اشتداد ظلمة الليل مؤذن باقتراب الفجر، وإن ما نراه من فتن مدلهمة تعصف بالمسلمين، ومن تسلط أعداء الأمة على رقاب المؤمنين فضلاً عن ثرواتهم وخيراتهم لن يطول، فالليل الحالك قد أزف على الرحيل، بل قد بدأت تباشير الفجر بالظهور، وهذه الصحوة الإسلامية التي عمت بقاع الأرض خير شاهد على ذلك.
فصبراً أيها المسلمون! فما بين المحنة والمنحة إلا غشاء رقيق وهو الصبر.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! عنوان موضوعنا هو: حديث الركب.
والركب في اللغة: هم أصحاب الإبل في السفر. وحديث أصحاب السفر حديث متنوع الأطراف، متشعب الموضوعات، وإنما كان اختياري لهذا العنوان: (حديث الركب)؛ لأنني أود أن أتحدث في عدة موضوعات، وهذا يشبه حديث الركب في السفر.
هذه الموضوعات التي سنتناولها -إن شاء الله تعالى- هي:
الموضوع الأول: بشريات من القدس ولبنان.
الموضوع الثاني: أحداث الجزائر بين حرمة الدماء وعلامات الاستفهام!
الموضوع الثالث: رسالة من طبيب يكتبها بدموع الندم إلى محرر بريد (الأهرام).
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون كما قال الله عز وجل:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ 
[الزمر:18].
-
مبشرات من الأحداث الجارية في فلسطين ولبنان
أولاً: بشريات من القدس ولبنان:
منذ شهر فقط وقفت على هذا المنبر المبارك لأخطب في المسلمين خطبة الجمعة والتي كانت بعنوان: (بل هم الخنازير) كنت أرد فيها على إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود، الذين تطاولوا على البشير النذير، فصوروه على هيئة خنزير يطأ بقدميه قرآن الملك القدير! ويومها قلت: إننا نستبشر خيراً بقرب الفتح بعدما تطاول اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وقفت الأمة مكتوفة الأيدي! وما سمعنا زعيماً من زعمائها في مؤتمر صحفي قام يذب عن عرض المصطفى؛ فقلت: إذاً: والله نستبشر خيراً؛ لأن الذي سيتولى الدفاع عن المصطفى هو الله، وقد كان، فلم يمض إلا شهر واحد وتحقق ما تمناه كل مسلم ومسلمة، ففي الأسبوع الماضي تزلزلت الدولة العبرية اليهودية الصهيونية زلزالاً مزق قلوب رجالاتها ونسائها، بصورة لم تشهدها دولة إسرائيل منذ قيامها على حد تعبير
نتنياهو ، تزلزلت دولة إسرائيل بحدوث انفجارات مدوية في مدينة القدس التي تطاول فيها اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت انفجارات على أيدي بعض الفتيات اليهوديات! فسقط ما يزيد على مائتي رجل وامرأة من اليهود ما بين قتيل وجريح.
وأنا أقول: إن هذا هو أول انتقام من الله لنبيه، فلو تدبرت الحدث جيداً ما وجدت وراءه أي مسلم؛ إذ إن الفتيات اليهوديات كنَّ قد خططن لعملية انتحارية في القدس، أو بمعنى أدق لعملية تخريبية في القدس، فشاء الملك الذي لا راد لمشيئته أن تتفجر هذه العبوات الناسفة، فيسقط هذا العدد الذي لم يسقط قبله مثله في دولة إسرائيل لا سيما في مدينة القدس، ووالله الذي لا إله غيره! إنني لأعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذا إنما هو انتقام من الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم الذي خذلته الأمة، وما انتصرت له الأمة، وما هذا إلا تضميد لجراح قلوب كثير من الموحدين والموحدات ممن لا يملكون حولاً ولا قوة.
نسأل الله أن يضمد جراحنا، وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وبتخريب حصون اليهود المجرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبعده مباشرة وقعت حادثة أخرى لم يقع مثلها في تاريخ إسرائيل كله! هذه الحادثة تتمثل في قتل أحد عشر رجلاً من صفوة جنود وضباط الجيش الأمريكي من قوات الكومندوز، ومن قوات البحرية الأمريكية بعد إنزال فاشل تعدى خطوط العدو على حد زعم اليهود، أي: في جنوب لبنان، فقتلوا تقتيلاً وجهاً لوجه، وأصيبت إسرائيل بصدمة بالغة ظلوا طيلة ذلك اليوم في حيرة وفي دهشة! إذ لم يحدث مثل هذا من قبل في تاريخ الدولة الإسرائيلية، فقلت: هذا هو الانتقام الثاني من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وإنها بشريات!
ولا زالت البشريات مقبلة، بل إنني أستبشر خيراً بقرب الفتح، كما قال شيخ الإسلام
ابن تيمية طيب الله ثراه في (الصارم المسلول على شاتم الرسول): حدثني العدول من أهل الفقه والخبرة ممن كانوا يحاصرون بني الأصفر، أي: الروم، يقولون: كان الحصن يستعصي علينا، فيعجز المسلمون المحاصرون عن فتحه، يقولون: حتى إذا ما وقعوا في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشرنا خيراً بقرب الفتح مع امتلاء قلوبنا غيظاً مما قالوه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نستبشر خيراً بقرب الفتح -إن شاء الله- بعدما تطاول اليهود المجرمون ووقعوا في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي خذلت فيه الأمة كلها رسول الله! إلا من رحم ربك من أفراد لا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قوة.
أسأل الله جل وعلا أن يملأ قلوب وبيوت اليهود ناراً، وأن يملأ قلوبهم نكداً وحزناً وهماً وغماً، كما مزقوا قلوب الموحدين والموحدات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
-
علامات استفهام حول أحداث الجزائر
الموضوع الثاني: أحداث الجزائر بين حرمة الدماء وعلامات الاستفهام!!
تكلمت في خطبة جمعة عن أزمة العقل المسلم، ومما زادني حسرةً وألماً أنني وجدت بعد الجمعة من اعتقد أنني كنت أتكلم عن حادث وفاة سندريلا القرن العشرين، وأنا ما تحدثت عن الحادث أبداً، وإنما وقفت عند الحادث لأستخرج منه الدروس والعظات والعبر، لاسيما وأن الحادث قد أحدث شرخاً رهيباً في صرح عقيدة الولاء والبراء، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العقل المسلم يعيش حالة أزمة، ويتعامل كثير من المسلمين -الآن ومن قبل- مع الأحداث تعاملاً خطيراً، فتسمع من بعض المسلمين من يتهم المسلمين في الجزائر بهذه المجازر والمذابح المروعة! وهذا الذي يتهم المسلمين في الجزائر بذلك لا يفهم قرآناً ولا يفهم سنة، ولا يقف على سنن الله الربانية في كونه!
تدبر معي أيها الحبيب الكريم! أحداث الجزائر التي تخلع القلب الآن! ويجب على المسلم أن يعيش أحوال أمته، وأن يعيش جراح إخوانه، قال عليه الصلاة والسلام: (
مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فلا يجوز لمسلم أن يأكل ملء بطنه، وأن ينام ملء عينه، وأن يضحك ملء فمه، وأن ينظر إلى أحوال إخوانه وأخواته هنا وهنالك فيهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من بعيد ولا من قريب! فإن هذا لا يستحق هذه النسبة الإسلامية الشريفة، بل إن الله جعل المؤمنين إخوة، فقال تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 
[الحجرات:10].
والدماء لها حرمة عظيمة عند رب الأرض والسماء، ولقد كرم الله الإنسان، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً 
[الإسراء:70] ، فلقد خلق الله الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كل هذا من أجل الإنسان، وأنزل عليه شريعةً ضمنت له كل الحقوق، وضمنت له الحياة السعيدة الأبية الكريمة، ومن أعظم وأكبر هذه الحقوق التي ضمنتها الشريعة للإنسان هي: حق الحياة، ولا يجوز أبداً لأحد أن يسلب هذه الحياة ممن وهبها له الله سبحانه وتعالى، إلا في الحدود الشرعية التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، فلا يجوز أبداً أن تنتهك حرمة الحياة، وأن تسفك دماء المؤمنين والمسلمين إلا بالحق الشرعي الذي قرره الرب العلي، والحبيب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ 
[الأنعام:151].
-
الحالات التي يجوز فيها قتل المسلم
-
بعض الحقائق في أحداث الجزائر
وبعد هذه المقدمة التي طالت أقول: من هو المسلم الذي يجرؤ أن يتهم مسلماً على وجه الأرض أنه قد استحل سفك الدماء؟! ومن هو الذي يتهم الإسلاميين في الجزائر بأنهم يقومون بهذه المجازر والمذابح بعد ظهور هذه الحقائق؟! إن هذا ليس إلا ذراً للرماد في العيون، بل هو طمس للعيون، خذوا هذه الحقائق وتدبروها جيداً لتعلموا الحق:
أولاً: ما يسمى بمثلث الموت أو مثلث الرعب في الجزائر! الذي حدثت فيه في غضون شهرين ما يزيد على عشرين مذبحة، يتكون من ثلاث مدن بقراها، هذه المدن والقرى تحيط بالجزائر العاصمة في مسافة لا تزيد على عشرين كيلو فقط، وتدبر هذا جيداً! الجزائر العاصمة تحولت الآن إلى ثكنة عسكرية، والجيش حول العاصمة تحولوا إلى ثكن عسكرية، ففي مدينة واحدة فقط سبع قواعد عسكرية، لتكون بمثابة خط الدفاع الأول ضد الإسلاميين على العاصمة الجزائر! هذه المدن الثلاث التي تسمى بمثلث الرعب فيها قوات الأمن وقوات الجيش بصورة مكثفة، ومع ذلك حدث فيها في غضون الشهرين الماضيين ما يزيد على عشرين مجزرة أو عشرين مذبحة، راح ضحية هذه المجازر والمذابح ما يزيد على ألفي رجل وامرأة وطفل.
أقول: المجازر الأخيرة التي حدثت في الجزائر تركزت في ثلاث مدن بقراها هذه المدن تحيط بالجزائر العاصمة في مثلث يسميه الجزائريون الآن بمثلث الرعب أو بمثلث الموت؛ جل من سقط مذبوحاً من الرجال والنساء والأطفال في هذه القرى والمدن هم أهل الإسلاميين!! وتطاول المجرمون وقالوا: إن هذه حرب تصفية بين الإسلاميينوبعضهم البعض!
ثانياً: المذبحة الأخيرة التي راح ضحيتها ما يزيد على خمسمائة رجل وطفل وامرأة، في حي يقال له: حي سيدي موسى، هذه المساحة قتل المجرمون فيها الرجال والأطفال والنساء, وبقروا بطون النساء! وقطعوا رقاب ورءوس بعض النسوة والأطفال! وعلقوا الرءوس على أبواب المنازل! ثم اغتصب في هذه المذبحة ما يزيد على مائة فتاة! ثم قتلن بعد ذلك! هل يفعل ذلك مسلم؟! والله الذي لا إله غيره إنه لا يفعل ذلك مسلم على وجه الأرض يحمل ذرة إيمان!
والأمر الأخطر من هذا، أين قوات الأمن؟! وأين قوات الجيش التي لا تبعد عن حي سيدي موسى أكثر من عشرين كيلو؟! وأين كانت هذه القوات لمدة خمس ساعات متواصلة يذبح فيها المجرمون ويقتلون؟!
والحقيقة عن العلامة الاستفهامية الأخيرة -وهي خطيرة- هي ما نشرته مؤخراً منظمة العفو الدولية، هذا مع تحفظي على مثل هذه المنظمات، لكن أقول: إذا نطق الأعداء فالحق ما شهدت به الأعداء، مع أنهم قد احترفوا الكذب والتضليل والتلبيس، إلا أن منظمة العفو الدولية قد أصدرت أخيراً تقريراً تحت عنوان (الصمت والخوف) هذا التقرير لمنظمة العفو الدولية يتهم المليشيات الجزائرية التي تنتمي إلى الجيش الجزائري، والتي شكلها الجيش عام (1992م) للقضاء على الجماعات الإسلامية في داخل الجزائر، وتتكون هذه الميلشيات من جماعتين: الجماعة الأولى: تسمى: (جماعة قوة الدفاع الذاتي) والجماعة الثانية: تسمى: (حراس القرى)!
هذه الجماعات وهذه الميلشيات سلحتها الحكومة الجزائرية، وأمدتها بالسلاح؛ لتقليم أظافر الإسلاميين، وفي القرى التي تقام فيها هذه المذابح الآن رفض أهل هذه القرى وأهل هذه المدن هذه المليشيات، وأصبح جل هؤلاء ممن يحبون الإسلاميين، وكانوا ممن صوتوا للإسلاميين في انتخابات الجزائر التي نحي عنها المسلمون قبل ذلك! وهؤلاء رفضوا أن يتسلموا الأسلحة من الحكومة الجزائرية ليساهموا في (قوة الدفاع الذاتي) أو ليساهموا في (قوات حراس القرى)، فتتهم منظمة العفو الدولية هذه الميلشيات بأنهم هم الذين قاموا بهذه المذابح المروعة؛ لتقليم أظافر الإسلاميين، ولمن صوتوا للإسلاميين! وهم لا زالوا إلى الآن يرفضون أن يصوتوا للحكم العسكري داخل الجزائر، ويريدون للحكم الشرعي أن يسود البلاد، فالحكومة تنتقم من هؤلاء على أيدي هذه الميلشيات التي شكلت عام (92م).
هذا ما أدين لله به في هذه المأساة المروعة، أما أن يصدق مسلم أن مسلماً صلى لله، يخرج على نساء وأطفال وشيوخ ليذبح وليزني ويغتصب النساء! ويعلق الرقاب على أبواب المنازل! ثم يقال هذا مسلم! فحاشا وكلا، والإعلام الغربي بدأ يغير اللهجة الإخبارية، وبدأ يغير اللهجة الدعوية في الخطاب الدعوي الآن؛ إذ إن الإعلام الغربي يقول: وعادة ما يلام في مثل هذا الإسلاميون! وهذا تغيير لا شك.
فالجزائريون الآن يشيرون بعلامات استفهام ضخمة جداً: من وراء هذه الأحداث في الجزائر؟! من الذي يسفك الدماء المسلمة؟! ومن الذي يقتل النساء؟! وأنا أدين لله بأن العدو الأول في الجزائر هم من نحوا الإسلاميين أول مرة. سبحان الله! حبس المسلسل يا إخوة! ووضع بدقة رهيبة محكمة في بلاد غربية تتغنى إلى الآن بالديمقراطية! فيقال لهم: أنتم تعبدون الديمقراطية وتقدسونها، والإخوة المسلمون في الجزائر وصلوا إلى دفة الحكم عن طريق هذه الديمقراطية التي تدعونها وتزعمونها! هذا مع تحفظي على مسألة الديمقراطية، ولي فيها كلام آخر، ولست بصدد الحكم عنها الآن، لكن أقول للغربيين الذين يعبدون الديمقراطية ويقدسونها: وصل الإسلاميون في الجزائر بقانون الأصوات الذي وضعتموه، وصوّت الشعب الجزائري في أغلبه للإسلام وللإسلاميين، فتدخل الغرب الذي يتغنى بالديمقراطية، والذي لا يريد للديمقراطية أبداً أن تسود على غير أرضه، فإن تمثال الحرية في نيويورك يصدم الذاهب إلى أمريكا؛ وإنما يضحكون به على بقية شعوب العالم؛ إذ إن هذه الدولة تضرب العالم وتسوق العالم كله بعصاً غليظة، ولا تريد للإسلام ولا المسلمين أن يسودوا أبداً، ولا أن يحكموا شرع الله أبداً، مع أن شرع الله فيه الأمن والأمان.
وأقول: سقط في الجزائر خلال خمس سنوات فقط ما يزيد على مائة وستين ألف مسلم ومسلمة، لصالح حفنة قذرة ممن لا تريد لشرع الله أن يحكم، وممن لا تريد لشرع الله أن يسود، جلسوا على الكراسي وأزهقوا كل هذه الأرواح، يعني: بمعدل خمسين قتيلاً كل يوم في الجزائر من أجل حفنة قذرة ممن لا تريد لشرع الله أن يحكم وأن يسود! ثم بعد ذلك يلقى باللوم على من قدمهم الشعب ليحكموا الناس بشرع الله!!
أسأل الله أن يرفع عن إخواننا في الجزائر الهم والكرب والغم، اللهم ارفع الهم عن إخواننا في الجزائر، اللهم فرج كربهم، اللهم سكن آلامهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم انتقم من عدوهم في الخارج والداخل، اللهم انتقم من أعداء الجزائر في الخارج والداخل، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم أخرجهم من بين أعدائهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
أرجو أن ننظر إلى الأحداث بهذه الرؤية، وأنا أكلف كل من يبلغه كلامي أن يبلغ غيره؛ حتى لا يزل مؤمنٌ في اتهام أخ له يدين لله ويؤمن برسول الله، ويعلم يقيناً حرمة الدماء، كما قال الله وكما قال المصطفى رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.
الموضوع الثالث وأختم به: رسالة من طبيب يكتبها بدموع الندم إلى بريد الأهرام:
بتاريخ (15/8/1997م) كتب طبيب إلى بريد الأهرام يقول:
أنا -يا سيدي!- طبيب سابق بالمستشفى الجامعي بأكبر مدن الصعيد، وأبلغ من العمر خمسة وستين عاماً، وقد ترددت طويلاً في أن أكتب إليك، ثم استجمعت إرادتي لكي أزيح عن كاهلي ما لا أطيق، فلقد نشأت في أسرة فقيرة بل ومعدمة، وكنت أستذكر دروسي في طفولتي وصباي على لمبة الجاز، وتحت عمود الكهرباء في الشارع، وأعمل في الإجازة الصيفية لتدبير نفقات الدراسة، حتى حصلت على بكالوريوس في الطب، ودرست (الماجستير) وحصلت عليه، وتزوجت، وأصبحت لي أسرة صغيرة، وبيت ملائم، واشتهرت كطبيب في مدينتي، وانهمر الرزق عليَّ، وبدلاً من أن أشعر بأحاسيس الفقراء الذين كنت منهم، وأعلم معاناتهم واحتياجاتهم فقد وجدتني أتحول في عملي تدريجياً إلى جزار أو منشار، ينشر هؤلاء البسطاء ويمتص دمهم بلا رحمة وحنان، ويحنو في نفس الوقت على الأغنياء ويتملقهم!
وحين أكتب إليك رسالتي هذه الآن يتراءى لي وجه مريض بائس كان يحتاج لإجراء جراحة خطيرة، وطلبت منه قبل أن يدخل المستشفى الخاص بي أن يدفع مبلغاً معيناً، ولم يكن معه سوى نصف هذا المبلغ فقط، فجعل المريض يبكي ويستعطفني ويرجوني أن أرأف بحاله، وأن أقبل منه ما معه من المال، ولكنني أصررت على موقفي بصرامة، وطلبت منه أن يدبر المبلغ كاملاً خلال اثني عشر ساعة وإلا فلن أجري له الجراحة!
فهرولت زوجته لتبيع ذهبها القليل وما عندها من ماشية، ورجعت إليَّ بالمبلغ، وبدأت في تحضير المريض للجراحة، فإذا بالمريض يموت قبل أن أجري له الجراحة بنصف ساعة فقط، فلم أفكر لحظة في أن أرد المبلغ لأهله المفجوعين والمعدمين! وإنما كنت أزعم لهم أن المريض قد مات أثناء الجراحة؛ لأستولي على المبلغ كله باعتباره أنه أجر لهذه الجراحة، حتى ولو كانت الجراحة لم تتم أصلاً!
كما تتراءى لي أيضاً صورة مريض آخر لم أسمح له بدخول المستشفى الخاص بي، وتركته يدعو الله عليَّ ويرجو الله لي سوء المآل!
أما وجه ذلك الطبيب الشاب -أو الذي كان شاباً وقتها- فإنه لا يتراءى لي، وإنما يطاردني بملامحه، وبآخر ما نطق به من كلمات في آخر لقاء بيني وبينه! فلقد كان هذا الطبيب الشاب يستحق التعيين في المستشفى الجامعي الذي أعمل فيه لتفوقه، لكني حرمت هذا الطبيب وحرمت زملاءه الذين يستحقون التعيين في هذا المستشفى بعد حصولهم على الماجستير بلعبة حقيرة، وعينت بدلاً منهم ابني وابن شقيقي وابنة شقيقتي!
وجاءني هذا الطبيب الشاب ليقول لي بأنه سوف يرحل عن المدينة كلها؛ ليعمل بإحدى الدول العربية، لكنه يعلم علم اليقين أن الله لن يضيع حقه هدراً، وأنه لن يتركني بلا عقاب، ثم قال لي: ولسوف يجيء اليوم الذي أعض فيه على بنان الندم على ما فعلت به وبزملائه من ظلم! ثم انصرف هذا الطبيب الشاب وأنا أبتسم وأنظر إليه باستخفاف، مترفعاً عن الرد عليه في الظاهر، ومتعمداً ذلك في الباطن؛ لكي لا يضاعف هذا الطبيب من ثورته ومن حنقه عليَّ حتى لا ألقى ما يحرجني من إهانة أمام المساعدين والممرضات.
ومضى الشاب إلى حال سبيله، ونسيت هذا الشاب، ونسيت زملاءه الذين أضعت عليهم فرصة التعيين بالمستشفى سنوات طويلة، ولا أعرف ماذا جرى لهم من خلالها.
يقول: ولعلك الآن تتساءل: لماذا أروي لك هذه الواقعة وغيرها من الوقائع التي قد تسيء إلي وإلى أبنائي وأقربائي إذا تعرفوا على شخصيتي من خلال هذه الرسالة؟
وأجيبك على التساؤل: بأنني لم أعد أهتم بأحد من هؤلاء جميعاً بعد أن تركوني وتخلوا عني! أما لماذا تخلوا عني يا سيدي؟! ولماذا انشغلوا بأنفسهم؟ فلأنني قد مرضت -ويا للعجب!- منذ ثلاث سنوات، مرضت بالمرض اللعين الذي تخصصت في علاج المرضى منه! ومنذ ثلاث سنوات وأنا أسافر للعلاج في الخارج كل سنة، واستهلك معظم ما جمعت من مال خلال سنوات عمري الطويلة، ولو واصلت السفر للعلاج على هذا النحو فلن يمضي أكثر من عام وأصبح بعد ذلك على الحديدة بلا مدخرات ولا مال ولا شيء سوى معاشي كطبيب، وذلك بعد أن تخلى عني أولادي! وبعد أن تخلى عني أبناء إخوتي الذين وضعتهم في مراكزهم وثبتهم فيها.
إنني أكتب إليك هذه الرسالة لأقول لكل من تسول له نفسه أن يظلم غيره: إن الله يمهل ولا يهمل، وإن عقابه شديد، كما أكتبها لك أملاً ورجاءً ودعاءً إلى الله أن يعفو عني، وأن يشفيني، وأن يغفر لي، وأملاً ورجاءً أيضاً لكل من ظلمتهم خلال رحلة الحياة أن يسامحوني فيما فعلت بهم؛ لكي يسامحني الله عز وجل، كما أرجو أن تصل رسالتي هذه عبر بابك إلى أبنائي، لكي يساعدوني ويرعوني في مرضي، وعذراً لأنني لم أكتب لك اسمي؛ لأني لم أستطع ذلك، مع أنني لا أعرف كيف استطعت أن أكتب لك هذه الرسالة! لكني أظن أن الله عز وجل سيكتب لي بعد اعترافي بكل ما فعلت الشفاء، وسيجعل لي مخرجاً من ضيق ذات اليد، وبارك الله فيك وفي أمثالك، والسلام.
وهذه الرسالة لا تحتاج إلى تعليق!
أسأل الله عز وجل أن يشفي هذا الرجل، ونحن لا نعرفه، ولكن الله يعرفه، نسأل الله أن يتقبل منه ندمه وتوبته.
-
أعظم شروط التوبة هو الندم
وأقول: قال الإمام
ابن القيم رحمه الله: الندم هو ركن التوبة الأعظم، وأبشرك أيها الطبيب! أن الله عز وجل ما دام قد وفقك وألهمك إلى أن تذكر فضله عليك، وإلى أن تعترف له بتقصيرك وفقرك وعجزك قبل أن تغرغر فأبشر، لعل الله أن يختم لك بخاتمة الخير، فإن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر.
وأود أن أذكر نفسي وإخواني جميعاً بأن كفران النعمة سبب لزوالها، فيا من أنعم الله عليك بنعمة! اعلم بأن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، فاعترف بفضل الله، واعلم بأن الشكر مأمور به، كما قال تعالى:
اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً 
[سبأ:13] ، والشكر يدور على اللسان والجنان، القلب والأركان، ففي الصحيحين (
أن النبي قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!).
فالشكر يقتضي منا أن نحمد الله باللسان، وأن نشكر الله بالجنان، وأن نشكر الله بالجوارح والأركان.
يا من منَّ الله عليه بنعمة العين! إياك أن تستخدمها في معصية الله، يا من منَّ الله عليك بنعمة الصحة! استخدم العافية في طاعة الله عز وجل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.