أيها الإخوة! هذه هي الحلقة الثانية من سورة النساء، ابتداءً من قول الله عز وجل: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13] .. إلى آخر الثمن.
وقد تبين لنا من حدود الله عز وجل في الثمن الأول من هذه السورة أمور عظيمة هي من حدود الله سبحانه وتعالى التي أمر الله سبحانه وتعالى باحترامها والمحافظة عليها في هذه الآية، من تلك الحدود: صلة الرحم، والمحافظة على حقوق الأيتام، وحقوق النساء ومهورهن؛ حتى لا يتلاعب بهن الإنسان، ومن تلك الحدود: احترام تشريع الله عز وجل حينما أباح للرجل أكثر من زوجة؛ محافظة على المجتمع من الانهيار والفساد والتفكك، ومن حدود الله عز وجل: حفظ أموال الناس وأموال الدولة؛ بحيث لا تصبح بأيدي السفهاء يتلاعبون بها، وذلك في قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، ومن حدود الله: أحكام المواريث التي لم نتعرض لها؛ لأنها تحتاج إلى بحث خاص.
هذه الحدود عظمها الله عز وجل فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [النساء:13]، والإشارة بالتاء مع اللام -لام البعد- مع كاف الخطاب يدل على عظمة المشار إليه وعلى أهميته.
والحدود معناها: الحواجز، أي: الأمور العظام التي وضعت حاجزاً أمام النفس البشرية لا تتعداها؛ لأنها من أوامر الله سبحانه وتعالى.
ثم أخبر الله عز وجل أن هذه الحدود من التزم بها، ووقف عندها، ولم يتعداها؛ فإنه مطيع لله ولرسوله، فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13]؛ فالذين يتبعون حدود الله وأوامره، ويقفون عند نواهيه، ويلتزمون بحدوده فلا يتعدونها، ويعصون في ذلك نفوسهم والشيطان، ويطيعون أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، هم الذين يستحقون هذه الجنة التي تجري من تحتها الأنهار.
أما النوع الثاني: فهم الذين يريدون أن يتجاوزوا حدود الله في مثل هذه الأوامر وغيرها؛ فيقطعون الرحم، ويعترضون على حكم الله عز وجل الذي أباح للرجل أربع نساء، أو لا يقفون عند حدود الله في معاملة النساء والعدل بينهن، أو لا يقفون عند حدود الله في حقوق اليتامى، أو الأموال، أو المواريث، فيقول الله عز وجل عن هؤلاء: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:14]، هذه هي عقوبة الذي يتعدى حدود الله، وتلك للذين يلتزمون بحدود الله ويقفون عندها.
إذاً: المراد بالفاحشة هنا فاحشة الزنا، وهذا في أول الإسلام، فقد أمر الله عز وجل أن نستشهد على المرأة إذا وجدناها تمارس فاحشة الزنا أربعة من الشهود، وإن كان قد نسخ لفظ هذه الآية وحكمها، لكنه بقي الاحتفاظ بالشهود الأربعة، فنجد هنا الأربعة الشهود، ونجد في سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، ثم يذكر الله عز وجل الأربعة الشهود: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].
ثم يذكر بعد ذلك آية الملاعنة؛ حيث خفف الله عز وجل عن الزوج حينما يشك في صلاح زوجته واستقامتها، وحينما يجد عندها -نسأل الله العافية والسلامة- رجلاً في فعل الحرام؛ فإنه يكلف بأربعة أيمان بدل أربعة شهود، وعلى هذا فإن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود يشهدون شهادة واضحة على فعل الرجل أو فعل المرأة الفاحشة، وحينئذٍ يقام الحد.
ويكفي عن هؤلاء الشهود الأربعة أربعة اعترافات، كما حصل من ماعز بن مالك رضي الله عنه حين وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قالها ثانيةً، وثالثة، حتى إذا كررها في الرابعة قال صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟ هل فعلت كذا) .. إلخ، ثم أقام عليه الحد.
وهنا ذكر الله عز وجل حتى في الآية المنسوخة أن الحكم يكون بأربعة شهود، فقال: (فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)، أي: أربعة شهود عدول، و(منكم) الضمير يعود إلى المسلمين، وعلى هذا فإنها لا تقبل شهادة الكافر، كما لا تقبل شهادة الفاسق؛ فالكافر لا تقبل شهادته في حدود الله عز وجل، كما أن الفاسق الذي عرف منه فسق وتعدٍ لحدود الله عز وجل لا تقبل شهادته، فإن الضمير في قوله: (منكم) يعود إلى المسلمين العدول.
قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا [النساء:15]، أي: شهدوا بأنها فعلت الفاحشة، فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، هذه الآية -كما قلت لكم- منسوخة بما في سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وبالأحاديث الصحيحة في رجم الزاني، وقد كان ذلك في أول الإسلام، فقد أمر المسلمون أن يعاملوا الزانيات بأن يمسكوهن في البيوت، وأن يؤذوا الرجال، كما في الآية الثانية، حتى نزلت آيات الحدود، فقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (قد جعل الله لهن سبيلاً)، إشارة إلى قول الله تعالى: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، فتكون هذه الآية منسوخة بآية النور وبالأحاديث الصحيحة.
واختلف العلماء في الجلد، واتفقوا على الرجم إذا كان محصناً، والمحصن: هو من وطئ زوجته المسلمة بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن المحصن الذي عرف قدر نعمة الغيرة على المحارم، والذي قد أتم الله عز وجل عليه النعمة الحلال، ثم يجنح إلى الحرام؛ فإن عقوبته أن يرجم، أما البكر من الرجال والنساء فإن عقوبتهما الجلد مائة جلدة، مع التغريب سنة.
واختلف العلماء أيضاً بالنسبة لجلد المحصن قبل الرجم، فقالت به طائفة كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكما هو رأي طائفة من العلماء، ولذلك يقول الله تعالى عن الرجل والمرأة: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ [النساء:16]، أي: يأتيان فاحشة الزنا، والضمير في (منكم) أي: من المسلمين، والخطاب دائماً يعود للمسلمين، مع أن عقوبة الزاني وردت في الكتب السماوية التوراة والإنجيل والقرآن كما في قصة اليهوديين.
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16]، المراد بالأذى: التعيير واللوم والعتاب والتشنيع والسب، فَإِنْ تَابَا [النساء:16]، أي: رجعا إلى الله عز وجل، وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:16]، أي: أصلحا العمل، ودائماً تقرن التوبة بالإصلاح، أي: أن التوبة التي لا تقترن بعمل صالح قد تكون توبة غير صحيحة.
