أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، نحمده جل وعلا حمداً على كل حال وفي كل آن، فله الحمد في الأولى والآخرة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه رحمة للعالمين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
[النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! هذه أنسام الإيمان ونفحات الرحمن تأتيكم في هذه الأيام المباركة ونحن نستقبل فريضة الحج العظيمة الركن الخامس من أركان الإسلام، ووقفتنا مع إيجاز القول في: حكم وأحكام الحج؛ عل ذلك أن يكون مبصراً ومذكراً ومعلماً لنا ومعيناً على أداء فرضنا.
أولاً: النية الخالصة:
فجرد نيتك لله عز وجل، وخلص قصدك لمرضاته سبحانه وتعالى، ونق قلبك من شوائب الإرادات الأخرى والنوايا التي لا تكون خالصة لله عز وجل؛ فإنه سبحانه وتعالى يحب من الأعمال ما كان خالصاً، وكما ورد في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، فجرد نيتك وخلصها لله سبحانه وتعالى.
عليك أن توصي أهلك وذوي قرابتك ومن تخلفهم وراءك في بيتك ومع أهلك بالطاعة وتقوى الله سبحانه وتعالى، والإقلاع عن المعاصي.
وأن توصي أيضاً بما يلزمك من إثبات الديون والتعريف بالحقوق ونحو ذلك مما يحسن بالمرء المسلم أن يكون موصياً به في كل وقت، ولاسيما عند السفر أو عند الذهاب إلى مكان بعيد، أو نحو ذلك مما يعرض للناس، فإن الوصية قد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها وأوصى بسرعة كتابتها.
وهذه الوصية التي توصي بها أهلك مهمة جداً، فإنه من غير المنسجم مع التكامل المطلوب أن تكون ملبياً في عرفات، ورامياً للجمار لحرب الشيطان في منى، وأن تكون مضحياً لله سبحانه وتعالى في المشاعر المقدسة، وأنت تخلف في بيتك منكرات ومحرمات، ربما يلحقك بعض إثمها وشيء من وزرها؛ لأنها تقع في أهلك، وأنت الولي عليهم، والمكلف بهم والمسئول عنهم، فإن المسلم ينبغي أن يكون عمله منسجماً متكاملاً، فطاعة هنا ينبغي أن تقابلها طاعة هناك، وينبغي أن يحرص على كل الأمور المعينة على قبول الحج وتمامه، ومن ذلك أن يغير ويمنع كل المنكرات التي باستطاعته أن يمنعها، ومن آكد ذلك ما هو في بيته وفي أهله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته).
وأولى الأولويات في هذا أن يحرص على أن تكون النفقة في أعمال الفرائض وفي أعمال البر والإحسان من الكسب الحلال الخالص الطيب، حتى يكون ذلك مؤذناً بالقبول وألا يرد، كما ورد في الحديث الذي رواه الطبراني -وإن كان فيه ضعف- بأن الذي يحرم ويلبي وقد أخذ نفقته من كسب حرام يرد عليه: (لا لبيك ولا سعديك، نفقتك حرام، ومركبك حرام)، أو كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فإنها معينة على معرفة الأحكام، ومعينة على استحضار المعاني الإيمانية التربوية في هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، فإن المرء ينبغي أن يحرص على كل ما ينفعه في هذه الحياة الدنيا، وأن يحرص بشكل أكبر على ما ينفعه في أمور دينه في أثناء حياته الدنيا، وأن يحرص أكثر وأكثر على ما يصح به أداء فرضه والقيام بالواجب الذي لا محيد عنه.
