طواغيت الكفر وأئمتهم، أسال الله جل وعلا في لحظتنا هذه أن يؤيدهم بنصره، وأن يظهر على أيديهم دينه.

    ثم ذكر الله أن داود لما آل الأمر إليه آتاه الله تبارك وتعالى الملك بعد طالوت وآتاه مع الملك النبوة، وقد يظن بعض الناس أن الملك أمر مذموم، والصواب الذي ينبغي أن يعقل: أن الملك نعمة وفضل من الله جل وعلا، ولو كان الملك مذموماً في ذاته لما آتاه الله النبيين من قبل، قال الله تبارك وتعالى: وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:251] ، وأخبر تبارك وتعالى أن سليمان كان ملكاً، وقد آتى الله كثيراً من الصالحين والمخلَصين في الأرض الملك، وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247] ؛ لأنه لا بد للناس من رئيس يسوس أمورهم، فتقام به الحدود، وتسد به الثغور، ويظهر به دين الله، وتعلن به شعائر الحق، وهذا أمر لا انفكاك للمسلمين عنه، ولذلك كان الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه يقول: لأن يحرم الناس القطرة ستين عاماً خير لهم من ليلة بلا إمام؛ لأنه إذا غاب السيد والرئيس المطاع أصبح الأمر فوضى، وتسلط أهل الباطل على أهل الحق، وأصبح لا يستطيع أحد أن يقيم لله عبادة، ولا أن يقيم لله حدوداً.

    الشاهد: أن من مواهب الله وفضله على نبي الله داود: أن آتاه الله الملك.

    ذكر النعم التي أُنعِمَ بها على داود عليه السلام

    وقد عد الله في هذه الآيات آلاءه وفيأه ونعمه على هذا النبي الكريم، فقال تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ [ص:17] و(ذا الأيد) بمعنى: ذا القوة في بدنه وطاعته، فقد آتاه الله جل وعلا قوة في بدنه وقوة على إتيان الطاعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود) ثم فسر صلى الله عليه وسلم صلاته فقال: (كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) ، وقال في الصيام: (كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ، ولا ريب كونه يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي كل يوم ثلث الليل يدل هذا على قوة أعطيها ذلك النبي الكريم أعانته على عبادة الله جل وعلا.

    إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17] أي: كثير الرجوع إلى الله، فعندما تسمع أن الله جل وعلا منّ على نبي وأثنى عليه بقوله: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) ففي هذا دليل على أن الرجوع إلى الله فضيلة عظمى، فالذي ينبغي أن نحرص عليه جميعاً أن نكثر من الرجوع إلى الله جل وعلا بالتوبة، والاستغفار، والإكثار من الطاعات، ومصاحبة الصالحين، في كل حين، ولا تنتابك الغفلة أكثر من ذكر الله جل وعلا لعل الله تبارك وتعالى أن يكتبك من الأوابين.

    ثم عد الله جل وعلا مزية أخرى خص بها هذا النبي الكريم، قال: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19].

    لقد منَّ الله على داود بصوت رخيم جميل، وآتاه الله جل وعلا الزبور، فكان يردد الزبور وقد خففها على لسانه حتى قال صلى الله عليه وسلم: (إنه كان يأمر بالدابة فتُسرج فيقرأ الزبور كاملاً) أي: يقرأ الزبور كاملاً قبل أن ينتهي خدمه وحشمه من إسراج الدابة له، وهذا من فضل الله جل وعلا عليه.

    وكان عليه الصلاة والسلام إذا ردد الزبور ورتله وقرأه تجاوبت معه الجبال الصم، والطيور البهم حتى إن الطير يقف عن الطيران ويجتمع صافات يردد مع داود عليه الصلاة والسلام ما يقوله، وحتى الجبال وهي صماء لا تعقل ولا تتكلم فإذا رتل عليه الصلاة والسلام زبوره، وذكر الله جل وعلا فيه، جاوبته تلك الجبال فضلاً من الله جل وعلا لهذا النبي الكريم.

    إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ [ص:18-19] أي: من الجبال والطير لَهُ أَوَّابٌ [ص:19] أي: يردد معه قوله وذكره وتلاوته لآيات الله تبارك وتعالى. وهذه فضل من الله جل وعلا وسيأتي التعليق عليها.

    وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ [ص:20] ، شد الملك يكون بكثرة الوزراء، وكثرة الجنود، وقوام العدد، وقوام العدة، وما إلى ذلك مما يصلح به الملك فإن الله جل وعلا مكن لداود في الأرض وشد ملكه بما آتاه من وزراء وجنود لا يحصى عددهم، قال الله جل وعلا: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10] ، حتى قيل: إنه كان يتعامل مع الحديد كالعجين في يده، وهوأول من صنع الدروع، قال الله تبارك وتعالى: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ [سبأ:11] أي: دروعاً تسبغ عليه عورته إذا حارب فلا يصيبه كثير من الأذى في الحروب من السهام وغيرها من أدوات الحرب في ذلك العصر.