ولذلك يكلف العبد إذا تاب إلى الله عز وجل أن يصلح العمل، كما قال الله عز وجل في سورة هود: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، ولذلك كلما فعل الإنسان سيئة فعليه أن يعمل بجوارها حسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، وعلى هذا فإن الإصلاح أمر مطلوب كما أن التوبة أمر مطلوب، والدليل على صدق التوبة وحسنها هو: إصلاح العمل، ولذلك على من وقع في معصية من معاصي الله ثم تاب ورجع إلى الله عز وجل أن يكثر من الأعمال الصالحة، عسى الله أن يتجاوز عنه.
ولما تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك، ثم أنزل الله عز وجل توبته في سورة التوبة: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118] .. إلى آخر الآيات، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن من توبتي -أي: من شكر نعمة الله علي بالتوبة- أن أنخلع من مالي كله لله عز وجل، فقال له عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) .
وعلى هذا فإن من صمم وعزم على التوبة، وصدق في توبته إلى الله عز وجل؛ فإن عليه أن يصلح العمل، وأن يبادر بالإكثار من الصالحات من نوافل العبادة، إضافة إلى فرائض العبادة، ولكن لا يبدأ بالنوافل ويضيع الفرائض، فإن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) .
قال تعالى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا [النساء:16]، أي: أصلحا العمل، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:16]، أي: بالنسبة للأذى؛ لأن الله تعالى قبل التوبة، ولأن الناس عليهم أن يقبلوا هذه التوبة، ولأنه لم تنزل هناك حدود في هذا الأمر قبل سورة النور.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16]، وكلمة (كان) إذا جاءت في لغة العرب معناها: مضى وانتهى، لكنها إذا جاءت بالنسبة لله عز وجل وأسمائه وصفاته فإنها تدل على الاستمرار والدوام، أي: ولا يزال الله عز وجل تواباً يقبل التوبة، (رحيماً)، أي: يرحم عباده فيقبل توبتهم.
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، ولعل أحداً من الناس حينما يسمع (بجهالة) ويسمع (من قريب) لربما ييأس بعض من انغمس طوال عمره في معصية الله عز وجل، وهو على علم ويقين من أنه عصى الله سبحانه متعمداً، لكننا نطمئنك بأن قوله تعالى: (بجهالة) ليس معناه بجهل، فحتى من عصى الله بعلم؛ فإن الله عز وجل يقبل توبته كما وعد.
ولا يجوز أن نفسر الجهالة بالجهل؛ لأن الجاهل غير مؤاخذ، فكل من جهل ذنباً فلا تسجل عليه المعصية، وإنما المراد بالجهالة أي: في أيام الجهل والغفلة، والضياع، والسفه، والشباب والصبوة .. في أيام مضت غفل فيها عن الله عز وجل، فأصبح كأنه جاهل؛ لأنه يعيش عصراًجاهلياً؛ وعلى هذا فليطمئن الذي أمضى عمره كله أو جله في معصية الله عز وجل، ثم أقبل على ربه سبحانه وتعالى؛ فليبشر بأن الله تعالى قد أوجب على نفسه سبحانه وتعالى أن يقبل هذه التوبة.
أما في قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، فقد يظن بعض الناس أنه لابد إذا فعل الذنب أن يقول في الحال: تبت، ويتوب حقيقة، وإلا فإن التوبة لا تقبل، وهذا فهم خاطئ؛ فإن المراد بالقريب في مثل هذه الآية: ما قبل الموت، فما قبل الموت كله يعتبر قريباً وإن طال الزمن على المعصية، بشرط: أن يكون هذا الإنسان دائماً وأبداً على وجل، وأن يحرص على المبادرة، وألا يهمل ويسوف في التوبة؛ لأن البعيد قد يكون قريباً، ولأن الناس يعيشون في مثل هذا الزمن الذي نعيشه يفاجئون بالموت مفاجأة وعلى غير استعداد، فقد كان آباؤنا وأجدادنا لا يموتون غالباً إلا على فراش الموت، بعد أن يمضوا مدة من الزمن تكون لهم معذرة وتنبيهاً، أما وقد أصبح الرجل يخرج من بيته فلا يرجع، ويقوم ولا يقعد، ولا يستطيع أن يرقد؛ فإن عليه أن يبادر بالتوبة؛ لأن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر يفاجأ فيه الناس بالأجل على غير استعداد في كثير من الأحيان.
ولو عملنا إحصائيات للذين يموتون على الفرش، أو الذين يموتون في حوادث السيارات أو السكتات القلبية، أو الموت المفاجئ جملة؛ لوجدنا أن الأخير أكثر بكثير من النوع الأول، مما يفرض على هذا الإنسان أن يبادر بالتوبة والإنابة، لكن معنى قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: قبل الموت، بدليل الآية التي بعدها: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18].
إذاً: فهمنا من الآية الثانية أن المراد بالقرب هو ما قبل الموت، فلو أمضيت حياتك كلها في معصية الله عز وجل ثم تبت قبل الموت، فنعتبرك قد من الله عز وجل عليك فأمهلك فتبت من قريب، ولكن لا تظنن أن استمرارك على المعصية هو خير لك، بل هو مخاطرة في حسن الخاتمة، فلربما يدركك سوء الخاتمة.
(فَأُوْلَئِكَ) أي: الذين يعملون السوء بجهالة في فترة جهل وانصراف وإعراض وسفه، ويتوبون من قريب، فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:17]، ولذلك جاء التعظيم لهم في قوله تعالى: (أولئك)؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وعلى هذا فإن الله عز وجل قد يمن على العاصي بأن يقلب كل سيئة عملها في أيام جهله -إذا صدقت توبته- إلى حسنة، كما قال في سورة الفرقان: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]، أما هنا فيقول الله تعالى: فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:17]، أي: يقبل توبتهم، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]، يضع الأمور في مواضعها.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، في تلك الساعة لا تقبل التوبة، ولذلك جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، والمراد بالغرغرة: أن يضع الإنسان في حلقه ماءً يرجه رجاً، لكن المراد بالغرغرة هنا: أن تصل الروح إلى آخر مرحلة من مراحل الجسم، ولا يبقى إلا أن تخرج، كأنه يغرغر بالماء، ويغرغر بروحه؛ لأنها تريد الخروج، أو إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهذا هو الأجل النهائي الذي لا تقبل فيه التوبة؛ لأن الإنسان في ساعة الموت يرى ملائكة الرحمة ويرى ملائكة العذاب، ويرى مقعده من الجنة ويرى مقعده من النار، ولذلك فإنه يكشف عنه الحجاب في تلك الساعة، وحينئذ لا تقبل التوبة.