فينبغي أن يستعين بعد الله عز وجل بالرفقة الصالحة التي تعينه وتذكره إذا نسي، وتكون معه إذا ذكر، فتحيي معاني الإيمان في قلبه، وتشحذ عزمه وتقوي همته، وتذكره بالآخرة، وتعرفه حقيقة الدنيا، وينبغي ألا يصحب أهل اللهو والغفلة، فيكون في مواضع الذكرى وإذا بهم يسرحون به في أودية الدنيا، يكون في مواضع التذكر للآخرة وإذا به يغوص في أوحال الشهوات وفي الذكريات مع المحرمات، وغير ذلك من لغو الكلام وباطله مما ينبغي أن يتنزه عنه المسلم في كل حال وآن، وفي مثل هذه الأحوال والأوقات بشكل آكد، فهذه أمور ينبغي تذكرها.
منها: الاغتسال لهذا الإحرام، وكذا يسن الاغتسال للمرأة وإن كانت حائضاً أو نفساء كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عائشة رضي الله عنها، وكما أمر أسماء بنت عميس وقد ولدت أو نفست، فهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
السنة الثانية: التنظف بإزالة الشعر: بنتف شعر الإبط، وحلق شعر العانة، وتقليم الأظافر، ونحو ذلك من سنن الفطرة الواردة في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي سنة عنه عليه الصلاة والسلام.
السنة الثالثة: التطيب قبل الإحرام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل إحرامه، ولحله قبل طوافه عليه الصلاة والسلام)، فإن التطيب قبل عقد النية سنة من السنن، وإن بقي أثر الطيب بعد ذلك فلا شيء فيه، فإن التطيب متى وقع قبل الإحرام فهو سنة لا حرج منه.
والأمر الرابع وهو من الواجبات: التجرد من المخيط بالنسبة للرجال، والسنة أن يلبس إزاراً ورداءً أبيضين نظيفين، فإن هذا سنة، وإن لم يجد الرداء الأبيض فيلبس ما شاء على ألا يكون مخيطاً يفصل على العضو من أعضاء الإنسان، والمرأة لا تدخل في هذا الحكم، بل تلبس المخيط ولا شيء عليها في لبس المخيط، ثم ينبغي لها أن تتنبه لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، أي في حال إحرامها لحجها أو عمرتها، والقفازات هي التي تفصل لتلبس في الأيادي، والنقاب هو ما يكون مفصلاً ليكون غطاءً للوجه، وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنا إذا مر بنا الرجال أسدلنا الخمار على وجوهنا) أي: أنها لا تنتقب ولكن إن اختلطت بالرجال غطت وجهها، ولا شيء عليها وإن مس هذا الخمار وجهها.
ثم في أمور الإحرام: النية والإعلان بها سنة في هذا المقام، أن يعلن نيته ويحدد نسكه إن كان متمتعاً أو كان قارناً أو كان مفرداً، وإن كان ذا مرض أو ذا حاجة أو نحو ذلك اشترط في نيته وقال: (فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني)، ثم بعد ذلك يشرع في التلبية من وقت إحرامه.
وهذه جملة من السنن وفي بعضها واجبات.
وفيما يتعلق بالإحرام الذي ينبغي أن يكون بالنسبة للقادم بنية النسك حجاً أو عمرة، فينبغي أن يكون عند المواقيت المعروفة، ولا يجوز تجاوز هذه المواقيت من غير إحرام؛ فإن تجاوزها رجع إليها، أو إن أحرم بعدها لزمه في ذلك دم ليجبر ترك إحرامه في ميقاته.
ثم يذكره بحقيقة الدنيا وبحقيقة ما ينتهي إليه عندما يموت وينتقل إلى الحياة البرزخية، فإنه لا يخرج من هذه الدنيا إلا بكفن يقارب ويشابه ذلك الإزار أو الرداء الذي يلبسه، فليتذكر المؤمن هذه المعاني العظيمة التي تعرفه بحقيقة الدنيا، وتربطه بالآخرة، وتبين له كيف ينبغي أن يكون فيما يطلبه الله عز وجل منه من أمور يتجرد عنها، ومن تضحيات يقدمها، ومن سبل يبذلها لنيل رضوان الله سبحانه وتعالى، وتحقق أدلة عبوديته.