    ثم قال الله تبارك وتعالى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20] ، (الحكمة) الصحيح أنها النبوة، (وفصل الخطاب) أي: القدرة على الفصل بين الخصوم، وقيل: البلاغة في القول، وقيل -وهو بعيد- أنه أول من قال: أما بعد، وهذا فيه نظر؛ لأن داود عليه الصلاة والسلام لم يكن عربياً حتى يقال: إنه أول من قال: أما بعد. لكنه قول مذكور في بطون الكتب، والله تعالى أعلم بصحته.

    ما يُستنبط من قصة داود عليه السلام

    وبعد هذه الوقفات مع هذا النبي الكريم الذي عزَّى الله بقصته نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن نستنبط أموراً عدة:

    أن الله جل وعلا يبتلي بالخير كما يبتلي بالشر، قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] ، فالله يبتلي بالنعم كما يبتلي بالنقم، وقد آتى الله داود قوة صرفها في الطاعة والعبادة، وآتى الله داود صوتاً رخيماً جميلاً صرفه في تلاوة كتاب الله جل وعلا، وآتى الله داود فصل الخطاب فصرفه في الحكم بين الناس بالحق، وآتى الله تبارك وتعالى غير ذلك من النعم داود فوظفها كلها في رفعة دين الله جل وعلا، ولهذا ينبغي أن يقال: إن من أفاء الله عليه نعماً معدودة كانت أو واحدة أو قليلة فينبغي أن تصرف في دين الله جل وعلا، فالملوك والأمراء وذووا السلطان ومن أفاء الله عليهم بمثل هذا ينبغي عليهم وجوباً أن يصرف ملكهم وغمرتهم وسلطانهم ومسئولياتهم في رفعة شأن دين الله جل وعلا، فهذا هو الهدف الأسمى الذي ينبغي أن يسعى كل مؤمن من أجله، فالمؤمن التاجر الذي أفاء الله جل وعلا عليه بالأموال والنعم الكثيرة ينبغي أن يصرف هذه النعمة في رضوان الله جل وعلا، فيتفقد فقراء المسلمين، ويسهم في العمل الدعوي: في توزيع الأشرطة والمذكرات والنشرات النافعة المفيدة التي يكون فيها الخير أكثر من الشر، ويسهم في الأعمال الإغاثية المتجاوزة لحدود هذا البلد للمسلمين المستضعفين المغلوبين على أمرهم في كل مكان.

    والشاب القوي الذي آتاه الله جل وعلا فراغاً وصحة ينبغي أن يسهم في رفعة دين الله جل وعلا، وأن يوظف قوته في ذلك، فاجعل لنفسك ولو وقتاً يسيراً تهبه لله تبارك وتعالى من أجل أن تحمل شيئاً من هم دين الله العظيم، ومن أجل أن تسهم في رفعة دين الله تبارك وتعالى، فلا تنم الليل إلا وقد أرقك أحوال المؤمنين في كل مكان: أرخص الدماء دماءهم، أضعف الناس هم، وما ذلك إلا لأنني أنا وأنت كل منا تنصَّل من مسئوليته وكل منا يقذف بالمسئولية على الآخر حتى خلت الساحة ممن يحملون هم الإسلام وممن يحملون مسئولية رفعة دين الله جل وعلا، وغدا المسلمون أمماً وشيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.

    كما إنه ينبغي أن يُعلم أننا في حاجة لكل مؤمن ولو كان يحمل من الخير مثقال ذرة، أما قضية تصنيف الناس حتى قول: ملتزم وغير ملتزم والله الذي لا إلـه إلا هو! إن في النفس منها أشياء كثيرة. فـأبو محجن الثقفي إن صح أنه صحابي رضي الله تعالى عنه - وهذا من باب الدعاء إن لم يكن من الصحابة - هذا الرجل كان في جيش سعد في معركة القادسية، وكان مقيداً بالسلاسل بحجة أنه شارب للخمر، وقد نقل عنه أنه قال يوصي بنيه: أن يسقوا على قبره الخمر إذا مـات، فإني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها.

    ففكت قيده امرأة سعد وكانت زوجة للمثنى بن حارثة ؛ لأنها علمت أن المسألة الآن ليست مسألة خمر ولا ميسر، فذهب وحارب في صفوف المسلمين وفعل بالفرس ما فعل حتى ظنوه رجلاً من الجن يحارب مع المؤمنين.