أما التوبة العامة فقد وضع الله عز وجل لها أجلاً أيضاً، وهو: طلوع الشمس من مغربها، وطلوع الشمس من مغربها آخر علامة من علامات الساعة، كما أخبر الله عز وجل عن ذلك في قوله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية بأنها طلوع الشمس من مغربها.
إذاً: هناك أجل لأي واحد منا ما لم تبلغ الروح الحلقوم، وهناك أجل لكل الناس: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، أي: يوم تطلع الشمس من مغربها، لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الآن لا تقبل التوبة، ولذلك فرعون لما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90] لما قال هذا الكلام قال الله تعالى له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] الآن تتوب؟! ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علامة النور التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله) ، وقد أخبر الله عز وجل عن قوم أنهم لا يتوبون إلا حينما يحضر الأجل: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، ففي مثل هذه الساعة لا تقبل التوبة، والله تعالى يقول: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:56-57]، إلى غير ذلك، والله تعالى يقول: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59].
يدعي أقوام في عالمنا اليوم أنهم أنصار المرأة، وأنهم يدافعون عن حقوق المرأة، ويتهمون دين الله عز وجل الحق بأنه هضم المرأة حقها، أو نقصها شيئاً من حقها، وهنا يذكر الله تعالى شيئاً من حقوق المرأة كان مهضوماً في كل الجاهليات، وحتى في جاهلية اليوم المعاصرة هو مهضوم.. هضمت هذه المرأة فأصبحت لا شيء في نظر تلك الجاهليات.
وفي الجاهلية الأولى كانت المرأة إذا مات زوجها يتسابق أولاده من غيرها، فأيهم سبق الآخر ووضع عليها رداءً كان أحق بها؛ إن شاء ملكها، وإن شاء تزوجها، وإن شاء زوجها، وهي زوجة أبيه، وهذا لا شك أنه محرم من عدة جوانب:
الجانب الأول: أنه إهانة للمرأة.
الجانب الثاني: أن فيه نكاحاً لزوجة الأب، والله تعالى حرم من المحرمات -التي سوف نتعرض لها إن شاء الله تعالى- زوجة الأب كما حرم الأم، ووضعها مع الأم في آية واحدة.
إذاً: هذه العادة من عادات الجاهلية وهي أن يتسابق أولاد الميت من غيرها إليها، فأيهم وضع عليها الرداء كان أحق بها، وإن استطاعت أن تهرب قبل أن يضع أحد منهم الرداء كانت حرة، فأنزل الله عز وجل تحرير هذه المرأة، فلا يحق لأحد أن يتسلط عليها، أو أن يضع عليها الرداء، أو يتملكها، أو يكون أحق بها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، أي: مكرهين لهن، وليس معنى ذلك: أنه بواسطة غير الإكراه له أن يرثها، لكن ذلك حكاية واقع؛ لأنهم يعملون ذلك كرهاً.
(لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ) أي: تتملكونهن، وهذه الآية تعرضت لتحرير المرأة من أن تورث هي، وقد مرت بنا آية تعرضت لحق المرأة في الميراث في قوله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]، وعرفنا أن سبب نزول تلك الآية: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون المرأة، وإنما يورثون الرجل فقط، إضافة إلى أنهم يرثون المرأة كما يورث سائر المتاع، فالله عز وجل حرم أن تورث المرأة من زوجها؛ فإنما هي إنسان حر كالرجل، وحرم أن تمنع من ميراث زوجها أو أحد أقاربها؛ لأن الله تعالى يقول: وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]، إذاً: هي لا تورث بل ترث كما يرث الرجال، ولها في كل صغير وكبير مما خلفه الميت حق، حتى لو كانت الإبرة أو ما كان أقل من ذلك.
وربما تكون هناك مطامع مادية يطمع فيها ذلك الأب، كأن تكون ذات مرتب، أو لها دخل أو مال، فلا يريد أن يزوجها من أجل أن يتمتع ويستفيد من مالها، وهذا هو العضل الذي حرمه الله عز وجل في قوله تعالى: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، وقال في سورة البقرة: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232].
وتلك الآية لها سبب: أن رجلاً طلق زوجته، وبعد مدة من الزمن فكر في إعادتها إليه والعقد عليها مرة أخرى؛ لأنه بعد انتهاء العدة لابد من عقد جديد إذا لم تكن الطلقة الثالثة، فاتفق الزوج والزوجة، ورفض الأب، فأنزل الله تعالى تلك الآية في سورة البقرة، أما هذه الآية فإنها عامة في ابتداء أو إعادة الزواج، ولذلك لا يحل للولي أياً كان حتى لو كان الأب أن يعضل موليته، أو يعضل الأب ابنته ويمنعها من الزواج؛ لأن الله تعالى قال: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، والعضل معناه: المنع بقوة.
وعلى هذا يقول فقهاء المسلمين: إن المرأة إذا بلغت سن الزواج وتقدم إليها من يخطبها، وتبين أن وليها قد عضلها -ولو كان الأب- ومنعها من الزواج بدون سبب، وكان ذلك الخاطب كفؤاً؛ فإن للحاكم أن يزوجها دون إذن أبيها؛ لأن الله تعالى حرم العضل، فإذا عضل وصمم على العضل لأي مصلحة من مصالحه الخاصة فإن ذلك ليس له، إلا إذا كان ذلك الخاطب غير كفء.
(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)، وقد يكون هذا الخطاب للأزواج، فقد يكره الزوج الزوجة ويصمم على أن يحتفظ بها من أجل أن يأخذ منها شيئاً من المال، فيحبسها وهو يكرهها حتى تفتدي وتطلب الطلاق بنفسها منه ابتداءً، فتقدم المال من أجل أن يأخذ بعض أو كل ما آتاها وهو المهر، وهذا أيضاً من الأعمال المحرمة، فإذا بدأت الكراهية من الزوج فإنه يحرم عليه أن يأخذ منها شيئاً، أو يعضلها حتى تقدم شيئاً من المال افتداءً لها، بخلاف ما إذا كرهته هي؛ فإن ذلك موجود حكمه في سورة البقرة؛ فله أن يأخذ منها المهر، كما في قصة صاحب الحديقة.
