كتاب لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى من أفضل الكتب المختصرة في باب العقيدة، وقد بين فيه مؤلفه رحمه الله تعالى مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، والإيمان، والقرآن، والقدر، والإمامة، والصحابة وغيرها، بطريقة مختصرة ميسرة، مستشهداً على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف.
-
ترجمة ابن قدامة صاحب (لمعة الاعتقاد)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فسنبدأ -إن شاء الله تعالى- شرح رسالة من رسائل السلف رحمهم الله تعالى في العقيدة ألا وهي رسالة: (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) للإمام
موفق الدين بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى.
مؤلف هذه الرسالة هو الإمام الفقيه
أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي الصالحي ، وهذا الإمام اشتهر لدى العلماء بأنه صاحب (المغني)؛ لأن كتابه (المغني) في الفقه يعتبر أوسع موسوعة في مذاهب العلماء وأقاويلهم في مسائل الشريعة الإسلامية؛ فإنه جمع رحمه الله تعالى في هذا الكتاب العظيم الفريد في بابه بين ذكره لأقاويل الصحابة وأقاويل كبار التابعين وتابعيهم، ثم أيضاً ذكره لأقوال الأئمة الأربعة:
الشافعي و
أبي حنيفة و
مالك و
أحمد ، بل وكبار أصحابهم رحمهم الله تعالى، وأيضاً استقصى رحمه الله تعالى الروايات داخل مذهب الإمام
أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
ثم إنه أيضاً اعتمد على ذكر الأدلة والتعليلات التي ذكرها الفقهاء، ثم لم يترك أيضاً الخلاف هكذا، وإنما أخذ رحمه الله تعالى يرجح ما يراه راجحاً، فصار كتابه الذي طبع في مجلدات عديدة موسوعة من أهم موسوعات الفقه الإسلامي، ومرجعاً من أهم المراجع لدى العلماء من بعده وإلى عصرنا الحاضر، ومن ثّم اشتهر رحمه الله تعالى بأنه صاحب (المغني)، فكأن شهرة كتابه (المغني) غطت على اسمه رحمه الله تعالى، فإذا قيل: صاحب (المغني) انتقل هذا التعريف إلى هذا الإمام الجليل الذي سبق أن ذكرنا نسبه باختصار.
هذا الإمام الجليل ولد سنة (541هـ) بفلسطين، ببلدة تسمى جماعيل قرب نابلس، وتوفي رحمه الله تعالى سنة (620هـ).
وأقول: إن هذا العالم الجليل تميز فوق تميزه العلمي بمثل كتابه (المغني) بمختصراته الأخرى في الفقه، ككتابه (المقنع) الذي يعتبر للمتوسطين، و(الكافي) وهو فوق ذلك، وأيضاً مثل كتابه (العمدة) للمبتدئين، إضافة إلى كتابه (روضة الناظر في أصول الفقه) وهو كتاب مشهور، وغير ذلك من رسائله وكتبه، ومنها هذا الكتاب الذي سنبدأ دراسته في هذه الدروس المتوالية إن شاء الله تعالى.
وأقول: إن هذا العالم الجليل فوق كونه عالماً بارعاً مصنفاً كان أيضاً إماماً مجاهداً، فقد اشتهر رحمه الله تعالى بمشاركاته في الجهاد في سبيل الله مع
صلاح الدين الأيوبي هو وجماعته المقادسة من إخوانه وأبناء عمومته رحمهم الله تعالى، فإن هذه الأسرة كانت مع
صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى في جهاده، وشارك في المعارك التي دارت سنة (583هـ) لقتال الصليبيين وتحرير بيت المقدس منهم، وكان
ابن قدامة رحمه الله تعالى وأفراد أسرته ممن له دور كبير في جهاد الصليبيين.
إذاً: إمامنا هو إمام علم، وإمام عمل وجهاد، وهؤلاء هم سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى الذين كانت صفاتهم تميزهم بهذا التميز: علم مؤصل، ويعقبه عمل ودعوة وجهاد في سبيل الله.