    فالمقصود: أن كل من في قلبه: لا إلـه إلا الله فنحن اليوم محتاجين إليه؛ بسبب الضعف الذي أصاب الأمة والوهن والعجز، وما ذلك إلا لأن كل شخص يعتقد أنه سيبدأ من الأَلِف من جديد، والمفروض أن نبدأ بالموجود بالمحسوس ونرقع ونلمم ما يمكن ترقيعه وتلميمه، ثم إذا قويت شوكة الإسلام وعلت عزته فإن كان أمر أو بدا رأي، فلا بأس أن يعمل به في تلك اللحظات، أما أن نحرم أنفسنا من إخواننا المؤمنين بحجة مظهر أو بحجة مخبر فهذا أمر غير مقبول، وصحيح أن المجاهرين بالفسق والأقل صلاحاً لا يصدَّرون، ولا يعطون القيادة، ولا يطلب منهم إرشاد الناس، لكن من الممكن الاستفادة منهم ولو بشيء يسير في رفعة دين الله جل وعلا، وأنا أذكر -والله يعلم- عندما أعدنا بناء هذا المسجد جاءني شخص، لو صنفنا الناس على ما يقولون: ملتزم وغير ملتزم فإنه ليس فيه مظهر من مظاهر الالتزام الظاهر ولا مثقال ذرة، ومع ذلك ترك عندي مائتي ألف ريال، وقال: اجعلها في بيت من بيوت الله، ثم خرج وأنا إلى الساعة لا أحفظ إلا اسمه الأول ولا أدري حتى ما اسمه الآخر. لكنني لا أريد من الشخص أن يعمل حتى يبلغ مرحلة لا يعمل فيها لدين الله، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقمع أهل الفسق وأهل الزيغ يكون البناء والأخذ من الناس أحسن ما فيهم، فحجر من هذا ولبنة من هذا وشيئاً فشيئاً حتى يكتمل بناء الأمة. أسأل الله جل وعلا أن يبلغ الأمة منازلها العظيمة التي كانت عليها.

    وعلى العكس تماماً مما قلناه فإن بعض الناس قد يستثمر نعم الله عليه في أمور تجلب سخط الله جل وعلا، فكثير من المغنين الذين فاقت شهرتهم وذاعت لا ريب ولا جدال أن أصواتهم جميلة وأصواتهم رخيمة وإلا فإنهم ما دخلوا عالم الغناء، لكن هذه النعمة لم يحسنوا توظيفها وإنما وظفوها في محاربة الله جل وعلا، ولا ريب أن من الأمور التي لا تقبل أن يحارب العبد ربه بنعمة أنعمها الله جل وعلا عليه والممثلات اللاتي فتنَّ المؤمنين في المشرق والمغرب فقد منحهن الله قدراً من الجمال - هذا من باب الإخبار بما نسمع لا من باب الإخبار بما نرى - منحهن الله جل وعلا قدراً من الجمال لكنهن لتغلب الشيطان عليهن استثمرن هذا في معصية الله جل وعلا، وقد ورد: أن أبا حازم -وهو أحد أئمة السلف- حج ذات يوم إلى البيت العتيق، فلما كان في رمي الجمرات وجد امرأة في قمة الجمال قد كشفت عن وجهها ووقفت وترك أكثر الشباب الرمي وأخذوا ينظرون إليها، فجاء إليها وقال: يا أمة الله! اتقي الله واستتري فقد فتنت الناس عن نسكهم، فأخبرته تلك المرأة وهي من جنس هؤلاء الممثلات أنها لم تأت للحج ولكنها أتت لفتنة الناس بجمالها:

    قالت من اللائي لم يأتين يبغين حجة ولكن ليقتلن البريء المغفلا

    وصحت الرواية أولم تصح فإن كثير من الناس يمن الله جل وعلا عليه حتى بخفة الدم والظرافة في المجلس فالعياذ بالله فلا يجد شيئاً يضحك به الناس حتى يقولوا عنه: إنه خفيف الدم ورجل ظريف إلا السخرية بدين الله جل وعلا، أو السخرية ممن يحملون شعائر الله، أو السخرية بتقليد العلماء أو الدعاة، أو السخرية بمظاهر ولبس المستقيمين على شرع الله جل وعلا، فكونك ظريف وخفيف دم فهذا نعمة من الله جل وعلا، أنك لم تكن رجلاً ثقيلاً غير مرغوب فيك ولا محبوب، ولكن من السفه العظيم أن تسخِّر تلك الموهبة على قلتها في محاربة الله تبارك وتعالى والاستخفاف بدينه، وحصر هذا الأمر طويل جداً لكنني أضع إشارات وملامح على الطريق وكلكم أبصر منا وأعلم تقيسون عليها ما ينفعنا والمؤمنين في أمر ديننا ودنيانا.. هذه الوقفة مع نبي الله تبارك وتعالى داود.