يقول الله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، أي: لتأخذوا بعض أو كل المهر أو أكثره حينما تطلب منه الفداء، وهو عوض الخلع، فقد يمسكها ليضرها، وهذا من الأمور التي حرمها الله عز وجل، وقد أخبر الله تعالى أنه لو آتاها قنطاراً ثم فكر في طلاقها بدون أن يكون السبب من عندها؛ فإنه يحرم عليه أن يأخذ منه شيئاً، ولو كان شيئاً قليلاً.
يقول الله تعالى: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) أيها الأزواج، أي: بعض المهر، حتى تفتدي لتتخلص من مشكلة ذلك الزوج الذي كرهها هو، وهو الذي فكر في طلاقها دون أن تكون منها رغبة هي، فإنه في مثل هذه الحال لا يجوز له أن يعضلها أو يأخذ شيئاً مما أعطاها.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]، فإذا فعلت الفاحشة؛ سواءً كانت فاحشة الزنا التي هي أعظم الذنوب؛ فله أن يؤذيها من أجل أن تفتدي ليسترجع حقه؛ لأنها هي التي أفسدت عليه فراشه، أو كانت الفاحشة فاحشة الأذى أيضاً، وهي ما دون فاحشة الجريمة، بأن تكون بذيئة اللسان، مؤذية كارهة له؛ فله أن يطلب منها الفداء، كما في سورة البقرة.
يقول الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] أي: كما أن المرأة مطالبة بأن تحسن العشرة للزوج؛ فإن الزوج أيضاً مطالب بأن يحسن عشرة الزوجة، وهذا الإحسان بالمعروف، أي: بما جرت به العادة وبالعرف، فلا يجوز له أن يترفع عليها، أو يؤذيها، أو يقصر في حقها أو في نفقتها، أو حتى في زيه ولباسه، وحينما يسيء في معاملتها من ناحية النظافة أو ما أشبه ذلك، فإن عليه لها حقاً كما أن له عليها حقاً، ولذلك يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (إني لأحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين هي لي).
وعلى هذا فإن الزوج مطالب بالعشرة من جميع النواحي، فإذا كلمها يكلمها بأدب واحترام، كما أنها مطالبة أيضاً بذلك، وإذا لزمت النفقة فإن عليه أن ينفق بما يناسب مقام هذه المرأة، وإذا أخطأت فإن عليه أن يتحمل شيئاً من الخطأ، وإذا أحسنت إليه فإن عليه أن يقابل هذا الإحسان بإحسان مثله، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، أما الذين يسيئون إلى المرأة ويمتهنونها ويحتقرونها ويذلونها، فإنهم قد عصوا الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
وقد يبتلى بعض الرجال بامرأة فاقدة الجمال، أو أي مقوم من مقومات العشرة الزوجية؛ فيكرهها من أول ليلة يدخل بها، فإن كان عاقلاً فإن عليه أن يتبع أمر الله عز وجل، وينتظر لعل الله عز وجل أن يأدم بينهما، وأن ييسر منها خيراً، أو يهب له منها أبناءً صالحين، وقد يتسرع بعض الرجال فيفارقها من أول وهلة، وهذا هو أبغض الحلال إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يبغض شيئين: الطلاق، والإكثار من الطعام، وقد أباحهما الله عز وجل، كما جاء في الحديث: (إن الله لا يبغض شيئاً أعطاه إلا هذين الأمرين) .
وعلى هذا فإن الطلاق يهدم البيوت، ويشرد الأسرة والأطفال، وربما يسبب العقد النفسية عند الأطفال، ويفسد العلاقة بين أهل الزوج والزوجة، وبين الزوج والزوجة، والمرأة المطلقة -غالباً- في المجتمع تكون امرأة سائبة يندر أن يقدم عليها أحد من الرجال، ولذلك يكره الله عز وجل الطلاق، ويعالج الحياة الزوجية بعدة أمور، ومن أمور المعالجة: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35].
وقد أمر قبل ذلك سبحانه وتعالى بأن يؤدب هذه المرأة قبل أن يفارقها، وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، وقبل ذلك يأمرنا الله عز وجل أن نتحمل كما قال في هذه الآية: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
إذاً نقول: أي امرأة تكرهها لسبب من الأسباب ولسلبية من السلبيات فإن فيها من الإيجابيات ما فيه مصلحتك، فعليك أن تنظر إليها بالعينين الاثنتين كاملتين، لا تنظر إليها بعين السيئات وإنما بعين الحسنات، فقد تكون غير جميلة لكنها ذات خلق حسن ونسب ودين، وقد تفقد واحداً من هذه الأشياء لكن فيها أمور سوف تعجبك مستقبلاً، حيث يهب الله عز وجل لك منها أبناءً صالحين، لكن حينما تكون منحرفة في دينها وتعجز عن تقويمها؛ فإن لك الحق في رفضها فوراً حتى لا تفسد عليك بيتك وفراشك.
(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا)، و(عسى) إذا جاءت من عند الله عز وجل فليست للترجي كما هو في معناها اللغوي، لكن معناها: التحري والتوقع، أي: إن كرهتموهن فحري بكم أن تكرهوا شيئاً لكن فيه خير كثير، وهذا الخير الكثير لم تعثروا عليه بعد، فلا تتسرع في مفارقة امرأة تكرهها في جمالها، أو نسبها، أو بذاءتها، أو أي أمر من أمورها، وعليك ألا تتسرع حتى لا تقدم على الطلاق الذي هو حلال يبغضه الله عز وجل.
ثم ذكر الله عز وجل أن هذا الخير كثير، لكنك لا تتوقعه؛ لأنك لا تنظر إلا إلى أمور سطحية، أما الله عز وجل فإنه يعلم ما تخفيه هذه القلوب، وما تكنه الضمائر، كما أنه تعالى يعلم ما في المستقبل، كما يعلم ما في الحاضر.
(وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ) أي: التي تريدون تطليقها، (قِنطَارًا) أي: مالاً عظيماً من الذهب، (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، أي: حرام عليكم أن تأخذوا منه شيئاً، ولذلك يتلاعب طائفة من الرجال بحقوق النساء، فيتمتع بالمرأة ما شاء أن يتمتع بها، حتى إذا أراد أن يفارقها ليأتي بزوجة جديدة ضيق على المسكينة السابقة من أجل أن تكرهه، من أجل أن تقدم له شيئاً من المال لتفتدي نفسها بهذا المال، فالله تعالى حرم هذا الأمر تحريماً عظيماً وقال: (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، وهذا من المال المحرم الذي لا يحل للزوج ما دام هو الذي كره المرأة ولم تكرهه المرأة، أما إذا كرهته المرأة فله أن يطالبها بالمهر أو أكثر أو أقل، وأن يتمسك بها حتى تدفع ذلك، وخير له أن يعفو عن كل ما أعطاها؛ لأنه: (ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً)، كما جاء في الحديث.
(فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، حتى لو كان شيئاً قليلاً، فلو دفعت لها مائة ألف ريال، وأردت أن تأخذ ريالاً واحداً، فإن هذا الريال حرام عليك ما دمت أنت الذي عزفت عنها، وأنت الذي لم ترغب في البقاء معها. ثم يعظم الله تعالى هذا الأمر ويقول: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20] أي: هل تأخذونه؟! وهذا استفهام إنكاري لتعظيم هذا الأمر، والمراد بالبهتان: الظلم، والإثم معناه: الذنب، أي: أخذ هذا المال بعد هذا التمتع بهذه المرأة، وبعد الخلوة بها، أخذ هذا المهر أمره عظيم عند الله، وأخذه يعتبر بهتاناً عظيماً.
الأمر الثاني: أن كثرة المهر هي التي تسلب البركة في هذا الزواج، فقد أجمع علماء المسلمين على أفضلية تخفيف المهور، لكن اختلفوا في جواز الزواج بالمهور الكبيرة، فأخذ طائفة من العلماء من هذه الآية جواز المغالاة في المهور، وهناك من بذل مهوراً في السابق وفي اللاحق، والأصل هو التخفيف.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب، ففكر أن يحدد المهور ذات يوم، فصار يخطب على المنبر ويقول: أيها الناس! خففوا المهور، لا تغالوا في المهور، فقامت امرأة عجوز وقالت: يا أمير المؤمنين! أتحرمنا شيئاً أعطانا الله عز وجل إياه، والله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [النساء:20]؟
فقال عمر : أخطأ عمر وأصابت امرأة، كل الناس أصابوا إلا عمر .
وبالرغم من أن عمر رضي الله عنه حينما كان يريد أن يخفف المهور إنما هو لمصلحة الأمة، لكننا نستطيع أن نأخذ من هذا نتيجة: أن بعض العلم قد يخفى على الأكابر ويعلمه الأصاغر، كما أن ولي الأمر عليه أن يقف عند حدود الله عز وجل حينما تبلغه من أي إنسان كائناً من كان، ولو كان دونه في المستوى والعلم والسياسة، فإن هذه المرأة استطاعت أن توقف الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الثاني من الخلفاء الراشدين الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ).
فكون امرأة تقول: أخطأت يا عمر ! وهو يخطب على المنبر، يعطينا دليلاً على أن ولي الأمر مهما كان مركزه في هذه الحياة؛ فإن عليه أن يقبل النصيحة إذا أسديت إليه من أي واحد كائناً من كان، فإن كانت حقاً فعليه أن يقبلها، وإن كانت باطلاً فإن عليه أن يناقش صاحب هذا الباطل، وإذا قيل له: اتق الله! ولم يقبل هذه النصيحة، فعليه خطر، ولا خير في الناس إن لم يقولوا له: اتق الله، ولا خير له إن لم يقبلها من هؤلاء الناس، فـعمر رضي الله عنه يقول: (كل الناس أصابوا إلا عمر).
وعلى هذا نقول: إن تخفيف المهور هو الأفضل، وإن ذكر الله عز وجل القنطار ليس معناه: أن هناك من يدفع لها من النساء قنطار من الذهب، وإنما ذلك من باب المبالغة، والمعنى: ولو كان المال عظيماً فلا تأخذ منه شيئاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، وليس هناك بيت يساوي مفحص القطاة، أي: مربض القطاة، ولا أحد يستطيع أن يصلي في مربض القطاة، وإنما ذلك من باب الحد الأدنى وهذا على الحد الأعلى، أي: ولو كان مالاً كثيراً.
وعلى كل أيها الإخوة! مصلحة الأمة أن تخفف المهور، وأن يتزوج الشباب العزاب والعوانس اللاتي يبلغن سناً متأخرة داخل البيوت، وخطر على الأمة أن يعزف شبابها عن الزواج، وخطر على الأمة أن تعزف نساؤها أو تتعلق بالتعليم أو بالوظيفة عن الزواج، وحينئذ يحدث خلل في المجتمع لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل.
(وكيف): هذا استفهام إنكاري، وقوله تعالى: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) يبين أن هذا أمر عظيم، أن تفضي إليك المرأة بجسدها وتفضي إليها بجسدك، وتحصل هذه العلاقة بينك وبينها وتلك الثقة، ثم تسلب منها المهر مرة ثانية!
ولذلك اختلف العلماء في معنى الإفضاء، فقال بعضهم: أن يكشف وجهها، كما جاء في الحديث: (إذا كشف وجهها ونظر إليها؛ فقد وجب المهر) .
وقيل: المراد بالإفضاء: أن تنزع ثيابها وينظر إلى عورتها، فهل يستطيع أحد أن يتزوج امرأة ثم ينظر إلى داخل جسدها، ثم يفكر هو دون رغبة منها هي في طلاقها، ثم بعد ذلك يقول: أعطيني هذا المهر بعد هذا النظر، وبعد الميثاق الغليظ الذي أخذته هذه المرأة على هذا الرجل وهو عقد النكاح؟!
وقيل: مجرد النظر إليها.
وقال بعضهم: هو الخلوة.
وقال بعضهم: هو الجماع، فإذا جامعها يستقر الأمر.
ولكن الأولى أن نقول: هو الخلوة؛ لأنه إذا خلا بها وأغلقت الأبواب بينه وبين الناس معها فقد أفضى إليها، وحينئذ يحرم عليه أن يأخذ المهر إذا كان الطلاق برغبته هو.
والإفضاء مأخوذ من الفوضى؛ لأن الفوضى معناها: اختلاط الأمر، نقول: يعيش العالم في فوضى، أي: في اختلاط من الأمر، والمراد بالإفضاء: الفوضى، أي: خلوه بها وخلوها به بحيث لا يكون بينهما أمر حاجز.