هذا الكتاب الذي معنا سماه المؤلف رحمه الله تعالى: (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد).
واللمعة هي: ما خالف بين بقية اللون، كأن يكون -مثلاً- اللون أسود وتكون فيه بقعة بيضاء، فتسمى هذه البقعة البيضاء لمعة.
ولذا اشتهرت هذه الكلمة بأن تطلق على لمعة الفرس التي تكون غالباً في الخيل ونحوها، وتكون هذه اللمعة لمعة بيضاء وبقية الجسم إما أدهم أو قريب من ذلك؛ المهم أنه اشتهر هذا اللفظ بقولهم: لمعة الفرس.
أو أن اللمعة بمعنى: البلغة من العيش، كما يقول أهل اللغة، وعلى هذا أو هذا فإن المصنف رحمه الله تعالى قصد بكلامه أو بكتابه هذا حين سماه بـ(لمعة الاعتقاد) أنه بلغة من الاعتقاد الصالح الصحيح، ومن ثَّم قال رحمه الله تعالى: (الهادي إلى سبيل الرشاد)، ولاشك أن الاعتقاد الصحيح المبني على الأدلة الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو هادٍ لمن سلكه وسار عليه إلى سبيل الرشاد.
وسبيل الرشاد هو في الدنيا بأن يكون من اعتصم بها ممن هدي ورشد واستقام في طريقه، وهو أيضاً سبيل إلى الرشاد في الآخرة حين يهدى من مات على هذا التوحيد الصحيح إلى جنات النعيم، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل الجنة، وممن وفق وهدي إلى سبيل الرشاد.
وعلى هذا فإن الشيخ رحمه الله تعالى لم يرد من رسالته هذه أن تكون كتاباً مفصلاً في الاعتقاد، وإنما أرادها لمعة تبين الطريق، أو أرادها بلغة للسالكين؛ بحيث إنه إذا قرأها الإنسان واستوعبها وفهمها استقام لديه معرفة العقيدة من جوانبها المتعددة، وهو رحمه الله تعالى ربط عقيدته بالأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بدأ المصنف رحمه الله تعالى رسالته هذه بما يبدأ به المصنفون من أئمة الإسلام رحمهم الله تعالى فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
والكلام على البسملة منتشر في كافة شروح الكتب من جميع الأنواع، في اللغة وفي النحو وفي كتب العقائد والفقه وغيرها، ولا يكاد من شرح كتاباً من هذه الكتب إلا وتكلم عن البسملة، وعن معناها وما دلت عليه من الأسماء لله سبحانه وتعالى: الله، الرحمن، الرحيم.
ونحن نشير إلى ذلك إشارة مجملة فنقول: قول المؤلف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) المعنى: أبتدئ كتابي مستعيناً بالله تبارك وتعالى، و(باسم): الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أكتب، وهذا بالنسبة لمن يؤلف كتاباً، كإمامنا هنا، وإذا كان القارئ يقرأ القرآن وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، تكون (باسم) جاراً ومجروراً متعلقاً بقوله: أقرأ، وإذا كان الإنسان يدخل بيته أو يدخل مكانه ويقول: باسم الله، فيكون معناها: أدخل هذا المكان باسم الله، أي مستعيناً بالله تبارك وتعالى.
و(الله) الصحيح فيه: أنه مشتق وليس بجامد؛ لأن العلماء رحمهم الله تعالى اختلفوا في لفظ الجلالة (الله)، فبعضهم قال: إنه علم جامد وغير مشتق، وبعضهم قال: إنه مشتق، ثم اختلفوا في الاشتقاق هل هو من أله يأله فهو مألوه، أو من أله يأله فهو آله؟
فذهب بعض المتكلمين: إلى أنه من أله يأله فهو آله، أي: أن الله يأله عباده، ومن ثمَّ فسروه بتوحيد الربوبية وهو الخلق، أي: أن الله يأله عباده؛ فهو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم.. إلى آخره، وبناءً على هذا التفسير وقع خطأ كبير عند كثير من المتكلمين حين فسروا كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) بأن معناها: لا خالق إلا الله؛ بناءً على هذا الفهم في الاشتقاق.