    1.   

    وقفة مع قوله تعالى: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ... إنه أواب)

    أما الوقفة الثالثة فمع قول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:41-44] .

    ذكر الله تعالى أنه ابتلى داود عليه الصلاة والسلام بالنعم، وأيوب عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله جل وعلا بالضر، وكلاً من داود وأيوب نجح في الابتلاء، فأما أيوب فإن الله جل وعلا ابتلاه بمرض أثقله ظاهراً وباطناً، وعانا منه ما عانا حتى قال بعض الأئمة من المفسرين: لم يسلم منه إلا قلبه، عليه الصلاة والسلام، ومع شدة الكرب، وطول الدهر، وكثرة التقلب على فراش الأمل، وتخلي الصديق، وغياب الرفيق، وطول الليل والسنين المتتابعة في ألم لا يعلمه إلا الله، وتخلي الزوار وانقضاء من يأتي لقضاء حاجته، ونسيان الناس لأمره ثمانية عشر عاماً وهو في البلاء وليست ثمانية عشر يوماً لا تفتح له أبواب المستشفى ليتقرب أصحابه وأقرباؤه إليه بأنواع من الحلوى والصحف التي تسلي غربته، ولكنه وحيد طريح فراشه لم يبق له إلا زوجته وصديقان له، حتى إنه مسه ما مسه ومع ذلك عليه الصلاة والسلام من أدبه لم يجعله ينسب كل ذلك إلى الله وهو يعلم أن الأمر بيده قال: رَبِّ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص:41] ، وهذا أدب أجل وأعظم مما أدب الله به هذا النبي عليه الصلاة والسلام؛ العبد المجتبى نبي الله أيوب، وإنما صبر عليه الصلاة والسلام في البلاء ثمانية عشر عاماً حتى قال بعض الأئمة من المفسرين: إن زوجته خرجت ذات يوم لتخدم عند بعض الناس علها تأتي له بطعام، فلما علم الناس أنها زوجة أيوب خافوا على ظنهم الجاهل أن تنقل إليهم العدوى فامتنعوا من استخدامها، فعملت عند قوم من الأشراف حتى رفضوها ثم بعد ذلك باعت إحدى ضفائر شعرها واشترت بما باعته طعاماً لأيوب فقدمته بين يديه فأكله، فلما كان اليوم الثاني لم تجد أحداً يستخدمها فذهبت وباعت ما تبقى من ضفائر شعرها واشترت به طعاماً وقدمته بين يدي أيوب، فأقسم عليه الصلاة والسلام ألا يأكل منه حتى تخبره من أين لها الدراهم التي اشترت بها الطعام، فخلعت تلك المرأة خمار رأسها فإذا برأسها محلوق، قال العلماء: فلما رأى الضر الذي مسه والضر الذي مس زوجه لجأ إلى كاشف الضر إلى الواحد الأحد الفرد الصمد قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] ، فاستجاب الله تبارك وتعالى إليه، وكلمه ربه جل وعلا، ولعل الظاهر أن الله كلمه بواسطة ملك، فقال له ربه -ولم يحله إلى أحد من خلقه-: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42] ، لم يكلفه أن يذهب إلى طبيب، ولعظمة من لجأ إليه جعل العلاج يأتيه وهو في مقره ومكانه لم يقم حتى من فراشه، فركض بالأرض التي بجواره برجليه تنفيذاً لأمر الله جل وعلا، ومع ذلك لما ركض فإذا الماء ينبع فشرب منه فبرئ باطنه واغتسل فبرئ ظاهره، قال الحي تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42] ليبرأ باطنك.

    ثم إن الله جل وعلا يداه ملأى سحاء الليل والنهار لا ينفذ ما عنده، زاده على ما طلب، قال الله جل وعلا: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:43] وهذه تكون لمن صنع صنيعة أيوب، ولجأ إلى الله جل وعلا في السر والعلن، وعلم أن الله وحده دون غيره هو الذي يكشف الضر، وأن الطبيب والمستشفى وما إلى ذلك أسباب لا تضر ولا تنفع، وبيد الله وحده مقاليد السماوات والأرض، وكم من مريض أنفق على علاجه الملايين لم يكتب له العلاج، وكم من مريض يئس منه الطبيب ودعا الله جل وعلا فكشف الله جل وعلا عنه ضره.