(وَأَخَذْنَ)، أي: أخذت النساء منكم، (مِيثَاقًا غَلِيظًا)، والميثاق الغليظ -والله أعلم- المراد به عقد النكاح، فإنه ميثاق غليظ، كما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث قال: (فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بعهد الله)، وعلى هذا فإن هذا الميثاق الغليظ قول الولي: زوجتك هذه المرأة، فتقول: قبلت، هذا ميثاق غليظ يزيل كل الحواجز بين هذا الرجل وتلك المرأة، ثم إذا بهذا الرجل الذي أفضى إليها ويرغب في زواج امرأة أخرى بدلها، ويعزف عنها، ولربما أنه تمتع بها، ولربما أنها أنجبت له من الأولاد ما أنجبت، ثم إذا به يريد أن يأخذ هذا المهر بعد أن تمتع بهذه المرأة مقابل هذا المهر، فهذا أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
وكيف يقدم إنسان على زوجة أبيه؟! هذا مقت شديد، وإثم عظيم، وقد كان ذلك أيضاً موجوداً في الجاهلية، ولذلك يقول الله تعالى: (وَلا تَنكِحُوا)، أي: لا تتزوجوا، والمراد بالنكاح هنا العقد، (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) أي: ما عقد عليها الأب وتزوجها، (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) (إلا) هنا استثناء منقطع، أي: لكن ما قد سلف لا تؤاخذون عليه؛ لأنه كان في أمر الجاهلية، أما بعد أن نزلت هذه الآية فإنه يحرم على أي واحد منكم أن يتزوج زوجة أبيه؛ لأن زوجة أبيه بمنزلة أمه.
(إنه كان فاحشة)، كالزنا، (ومقتاً)، ممقوت عند الله عز وجل، وممقوت أيضاً في أذواق الناس، فإن الأذواق البريئة النزيهة الطاهرة لا تقدم على مثل هذا العمل؛ بل هي تمقته وتسبه، وبطبيعة الإنسان البشرية أن ينفر من زوجة أبيه كما ينفر بفطرته عن أمه؛ لأن كل واحدة منهما تعتبر فراشاً لأبيه، فهو ممقوت، ولذلك كانوا يسمون في الجاهلية الولد الذي ينشأ عن زواج الولد بزوجة أبيه: الولد المقيت أو الممقوت.
(وَسَاءَ سَبِيلًا)، أي: سبيلاً سيئة وفرجاً حراماً، كيف يقدم عليها هذا الإنسان بعد أن أقدم عليها أبوه؟!
يقول الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ)، الأم: هي كل من انتسب إليها الإنسان بولادة، سواء كانت أماً أو جدة أو جدة جدة، وسواء كان ذلك من قبل الأم أو الأب، أو من قبل الرضاعة، أو ما أشبه ذلك.
(وَبَنَاتُكُمْ)، والبنت تشمل جميع البنات من انتسبت إليه بأبوة؛ سواء كانت من بناته، أو بنات بناته، أو بنات أولاده.. إلى ما لا نهاية.
(وَأَخَوَاتُكُمْ)، والأخوات كل من شاركته في أب، أو أم، أو في الاثنين جميعاً، سواءً كانت الأخت لأب، أو لأم، أو شقيقة، أو كانت أختاً من الرضاعة.
(وَعَمَّاتُكُمْ)، وهي كل من انتسبت إلى أبيه بأخوة، أو إلى جده وأجداده بأخوة؛ سواء كان أجداده من قبل الأب أو من قبل الأم، فهؤلاء كلهن يعتبرن من العمات، فلا يجوز الزواج بواحدة منهن.
(وَخَالاتُكُمْ) الخالات كل من انتسبت إلى أمه بأخوة، أو جدته أو جداته، فإنها تدخل في هذا الأمر.
(وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ)، بنات الأخ: هي كل من انتسبت إلى أخيها بنسب أو رضاع وبناتها وإن نزلن، وكذلك بنات الإخوة.
(وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)، الأم وأمها وجداتها، كل هؤلاء يحرمن على هذا الرجل الذي رضع من واحدة منهن.
(وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَة)، الأخت من الرضاعة سواء كانت قريبة أو بعيدة، فكل من أرضعتك أمها أو رضعت هي من أمك فإنها تحرم عليك.
(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ)، والمراد بأم المرأة: الأم المباشرة أم زوجتك وجدتها، سواء كانت من قبل الأم أو الأب، فكل ذلك داخل في هذا التحريم.
(وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)، الربيبة: هي بنت الزوجة، وسميت بنت الزوجة ربيبة؛ لأن الزوج يربيها في حجره، والمراد بالحجر: وسط الثوب، أي: يضعها كما يضع أولاده، وجمهور العلماء على أن هذا القيد لا مفهوم له، فسواء عاشت في حجره أو بعيدة عنه ما دامت بنتاً لزوجته، سواء كانت قبل أن يتزوج بها أو بعد أن فارقها وتزوجت برجل آخر فأنجبت بنتاً، فإنها تعتبر ربيبة له، وهي محرم من محارمه تحرم عليه، ولا يجوز له أن يتزوج بها، إلا الظاهرية فإن طائفة منهم اشترطوا أن يكون قد رباها ذلك الزوج وعاشت عنده، لكن هذا القيد في الحقيقة لا مفهوم له، وهذا القيد لا أثر له، سواء كانت في حجره أو لا؛ بل لو كانت من زوج تزوج أمها بعده؛ فإذا طلق امرأة وتزوجت رجلاً بعده فأنجبت بنتاً، فإن هذه البنت تعتبر ربيبة له وإن لم يرها، فتعتبر ربيبة تحرم عليه، وتعتبر من محارمه؛ لأنها بنت زوجته.
وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، فإذا كانت بنت زوجة لم تدخل بها أنت فإنها تحل لك، وعلى هذا فإن العقد على الأم لا يحرم البنت، بخلاف العقد على البنت فإنه يحرم الأم عند جمهور العلماء، فإذا عقد رجل على امرأة ولم يدخل بها لم تحرم بنتها عليه؛ لأنها لا تعتبر ربيبة؛ لأنه لم يدخل بالأم؛ لأن الله تعالى يقول: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)، والمراد بالدخول هنا: الجماع أو الخلوة، فإذا خلا بالأم أو وطئها فإن البنت تعتبر ربيبة بالنسبة له، وتحرم عليه، وتعتبر من محارمه، أما لو عقد على الأم فقط ولم يدخل بها ولم يخل بها؛ فإن هذه الربيبة لا تعتبر ربيبة بالنسبة له، فيجوز له أن يتزوجها وإن كان قد عقد على أمها؛ لأنه لم يدخل بها؛ لأن الله تعالى يقول: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)، أما لو عقد على البنت فجمهور العلماء على أنها لا تحل الأم ولو لم يدخل بالبنت؛ لأن أم الزوجة تحرم منذ أن يعقد على ابنتها، أما بنت الزوجة فإنها لا تحرم -التي هي الربيبة- إلا إذا دخل بأمها؛ لأن الله تعالى هنا يقول: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، ما دامت المسألة فقط عقداً بدون دخول فيجوز له أن يتزوج بنت الزوجة؛ لأنها لا تسمى ربيبة في مثل هذه الحال.