أولاً: قص أو حلق الشعر أو إزالته بأي صورة من الصور: إذا أحرم المحرم وأعلن نيته؛ فإن هذا من محظورات الإحرام.
والثاني: هو تقليم الأظافر أيضاً.
والثالث: لبس المخيط بالنسبة للرجال، والنقاب والقفازين بالنسبة للنساء.
وكذلك تغطية الرأس بملاصق يلاصق الرأس، والتطيب بعد الإحرام، وقتل الصيد، وعقد النكاح، فإن عقد النكاح للمحرم باطل، والمباشرة فيما دون الفرج، والأخير هو النكاح والجماع الذي يفسد ويبطل به الحج، فهذه محظورات الإحرام.
فإن قص الشعر أو قلم الأظافر أو تطيب أو قص الرأس أو ما يلحق بهذه، فإن عليه فدية صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه لما آذاه هوام رأسه فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لعله آذاك هوام راسك؟ قال: نعم، قال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك -أي اذبح- شاة لله عز وجل).
وأما ما يتعلق بعقد النكاح أو الخطبة فإنها من محظورات الإحرام لكن لا فدية فيها، وإنما يلحق المحرم فيها الإثم، وأما المباشرة فيما دون الفرج فإنه إن أنزل وجب عليه ذبح بدنة، وإن كان دون ذلك كان عليه ذبح شاة أو بدنة أيهما وقع منه؟ وأما الجماع فإنه يبطل الحج، ويوجب عليه بدنة ويوجب عليه أن يحج مرة أخرى بدلاً من هذا الحج الذي فسد.
ثم ينبغي أن يتذكر المسلم أن هذه الأمور من المحظورات تذكره بدقة الاستجابة لله عز وجل، فإن الناس في هذه الأوقات يكثر منهم السؤال عن تغطية الرأس، أو عن الطيب الذي قد يكون موجوداً في بعض المساحيق أو نحو ذلك، ويحرصون على التوقي والتجنب لكل ما قد يجرح إحرامهم أو يقدح في حجهم، وهم على ذلك حريصون، وعنه سائلون وبه مهتمون معتنون.
لماذا؟ لو سألت أحدهم: وما في تغطية الرأس وأي شيء يضر فيها؟ لكنه يقول: إني ألتزم أمر الله، إني أحب وأحرص على ألا أخالف شيئاً من هذه الأمور، وهذا الأمر فيه تعويد وتربية على أن المؤمن ينبغي أن يستجيب لله عز وجل في دقيق الأمور وجليلها، وصغيرها وكبيرها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ
[الأنفال:24]، وهكذا يتعلم المسلم هذا المعنى في كل منسك من المناسك، وفي كل خطوة من الخطوات.
فهذا الإحرام يقع في الغالب لمن أراد اتباع السنة في يوم الثامن من شهر ذي الحجة وهو يوم التروية، فيمضي فيه الحجاج إلى منى ليس لهم في ذلك اليوم من عمل إلا المقام بمنى وهو مقام سنة لا واجب ولا فرض، ويصلون فيها الفروض الخمسة قصراً من غير جمع، ويكثرون من الذكر والدعاء والاستغفار والتوبة، وشغل الأوقات بالنافع من الأعمال الصالحات، والتفقه في الأحكام المتعلقة ببقية المناسك في الأيام التي بعده.
وبعد هذا الوقت ينشغل العبد المؤمن في هذا اليوم العظيم الذي تجتمع فيه الحشود وتختلط فيه الأصوات وتتخالف فيه اللغات، ويكون كل المسلمين فيه على زي واحد في صعيد واحد، يبتغون مبتغىً واحداً وهو رضوان الله عز وجل ومغفرة الذنوب، فينبغي أن يشتغل بالذكر والدعاء، وأن يلح في الدعاء والتضرع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له).
