إسلام ويب

مصابيح الهدى - عمر بن عبد العزيزللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عمالقة الإسلام ورجاله لا يحصرهم زمان ولا مكان، وإن كانوا في زمن النبوة أكثر عدداً، وأعلى شأناً، إلا أن هناك من سار على منهجهم واقتفى أثرهم، ومن أولئك: عمر بن عبد العزيز، ذلك الرجل الذي جدد في الأمة عهد الخلفاء الراشدين، ذلك الرجل الذي حكم فعدل، ذلك الرجل الذي دخل الخلافة غنياً وخرج فقيراً! إنه عمر بن عبد العزيز الذي اختفى الفقراء في عصره، وأمن الناس في زمانه، فرضي الله عنه وأرضاه، وأسكنه فسيح جناته.

    1.   

    عمالقة الإسلام لا يحصرهم زمان ولا مكان

    بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! بعد طول غياب نعاود مرة أخرى حديثنا عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ونحن اليوم على موعد مع رجل لا ينتمي لعصر الوحي تاريخياً، ولكنه نقل عصر الوحي بكل قيمه ومثله وفضائله إلى دنيا هائجة مائجة مفتونة مضطربة، وقد نجح في ذلك نجاحاً يأخذ العقول ويبهر الألباب! إننا اليوم على موعد مع رجل ومع مثل رائد من أروع الأمثلة دلالة على صفاء عنصر هذه الأمة، وعلى نقاء معدنها، وسرعة رجوعها إلى الحق إذا وجدت رائداً يقودها على السواء، غير منحرف بها، ولا ضال معها، فهي تسير معه، وتتبع ظله، وترتفع به من حضيض وهدتها آخذة طريقها إلى السمو الإيماني، والقيادة الربانية، والمكانة العلية التي اختارها لها ربها عز وجل، فلقد استطاع رائدنا وقدوتنا وبطلنا اليوم، استطاع بصدق إيمانه، وعمق يقينه، وصفاء نفسه ونقاء سريرته، وشدة ورعه وزهده وخوفه من الله عز وجل، استطاع أن يضع يده على موطن الداء الذي استشرى في أمته، واستطاع أن يستل جرثومته بيد بيضاء نقية، فعادت الأمة مرة أخرى وكأنها تعيش في عصر النبوة من جديد! ليس في عشرين عاماً ولا في عشرة أعوام، وإنما في عامين ونصف إلا قليلاً! إننا اليوم على موعد مع حفيد الخلافة والملك، إنه رضيع المباهج والنعيم، ريان الشباب، وناعم الإهاب، وفواح العطور والعبير، أجل! فإن هذا الشاب التقي الورع كان قبل خلافته يضمخ ثيابه بأغلى وأرقى العطور، ويسكن أعلى القصور، ويركب الصافنات الجياد، ويلبس أبهى الحلل، ويأكل أشهى الطعام، وهاهو ذاته يتحول في التو واللحظة بعد أن أعلن خليفة للمسلمين، يتحول هذا الشاب ابن السادسة والثلاثين -لا أقول: ابن الستين ولا ابن السبعين- يتحول في اللحظة إلى زاهد ناسك تقي عابد ورع، يترك متاع الدنيا، ويزهد في كل ملذات الحياة،ويدخل على زوجته التقية النقية الوفية الصابرة، وهي من هي؟! هي بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجها يدخل عليها بطلنا وقدوتنا اليوم ويخيرها بين أمرين: بين أن ترد كل ما تملك من متاع وجواهر وحلل إلى بيت مال المسلمين، وأن تعيش معه من اليوم عيشة الزهد والورع والكفاف! أو أن يسرحها سراحاً جميلاً! فتختار الذكية النقية التقية هذا البطل وهذا العملاق على متاع الدنيا الزائل! ولم لا؟! وبطلنا وقدوتنا اليوم حفيد فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب ، إنه معجزة الإسلام، وولد الإسلام العزيز عمر بن عبد العزيز . أيها الأحبة! والله إن الصعوبة التي تواجهني الآن وأنا أتحدث عن هذا العملاق لتتمثل في: ماذا أقول وماذا أدع، من هذا الحشد الهائل من الحقائق الناصعة التي ترويها لنا سيرة هذا الورع التقي القوي النقي، وإن كانت الحكمة العربية القديمة تقول: من أخصب تخير، أي: من وجد الأرض الخصبة تخير المرعى، فإني أجدها الآن تنقلب عليَّ، إني أجدها الآن: من أخصب تحير!