كذلك من المحرمات: حلائل الأبناء، قال تعالى: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، والحليلة: هي الزوجة، وسميت الزوجة حليلة؛ لأنها تحل وترتحل مع زوجها متى حل وارتحل، أو من الحلال، والمراد بها هنا زوجة الابن، فإذا تزوج ابنك امرأة وطلقها فقد أصبحت هذه المرأة حراماً عليك، وأصبحت من محارمها وهي من محارمك.
لكن هذا القيد في قوله تعالى: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، ما مفهوم هذا القيد؟
يقول العلماء: إنما هذا لنفي أولاد التبني، فقد كان هناك في الجاهلية إذا أعجب الرجل طفل تبناه ونسب إليه، حتى حرمه الله عز وجل بقوله: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، فأصبح التبني محرماً، وعلى هذا فإن زوجة الابن بالتبني يجوز لمن تبناه أن يتزوجها، والدليل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج زوجة من تبناه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهي زينب بنت جحش لما طلقها زيد رضي الله عنه، حتى يثبت للناس أن زوجة الابن بالتبني لا تحرم على الأب، ولذلك يقول الله تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37].
وهنا يقول: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، والمراد بالأولاد: أولادك أنت وأولاد أبنائك وبناتك؛ إذ كل هؤلاء داخلون في قوله تعالى: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، فزوجات هؤلاء يعتبرن محارم للأب؛ فلا يتحجبن عنه، ولا زوجة ابن ابنه ولا زوجة ابن بنته، كلهن يعتبرن من المحارم، وتعتبر هذه المرأة حراماً عليه إذا طلقها ذلك الابن.
بقي الخلاف في الأولاد من الرضاعة: هل الأولاد من الرضاعة تعتبر زوجاتهم محارم؟
اختلف العلماء في ذلك، فبعض العلماء أخذ من قوله تعالى: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)، إخراج الأولاد من الرضاعة، فزوجاتهم لا يعتبرن محارم للآباء من الرضاعة، وعلى هذا يجوز التزوج بهن، لكن من باب الاحتياط، وهو رأي طائفة من العلماء: أن الأولاد من الرضاعة كالأولاد من النسب، وأن زوجاتهم تعتبر محارم للأب من الرضاعة، وهذا هو الاختيار.
وأقل ما يكون في هذا الأمر لو تحجبت عنه ألا يتزوجها، وعلى هذا يصبح أولاد الرضاعة كأولاد النسب في هذا الأمر؛ لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) ، وعلى هذا فإن هذه القاعدة تعتبر في كل نسب تنتقل بمثله من الرضاعة، فالأولاد وأولاد الأولاد والآباء والأبناء من النسب ينتقل هذا الحكم بالنسبة لهم من الرضاعة، وهؤلاء اللاتي حرمن بالنسب ينتقل الأمر فيهن كالعمة والخالة والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت وبنت الأخ.. وهكذا ينتقل الأمر، وكذلك زوجة الابن من الرضاعة تعتبر حراماً على الأب.
قال تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)، كانوا في الجاهلية يتزوج أحدهم أختين شقيقتين أو لأب أو لأم، وفي الإسلام حرم الله عز وجل الجمع بين الأختين، وهذا هو النكاح المحرم إلى أمد، فأخت الزوجة محرمة حتى تطلق هذه الزوجة السابقة وتنتهي عدتها، ولذلك الرجل يلزم بالعدة في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كانت معه أربع زوجات وطلق الرابعة، فلا يجوز له أن يتزوج حتى تنتهي عدة الرابعة، ويعتبر شريكاً لها في هذه العدة.
الحالة الثانية: إذا كان قد طلق زوجته وأراد أن يتزوج أختها أو عمتها أو خالتها؛ فإنه لا يجوز له أن يتزوج الثانية حتى تنتهي عدة الأولى، واختلف العلماء في الطلاق البائن، أما الطلاق الرجعي فاتفق علماء المسلمين على أن من تزوج زوجة خامسة قبل أن تنتهي عدة الرابعة والطلاق رجعي بأن هذا قد أقدم على عمل محرم، وأن هذا يشبه الزنا، وكذلك الجمع بين الأختين حتى تنتهي عدة السابقة، فإذا انتهت عدة السابقة فله أن يتزوج أختها.
وعلى هذا فإنه لا يجوز الجمع بين الأختين، سواء كان بنسب أو برضاع، على رأي طائفة من العلماء، ولذلك يقول الله تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا)، أي: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين.
(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)، أي: لكن ما قد سلف في الزمان السابق في الجاهلية فأنتم مسامحون فيه، (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: ذلك داخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا عدلي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)، فمسألة الجماع والشهوة وهذه الأمور الخاصة بالنساء التي لا يطيقها الرجل فلا يؤاخذ فيها، ولكن عليه ألا يهجرها هجراً كاملاً، أما بالنسبة للمبيت والنفقة وما أشبه ذلك من الأمور والعشرة فيجب عليه أن يعدل بينهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له زوجتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل) ، أما بالنسبة لمحبة القلب والجماع وما أشبه ذلك من الأمور التي يغلب عليها الإنسان، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
الجواب: نعم، يلزمك؛ لأن الوفاء بشروط الزواج أعظم أنواع الوفاء، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم به الفروج)، فما دمت قد التزمت لها بهذا المبلغ، وأنت الذي طلقتها بإرادتك لا بإرادتها هي؛ فعليك أن تعطيها كل حقوقها، وتزيد نفقة العدة على العشرة الآلاف، والتمتيع أمر مطلوب ومحبوب.
الجواب: الحقيقة أن الزواج عبادة لله عز وجل، وعمارة للكون، وعفة للمجتمع، فهو غاية، أما التعليم فإنه وسيلة، والغاية تقدم على الوسيلة، وليس معنى ذلك أن نهون من شأن التعليم، ولكن التعليم الذي لا يقف عند حد ولا مرحلة، بل ويضيع فترة الزواج، ويضيع على الفتاة أغلى فترات عمرها، هذا أمر نعتبره جناية على المرأة، وعلى هذا فإننا نقول لذلك الأب: أخطأت يا أخي! فيمكن أن تزوجها ويمكنها ذلك الزوج من مواصلة الدراسة، لاسيما إذا كانت هذه الدراسة تتعدى حدود الحاجة، فإذا كانت هذه البنت لا تريد أن تتزوج حتى تحصل على آخر مرحلة من مراحل التعليم فربما تذهب زهرة شبابها، وأنتم تدركون أن المرأة فترتها للولادة وللتمتع محدودة أقل من الرجل، ولربما أنها تطمع في العمل والوظيفة حينما تكمل هذه الدراسة.