يوم عرفة الذي يغفر الله عز وجل فيه ذنوب العباد.
يوم عرفة الذي يباهي الله عز وجل فيه بهؤلاء العباد ملائكة الرحمن سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يدحر فيه الشيطان ويخزى لما يرى من تذلل العباد وتضرعهم لخالقهم ومولاهم سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يذكر بيوم المحشر ويوم القيامة وانتظار الناس للفصل في يوم القضاء الأعظم بين يدي الجبار سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يتذكر فيه الناس أنه لا مبتغى ولا غاية ولا شيء يشد القلوب، ولا يصرف الألباب، ولا يعلق الأبصار ولا ينطق الألسن إلا هو سبحانه وتعالى.
يوم عرفة يوم يغتسل فيه العبد من ذنوبه وآثامه بإذن الله، ويغسل بدمعه كل ما سلف، بندم صادق لله، ويغسل عن قلبه كل الآثام والشهوات والشبهات بإخلاص العبودية لله، يوم تغتسل فيه الأمة من كل أسباب الفرقة التي فرقتها من وطنيات وقوميات ولغات وحدود فتجتمع على صعيد واحد لتقول: نحن أمة الإسلام، نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن أمة التوحيد، نحن أمة الآخرة التي تجعل الدنيا معبراً إليها وحرثاً وزرعاً لها، نحن أمة التضرع والعبودية والذلة لله، نحن أمة القوة المستمدة من الصلة بالله سبحانه وتعالى.
يوم عرفة يوم عظيم من أيام الله عز وجل ينبغي أن تشتاق له القلوب، وأن تذرف له الدموع، وأن ترفع فيه الأكف، وأن تسجد فيه الجباه، وأن تتعلق القلوب والنفوس بالله سبحانه وتعالى.
يوم عرفة ليس يوماً للأكل والشرب، ليس يوماً للحديث والكلام، بل هو يوم من أيام الله عز وجل ينبغي أن يخرج فيه الإنسان عن كل شيء يصرفه عن تعلقه بالله وتذكره وطلبه وابتغاء مرضاته، وخوفه وخشيته من عقاب الله، وتذكره يوم المحشر العظيم بين يدي الله.
يوم عرفة يوم عظيم نسأل الله عز وجل أن يبلغنا إياه، وأن يغفر لنا فيه الذنوب والآثام، ومن لم يشهد يوم عرفة فإن الله جعل له من ذلك بعض عوض وشيء من عزاء، فإن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب عامين: عاماً قبله وعاماً بعده، فأي فضل عظيم مثل فضل هذا اليوم؟
نسأل الله عز وجل أن يسهل أمر الحجاج، وأن يتقبل منا ومنهم، وأن يتقبل من كل مسلم يبتغي رضوان الله عز وجل.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن موسم الحج هو الموسم الأعظم لزاد التقوى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ
[البقرة:197].
ما زلنا في هذا الموقف العظيم في يوم عرفة، فإذا غربت شمس ذلك اليوم دفع الناس إلى مزدلفة، ويجب أن يبيتوا فيها إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر سن للحاج أن يكون إلى جوار المشعر الحرام، وأن يتوجه إلى القبلة بالذكر والدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى.
وأما النساء والضعفة وذوي الحاجات فقد رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا من منى بعد منتصف الليل إذا احتاجوا إلى ذلك، وأما السنة فهي أن يصلي الفجر بمزدلفة، وأن يدعو ويذكر الله حتى يسفر الصبح جداً، أي: حتى يظهر بياض وضوء الصبح جداً.
فيرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم بعد ذلك يعود فينحر هديه إن كان متمتعاً أو قارناً، أو كان مفرداً وأراد التطوع، ويسن له أن يأكل من هديه ولو قليلاً، لقول الله عز وجل: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
[الحج:28].
ولا يجوز الأكل مما يذبح فدية لجبر واجب أو لجبر محظور من محظورات الإحرام، فإن الفدية ينبغي أن تكون كلها لفقراء الحرم.