    1.   

    ترجمة موجزة لعمر بن عبد العزيز

    ماذا أقول، وماذا أدع عن هذا التقي النقي العابد الورع؟! فلنطالع نبأ هذا التقي النقي من أوله. لقد روت لنا كتب التاريخ والسير أن فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد حرم في خلافته خلط اللبن بالماء، وفي ليلة من الليالي المظلمة الشاتية الممطرة والناس نيام، ولكن أنى للنوم أن يعشى عمر! فخرج عمر بن الخطاب يتفقد أحوال الرعية، وأمام بيت من بيوت الناس سمع عمر بن الخطاب حواراً جميلاً جذاباً بين أم وفتاتها التقية النقية الزاهدة الورعة: الأم تقول لفتاتها: هيا يا بنيتي أسرعي وامزجي اللبن بالماء قبل أن يطلع علينا الصباح! والبنت التقية تجيب أمها وتقول: يا أماه! ألم ينه أمير المؤمنين عمر عن مزج اللبن بالماء؟! فتقول الأم لفتاتها: يا بنيتي! إن الناس يمزجون، وما يدري أمير المؤمنين بنا الآن؟ فترد الفتاة الورعة التقية وتقول لأمها: يا أماه! إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فرب أمير المؤمنين يرانا! واغرورقت عينا عمر بدموع الغبطة والسرور والفرح، وأطلق ساقيه للريح يجري إلى داره، يا عاصم ! من عاصم ؟ عاصم بن عمر ، يا ولدي! اذهب إلى هذا البيت الفلاني وتزوج بهذه الفتاة الورعة التقية، فإني والله أرجو الله أن يخرج منها فارساً يقود العرب والمسلمين! إنها عبقرية فاروق الأمة رضي الله عنه وأرضاه. ويستجيب الولد لرغبة أبيه، ويتزوج عاصم بن عمر رضي الله عنهما بهذه الفتاة المراقبة لله جل وعلا، وتنجب له هذه الفتاة فتاة أسموها ليلى وكنوها بـأم عاصم ، فتزوجت أم عاصم هذه رجلاً من خيار بني أمية يقال له: عبد العزيز بن مروان ، فولدت لـعبد العزيز هذا الشاب التقي النقي الزاهد العابد الورع عمر بن عبد العزيز ، ولدته بالمدينة المنورة سنة ستين للهجرة، وقيل: ولد عمر بن عبد العزيز بمصر بمدينة حلوان سنة إحدى وستين للهجرة. إنها ذرية كريمة بعضها من بعض، فهذا الشبل من ذاك الأسد!

    1.   

    طلب عمر بن عبد العزيز للعلم وثناء العلماء عليه

    ونشأ عمر في هذه البيئة المترفة، في قصور الملك والنعيم، فأبوه عبد العزيز بن مروان الذي كان والياً على مصر حينذاك، واستمر على ولاية مصر عشرين عاماً، والخليفة الأموي خليفة المسلمين هو الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وهو ابن عم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. نشأ عمر في هذه البيئة، في بيئة القصور، في بيئة الخلافة والإمارة والملك والجاه والنعيم والسلطان، ولكنه شب ونشأ نشأة عجيبة لفتت إليه جميع الأنظار، فلقد ذهب هذا الولد في مقتبل عمره إلى أبيه الوالي والأمير وقال: يا أبتِ! دعني أذهب إلى المدينة المنورة لأجلس بين يدي علمائها وفقهائها، ولأتأدب بآدابهم، فأذن الوالي لولده، وانطلق هذا الغلام إلى المدينة المنورة، وعكف في أول أمره على حفظ القرآن الكريم، فأنهى حفظه في زمن قياسي أذهل الجميع في المدينة، ثم بعد ذلك انكب هذا الغلام على طلب العلم، وعلى طلب الفقه والسنة حتى قال في حقه الصحابي الجليل أنس بن مالك، وقد طال به العمر وصلى يوماً وراء هذا الشاب، وراء عمر بن عبد العزيز ، فقال أنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما صليت صلاة وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله من هذا الغلام. إنه عمر بن عبد العزيز! وقال في حق عمر الإمام العلم إمام التفسير مجاهد بن جبر الذي عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، قال مجاهد: جئنا لنعلم عمر بن عبد العزيز فما عدنا حتى تعلمنا منه. وقال عنه الإمام الفقيه العلم الليث بن سعد، ما التمسنا علم شيء إلا وجدنا عند عمر بن عبد العزيز أصله وفرعه وما كان العلماء عنده إلا تلامذة! انظروا إلى شهادات هؤلاء الأعلام، هؤلاء الأفذاذ، وما كان العلماء عند عمر إلا تلامذة.

    1.   

    عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة

    ولما بلغ عمر الخامسة والعشرين من عمره نظر خليفة المسلمين الوليد بن عبد الملك إلى عمر فوجد نفسه أمام قدرة ذهنية وعلمية فائقة هائلة، فاختاره الوليد بن عبد الملك والياً على المدينة المنورة. وأصبح عمر -وهو في الخامسة والعشرين- والياً على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعد أهل المدينة سعادة غامرة، فهو الذي يحبهم ويحبونه، وهو الذي يعرفهم ويعرفونه، وسعد الناس واستطاع هذا الشاب التقي النقي أن يجعل من ولايته مثلاً عالياً للرحمة والعدل والسعة والرخاء، في فترة لا تساوي من حساب الزمن شيئاً، ولما رأى خليفة المسلمين ذلك كافأه فولاه على الحجاز كله، وكأنما أراد الله جل وعلا بهذا: التجربة العملية الرائدة لهذا الشاب التقي النقي؛ لما يدخر له في الغد القريب، حينما سيصير خليفة لأعظم دولة عرفت في ذلك التاريخ. وهكذا أيها الأحبة! مات الوليد بن عبد الملك ، وخلفه من بعده أخوه سليمان بن عبد الملك ، الذي تعلق بـعمر تعلقاً شديداً، وكان يصطحب عمر معه في معظم رحلاته وسفراته، وفي يوم من الأيام اصطحب سليمان عمر لزيارة معسكر من معسكرات الجيش، وأمام معسكر يعج بالعتاد والسلاح سأل سليمان في فخر وزهو عمر قائلاً: ماذا تقول فيما ترى يا ابن عبد العزيز ؟! فنظر عمر إلى الخليفة وقال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً! وأنت المأخوذ بها والمسئول عنها بين يدي الله عز وجل! يا إلهي! ما هذا؟! فبهت الخليفة ونظر إلى هذا الشاب الورع وقال: ما أعجبك يا عمر ! فرد عليه عمر بمنتهى القوة وقال له: بل والله ما أعجب من عرف الله فعصاه، وعرف الشيطان فاتبعه، وعرف الدنيا فركن إليها! وعلم هذا الرجل أن رجل الغد القريب هو عمر رضي الله عنه وأرضاه، حتى قال سليمان قولته الشهيرة: والله ما أهمني شيء قط إلا وخطر ببالي أول ما خطر عمر بن عبد العزيز .

    1.   

    عمر بن عبد العزيز خليفة للمسلمين

    ولما نام سليمان بن عبد الملك على فراش الموت وعلم أن هذا المرض هو مرض الموت، استدعى سليمان وزيره الأمين وصاحبه الصادق رجاء بن حيوة طيب الله ثراه، ونور الله مسراه، استدعى سليمان رجاء وسأله فقال: يا رجاء ! يهمني أمر الخلافة، فبماذا تشير علي؟ فأشار عليه هذا الرجل مشورة صادقة كريمة بارة، قال له رجاء : يا أمير المؤمنين! إن مما يحفظك في قبرك، ويشفع لك في أخراك أن تستخلف على المسلمين رجلاً صالحاً، فالتفت سليمان إلى رجاء وقال: ومن عساه يكون يا رجاء؟! فقال رجاء -على الفور-: عمر بن عبد العزيز . إنه عمر ! ولا أحد غير عمر ! وتلقى سليمان مشورة رجاء كالبشرى، وقال قولته الباهرة الجامعة: والله لأعقدن لهم عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب. يا رجاء ! قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ائتني بكتاب، واكتب: استخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز خليفة للمسلمين من بعده، ثم نظر إلى رجاء وقال: اختم هذا الكتاب واطوه، واجعله معك، وتضامنا وتعاهدا ألا يعلم أحد بمضمون هذا الكتاب ما دام خليفة المسلمين حياً. وأمر سليمان بن عبد الملك أن يدخل عليه أمراء بنو أمية، فدخلوا عليه ووقفوا بين يديه وهو على سرير موته، وفي مرضه الأخير، وأمرهم أن يبايعوا من استخلفه في هذا الكتاب، وهم لا يعلمون من هو، فبايعوا جميعاً من استخلفه خليفة المسلمين، ودفع الخليفة الكتاب إلى رجاء ، وأذن لهم فانصرفوا وهم يتساءلون ويخوضون: يا ترى من سيكون هذا الخليفة؟! وبعد أيام قليلة مات سليمان بن عبد الملك ، وانطلق الناس جميعاً إلى مسجد دابق، واكتظ المسجد بالناس، وازدحم الناس وكأن القيامة قد قامت! وصمتت الأنفاس، وشخصت الأبصار تجاه رجاء بن حيوة الذي وقف على المنبر؛ ليقرأ كتاب الخليفة، ويأخذ البيعة لخليفة المسلمين الجديد! وبايع الناس جميعاً وهم لا يعلمون من يبايعون، وشخصت الأبصار، واتجهت تجاه رجاء ، وشق هذا السكون وهذا الذهول صوت رجاء وهو ينادي ويقول: قم يا أمير المؤمنين! قم يا أيها الشاب التقي النقي الورع، قم يا عمر بن عبد العزيز ! ولم يكد عمر يفيق من هول هذه المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أبداً! وإذ به ينتفض انتفاضة العصفور المبلل بماء المطر! ولا يقوى عمر على القيام بعدما سمع، لقد ذهل وعقر! فقام متكئاً على بعض إخوانه حتى صعد المنبر، وأذهل الناس بكلامه الإيماني الرائع، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس! إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي مني ومن غير مشورة للمسلمين، وإني أخلع اليوم بيعة من بايعني فاختاروا لأنفسكم! وضج المسجد! وارتفعت صيحة من هذه الحناجر الصارخة على صوت رجل واحد: بل إياك قد اخترنا يا أمير المؤمنين! فتول أمرنا يا عمر على بركة الله عز وجل، واندفعت الجموع التي تبكي من السعادة والفرح؛ لتولية عمر رضي الله عنه وأرضاه ولتبايعه وهو على المنبر لا يقوى على القيام! بينما راح بطلنا وزاهدنا وورعنا يجهش بالبكاء. ونزل عمر من على المنبر بعد هذه البيعة الجماعية التي تخلع القلوب وتهز الوجدان، واقترب منه رجاء بن حيوة رحمه الله وطيب الله مسراه، اقترب منه وقال له: يا أمير المؤمنين! أرى أن تذهب اليوم إلى بيتكم لتستريح قليلاً، فإني أرى التعب ظاهراً جلياً عليك، فنظر إليه عمر ودموعه تنسال على خديه وهو يقول: لقد فعلتها يا رجاء ، لقد فعلتها يا رجاء ! فدعني أستنقذ نفسي من عذاب الله.

    1.   

    التحول الكبير في حياة عمر بن عبد العزيز

    الذي تبدل، وما الذي تغير؟! لقد تبدل كل شيء، وتغير كل شيء، لقد أصبح عمر جديداً، هل نحن أمام فاروق جديد، هل نحن أمام عمر جديد؟! نعم، إن هذا الشبل من ذاك الأسد، لقد تحول عمر تحولاًعارماً، وتحولاً هائلاً، أتوا إليه بمراسم الخلافة، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذه مراسم الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال، أتوا إليه بثياب الخليفة، قال: ما هذا؟ قالوا: ثياب الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال، أتوه بالجواري والغلمان، قال: ما هذا؟ قالوا: خدم الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال! إنه التقي النقي الزاهد العابد الورع الذي تحول فيه كل شيء، الذي كان بالأمس القريب يركب الصافنات الجياد، ويلبس أبهى الحلل، ويأكل أشهى الطعام، ويسكن أعلى القصور، ما الذي غيره؟! إنها المسئولية التي حملها على عاتقه، إنها تهدهد الجبال وتحطم الصخور والحجارة! ثم دخل إلى بيته تحت ضغط إخوانه: أن يستريح قليلاً، وما كاد عمر يسلم جنبه إلى مضجعه وفراشه المتواضع وإذ بولده التقي النقي! إنه عبد الملك بن عمر ، هذا الشاب الذي كان في الخامسة عشر من عمره يدخل على أبيه فيراه نائماً، فينظر إليه ولده ويقول: ماذا أنت صانع يا أمير المؤمنين؟! فيقول والده عمر : يا بني! أريد أن أستريح قليلاً، فإني لم أر في جسدي طاقة، فقال له ولده: تريد أن تغفو ولم ترد المظالم إلى أهلها! فنظر إليه أبوه وقال: يا بني! إني متعب الآن، دعني أنم، وإذا حان وقت صلاة الظهر خرجت وصليت بالمسلمين ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله، فرد عليه ولده الورع وقال: يا أمير المؤمنين! وهل تضمن أن تعيش إلى صلاة الظهر؟! فانتفض عمر من فراشه انتفاضة من لدغة حية رقطاء! وكانت هذه الكلمات بمثابة التيار الكهربائي الذي سرى في جسده المتعب، وأثارت هذه الكلمة النوم من عين عمر رضي الله عنه وعن ولده التقي النقي، وقام عمر وضم ولده إلى صدره وقبله بين عينيه وبكى، وقال: الحمد لله الذي جعل من صلبي من يعينني على أمر الله عز وجل. ولم ينم عمر ، وخرج على الفور، وأمر المنادي أن ينادي في الناس: من كانت له مظلمة فليرفعها الساعة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز .

    1.   

    خطبة عمر بن عبد العزيز بعد خلافته

    وهكذا أيها الأحبة! بدأ عمر حياة خطابية فاروقية جديدة، بين أسسها، ووضح معالمها في هذه الخطبة العصماء، فلقد وقف خطيباً على المنبر في اليوم الثاني وقال بعدما حمد الله عز وجل وأثنى عليه: أيها الناس! ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن الحلال ما أحله الله على لسان رسوله إلى يوم القيامة، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، وإنما أنا منفذ، ولست بمبتدع، إنما أنا متبع، ولست بخيركم وإنما أنا رجل منكم غير أني أثقلكم حملاً، وغلب عليه البكاء والنحيب! ونظر إلى الناس فقال: وأيم الله إني لأقول هذه المقالة وإني لأعلم أني أكثركم ذنوباً، فأستغفر الله العظيم وأتوب إليه. ونزل عمر فدخل إلى داره ووضع يديه على خديه وجلس جلسة القرفصاء يبكي، فدخلت عليه زوجته التقية النقية الوفية الصابرة وقالت: ما يبكيك يا أمير المؤمنين! فقال: يا فاطمة ! إني وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، ففكرت في الفقير الجائع، والمسكين الضائع، وفكرت في الأرملة واليتيم المكسور والمسكين وذي العيال الكثير، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، وخشيت يا فاطمة أن يسألني عنهم ربي عز وجل يوم القيامة! فلقد علمت أن خصمي دونهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، فأخشى أن لا تثبت لي حجة بين يدي الله عز وجل، فبكت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وأجهش عمر بالبكاء. ما هذا؟! في أي عصر يكون عمر ؟! في عصر النبوة، كلا، إنه مثل رائد على صفاء عنصر هذه الأمة، وعلى نقاء معدنها، ما الذي تغير؟! تغير كل شيء، وتبدل كل شيء.

    1.   