القول الثاني هو: أنها من أله يأله فهو مألوه، أي: معبود، أي: أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبودية، وهذا هو القول الصحيح، ومن ثَّم جاء تفسير كلمة الشهادة (لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى، وهذا هو توحيد العبادة، وهذا هو الصحيح في معنى (لا إله لا الله)، وهو الصحيح أيضاً في اشتقاق كلمة (الله).
و(الرحمن الرحيم) اسمان من أسماء الله تبارك وتعالى؛ الرحمن: اسم، وهو صيغة مبالغة خاص بالله سبحانه وتعالى لا يوصف به مخلوق.
والرحيم أيضاً: اسم من أسمائه تبارك وتعالى، لكن قد يوصف المخلوق بأنه رحيم.
ونحن نقول: إن اسمه تبارك وتعالى (الرحيم) دال على صفة الرحمة، وكذلك أيضاً اسم الله (الرحمن)، ونثبتهما لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته من غير مشابهة للمخلوقين؛ ولـ
ابن القيم رحمه الله تعالى في أول (مدارج السالكين) كلام قيم جداً حول البسملة، وحول أيضاً اسمه تعالى (الرحمن الرحيم)، فمن أراد فليرجع إليه؛ فإن فيه فوائد جمة.
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله المحمود بكل لسان].
(أل) في الحمد للاستغراق، والمقصود بقول القائل: الحمد لله: ذكر أوصاف المحمود، والاعتراف بها، والثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى هنا: (بكل لسان) يدل على أمر مهم، وهو أن الله سبحانه وتعالى فطر جميع الخلق على حمده سبحانه وتعالى والاعتراف له بالربوبية، ومن ثمَّ فقوله: (المحمود بكل لسان)، يشمل لسان الحال، ويشمل أيضاً لسان المقال؛ أما لسان الحال فإن الله سبحانه وتعالى يحمده جميع المخلوقات، وأما لسان المقال فإنه سبحانه وتعالى المحمود على جميع الألسنة، فمهما اختلفت اللغات فإن الله سبحانه وتعالى يحمده أهل تلك اللغة بما علموا من أوصافه سبحانه وتعالى بما هو أهله، وهذا من خصائص الربوبية والألوهية التي لا تكون لأحد.
ثم قال رحمه الله تعالى: [المعبود في كل زمان].
أي: أنه سبحانه وتعالى له العبودية، والعبودية قسمان:
القسم الأول منها: عبودية عامة شاملة لا يخرج عنها أحد، بل تشمل جميع الخلق، كما قال عز وجل:
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، وهو سبحانه وتعالى معبود -أي: العبودية التي هي مقتضى الربوبية- عند جميع الخلق؛ لأنه سبحانه وتعالى هو خالقهم، وهو ربهم تبارك وتعالى، لهذا فإن هذه العبودية العامة الشاملة لا يخرج عنها أحد من إنس ولا من جن، ولا مؤمن ولا كافر، ولا من البشر ولا من الملائكة، ولا من شمس ولا من أرض، ولا من بحر ولا من هواء، فالكل عبيد لله سبحانه وتعالى مسخرون له تبارك وتعالى مطيعون، وهذا مما دلت عليه النصوص الكثيرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق، وهو الذي يأمرهم، وهو الذي يقدر لهم ما يشاء، وهم خاضعون له؛ فحتى بني آدم الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى عقولاً هم أيضاً في نشأتهم في هذه الأرض وفي حياتهم فيها، بل وفي رزقهم وأجلهم وموتهم وألوانهم وأطوالهم وما يجري داخل أجسامهم من حركات القلب والدم والهضم.. إلى آخره؛ كل ذلك هو خاضع لله سبحانه وتعالى؛ فليس للإنسان إرادة في أن يختار كيفية معيشته، ولا كيفية نفسه، ولا كيفية ضخ الدم في عروقه.. إلى آخره.
إذاً: هذا في الإنسان العاقل المكلف، فكيف بغيره من المخلوقات؟! هذه هي العبودية الشاملة التي لا يخرج عنها أحد.
النوع الثاني من العبودية: العبودية الخاصة، وهذه العبودية الخاصة هي التي يتميز بها المؤمنون عن الكفار، فالمؤمنون هم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى مخلصين له على وفق شريعته التي أمر بها على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام.
فقول المؤلف رحمه الله تعالى: (المعبود في كل زمان) قد يدخل فيه العبودية العامة وقد يدخل فيه العبودية الخاصة بالمؤمنين.
وقوله: (في كل زمان) أيضاً وفي كل مكان، والمعنى: أنه لا يخلو زمان أو مكان من وجود من يعبد الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي علمناه من أخبار رسل الله الكرام، ومما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه: (
لا تزال طائفة من أمتي قائمة بالحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تباك وتعالى).
-
شمول علم الله سبحانه وتعالى
ثم قال: [ولا يشغله شأن عن شأن]
أي: لكمال صفاته، فالمخلوق لضعفه حتى لو كان عنده بعض الصفات لا يستطيع أن يشتغل بأكثر من أمر في وقت واحد، ويندر أن يجمع قواه العقلية لتكون في شغلين متكافئين، وإنما غاية ما يحصل عند الإنسان أن يشتغل بأمر يعمل فيها ذهنه، ثم يشتغل بيده أو برجله بشغلة أخرى لا تحتاج إلى إعمال الذهن، أما ماعدا ذلك فلا يستطيع.
أما الله سبحانه وتعالى فهو يسمع، وسمعه وسع السماوات والأرض؛ فيسمع في وقت واحد دعاء الداعين وأقوالهم على اختلاف الزمان والمكان، وهو سبحانه وتعالى كل يوم في شأن، ولا يشغله شأن عن شأن، فيغفر لهذا، ويتوب على هذا، ويستجيب لهذا، ويرزق هذا، ويحيي هذا، ويميت هذا، سبحانه وتعالى وتقدس؛ لأنه كامل الصفات، فلا يقاس بغيره، وهذا هو حقيقة فهم أئمة أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى لأسمائه وصفاته؛ حيث إنهم يفهمونها كما يليق بجلاله وعظمته، ومن ثمَّ فلا يحتاجون إلى تأويل.
أما أهل الكلام الباطل فإنهم أولاً يقعون في التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الله تبارك وتعالى ظنوا أنها كصفة فلان فيقعون في التشبيه، ثم يضطرون إلى التأويل والتعطيل؛ أما أهل السنة والجماعة فيثبتون لله الصفات كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يحتاجون إلى تأويل ولا إلى تحريف ولا إلى تعطيل.
-
تنزيه الله عز وجل عن الند والشبيه والصاحبة والولد
ثم قال رحمه الله تعالى: [جل عن الأشباه والأنداد].
أي: تقدس وتنزه.
وقوله: (عن الأشباه والأنداد)، الشبيه هو: المشابه ببعض الوجوه دون بعض، وهو سبحانه وتعالى جل أن يشبه شيئاً من خلقه لا في ذاته ولا في أي صفة من صفاته تبارك وتعالى، كما أنه أيضاً جل وتقدس عن الند والمثيل، سواء في الربوبية أو في الخالقية أو في أي صفة من صفاته سبحانه؛ فهو الرب المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال: [وتنزه عن الصاحبة والأولاد].
وهذا بنص القرآن؛ فقد دلت عليه الأدلة المعروفة، فلم يتخذ صاحبة ولا ولداً سبحانه وتعالى، فهو ليس له صاحبة ولا ولد، وفي ذلك نقض لما ادعاه المشركون حين قالوا: إن الملائكة بنات الله! أو النصارى حينما يقولون: إنما المسيح ابن الله! أو اليهود حينما يقولون: إن العزير ابن الله! فالابن يحتاج إلى صاحبة، والله سبحانه وتعالى تنزه عن الصاحبة والولد، وتعالى عما يقول هؤلاء جميعاً علواً كبيراً.
-
نفوذ حكم الله القدري في جميع الخلق
-
تحريم تمثيل الله عز وجل وتوهمه بالعقول والقلوب
-
تنزيه الله عز وجل عن التمثيل
-
إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى لله عز وجل
-
إحاطة الله عز وجل بكل شيء
ثم قال: [وقهر كل مخلوق عزة وحكماً].
أي: أنه سبحانه وتعالى قهر الجميع عزة وحكماً؛ لأنه سبحانه وتعالى هو العزيز في ملكه، الحكيم في أمره وشرعه، فهو سبحانه وتعالى قهر كل مخلوق، وهذا واضح جلي؛ فالكل داخل تحت مشيئته سبحانه وتعالى؛ وسبق أن بينا أن كل مخلوق سائر على ما يقدره الله سبحانه وتعالى.
ولنضرب أمثلة بمن قد يظن أنهم أوتوا قدرة: فلو أن رجلاً أوتي قوة عضلية أو أوتي قوة مال أو قوة سلطان أو قوة في قيادة الجيش.. أو نحو ذلك من القوى؛ فانظر إلى حال هذا الإنسان بذاته تجده بالنسبة لربه مقهوراً، يأتيه المرض فلا يستطيع أن يرده، ويأتيه الهرم فلا يستطيع أن يوقفه، ويأتيه الموت فيعجز هو ومن في الأرض جميعاً عن أن يؤخروا أجله لحظة! إضافة إلى أنه مقهور في وجوده في هذه الأرض بغير إرادة، وفي ولادته، وفي تحديد لونه وطوله، ونحو ذلك.
-
شمول رحمة الله عز وجل لكل شيء
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ووسع كل شيء رحمة وعلماً].
أي: أنه سبحانه وتعالى قهر عباده، ووسعهم برحمته؛ فكما أنه وسعهم علماً وسعهم رحمة؛ ورحمة الله سبحانه وتعالى امتدت ووسعت كل شيء؛ حتى البهائم والحشرات، وحتى الكفار؛ لأننا نشاهد أن الكفار يرحم بعضهم بعضاً، ويرحمون أولادهم، فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، كما أن علمه تبارك وتعالى وسع كل شيء.
-
إحاطة علم الله عز وجل بالخلق
-
وجوب إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات
ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى قاعدة من قواعد منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، فقال رحمه الله تعالى: [موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم].
أي: أنه تبارك وتعالى موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يصفون الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن يعطلوا الصفات أو يشبهوها أو يحرفوها أو يتأولوها تأويلاً يبعد بها عن معانيها اللائقة بها، مع قولهم واعتقادهم ويقينهم وإيمانهم أن كيفية هذه الصفات لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ أي: إثبات الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى كما وردت في الكتاب والسنة وكما يليق بجلال الله وعظمته، وهذه القاعدة هي التي سار عليها المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه هذا؛ وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر تفصيل ما ورد من أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته وبقية مسائل الاعتقاد.
-
وجوب الإيمان بكل ما جاء في القرآن والسنة من صفات الله عز وجل
ثم أوضحها رحمه الله تعالى ببيان أمر خطير ومهم تميز به أهل السنة والجماعة فقال: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل].
وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يقولون: إن كل ما جاء في القرآن العظيم فإننا نأخذ به.
وقد يقول قائل: وأيضاً أهل الكلام والمعطلة يأخذون بما في القرآن؟ فنقول: هناك فرق عظيم بين أن يؤخذ بما في القرآن مفسراً للقرآن بالقرآن ومفسراً للقرآن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومثبتاً لما ورد، وبين من يأخذ بالقرآن ثم يعمل فيه تحريفاً وتأويلاً.
فالذي قال -مثلاً- في قوله تعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]: إن (استوى) بمعنى: استولى، هو في الظاهر أخذ بالقرآن، لكنه في الحقيقة لم يثبت ما في القرآن على الوجه الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، فحرف اللفظ والنص عن المعنى اللغوي الدال عليه، وهذا هو التحريف والتأويل الباطل الذي منعه الأئمة رحمهم الله تعالى، لكن أهل السنة والجماعة يأخذون بما في القرآن، ويثبتونه على مقتضى ما عرف من لغة العرب التي نزل بها القرآن مضبوطة ومقيدة بالأدلة الأخرى من الكتاب ومن السنة ومن فهم الصحابة رضي الله عنهم جميعاً لهذه النصوص.
أما أن ينطلق إلى نصوص القرآن ثم يعمل فيها كل إنسان بما يشاء فهذا هو الذي فرق الفرق، فحين تأتي إلى المعتزلة.. أو الخوارج أو المرجئة أو الرافضة تجد أن كلاً منهم يحتج بآيات من القرآن، فهل معنى ذلك أن مذاهبهم صحيحة؛ لأنهم احتجوا بالقرآن؟ نقول: لا؛ لأن الاحتجاج بالقرآن لابد أن يكون على منهاج صحيح وعلى منهاج سليم، ولا يصح أن الواحد يأخذ من النصوص ما يريد ويدع منها ما لا يريد بناءً على أهوائه؛ فإن هذا هو منهاج أهل الأهواء؛ أما منهاج أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى فهو القائم على أسس صحيحة منضبطة في الاستدلال بنصوص الكتاب الكريم، وهكذا في كيفية الاستدلال والفهم.
ولذا قال: (وكل ما جاء في القرآن)، أي: من الأسماء والصفات، فنحن نثبته لله كما يليق بجلاله وعظمته، ونسلم به.
-
حجية خبر الواحد العدل والعمل به في العقائد والأحكام
ثم قال: (أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن)، أي: ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نأخذ به في باب الاعتقاد، ومن ذلك إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، وهذا هو بيت القصيد في منهاج أهل السنة والجماعة، وهو القضية الكبرى التي هي من القضايا والأصول الكبار التي ميزت أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الطوائف، ألا وهي: حجية خبر الآحاد في العقيدة.
وأقول بهذه المناسبة: إن القول بأن خبر الآحاد إذا صح وتلقي بالقبول يفيد العلم، ويحتج به في باب الاعتقاد، كما يحتج به في باب الأحكام، هو الأصل الذي عليه جماهير السلف رحمهم الله تعالى وجماهير الأئمة، وقد ألفت في هذا الموضوع رسائل مطبوعة، فللشيخ
الألباني رسالة، وللدكتور
عمر الأشقر رسالة، وللشيخ
سليم الهلالي أيضاً كتاب اسمه (الأدلة والشواهد بحجية خبر الواحد) وللشيخ
ابن جبرين حفظه الله تعالى رسالة في حجية خبر الواحد وإن كانت في أصول الفقه إلا أنه أيضاً تطرق لقضية الاحتجاج بها في أصول الاعتقاد؛ وأوسع من تكلم في ذلك على حد علمي هو
ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر (مختصر الصواعق)؛ فإن المائة صفحة الأخيرة من (مختصر الصواعق المرسلة) كلها في بيان هذه القضية، وقد تميز رحمه الله تعالى بأنه أصل القضية من أساسها تأصيلاً قوياً، وأرجعها إلى قضية شهادة أن محمداً رسول الله، وإلى قضية تبليغ الرسول لهذا الدين، وقضية أن هذا الدين كامل وباقٍِ، وإلى قضايا أخرى، وذكر عدداً من الأدلة الدالة على إفادته العلم وعلى حجيته في باب الاعتقاد وفي غيره.
وهذا الذي عليه جماهير الأئمة المتقدمين رحمهم الله تعالى هو الذي يجب أن نسوقه حينما نحكي الخلاف في هذه القضية؛ لأن الذي دعانا إلى بيان هذه المسألة المهمة هو ما اطلعت عليه في كتب أصول الفقه للأئمة المتأخرين، ومما يؤسف له: أن بعض من بحث هذه المسائل ممن كتب في أصول الفقه اعتمد على كتب الفقه التي ألفها أولئك الأئمة! فهؤلاء حكوا الخلاف بحسب ما يعلمونه هم، ولما كانت كتب أصول الفقه في غالبها أن من كتبها هم من أئمة الاعتزال أو الأشاعرة أو الماتريدية تأثر مؤلفوها بخلفياتهم الكلامية في كثير من قضايا العقيدة، ومنها هذه القضية التي معنا، وهي حجية خبر الآحاد وإفادته العلم.
وأقول لكم أيها الإخوة: إن الكتب الكبار التي هي مراجع ألفها غير أئمتنا، منها: (المعتمد في أصول الفقه) والكتاب مطبوع، وهو لـ
أبي الحسين البصري ، وهو معتزلي، و(المحصول في أصول الفقه)
للفخر الرازي ، وهو أشعري، و(المستصفى)
للغزالي ، وهو أشعري، و(البرهان في أصول الفقه)
للجويني ، وهو أشعري، و(العدة في أصول الفقه) لـ
أبي يعلى ، وكذلك كتاب (الإحكام في أصول الأحكام)
للآمدي ، وهذان حنبليان، ولكن
الآمدي أشعري، وبالنسبة أيضاً لصاحب (العدة)
أبي يعلى يميل كثيراً إلى مذهب الأشاعرة، وهكذا كثير من كتب أصول الفقه ألفها أئمة إما ماتريدية أو أشاعرة أو معتزلة؛ فلما حكى هؤلاء الخلاف في هذه القضية التي معنا -وهي حجية خبر الآحاد في العقيدة- حكوها بطريقة ينبغي أن يوقف عندها؛ فقالوا: اختلف العلماء في قضية إفادته للعلم، ومن ثَّم في حجيته للعقيدة، على قولين:
فقال جماهير العلماء: إن أخبار الآحاد تفيد العلم ولا يحتج بها في العقيدة، والقول الثاني -وهو رواية عن الإمام
أحمد -: إنها تفيد العلم، ويحتج بها في العقيدة، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أنه يكاد يسخر من مذهب الإمام
أحمد بن حنبل ؛ لقوله إنها تفيد العلم، فقال: ويلزمه أن كل خبر واحد يفيد العلم، يعني: أنه يلزمنا أن أي واحد وأي شخص كان يأتيك بخبر فخبره يفيد العلم، فنقول: هناك فرق بين خبر أي واحد ونقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تروى بالأسانيد الصحيحة، وما عمله علماء الإسلام في الجرح والتعديل وفي غيره إلا لبيان وتوضيح هذه القضية؛ ومن ثمَّ تكلموا في الرجال، وتكلموا في لقاء الرواة بعضهم لبعض، وصحة السماع، والشذوذ والعلة ... إلى آخره؛ ففرق بين الحديث المصفى الذي ينظر فيه الأئمة فيقولون: هذا إسناد صحيح متصل، رواته عدول ضابطون، ليس فيه شذوذ ولا علة، فإن هذا الحكم ما جاء بسهولة، وإنما جاء من خلال دراسات وبراهين.
فـ
البخاري لما اختار صحيحه اختاره من ألوف مؤلفة من الأحاديث والروايات، وانتقى أصحها، وكذا الإمام
مسلم ، وكذا غيرهم، وإذا درسنا أسانيد من لا يلتزم الصحيح وتبين لنا صحة أسانيده فنقبلها؛ لذلك فنحن نقول كما قال كثير من الأئمة: إن الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول -أي: لم ينتقدها العلماء الجهابذة- تفيد العلم، ويحتج بها في العقيدة؛ فكيف يأتي هذا ويجعل قول الجمهور هو هذا، ثم يجعل القول بأنها تفيد العلم ويحتج بها في العقيدة قولاً ضعيفاً هزيلاً؟!
لذلك فإننا نقول: إن حكاية الخلاف في هذه المسألة التي معنا هي كما يلي: جماهير الأئمة يرون أنه يفيد العلم ويحتج به في باب العقيدة.
وخالف في ذلك بعضهم فقال: يفيد الظن ويحتج به في العقيدة، كما قال
ابن عبد البر رحمه الله تعالى، فخلاف لفظي، لكنه انتهى في النهاية إلى النتيجة نفسها لما قال: يحتج به في باب العقيدة.
وبعضهم قال أيضاً: لا يفيد العلم، ولا يحتج به في باب العقيدة.
لكن مذهب جماهير العلماء وهو إجماع الصحابة ويكاد أن يكون إجماع التابعين رحمهم الله تعالى هو أنها تفيد العلم، ومن ثَّم يحتج بها في باب العقيدة؛ ولهذا لم يفرقوا في روايتهم لهذه الأحاديث بين أحاديث العبادة وبين أحاديث العقيدة.
إذاً: ما ابتدعه المبتدعة من المعتزلة ومن غيرهم حين قالوا: إنه لا يحتج بأحاديث الآحاد في باب العقيدة معناه: سلخ لجزء كبير من نصوص الاعتقاد، ولا شك أن هذه المقالة مقالة باطلة، وليس هذا موضع تفصيلها، فارجعوا إلى المراجع والكتب التي ذكرتها قبل قليل.
إذاً: منهاج أهل السنة والجماعة هو: أن كل ما جاء به القرآن أو صح عن المصطفى عليه الصلاة والسلام من صفات الرحمن فإنه يجب الإيمان والتصديق به، ويجب تلقيه بالتسليم والقبول؛ فإذا صح الإسناد ودرسناه ولم يعترض عليه أحد من الأئمة، فنأخذه ونتلقاه بالقبول، لأن هذا الذي وصلنا من طريق هؤلاء الأئمة العدول هو المنقول عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولو رددنا هذه الأحاديث لكان ذلك مدخلاً لأن نرد أيضاً أحاديث الأحكام، كما فعلت بعض الطوائف وقالت: ما دام حديث الآحاد محكماً فكيف نأخذ به في أمورنا كلها؟
ولذا كان الأئمة رحمهم الله تعالى لا يفرقون، ولما قيل لـ
إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى: تروي حديث النزول؟! فقال: نعم أرويه. فقيل: كيف تروي حديث (
ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ..) ؟! وكأن السائل توهم أن فيه نوعاً من تشبيه أو مما لا يليق أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى! فانتفض
إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى وقال: هذه الأحاديث والروايات هي التي بها نحلل الدماء وبها نحرم، بها نحلل الفروج وبها نحرم، بها نحلل الأموال وبها نحرم، فكيف نأخذ بخبر الآحاد ونقطع به رقبة نفس معصومة، ثم لا نأخذ به حين يأتي بهذا الإسناد نفسه مخبراً عن صفة من صفات الله تبارك وتعالى؟! لا شك أن هذا عين التناقض.
لذلك أخذ بها الأئمة رحمهم الله تعالى، وعملوا بها، ولم يفرقوا رحمهم الله تعالى بينها؛ حتى إن بعضهم صار يصرح بلفظ الشهادة؛ فإذا ساق إسناداً متصلاً رواته كلهم عدول ثقات أثبات يأتي ويقول: أشهد بالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث! ولا شك أنها ليست شهادة على باطل؛ لأنه بناها على علم، فقد وصل بذلك إلى علم اليقين، أما إذا رفضنا هذه الأحاديث فمعناه أنا رفضنا جزءاً كبيراً من الشريعة، والشيخ رحمه الله تعالى قال: (تتلقى بالتسليم وبالقبول فلا نرد شيئاً منها).
وقوله: (وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل كما فعل أهل الباطل) هذا ما سنستكمله -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم.
وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.