ثم يحلق رأسه أو يقصره.
فإذا فعل ذلك، أي: إذا رمى جمرة العقبة، وحلق أو قصر، وذبح هديه، وطاف طواف الإفاضة فإنه يكون قد تحلل تحللاً كاملاً، أما إذا فعل ثلاثة من هذه الأمور أو اثنين لمن لم يكن عليه هدي أو ذبح فإنه يكون تحلل التحلل الأول الذي يبيح له كل شيء من لبس المخيط والتطيب ونحو ذلك، ويبقى محظوراً عليه معاشرة النساء.
وهذا ينبغي أن يتنبه له الناس؛ لأنهم قد يؤخرون بعض الأركان عن يوم النحر، وهذا لا شيء فيه، فإن الأيام الثلاثة كلها موضع للطواف وللسعي ولا شيء في ذلك بإذن الله عز وجل.
وهذه الأعمال ترتيبها: أن يرمي جمرة العقبة، ثم يذبح هديه، ثم يحلق أو يقصر ثم يطوف، وإن قدم شيئاً وأخر شيئاً فلا شيء عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما سئل عن شيء قدم أو أخر في يوم العيد أو يوم النحر إلا قال: (افعل ولا حرج).
وقد رخص بعض أهل العلم عند الزحام الشديد أن يرمي قبل الزوال إذا احتاج إلى ذلك، والسنة الثابتة أن يرمي بعد الزوال؛ فإن أراد التأخر إلى اليوم الثالث فهو أفضل لتعظيم الأجر وزيادة الثواب إن شاء الله عز وجل؛ لأن الله قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى
[البقرة:203]، فإنه يجوز له أن يعجل ويجوز له أن يتأخر، فإذا تأخر ينبغي أن يرمي الجمار الثلاث في اليوم الثالث كذلك، وبذلك يتم حجه بإذن الله عز وجل، ويكون أدى الأركان الأربعة وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وسعي الحج، ويكون قد أدى أيضاً الواجبات من المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ورمي الجمار، وهذه كلها ينبغي ألا يترخص فيها وألا يفعلها على جهل، فإن بعض الناس يرمي مرة واحدة للأيام الثلاثة في مكان واحد، أو يرمي بطريقة مختلفة حيث يبدأ بالكبرى قبل الصغرى وهكذا، فإن هذا كله قد يفسد عليه أداء واجب من واجبات الحج.
وينبغي أيضاً أن يتنبه الحاج إلى المعاني الإيمانية والتربوية في هذه المناسك الكثيرة، فإن الذبح والأضحية قد مضى معنا في الجمعة الماضية وفي قصة إبراهيم خلال أسابيع سلفت ما فيها من المعاني التي يتذكرها المؤمن، من أنه ينبغي أن يتذكر استسلامه لله عز وجل، وأن أمره كله موكول إلى أمر الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
[الأحزاب:36]، وأن يتذكر أنه ينبغي أن يعود نفسه أن يضحي وأن يبذل كل شيء ما دام في سبيل الله عز وجل.
ورجم الشيطان أو رجم الجمار تذكير واستعانة بالله على حرب الشيطان، متحقق من عداوته إياه، وعارف بترصده له في طريقه إلى طاعة مولاه، فينبغي أن نحقق هذه المعاني كلها، وأن نتذكر وحدة المسلمين.