    قال الله جل وعلا: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:43] ، وكان قد حصل بين أيوب وزوجه شيء إن صح التعبير من سوء التفاهم وإلا فالمرأة كانت صالحة محسنة إليه، ولذلك أقسم أيوب ونذر أن الله إذا شفاه أن يضربها مائة جلدة، فأخبره الله جل وعلا بقوله رحمة بتلك المرأة على ما قدمت قال الله جل وعلا: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا [ص:44] أي: أخلاطاً، فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44] أي: بدلاً من أن تضربها مائة ضربة متتابعة خذ مائة عصا فاجعلها في حزمة واحدة واضربها بها مرة واحدة إنفاذاً لنذرك وتخفيفاً على تلك المرأة.

    ثم قال الله جل وعلا آية يثني بها على ذلك العبد الصالح قال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص:44] أي: بلوناه واختبرناه ثمانية عشر عاماً فصبر فتمت له من الله الحسنى، وشهد الله جل وعلا له بالصبر. فلما تجاوز هذه المرحلة شهد الله له في المقام الأعلى، قال الله جل وعلا: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] .

    إن مقام العبودية أعظم مقام يمدح الله جل وعلا به أحداً من خلقه.

    أنواع العبودية

    والعبودية نوعان: عبودية قهر، وعبودية متعلقة بالعبادة.

    فأما العبودية العامة وهي عبودية القهر فيدخل فيها الناس جميعاً: أبراراً وفجاراً مؤمنين وكفاراً، قال الله جل وعلا: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95] ، وقال تبارك وتعالى قبلها: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم:93-94] . فجميع المؤمنين وجميع الكفار، وجميع الأبرار وجميع الفجار عبيد لله تبارك وتعالى لا يخرجون عن أمره ولو مثقال ذرة.

    أما العبودية الخاصة الواردة هنـا فإنها من نوع العبودية الخاصة التي هي مقام عظيم يتفاوت الناس فيه، وكلما كان الإنسان لله أطوع ومن الله أخوف قائماً بأوامر الله مجتنباً نواهيه كان راقياً في هذا السلم، وهذا السلم على ذروته وقمته محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) ، وقال الله جل وعلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] ، وقال الله تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1] ، وقال جل ذكره: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172] ، والله جل وعلا أثنى على داود في الآية التي شرحناها: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ [ص:17] وهنا لما كان من أيوب ما كان من عمل صالح وصبر على البلاء وطاعات متتابعة أثنى الله جل وعلا عليه بهذا الثناء العظيم الذي سيظل يتلى على لسان المؤمنين الأطهار إلى أن تقوم الساعة قال الله جل وعلا: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] .

    فهذا مجمل قصة أيوب، وفيها دلالة ظاهرة لا تغيب عن أحد أنه ينبغي أن يستقر في قلبك وقلوبنا جميعاً أن الله تبارك الله وتعالى بيده وحده النفع والضر، وبيده وحده المنع والعطاء، وأن زيداً أو عمراً على سلطانه، أو إذا كثرت أمواله أو قلت، أو إذا عظم جاهه أو حقر، أياً كان أمره إنما هو سبب يصيب ويخطي، ويجرى على يديه أمر أولا يجرى على يديه أمر والأمور كلها بيد الله تبارك وتعالى، فاسأل الذي لا تنفد خزائنه، وافزع إليه في ثلث الليل الآخر خاصة وفي كل آن وحين، واسأله تبارك وتعالى من خيري الدنيا والآخرة، لا تحتقرن شيئاً، ولا تستعظمن شيئاً، واعلم أن ما عند الله تبارك وتعالى خير وأبقى، وأن الدعاء والذلة والانكسار بين يدي الله تجعلك قريباً من الله تبارك وتعالى، وتجعلك قريباً من عفوه ورحمته والله ذوالفضل العظيم.

    1.   

    وقفة مع قوله تعالى: (قل هو نبأ عظيم .. ) إلى آخر السورة

    قُلْ هُونَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:67-72] إلى آخر السورة.

    ذكر الله جل وعلا في هذه الآيات قصة خلق آدم وما كان من إبليس عليه لعائن الله تترى إلى يوم القيامة.

    الله تبارك وتعالى (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، وهو تبارك وتعالى غني بحمده، عزيز حكيم لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وقد اقتضت حكمته جل وعلا أن يخلق آدم بيده، وأن يأمر ملائكته بالسجود لهذا المخلوق سجود تكريم لا سجود عبادة.

    المراحل التي خلق الله بها آدم

    والله تبارك وتعالى خلق آدم على ثلاث مراحل:

    المرحلة الأولى: والتي يمكن الاصطلاح على تسميتها بالمرحلة الترابية، ودليلها قول الله جل وعلا: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [الروم:20] ، فقد خلقه من قبضة قبضها ربنا جل وعلا من جميع الأرض فكانت مخلطة، ولذلك يوجد في الناس السهل والحزن والأسود والأبيض وما ترونه من اختلاف الناس.