ولذلك فإني أقول: بادر يا أخي! بتزويج ابنتك، وخصوصاً إذا كانت لها الرغبة هي في ذلك، وإذا كان عندها من الطموح ما يرغبها في مواصلة الدراسة فإن عليها أن تتفاهم مع ذلك الزوج حتى تكمل الدراسة، أما أن تعطل النساء داخل البيوت حتى تكمل أعلى مرحلة في التعليم، ثم يتلو ذلك أن تعمل مدة من الزمن؛ فإن هذا يعتبر في الحقيقة جناية على المرأة، وجناية على المجتمع.
الجواب: أما بالنسبة لعدم تحجب هذه العائلة فليست عائلة محافظة، خصوصاً في بلادنا هنا -والحمد لله- أن أي امرأة لا تتحجب لا نعتبرها من عائلة محافظة، وربما يكون ذلك في بعض البلاد الأخرى، فقد تكون محافظة وتكشف الوجه والكفين أخذاً برأي له احترامه، لكنه لا يجوز في حال الفتنة، والفتنة ملازمة للمرأة.
أما أن يصل الأمر إلى أن يمزح معها وينفرد بها، فإن هذا من الأمور المحرمة؛ لأنها ليست زوجة له، وبعد العقد يكون ذلك، أما قبل العقد فإنه لا يكون ذلك، و(ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).
ولكني أنصح ذلك الأخ الخاطب الذي وصل الأمر بالنسبة له إلى أن يطلب منه إلى أن يخلو معها أو يمزح معها أو تمزح معه، أن ينصرف عن هذه المرأة؛ لأنها امرأة عندها شيء من الانحراف.
الجواب: نعم، إن كانت زوجة أبيك فإنها تعتبر من محارمك، ولو طلقها أبوك ولو مات عنها، فتبقى هذه المحرمية مدى الحياة؛ لأنها محرمة عليك، والمحرمية مربوطة بتحريم الزواج، فكلما كان الزواج محرماً بين رجل وامرأة فإن المحرمية تعتبر باقية، فهي من محارمك وصلتها طيبة؛ لأنها من صلة أبيك.
الجواب: يا أخي! هذا لا يقع، لكن لو حدث هذا بدون إرادة، إذا كانت هي عالمة فإنها زانية، أما بالنسبة له إذا كان غير عالم فإنه يعتبر وطئاً بشبهة، لكن هذا لا يقع أبداً إلا في أمور مدبرة مسبقاً؛ لأن الجماع له مقدمات، والإنسان يستقبل زوجته ويراها وينظر إليها وتنظر إليه، فلا يبدأ الأمر هكذا مباشرة.
الجواب: هذا الذنب عظيم، زنا وقتل نفس! لكن لعل قتل النفس التي لم تتجاوز شهرين أمره أسهل، فأعتقد أن مثل هذا لا يوجب الكفارة؛ لأن الطفل في حدود شهرين لم يكمل فيه خلق الإنسان، ولم تنفخ فيه الروح، أما الذنب فإنه عظيم جداً، وعليك أن تصدق في هذه التوبة، وأن تكثر من الأعمال الصالحة، عسى الله أن يتجاوز عنك، كما أن على المرأة أن تفعل شيئاً من ذلك هي أيضاً.
الجواب: أما إذا لم توجد طبيبة فإنه يجوز لمثل هذه المرأة أن تكشف للطبيب، خصوصاً أن مرض القلب لا يصل إلى حد العورة المغلظة، وإنما يصل إلى كشف شيء من الجسد، لكني أرجو من المسئولين في هذه الدولة في وزارة الصحة أن يتقوا الله عز وجل، فإن كل الناس يتذمرون من إدخال نسائهم على الرجال، وأعظم من هذا في أمراض النساء الداخلية، وفي حالات الولادة، وصدقوني يا إخوتي! أن أكثر مستشفيات الولادة يتولى التوليد فيهن رجال، ونحن في بلد والحمد لله عندنا من الخير والنعمة والرخاء ما نستطيع أن نجذب فيه كل طبيبات العالم، علماً أن الطبيبات في العالم يساوين الأطباء أو يزدن.
وعلى هذا فإني أقول لوزير الصحة ولكل مسئول في وزارة الصحة: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى قد ائتمنكم على عورات هؤلاء النساء، وإن أكثر الذين يولدون أو يعالجون أمراض النساء والولادة من الرجال، وهذه مسئولية عظيمة يتقلدها كل مسئول في الدولة يستطيع أن يغير هذا الوضع.
أما أنت يا أختي السائلة! فيجوز لك في مثل هذا الحالة أن تقنعي الزوج، وعليه أن يقتنع ما دامت ليست هناك أخصائية، والمسألة وصلت إلى حد الضرورة، وليس هناك كشف للعورة المغلظة، وإنما هو فقط للصدر وما حوله، ففي مثل هذه الظروف يتسامح في هذا الأمر عند الضرورة، ويتحمل المسئولية بين يدي الله عز وجل وزير الصحة وكل مسئول في هذه الدولة يستطيع أن يغير هذا الوضع.
الجواب: بنات الخالة والخال وبنات العمة والعم لسن من المحارم، وعلى هذا فلا تجوز مصافحتهن، ولا يجوز أن يكشفن الوجوه ما دام لم يكن هناك رضاع ولا نسب يبيح كشف الوجه، فليست هناك محرمية، وأعظم من ذلك إذا كانت هناك خلوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ فقال: الحمو الموت) .
فعلى هذا أقول: لا يجوز لك يا أخي! أن تصافحهن، ولا أن تنظر إلى وجوههن، وتحرم عليك الخلوة بهن تحريماً مغلظاً.
الجواب: بالنسبة للحديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم)، أي: أن فطرة البشر أنهم معرضون للذنب، وليس معنى ذلك: أن الذنب قربة لله عز وجل، وإنما هذه فطرة بشرية؛ لأن الله تعالى جرت سنته في هذه الحياة أن يكون هناك مذنبون، وأن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، والحكمة تتعطل لو أن الناس كلهم يعيشون حياة ملائكية، ولذلك فتح الله تعالى باب التوبة.
أما الآيات والأحاديث في عقوبات المذنبين، وفي تحريم الذنوب؛ فهي باقية على طبيعتها ولا إشكال فيها، إنما سنة الله أن يبقى في هذا العالم من يذنب ويعصي ويطيع. والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر