عذاب القبر ثابت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأدلة الواردة فيه كثيرة جداً لا تحصى عدداً، فإننا نجد اليوم ملاحدة وزنادقة ينكرون عذاب القبر، بل وينكر بعضهم البعث عياذاً بالله، مسندين ذلك إلى أن العقل البشري كيف يؤمن بغيبيات لا يدركها! والمعصوم من عصمه الله بالالتزام بكتابه والعمل بسنة نبيه والتصديق بهما.
-
كُتِّاب اليوم وإنكارهم عذاب القبر ونعيمه
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
اللهم! صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيا الله الإخوة الأحباب الأعزاء، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياهم على طاعته أن يجمعني وإياهم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله!
(في رحاب الدار الآخرة) سلسلة علمية جديدة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، أقدمها اليوم لأذكر بها نفسي وإخواني، لا سيما ونحن نعيش الآن زماناً طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات جل وعلا، وقد انتظمت هذه السلسلة في عشرات الأشرطة، وكان آخر هذه الأشرطة بعنوان: (صفحات سود من تاريخ يهود)، فليراجع هذه الأشرطة من شاء من الأحبة الكرام الخيار.
أيها الأحبة الكرام! في صحيح
البخاري من حديث
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على الأعناق، إذا كانت صالحة قالت: قدموني قدموني وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها إلى أين تذهبون بها؟ -قال المصطفى-: يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق).
فها نحن قد وصلنا مع الجنازة إلى القبر، فقف معي الآن عند القبر وأهواله وفتنة القبر وأحواله، أسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم من فتنه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وسوف ينتظم حديثنا في هذه العناصر التالية:
أولاً: الأدلة على عذاب القبر ونعيمه.
ثانياً: أسباب عذاب القبر.
وأخيراً: السبيل للنجاة من عذاب القبر.
فأعرني قلبك أيها الحبيب الكريم؛ فإننا اليوم في مسيس الحاجة لهذا الموضوع، لاسيما وقد دُفع إلي مقالٌ لأستاذ دكتور على صفحة سوداء من صفحات جرائدنا الغراء، عنوان هذا المقال (عذاب القبر مجرد خرافات وخزعبلات)!
هكذا يعنون لمقاله فضيلة الأستاذ الدكتور (عذاب القبر مجرد خرافات وخزعبلات)، ثم يتطاول هذا الأستاذ الدكتور الجريء فيقول: إن جميع الأحاديث التي وردت في مسألة عذاب القبر مجرد خرافات. ثم أظهر الدكتور جهله الفاضح فقال: لأن عذاب القبر غيب، والقرآن بَيَّن لنا أن النبي لا يعلم الغيب! قمة الجهل، وجهل مركب.
فمعنى ذلك -يا فضيلة الدكتور- أنه ينبغي أن ننكر ونكذب بكل أمر غيبي أخبرنا به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، كالإيمان بالله، وكالإيمان بالملائكة، وكالإيمان باليوم الآخر، وسائر الغيبيات التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونسي هذا المسكين قول رب العالمين، في حق سيد النبيين:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:3-5].
وتمنيت أن لو راجع فضيلة الدكتور أول الآيات في سورة البقرة ليقرأ من جديد قول الله جل وعلا:
الم *
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3].
فأول صفة من صفات المتقين: أنهم يؤمنون بالغيب.
وخرج علينا أستاذ آخر بكتاب ضخم يزيد على ثلاثمائة صفحة، ينفي فيه من أول صفحة إلى آخر صفحة عذاب القبر ونعيمه، وقد قام بلي أعناق النصوص لياً عجيباً، وهأنذا اليوم أرد على هؤلاء المتطاولين المكذبين المنكرين، الذين قال عنهم الإمام
القرطبي والإمام الحافظ
ابن حجر قالا: لم ينكر عذاب القبر إلا الملاحدة، والزنادقة، والخوارج، وبعض المعتزلة، ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة، وخالفهم جميع أهل السنة.
وقال الإمام
أحمد : عذاب القبر حق، ومن أنكره فهو ضال مضل.
فكل ما جاءنا عن النبي بسند جيد قبلناه، وإلا فلو رددناه لرددنا أمر الله جل وعلا، كما قال سبحانه:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]
فانتبه معي جيداً أيها الحبيب، وسأسوق لك الآن سيلاً من الأدلة الصحيحة على عذاب القبر من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، ولن أطيل الوقفة مع القرآن؛ لأن القرآن حمَّال أوجه، كما قال
علي بن أبي طالب لـ
ابن عباس وهو في طريقه لمناظرة الخوارج.
قال
علي : (يا
ابن عباس ! جادلهم بالسنة ولا تجادلهم بالقرآن؛ فإن القران حمَّال أوجه).
-
كلام ابن أبي العز في إثبات عذاب القبر ونعيمه
-
كلام ابن القيم في إثبات عذاب القبر
وأثني هذه المقدمة بكلام نفيس للإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى، فتدبره جيداً -أيها الحبيب- وقف عليه وعض عليه بالنواجذ، يقول
ابن القيم : إن الله تعالى قد جعل الدور ثلاثاً، وهي دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، وجعل الله لكل دار أحكاماً تختص بها، فجعل الله الأحكام في دار الدنيا تسري على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل الأحكام في دار البرزخ تسري على الأرواح والأبدان تبع لها، وجعل الأحكام في دار القرار تسري على الأرواح والأبدان معاً.
قمة الدقة، ثم قال
ابن القيم : واعلم بأن سعة القبر وضيقه ونوره وناره ليس من جنس المعهود للناس في عالم الدنيا.
تدبر هذا الكلام جيداً، ثم ضرب لنا مثلاً عقلياً رائعاً دقيقاً فقال:
انظر إلى الرجلين النائمين في فراش واحد، أحدهما يرى في نومه أنه في نعيم، بل وقد يستيقظ وأثر النعيم على وجهه، ويقص عليك ما كان فيه من النعيم، قد يقول لك: الحمد لله، لقد رأيتني الليلة وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمت النبي، ورأيت النبي، ورد علي النبي، وقال لي النبي ومن رأى النبي في المنام فقد رآه حقاً، قمة النعيم وقمة اللذة والفرح والسرور، ويستيقظ من نومه وهو يقص عليك هذا، وأخوه إلى جواره في فراش واحد قد يكون في عذاب، ويستيقظ وعليه أثر العذاب، ويستيقظ من نومه ويقص عليك ويقول: كابوس كاد أن يخنق أنفاسي -أعوذ بالله-.
تدبر أيها المسلم. الرجلان في فراش واحد، هذا روحه كانت في النعيم، وهذا روحه كانت في العذاب، مع أن أحدهما لا يعلم عن الآخر شيئاً.
وهذا في أمر الدنيا، فكيف بأمر البرزخ الذي لا يعلمه إلا الملك؟!!
تدبر هذا كله، إنها مقدمة دقيقة ولو تدبرتها لوقفت على الحقيقة.
وأنا أقول: متى كان العقل حاكماً على الشرع والدين؟!!
لا تفهم مني أنني أريد أن أقلل من قدر العقل، أبداً أبداً، بل إنني ممن ينادي بتقدير العقل وبيان مكانة العقل، لاسيما ونحن نعيش الآن زماناً انصرفت فيه الأمة المسكينة عن التعليم والعلم والتخطيط والتنظيم، وصارت الأمة أمة تعيش عالة على علم الغرب، وأنا لا أنكر ما وصل إليه الغرب في الجانب العلمي والمادي، في الوقت الذي تأخرت فيه الأمة عن الركب العلمي، أنا ممن يقول دائماً بأن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يبارك نور الوحي نور العقل، بل يزكي الوحي العقل، بشرط أن يعلم العقل قدره، وأن يسجد العقل مع الكون كله لله رب العالمين، فمتى كان العقل على الإطلاق حاكماً على الشرع والدين؟! لله در
علي يوم أن قال: لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه.
أنت تمشي بباطن الخف على الأرض، فلو كان الدين بالعقل فإنه لا يجوز لك أن تمسح ظاهر الخف وإنما تمسح باطن الخف؛ لأنه هو الذي وطئ التراب والأرض، لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه.
-
العقل البشري وطغيانه وتمرده على الله
وتدبر معي -أيها الشاب الحبيب- لتتعرف على قيمة العقل البشري إذا تحدى نور الوحي الإلهي وانفك عن نور الهدي المحمدي النبوي، هذا هو العقل الأمريكي الجبار الذي أُقِرُّ أنه قد وصل إلى ما وصل إليه في الجانب المادي والعلمي، انطلق بعيداً في أجواء الفضاء، وفي أعماق البحار، وفجر الذرة، وصنع القنبلة النووية، بل وحول العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات، هذا ما وصل إليه العقل الأمريكي الجبار في جانب العلم والمادة، انظر إلى حقيقته في جانب الأخلاق والعقيدة والروح، ستراه قد هوى إلى قاع الرذيلة ومستنقع الزندقة والإلحاد، فها هو العقل الأمريكي في هذه الأيام يدافع عن الشذوذ الجنسي، وليست أحداث الحملة الانتخابية لـ
بيل كلنتون منكم ببعيد، الذي أذن للشاذين جنسياً أن يدخلوا الجيش الأمريكي، بل والآن الكنائس في أمريكا تعقد فيها حفلات الزواج، وستعجب إذا علمت أن الزوج رجل والزوجة رجل، يتزوج الرجل بالرجل، وتتزوج المرأة بالمرأة، هذا هو العقل الأميركي الذي لا زال يتغنى بالديمقراطية في كل أنحاء العالم، وإذا ما ذهبت إلى (نيويورك) فاجأ بصرك تمثال الحرية الكاذب، تتغنى بالديمقراطية وفي الوقت ذاته لا زالت تدافع عن العنصرية اللونية البغيضة! وكلنا يتذكر أحداث (لوس أنجلوس).
وهذا هو العقل الروسي الملحد، شعاره: يؤمن بثلاثة ويكفر بثلاثة، يؤمن بـ
ماركس و
لينين و
استالين، ويكفر بالله، وبالدين، وبالملكية الخاصة.
وهذا العقل اليوناني يدافع عن الدعارة، وهذا العقل الروماني يدافع عن مصارعة الثيران، وهذا العقل الهندي يدافع عن عبادة البقرة، وهذا العقل العربي في الجاهلية الأولى يدافع عن وأد البنات وهن أحياء، ويدافع عن عبادة الأصنام، وهذا العقل في جاهليته المعاصرة يؤمن بالكفر والزندقة، ويتغنى بالبعثية والقومية، فيقول قائلهم:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
ويقول آخر:
هبوني عيداً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحـد بيننا وأهلاً وسهلاً بـعده بـجهنم
هذا هو العقل حينما يتحدى الوحي الإلهي وينفك عن الهدي المحمدي النبوي، فينبغي أن يعلم العقل قدره، وينبغي أن يقف العقل عند حدوده، فلينطلق العقل في حدوده ومجاله ليسجد مع الكون كله لله رب العالمين، لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف -كما ذكرت- أولى بالمسح من أعلاه.
-
الأدلة الواردة في إثبات عذاب القبر
قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً..)
حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر)
حديث مرور النبي في حائط لبني النجار على قبور المشركين
حديث عائشة في تصديق اليهودية في إثبات عذاب القبر
حديث البراء الطويل في بيان عذاب القبر ونعيمه
وهنا حديث عمدة وأصل من الأصول في هذا الباب رواه الإمام
أحمد في مسنده، و
ابن حبان في صحيحه، و
البيهقي في سننه، و
النسائي في سننه، و
أبو داود في سننه، ورواه
الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الإمام
الذهبي ، وصحح الحديث الإمام
ابن القيم في (تهذيب السنن) و(إعلام الموقعين)، وأطال النفس في الرد على من أعل هذا الحديث، وصحح هذا الحديث الشيخ
الألباني وغيره من حديث
البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (
خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فلما انتهينا إلى القبر جلس النبي على شفير القبر -أي: على حافة القبر- وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفى يد النبي عود -وانظر إلى دقة الوصف من البراء - ينكت به في الأرض -يضرب به الأرض-، ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ونظر إلى أصحابه وقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر! استعيذوا بالله من عذاب القبر! استعيذوا بالله من عذاب القبر! قالها النبي مرتين أو ثلاثاً، ثم التفت النبي إليهم وقال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، فيأتي ملك الموت فيجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة! أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج روحه فتسيل كما تسيل القطرة من في السِّقَاء، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على ظهر الأرض، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: روح من هذه الروح الطيبة؟ فيقولون روح فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى إذا انتهوا إلى الله في السماء السابعة قال الله جل وعلا: اكتبوا كتاب عبدي في عليين -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فمنها خلقناهم وفيها نعيدهم ومنها نخرجهم تارة أخرى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، -عاش لها وعليها-، وما دينك؟ فيقول: الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولان له: وما علمك -أي: ما الذي علمك هذا-؟ فيقول: قرأت كتاب الله وصدقت بما فيه فينادي مناد أن: صدق عبدي، فألبسوه من الجنة، وافرشوا له فراشاً من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. ويأتيه رجل أبيض الوجه حسن طيب الريح، فيقول له: أبشر. هذا يومك الذي كنت توعد فيقول صاحب القبر لصاحب هذا الوجه المنير: من أنت لا يأتي وجهك هذا إلا بخير؟ فيقول له: أنا عملك الصالح.
-يقول له: أنا توحيدك، أنا صلاتك، أنا صيامك، أنا زكاتك، أنا حجك، أنا أمرك بالمعروف، أنا نهيك عن المنكر، أنا برك بوالديك، أنا صدقتك- فيقول: رب أقم الساعة. رب أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإذا كان العبد الكافر في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم مسوح -والمسوح ليف من النار- فيجلسون منه، حتى إذا جاء ملك الموت فجلس عند رأسه، فإذا ما انتهى الأجل نادى على روحه وقال: أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعذاب، فتنتزع كما ينتزع السفود -أي: الشوك الصلب- من الصوف المبلول، فلا تدعها الملائكة في يده طرفة عين، وتلفها في هذه المسوح من النار، وتنبعث منها رائحة كأنتن ريح جيفة على ظهر الأرض، فإذا ما أرادت الملائكة أن تصعد بها إلى السماء لا تفتح لهذه الروح أبواب السماء، وقرأ النبي قول الله جل وعلا:
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ثم ينادي الملك جل وعلا: اكتبوا كتاب عبدي في سجين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فمنها خلقناهم وفيها نعيدهم ومنها نخرجهم تارة أخرى.
ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدرى).
لا يعرف رباً، ولا يعرف إلهاً، عاش على الكفر في الدنيا، عاش على الشهوات، عاش على النزوات، وما امتثل أمر الله، وما امتثل أمر رسول الله، سمع الأذان يقول: (حي على الصلاة) ولا زال قابعاً أمام المباريات وأمام المسلسلات وأمام الأفلام، أما آن لك أن تهتدي عبد الله؟
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] ما الذي جنيناه من هذا التلفاز؟! ما الذي جنيناه من المسلسلات والمباريات والأفلام؟! لقد سمعنا بآذاننا لاعبي الكرة الذين يرفعون الآن على الأعناق، سمعنا منهم وسمعتم -يا من تتابعون المباريات- من يسب دين الله جل وعلا، هؤلاء الذين يكرمون، هؤلاء الذين يرفعون، يكرمون على أعلى المستويات، على مستوى رئيس الدولة، أمة عشقت الهزل وكرهت الجد، أمة عشقت الهزل يوم أن كرهت الجد، وتعبت عن أن تواصل الجد على طريق الجادين الصادقين، كرة، ومسلسلات، وأفلام، ومسرحيات، وبرامج تدمر الفضيلة وتؤصل الرذيلة، وها أنتم ترون اليهود الآن يتلاعبون بالعالم، لا بالعالم الإسلامي، بل بالعالم الغربي والشرقي، وها هو وزير خارجيتنا يصرح بمنتهى الوضوح ويقول: إنني أحذر إسرائيل من المواجهة العسكرية من جديد في المنطقة. وهذا التحذير الجديد يُعلِن بمنتهى الوضوح عن هوية اليهودية.
هذا الواقع، والله لو جد الجد لم يفر من الميدان إلا من يرفعون اليوم على الأعناق، ولم يثبت في الميدان إلا من تصب الأمة عليهم الآن جام غضبها من الشباب الطاهر الذي وحد الله جل وعلا وامتثل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أيها الحبيب يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف حال الكافر: (
فيقال له: من ربك؟ ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدرى -لا يعرف ديناً، ولا عاش للدين ولا على الدين- فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري، -فلا يعرف رسولاً، ولا يعرف نبيناً، وما عاش لهذا، هو في غنى عن كل هذا- فينادي منادٍ أن: كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من ريحها وسمومها، ويأتيه رجل قبيح الوجه نتن الريح، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي لا يجيء بخير؟ فيقول له: أنا عملك السيئ، وهذا يومك الذي كنت توعد فيقول: رب: لا تقم الساعة. رب: لا تقم الساعة!!).
أيها الأحبة! أظن أن في هذه الأدلة كفاية لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأسأل الله أن يجعلني وإياكم من المخلصين الصادقين، وأن يختم لي ولكم بخاتمة السعادة، وأن يرزقنا الزيادة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
في عجالة أذكرك -أيها الحبيب- بالعنصر الثاني، وهو أسباب عذاب القبر.
والحديث عن أسباب عذاب القبر من وجهين: مجمل ومفصل.
أما المجمل فإن معصية الله عز وجل أصل لكل بلاء، وعلى رأس هذه المعاصي الشرك، أسأل الله أن يرزقني وإياكم التوحيد، فإن أعظم زاد تلقى الله به هو التوحيد، وإن أبشع وأشنع ذنب تلقى الله به هو الشرك:
يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
أما التفصيل فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرت آنفاً- أن النميمة من أسباب عذاب القبر، وهناك الآن من المتخصصين في النميمة ما لا يحصى من العدد، رجال ونساء متخصصون في النميمة وفي نقل الفتن بين الناس لتأصيل العداوة والبغضاء في القلوب، يأتي إليك ليقول لك: قال فلان عنك كذا وكذا. ووالله ما قال فلان هذا، ثم ينطلق إلى الآخر فيقول: أوما سمعت ما قد قال فلان؟ لقد قال كذا وكذا! أوما سمعت؟ لقد قالت فلانة عنك كذا وكذا!
معشر المسلمين! النميمة سبب من أسباب عذاب القبر، قال المصطفى: (
أما أحدهما كان يسعى بين الناس بالنميمة)، وعدم الاستتار من البول، وعدم التنزه من البول سبب من أسباب عذاب القبر في الحديث الصحيح.
والكذب، والربا، وهجر القرآن من أسباب عذاب القبر، كما في حديث
سمرة بن جندب الطويل الذي رواه
البخاري، فقد ذكر النبي فيه من أسباب عذاب القبر الكذب، والربا، وهجر القرآن، والزنا والغلول، والغلول: كل شيء يؤخذ من الغنيمة قبل أن تقسم. ويدخل تحت الغلول السحت والحرام، من لا يتورعون عن أكل الحرام بأي صورة وبأي ثمن.
فالغلول من أسباب عذاب القبر، كما في الصحيحين في قصة الرجل الذي قتل، فقال الصحابة: هنيئاً له الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن الشملة والشملة: غطاء الرأس- التي أخذها يوم خيبر لتشتعل عليه في جهنم ناراً)، قال تعالى:
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
فهذه أسباب مجملة ومفصلة.
-
السبيل للنجاة من عذاب القبر