    ثم مزج هذا التراب بماء حتى غدا طيناً، وهذا قول ربنا في سورة الصافات: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11] . ثم ترك هذا الطين مدة حتى جف وأضحى كالصلصال بحيث لو قرعته لأحدث صوتاً، وهذا قول ربنا في سورة الرحمن: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14] , ثم إن الله جل وعلا نفخ في هذا الجسد الذي خلقه وهو جسد آدم فنفخ فيه تبارك وتعالى من روحه، فلما نفخ فيه من روحه أمر الملائكة بأن يسجدوا سجود تكريم لآدم عليه السلام: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71-72] ، وقول الله جل وعلا: (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) هذا أمر وسيأتي بيانه فيما بعد.

    فسجد الملائكة لله جل وعلا، وكان من الحاضرين عند الأمر إبليس فامتنع عن السجود، قال الله جل وعلا: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف:11] ، فخاطبه ربه: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] ، وزعم إبليس أن مادة النار خير من مادة الطين وهذا قياس خاطئ, فإن من النار السفه والطيش، وإن من الطين السكينة والركادة كما هو معلوم.

    وفي الآية جاء الاستثناء بعد ذكر الملائكة فذهب فريق من أهل العلم إلى أن إبليس في هذه الآية وغيرها هو من الملائكة, ولا ريب أن هذا قول مرجوح.

    الأدلة التي تجعل إبليس من الجن وليس من الملائكة

    والراجح: أن إبليس من الجن لأربعة أمور أو أربعة أدلة:-

    الدليل الأول:

    أن الله جل وعلا وصف الملائكة بأنهم (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وإبليس هنا عصى الله جل وعلا ولم يأتمر بأمره.

    والثاني:

    أن الله جل وعلا أخبر أنه خلق آدم من طين، وإبليس اعترف بنفسه قال: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ) والملائكة خلقت من نور كما هو معلوم فدل على أنه من الجن.

    والدليل الثالث:

    جاء مصرحاً به في سورة الكهف قال الله تبارك وتعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُو [الكهف:50] .

    ولعل الدليل الرابع قد غاب، فسبحان من وسع علمه كل شيء.

    فهذه أدلة على أن إبليس كان من الجن ولم يكن من الملائكة. فلما امتنع واستكبر طرده الله جل وعلا من المحل السامي وهو السماء ومن المقام الرفيع وهو الرحمة.

    قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:77-78] ، فبعد أن يئس من رحمة الله طلب من الله البقاء: قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص:79-81] فبعد أن علم أنه باق أخبر ربه بأنه سيتسلط على آدم وذريته، والله جل وعلا قد علم هذا في الأزل، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] ، ومن هنا يعلم أن العداوة بين إبليس وأبينا آدم عداوة قديمة منذ ذلك اليوم الذي أمر الله فيه الملائكة أن تسجد لآدم وحمل إبليس على عدم السجود أمران: الأول: الحسد على ما كان من فضل الله لآدم. والثاني: الكبر الذي منعه من أن يسجد لأمر الله جل وعلا.

    وقول الله جل وعلا: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:72] فعل أمر، فالله جل وعلا له أوامر وله نواهٍ، والواجب تنفيذ أمره وترك نهيه، لكن من باب التقعيد ترك الأمر أعظم جرماً من اقتراف النهي والدليل: أن الله جل وعلا أمر إبليس أن يسجد لآدم، ونهى آدم أن يأكل من الشجرة، فأما إبليس فلم يستجب للأمر وكذلك آدم عليه الصلاة والسلام أكل من الشجرة ولم ينفذ النهي، قال الله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] ، لكن الله جل وعلا تاب على آدم ولم يتب على إبليس، ومن هنا يُعلم ما ذهب إليه جمع من العلماء إلى أن ارتكاب النهي أهون من ترك فعل الأمر، وإن كان الإنسان مطالب في كلا الحالتين بأن ينفذ أوامر الله جل وعلا وأن يجتنب نواهيه، وحتى تتضح الصورة: لو أن إنساناً أمره الله بالصلاة -وكلنا مأمورون بها- فترك هذا الأمر فإن هذا أعظم من أن يشرب عبد الدخان؛ لأن شرب الدخان أمر نهيت أن تفعله، فشربك للدخان داخل في باب فعلك لأمر نهيت عنه، ولكن تركك للصلاة داخل في باب تركك لأمر أمرت أن تنفده، ولكن هذا ينظر فيه مع النصوص الشرعية؛ لأن لكل أمر ضابطه، وهناك كبائر وهناك صغائر، وهناك لمم، ولكننا نذكر ما هو من مسائل التقعيد.

    ثم قال الله جل وعلا: قال إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، فقال الله تبارك وتعالى له: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ [ص:84] ، أي: فالحق صفتي والحق قولي، فلذلك جاءت الأولى مرفوعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف أو لمبتدأ له خبر محذوف، والثانية جاءت منصوبة على أنها مفعول به مقدم للفظ الفعل (أقول)، فيصبح معنى الآية فالحقُّ وصفي والحقَّ قولي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:85] ، فالله جل وعلا خلق دارين: جنة وناراً، أعد الجنة لأوليائه وأعد النار لأعدائه ولمن عصاه، والله تبارك وتعالى سبقت منه الكلمة: أن يملأ النار ويملأ الجنة، فأما الجنة فإنها قطعاً لا تمتلئ، ولذلك يخلق الله جل وعلا من سعة رحمته لها خلقاً ثم يدخلهم الجنة إنفاذاً لوعده، ورحمة من الله جل وعلا فإن الجنة لا تضيق على أهلها.

    وأما النار فإن الله لا يعذب فيها إلا بعدله، ويرحم تبارك وتعالى بفضله، فإنه يضع فيها الجبار تبارك وتعالى قدمه حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط أي: يكفي.. يكفي، وبهذا تكون امتلأت حقيقة.

    قال تعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:84-85].

    ثم قال الله لنبيه يؤدب أولئك الأقوام من الملأ من قريش: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] أي: أنا لا أتكلف صنعة، ولا آتي بشي من عندي، ولا أتكلف أمراً أحاول أن أنال به غيري أو أنافس فيه شخصاً آخر، ولكنه فضل من الله وهداية لكم، قال تبارك وتعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُو [ص:86-87] أي: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:87-88] أي: ولتعلمن خبره ونبأ ذلك القرآن بعد أن يحل العقاب ويحل ما أخبر ووعد الله تبارك وتعالى به، عندها يعلم حقيقة نبأ ذلك القرآن على الوجه البين حين لا يرتاب الكافرون عندما يكون آخر عهدهم بالدنيا وأول عهدهم بالآخرة.

    هذا ما أردنا بيانه في وقفاتنا مع سورة (ص)، أسأل الله العظيم الجليل جلت قدرته أن ينفع بما قلنا، وأن يعيننا وإياكم على أمر ديننا ودنيانا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    ما تبقى من الوقت نقضيه في الإجابة على الأسئلة.

    1.   

    الأسئلة

    بيان معنى الحكمة وشروطها

    السؤال: ما هي الحكمة؟ وما شروطها؟

    الجواب: اختلفت أقوال أهل العلم رحمهم الله في تفسير الحكمة، فأحياناً تأتي في القرآن بمعنى الكتاب، وأحياناً تأتي بمعنى السنة، وأحياناً تأتي بمعنى النبوة، ولكنها إذا أطلقت فإن المراد بها: وضع الأمور في نصابها أو على الأصح قيل إن المراد بها: القول النافع والعمل الصالح. وأياً كان التعريف فإنه قريب بعضه من بعض.

    أما شروطها فإن للحكمة شروطاً متعددة، وهي في الغالب ثلاثة: العلم، والحلم، والأناة. أما العلم فدليله قول الله جل وعلا: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] ، والإنسان إذا كان لا يعلم ما هو المقبول وما هو المردود، وما هو الصحيح وما هو السيئ، وما هو الحق وما هو الباطل، وما هو الراجح وما هو المرجوح، من أين له أن يفصل في الأمور، ومن أين له أن يدرك وأن يبين للناس حقيقة ما يسألونه عنه، فلذلك كان أول شروط الحكمة: العلم.

    الشرط الثاني: الحلم، والحلم صفة متوسطة بين صفتين وهما: الغضب والبلادة، فمن الناس من يغضب لأدنى كلمة، ومن الناس من لا يتحرك لأي كلمة، فالحلم فضيلة بين هاتين الرذيلتين، والحلم يحتاج المرء معه أحياناً لأن يكون جهولاً، ولذلك قال النابغة الجعدي :

    ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

    وقد قيل: إنه لما قال هذا البيت من الشعر قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (لا فض فوك) . وقيل: إن النابغة الجعدي عاش بعد ذلك عمر طويلاً بلغ مائة وخمسين عاماً ومع ذلك لم تسقط له سن ببركة هذا الدعاء النبوي.

    ولكن عندما تنتهك حرمات الله جل وعلا يجب أن تغضب، وعند الأمور التي تكون بين وبين فتجمل بالحمل؛ لأن الله جل وعلا وصف به الأخيار: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114] ، وصف به النبي صلى الله عليه وسلم أشج بن عبد القيس وقال له: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) .

    الشرط الثالث من شروط الحكمة هو: التأني، وكما أن الحلم فضيلة بين رذيلتين فكذلك التأني فضيلة بين رذيلتين هما: العجلة والبطء الشديد، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه، فإن الإنسان بين أمرين: إما دنيوي وإما أخروي، فأما الأخروي الذي جاءت به الشرائع فينبغي للعبد أن يعجل فيه، قال الله جل وعلا: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] ، وقال الله تبارك وتعالى يمدح آل زكريا: إنَّهَم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90] ، وأما غير ذلك فإن المرء يحتاج إلى أن يتزين بزينة الحكمة، وأن يتبين صلاح الأمور، وأن يعرف مخرجه ومدخله، ولا يتكلم في أمر حتى يكون على بينة منه.

    معنى قوله تعالى (فظن أن لن نقدر عليه)

    السؤال: ما معنى قول الله جل وعلا: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]؟

    الجواب: هذه الآية الكريمة ذكرها الله جل وعلا في سورة الأنبياء في نبأ نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] ، قد يبدو لأول وهلة أن المراد بقول الله جل وعلا: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أن نبي الله يونس غلب على ظنه أو على علمه أن الله لن يستطيع أن يفعل به كذا وكذا، ولا ريب أن هذا كفر ولا يمكن أن يقوله آحاد المؤمنين فضلاً عن نبي أرسله الله جل وعلا لتبليغ رسالته، ولما كان القرآن يفسر بعضه بعضاً فقد ورد في القرآن بيان هذا المعنى ، قال الله تبارك وتعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:15-16] أي: ضيق عليه رزقه، فيحمل معنى الآية على أن يونس عليه الصلاة والسلام غلب على ظنه أن الله جل وعلا لم يضيق عليه، ولم يعاتبه على ما كان منه من تركه لقومه لما تركهم على ما هم عليه وغضب منهم كما أخبر الله جل وعلا، وخرج بعد أن يئس من دعوتهم، ولجأ إلى الفلك واستهم مع أصحابه، وكان آخر الأمر أن ابتلعه الحوت، وما وقع من فضل الله جل وعلا عليه، فهذا بيان قول الله تبارك وتعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] .

    عرش الشيطان ومثلث برمودا

    السؤال: ما تقولون في قول بعض مؤلفي الكتب: بأن عرش الشيطان في مثلث برمودا. كما ورد في كتاب: حوار مع جني مسلم؟

    الجواب: ذكر صلى الله عليه وسلم: (أن عرش الشيطان في البحر)، أو شيئاً من ذلك ولكن الأمور الغيبية التي لم يرد فيها نص قطعي من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحسن الجزم بها؛ لأننا إن جزمنا بها اليوم ثم بدا لنا غير ذلك فماذا نقول لمن أقنعناهم سابقاً؟ فإذا أخبر الله بأمر وأخبر به صلى الله عليه وسلم على وجه واضح صريح بيّن فلا تتردد لحظة في الإخبار به؛ لأنك تعتمد على أساس عظيم وهو: قول الله وقول رسوله، أما غير ذلك فلا بأس أن تقول: ربما يحتمل ومن الممكن أن يكون مثلث برمودا أو غيره عرشاً للشيطان أوما إلى ذلك تحمل عليه بعض الأخبار التي جاءت عن الله ورسوله، لكن إخبارك هذا لا تنسبه إلى الله ولا تنسبه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تخبر به على صيغة الجزم والقطع، ولكن أخبر به على وجه غلبة الظن؛ لأنه لا يعدوكونه أمراً نظرياً اجتهادياً قابلاً لأن يكون صواباً، وقابلاً لأن يكون خطأً، ولذلك الجهل بالحكم والجهل بالدين قد يورد الإنسان المهالك، فمثلاً: حرم الله جل وعلا الزنا، فقد يأتي داعية ليقنع شخصاً من ملة أخرى بأن الله حرم الزنا، فيسأله ذلك الرجل: لم حرم الله الزنا؟ فإن فيه لذة وفيه وفيه.. ويذكر الأمور التي يجدها الزاني من لذة عاجلة في زناه، فقد يهم ذلك الرجل ويقول: إن الله حرم الزنا حتى لا تختلط الأنساب، وهذا صحيح فإن الله حرم الزنا لحكم عديدة واحدة من العشرات: حتى لا تختلط الأنساب، ولكن لا تحصل هذه الحكمة في هذا الأمر وحده؛ لأنه سيقول لك: إذاً لو زنيت بامرأة عقيم فلا حرج، ولو أن رجلاً عقيماً زنى بامرأة عقيم ليس في ذلك خلط نسب، إذاً الزنا في هذه الحالة جائز، فالكلام والإخبار عن الله ورسوله والمحاجة عن دين الله تحتاج إلى علم متين، وعلى اطلاع واسع، ...

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755963863