    قوة عمر بن عبد العزيز وصلابته في الحق

    وبالرغم من هذا، أرى أن العظمة تتجلى في أسمى معانيها، حينما نرى هذا الزاهد الورع البكاء الخائف من الله عز وجل، نرى هاتين العينين السابحتين بالدموع خوفاً من الله عز وجل، نراهما حينما يجلس على كرسي الحكم ويأمر بالسياسية، نراهما تحدقان كعيني الصقر، وترسلان بريقاً أخّاذاً يقنع كل من يرى أنه أمام عينين ثاقبتين ليس إلى خداعهما سبيل، وهذه هي العظمة في أجل معانيها، وأسمى صورها، في خلوته بينه وبين ربه: إنه الزاهد التقي النقي الورع، أما في موطن عمله، وفي مقر إنتاجه.. في حقله.. في مصنعه.. في مزرعته.. في متجره، فهو القوي الشديد على هذا العمل، وهذه هي العظمة أيها الأحباب! فقد اجتمع أمراء بني أمية واتفقوا جميعاً على أن يرسلوا إليه تهديداً ووعيداً؛ لأنه حرمهم من الأموال والمواريث والحقوق، وأمر برد هذا كله إلى بيت المال! واجتمعوا جميعاً وقرروا أن يرسلوا إليه رسالة وعيدية على لسان عمر بن الوليد بن عبد الملك ، فأرسل إليه عمر بن الوليد رسالة شديدة قال فيها: من عمر بن الوليد إلى ابن عبد العزيز ، أما بعد: فلقد أزريت بمن سبقك من الخلفاء، وسرت في الناس بغير سيرتهم، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل، وعملت في قرابتك بغير الحق! فعمدت إلى أموالهم ومواريثهم وحقوقهم وأدخلتها بيت مالك عدوناً وزوراً وظلماً! فاتق الله يا ابن عبد العزيز ، وإلا ليوشكن بك ألا تستقر على منبرك! وعيد واضح، وتهديد صارخ، وما كان من هذا الورع البكاء التقي النقي إلا أن يتحول إلى زلزال مدمر، وإعصار مزمجر! وعلى الفور يرد برسالة شديدة على عمر بن الوليد فيقول فيها: من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى ابن الوليد، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فعهدي بك يا ابن الوليد كنت جباراً شقياً، والآن ترسل إلي وتتهمني بالظلم لأنني حرمتك وأهل بيتك من مال المسلمين! الذي هو حق للضعيف والمسكين وابن السبيل! ألا إن شئت يا بن الوليد أخبرتك بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه أبوك الوليد بن عبد الملك، الذي حين كان خليفة للمسلمين استخلفك عليهم صبياً سفيهاً تحكم في دمائهم وأموالهم! فويل لك وويل لأبيك! ألا إن شئت أخبرتك يا بن الوليد بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه من ولَّى الحجاج بن يوسف يسبي المال الحرام، ويسفك الدم الحرام! ألا إن شئت أخبرتك يا ابن الوليد بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه من ولّى يزيد بن أبي مسلم على المغرب كلها يجبي المال الحرام ويسفك الدم الحرام! ألا رويدك يا ابن الوليد، فوالله لو طالت بي حياة لأقيمنك وأهلك على المحجة البيضاء. والسلام. إنها العظمة! ورع تقي بكاء وجل في خلوته، بينه وبين ربه، أما على كرسي الحكم والسياسة فهو القوي الشديد، صاحب العينين الثاقبتين اللتين تدوران كعيني الصقر فتلقط كل شاردة وواردة، وبالفعل أيها الأحباب! تغير كل شيء بعدما غير الولاة وأمناء بيت المال، وغير القضاة، وغير كل شيء، واستتب الأمر من جديد على أروع ما يكون، حتى إن الناس أحسوا بأنهم يعشون في عصر النبوة!

    1.   

    اختفاء الفقراء في عهد عمر بن عبد العزيز!!

    إننا نذهل أمام هذا الإجماع التاريخي الذي يقول: لقد اختفى الفقر والفقراء في عهد عمر رضي الله عنه! نعم اختفى الفقر! حتى إن الأغنياء كانوا يخرجون بزكاة أموالهم فلا يجدون يد فقير تبسط إلى هذا المال، يا للعجب! في عشرين عاماً؟! في عشرة أعوام؟! كلا والله، بل في سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام! إنها المعجزة! إنها الكرامة الكبرى على يد ولد الإسلام العظيم! وأرسلت الكتب من أمير المؤمنين وتقرأ في مساجد عواصم دولته التي كانت تبلغ مساحتها ربع مساحة العالم اليوم في القرن العشرين، تقرأ كتب أمير المؤمنين رضي الله عنه: من كان عليه أمانة وعجز عن أدائها فلتؤد عنه من بيت مال المسلمين! من كان عليه دين وعجز عن سداده فسداد دينه من بيت مال المسلمين! من أراد من الشباب أن يتزوج وعجز عن الصداق فصداقه من بيت مال المسلمين! من أراد من المسلمين أن يحج وعجز عن النفقة فليعط النفقة من بيت مال المسلمين! وما من يوم إلا وينادي المنادي من قبل عمر : أين الفقراء، أين اليتامى، أين الأرامل، أين المساكين؟! يا ألله! يا خالق عمر سبحانك! ليس في عشرين عاماً وإنما في عامين ونصف! وذلك إذا سلك الناس طريق الحق ومنهج الله عز وجل وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وقال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:10-13]. رحم الله عمر ، وجزاه الله عنا خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً، وأقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    وفاة عمر بن عبد العزيز

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. ويشاء الله جل وعلا بعد هذا الوقت القليل القصير، الكبير العظيم! أن ينام عملاقنا على فراش الموت، ويدخل عليه ابن عمه مسلمة بن الوليد بن عبد الملك ويقول: يا أمير المؤمنين! ألا توصي لأولادك بشيء، فلقد أفقرتهم وهم كثير؟ ! فقال عمر : وهل أملك شيئاً لأوصي لهم به؟! أم تريد مني يا مسلمة أن أعطيهم من مال المسلمين؟! والله لا أعطيهم حق أحد من المسلمين أبداً! فإن عيالي بين حالين: إما أن يكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإما أن يكونوا غير صالحين فوالله لا أدع لهم ما يستعينون به على معصية الله عز وجل! أي فلسفة هذه؟! إما أن يكونوا صالحين فالله يتولاهم وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9] إما أن يكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإما أن يكونوا غير صالحين فوالله لا أدع لهم شيئاً يستعينون به على معصية الله عز وجل. ثم قال: أدخلوهم علي، فدخل أولاده وأحاطوا بسريره وعلى رأسهم الأم التقية النقية الوفية الصابرة فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله وطيب الله ثراها، ونظر إليهم عمر نظرة حانية، نظرة مبتسمة، وقال لهم كلاماً يفتت الصخور، ويذيب الحجارة! في كلام موجز قليل، نظر إلى أبنائه وقال: يا بني! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وبين أن تستغنوا ويدخل النار، وقد اختار أبوكم الجنة، انصرفوا. فانصرف الأولاد وانصرفت أمهم، وفي وقت انصرافهم كانت بعثة الشرف من الملائكة في انتظار عمر ، فلقد أقبل ملك الموت ليعالج هذه الروح الطيبة الطاهرة النقية، وأقبل ملك الموت وعمر بن عبد العزيز يردد قول الله عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. وهكذا مالت رأسه التي لم تمل أبداً عن حق من حقوق الله، وأغمضت عيناه التي لم تغمض أبداً عن حق من حقوق الله، وآب البطل إلى داره، وعاد البطل إلى رحابه، وعاد البطل إلى ما أراد الله عز وجل له، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. رحم الله ابن عبد العزيز وجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً. تلك قدوتنا، وذلكم هو بطلنا، وذلكم هو رائدنا، نسأل الله جل وعلا أن يمن على الأمة بالقائد الرباني الذي يقودها ويسير بها على السواء كما فعل عمر بن عبد العزيز ، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح جميع حكام المسلمين، اللهم أصلح حكام المسلمين، اللهم ثبتهم على الحق والهدى، اللهم خذ بنواصيهم إليك، اللهم خذ بنواصيهم إليك، اللهم اجعلهم رحمة على شعوبهم وأبنائهم يا رب العالمين! اللهم أصلح علماء المسلمين وثبتهم يا رب العالمين! اللهم أصلح شباب المسلمين وأصلح نساء المسلمين، اللهم تقبلنا واقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين، اللهم انصر كلمة الحق وكلمة الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم وزد وبارك على أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756319452