أولاً: الحرص الشديد على استغلال الأوقات في الطاعات بالذكر والاستغفار أو الصدقة، أو إعانة الحجاج أو خدمتهم.. أو نحو ذلك، وينبغي ألا تكون الأيام أيام كلام ولغو باطل، أو أيام نوم وكسل؛ فإنها أيام مباركة وأيام موسم طاعة ومغفرة، فينبغي أن يغتنمها العبد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ثانياً: ترك المنكرات، فإن المنكرات في مثل هذه الأماكن وفي مثل هذه الأزمنة وفي مثل هذه الشعائر تكون أقبح ما يكون من العبد المؤمن، فكم ترى قبح الشتم واللعن الذي تراه من بعض الحجاج أو من بعض الموجودين في المناسك، وكم يكون قبح الآثام التي يرتكبها بعض الناس ولو عدوها من المكروهات، كالدخان أو الشيشة أو بعض ما يفعلونه ويرونه ويسمعونه ويمارسونه من أمور فيها نوع من المخالفة لأمر الله عز وجل.
ثالثاً: ينبغي أن يتذكر الجميع الحرص على أداء الفريضة على وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً، ويأخذ الأهم فالأهم، فإن العزائم مطلوبة بإذن الله عز وجل والرخصة إنما هي للعذر؛ لأن بعض الناس يحب أن يأخذ الرخص، أو أن يجمع الرخص من كل المذاهب، ومن ترخص -أي: جمع رخص كل مذهب- فقد تزندق، كما قال بعض أهل العلم.
ينبغي أن يكون في أمر عبادته جاداً آخذاً بالعزائم، فهذه عبادة وطاعة لله، فهذا أمر يطلع عليك فيه الله، وهذا أمر تقدمه لله، فهل إذا أردت أن تقدم لرئيسك في العمل أو لوالدك، أو لنحو ذلك، هل تقدم له مختصراً لما تقدم أو مجتزئاً له أو مسرعاً فيه؟! إنك تحرص على الإتقان والإكمال، فأولى بنا أن نكمل أعمالنا التي نتقدم بها؛ لنيل رضوان الله عز وجل، ولإثبات عبوديتنا لله سبحانه وتعالى.
والأمر الأخير: ينبغي أن يتواصى المسلمون بالتراحم فيما بينهم وترك التزاحم، فينبغي أن يكون المؤمن رءوفاً بإخوانه المسلمين، حريصاً على مصلحتهم، مقدماً لهم الخير، فإن الحج صورة تبرز الأمة الإسلامية بكل محاسنها ومساوئ أهلها عندما لا يكونون متبعين لأمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، فإذا رأينا اختلافاً وتنازعاً وشحناء وبغضاء وتفرقاً، فإن هذه هي أدواء الأمة التي تظهر في صفوة من أبنائها عندما يجتمعون في مكان واحد، فينبغي لنا أن نحرص على إبداء روح الأخوة والتآلف، وأن نحرص بالذات على أهل الإسلام من الديار النائية البعيدة، أن نشعرهم بأننا وإياهم أمة واحدة، وأن نرى المسلم القادم من الصين أو من أدغال أفريقيا أو من أقاصي الشرق أو الغرب، فنسلم عليه ونعتنقه ونذكر له ما يعرف من كلمات الإسلام ليذكر وليشعر بهذه الوحدة، فإن موقف الحج موقف عظيم.
نسأل الله عز وجل أن يسهل أمور الحجاج والمعتمرين، وأن يؤمنهم، وأن يجعل حجهم سهلاً ميسوراً، وأن يجعله متقبلاً مبروراً.
ونسأل الله عز وجل أن يعين القائمين على خدمة ضيوف الرحمن، وأن يجزيهم خير الجزاء، وأن يوفق كل عامل لخدمة الإسلام والمسلمين أوفى وأجزل الجزاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يصرف كل أسباب العناء والشقاء أو أسباب الفتنة والخلاف عن أمة الإسلام وعن حجاج بيت الله الحرام.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً خالصاً، ولساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وطرفاً دامعاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا واشرح صدورنا، ونور قلوبنا، وثبت على الحق أقدامنا، واختم بالصالحات أعمالنا، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أنزل رحمتك ولطفك بعبادك المضطهدين والمعذبين في سائر البقاع يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاتنا لهداك واجعل عملهم في رضاك، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
[الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.