إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [131]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جهاد الكفار قائم إلى قيام الساعة، وقد جعل له الشرع ضوابط وأحكاماً، يجب على المجاهد معرفتها، ومن هذه الأحكام أن الكفار يخيرون قبل أن يقاتلوا بين ثلاث: إما الدخول في الإسلام، وإما أن يدفعوا الجزية، وإما أن يقاتلوا، والجزية من الأحكام التي عُطلت اليوم؛ وذلك لنكول المسلمين عن الجهاد، وخضوعهم لسيطرة أعدائهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    1.   

    وجوب الوفاء بالعهد

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه) ].

    قلنا فيما سبق في الباب الذي قال فيه: (باب: قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]) إن هذا بدء بفن جديد من نوع جديد من أنواع التوحيد، ولا يزال مستمراً فيه إلى آخر الكتاب، فهنا يقول: (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم) والمقصود بالذمة: العهد الذي يعطيه الإنسان، مثل أن يقول: عليّ عهد الله أني ما أفعل كذا وكذا، أو أني أفعل كذا وكذا، وهذه العهود تكون بين الأمم غالباً، وتكون بين القبائل والجماعات التي تعقد العهود بالمواثيق، وقد تكتب العهود كتابة، فإذا أعطي عهد الله في مثل هذا فالأمر فيه صعب جداً، ومن خان ذلك فقد خان الله، ومن يخن الله فقد باء بالسخط والغضب، والله لا يترك من أخفر ذمته.

    المقصود من هذا: تعظيم الله وتوقيره وتقديره حق قدره، والابتعاد عن مساخطه، وهذا من معاني ربوبيته جل وعلا؛ لأن معنى الرب: المالك المتصرف الذي ينفذ أمره في الخلق، ويجب أن يكون أمره هو المطاع، وأن يوقف عند الذي منع منه ولا يُتجاوز، فإن الإنسان إذا لم يفعل ذلك فقد تجرأ جرأة عظيمة، ويوشك الله أن يأخذه عاجلاً في الدنيا قبل الآخرة.

    ثم إنه أراد بهذا: أن الإنسان يعلم هذا الشيء ويجتنبه، فإذا قدر أنه وقع بينه وبين غيره عهود وذمم فعليه أن يبذل ذمته هو، فيقول: أعطيك ذمتي ولا أعطيك ذمة الله وذمة رسوله، بل تكون ذمتي بيني وبينك.

    فإذا وقع الخلاف -وإن كان عظيماً- فإنه يكون في ذمته، وهذا أسهل من أن يكون وقع خلاف في ذمة الله وذمة رسوله، وهذا في العهود الجماعية التي تكون -مثلاً- في الحروب بين قوم وآخرين، والحرب يكون لها قائد، والقائد هو الذي ينفذ هذه الأشياء، فإذا أعطى لمن يحاربهم ذمة الله وذمة رسوله فقد يخالف أحد الأفراد من المقاتلين، فيكون بذلك قد أخفر ذمة الله وذمة رسوله؛ لأن فعل واحد منهم كأنه فعل الجميع، فهذا الذي أراد التنبيه عليه، فإذا حصل مثل هذا الشيء فينبغي على الذي عقد العقد أن يعطي ذمته لا ذمة الله وذمة رسوله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا كما سيأتي في الحديث.

    ثم إن الله جل وعلا أمرنا بالوفاء بالعهد، فقال: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الإسراء:34] وقال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] وقال: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91] والأيمان هنا هي الأيمان الجماعية التي تكون بين الجماعات وبين الأمم، فيجب أن يوفى لهم بما عُقد لهم وبما عوهدوا عليه، فإذا حصل النقض منهم صار قتلهم مباحاً؛ لأن الخيانة جاءت منهم، كما حدث من قريش لما عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية فإنه كتب عهداً بينه وبينهم: أن الحرب تُوضع عشر سنوات لا يكون بينهم قتال فيها، ومن أراد من القبائل أن يدخل في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدها دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفه، وأسلم منهم من أسلم، فاعتدت عليهم قبيلة بنو بكر وكانت محالفة لقريش، وأعانتهم قريش على ذلك، ولما حصل هذا صار ذلك خيانة ونقضاً للعهد، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة.

    وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وصفة الحلف الذي كان في الجاهلية: أنه كانت تجتمع قبيلتان -مثلاً- ويعقدوا بينهم حلفاً وعهداً على التناصر والتعاون على العدو، والإسلام ليس فيه هذا؛ لأن الإسلام أغنى عن ذلك كله، فقد جعل الناس كلهم على دين واحد وعلى ملة واحدة وعلى طريق واحد متعاونين متآخين، متناصرين على الحق مدافعين للباطل، هذا شأنهم، وهذا الذي يجب عليهم، ولهذا قال: (لا حلف في الإسلام) ولكن إذا وجد الحلف فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة، هذا هو المقصود هنا، فلا يقال: هذا نظير ما سبق، بل هذا أمر آخر أخص منه.

    1.   

    نقض العهد ذنب عظيم

    قال المصنف رحمه الله: [وقوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91]].

    معنى الآية: أن الله جل وعلا أمرنا إذا أعطينا غيرنا عهد الله أننا لا نفعل كذا أو أننا نفعل كذا فإنه يجب الوفاء بهذا العهد، وإن كان الذي أعطيناه العهد كافراً فيجب أن يوفى له بذلك.

    ثم نهى عن نقض هذا العهد، فقال: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقد أكدت بذكر الله؛ لأنه يقول: لك عهد الله عليّ، أو لك يمين الله عليّ أنه ما يحصل كذا أو يحصل كذا، وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا يعني: جعلتم الله عليكم رقيباً وشاهداً فيما فعلتم، وقلتم: إن الله جل وعلا هو الكفيل، يعني: الذي يأخذ لكم الحق إذا خانوكم، ومن قال ذلك وجب عليه أن يحذر المخالفة؛ فإنه إن خالف فهو على خطر عظيم.

    قال الشارح رحمه الله: [قال العماد ابن كثير : وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا قال: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ولا تعارض بين هذا وقوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]وبين قوله: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]أي: لا تتركوها بلا تكفير، وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إني والله! إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها -وفي رواية- وكفرت عن يميني) لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي قوله: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ؛ لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في هذه الآية: يعني: الحِلف أي: حِلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وكذا رواه مسلم ، ومعناه: أن الإسلام لا يُحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.

    وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:91] تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها]

    يعني: أن هذه الآية لا تعارض قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ .

    1.   

    شرح حديث بريدة: (كان رسول الله إذا أمر أميراً...)

    قال المصنف رحمه الله: [وعن بريدة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبو فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟)رواه مسلم ]

    الذمة المقصود بها: العهد، وعهد الله هو: الميثاق الذي يتعاقد به بين فريقين، وهذا خلاف ما سبق في الباب الذي قبله؛ لأن الذي قبله المقصود به: الحلف الذي يحلفه الإنسان على أمر إما يريد منه الحث على فعله، أو يريد الامتناع من فعله، وأما هنا فالمقصود به: العهد الذي يكون بين الدول أو بين المتحاربين أو بين قبائل أو بين الجماعات، يتعاهدون على شيء معين ويجعلون بينهم عهوداً ومواثيق، ومن نقض هذا العهد والميثاق فهو معرض لعقاب الله جل وعلا، فإذا أراد أن يتعاهد مع أحد فيتعين أن يكون العهد على عهودهم ومواثيقهم هم، فلا يقولون: بيننا وبينكم عهد الله، أو ميثاق الله، أو ذمة الله؛ لأن هذا أمره خطير جداً، وإذا نقضه أحد الأفراد انتقض، ولا يلزم أن يكون الجماعات هم الذين ينقضونه، بل يكفي في نقضه فرد من الجماعة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما حصل بينه وبين كفار قريش ميثاق نحو هذا، فبعض كفار قريش أعان الذين قاتلوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمال وبالسلاح فصار هذا نقضاً للميثاق، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم نقضوا الميثاق، فإذا قدر أن يكون هناك عهود فيجب على المسلمين أن يعطوا المعاهد عهد المسلمين؛ لأنهم إذا نقضوا فإن الذي ينقض هو عهد المسلمين، وهذا أهون وأسهل من أن يُنقض عهد الله وذمة الله وميثاقه، وفي هذا أنه يعمل أقل الأمرين ضرراً، ويتجنب أعظمهما ضرراً، وكذلك مثله ما إذا حاصر المسلمون أهل حصن أو أهل بلد ثم أراد أهل البلد الاستسلام، وقالوا: نريد أن تجعلوا لنا عهد الله على أنه ما ينالنا كذا وكذا، أو قالوا: نريد أن ننزل على أن تحكموا فينا بحكم الله، فلا يعطون ذلك؛ لأن حكم الله يجب أن يعمل به ويمتثل، وحكم الله فيهم يخفى على كثير من الناس، ولكن يقال لهم: تنزلون على حكمنا، ونحكم فيكم على ضوء ما نرى أنه الحق مما جاءنا عن الله وعن رسولنا، وهذا يدلنا على أن حكم الله واحد لا يتغير في الأشياء كلها، وأن المجتهد قد يصيب حكم الله وقد يخطئه، وأن كون الإنسان يحكم باجتهاده لا يمكن إلا إذا كان أهلاً للاجتهاد، أما الجاهل فهو لا يحكم، بل الجاهل لا يجوز أن يحكم أصلاً، وكونه يُنصِّب نفسه للحكم هو في الحقيقة يسلك طريقه إلى النار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، أما اللذان في النار فرجل عرف الحق فقضى بخلافه، فهو في النار، والآخر لا يعرف الحق، فهو يقضي بجهل، فهو في النار) وإن أصاب الحق فهو في النار؛ لأنه ما عرف الحق، وإنما أصابته للحق قد تكون مصادفة، ليس عن علم وقصد، أما الذي في الجنة فهو الذي يعرف الحق ويقضي به، وكذلك القاضي يكون قاضياً بين متخاصمين ولو في قضية واحدة، فإذا جاءك اثنان يحكمانك في أمر من الأمور فأنت قاضٍ، ويشملك هذا الحكم، فإذا رضي شخصان بحكمك وقالا: اقض بيننا ولو في قضية معينة فهذا قضاء، ومثله المفتي الذي يُستفتى فيفتي؛ لأنه يستفتى عن حكم الله في دينه وشرعه، فإن هذا أيضاً على خطر عظيم؛ لأنه يخبر الناس بحكم الله ويقول: الحكم في هذه القضية كذا وكذا، بل المفتي أشد خطراً من القاضي وأعظم؛ لأن المفتي يفتي عموم الناس، والقاضي يقضي في قضية معينة بين اثنين أو جماعتين، أما هذا فهو يفتي لكل الناس، فيعمل بفتواه خلق عظيم، فيصبح الخطر أشد من القضاء بكثير.

    ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا جاء من يسأل، كل واحد يود أن يُسأل غيره، وكل واحد لا يريد أن يجيب هو، ويقول: لعله يذهب إلى فلان؛ لأنهم يعرفون القضايا كما جاءت، أما في وقتنا فإذا جاء المستفتي رأيت الناس يتسارعون إلى الإجابة، وهذا بسبب قلة الدين عندهم في الحقيقة، وخفة المسئولية، وكونهم لا يبالون؛ لأنهم جهلوا فأقدموا؛ ولهذا جاء في الأثر: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)يعني: هذا هو الذي يذهب إلى النار بجرأة. نسأل الله العافية.

    المقصود من هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل جيشاً أو سرية أوصاهم. والفرق بين الجيش والسرية كما قال الحربي رحمه الله: السرية هي: ما تتكون من أربعمائة مقاتل فأقل، والآن قد تسمى كتيبة، وما كان أكثر من ذلك يقول: يسمى جيشاً، وقد جاء في الأثر: (لن يغلب ألف من قلة) وهذا يدل على أن الألف جيش، وإن كانت الأنظمة الآن قد اختلفت حسب اتباع الأنظمة الغربية؛ لأن المسلمين الآن لم يعد لهم استقلال في أي شيء، بل كل شيء يتبعون فيه أعداءهم، وللأسف!

    فكان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل من يقاتل في سبيل الله سواء كانوا كثرة أو قلة يؤمر عليهم أميراً قائداً يقودهم، ويوصيهم بطاعته وعدم المخالفة، ويوصيه بالرفق بهم وتقوى الله فيهم، ولا يحملهم ما لا يطيقون ولا يلجئهم إلى ما يهلكهم.

    وكذلك يوصيهم بتقوى الله، وتقوى الله هي: أن يجعل الإنسان بينه وبين عقاب الله وقاية، أي: واقياً يقيه وساتراً يستره من عذاب الله، وهذا لا يكون إلا بطاعة الله واتباع أمره واجتناب نهيه، فتقوى الله كما يقول طلق بن حبيب هي: (أن تفعل ما أمرت به على نور من الله رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه، وأن تجتنب ما نهيت عنه على نور من الله ترجو ثوابه وتخشى عقابه) هذه هي تقوى الله.

    ثم يقول: (اغزوا باسم الله) يعني: اشرعوا في الغزو مستعينين بالله جل وعلا، ذاكرين اسمه للاستعانة به في ذلك، فإن لم يعنكم الله فلا عون لكم، وأنتم المخذولون؛ فالأمور كلها بيد الله.

    ثم يقول: (قاتلوا من كفر بالله) وهذا عام يعم قتال جميع الكفرة، سواء نصبوا الحرب للمسلمين أو لم ينصبوها كما قال الله جل وعلا: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] وهذا خلاف ما يقوله كثير من علماء المسلمين الذي يجارون المستشرقين والكفار الذين أصبحوا يطعنون في الإسلام بأي شيء رأوه مخالفاً لأذواقهم وعقولهم وأوضاعهم وقوانينهم، فأصبح كثير من المسلمين يجارونهم، ويُخشى أن يكون هذا طعناً في الإسلام؛ لأنهم يقولون: القتال في الإسلام ما شرع إلا للدفاع عن النفس فقط، فإذا جاء الكفار لقتال المسلمين شرع لهم القتال، أما أن المسلمين يذهبون لقتال الكفار فهذا لا يشرع، ولماذا؟! لأن هؤلاء الكفرة يعيبون على الإسلام بأنه يرغم الناس على الدخول فيه بالقوة، ويقولون: الإنسان حر يجب أن تترك له الحرية، وهذا على قوانينهم الوضعية الشيطانية التي ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان، فمن شاء أن يكفر -على قوانينهم- يكفر، ومن شاء أن يفجر أمام الناس يفجر، فهو يفعل ما يريد بحجة الحرية، وهذا لا يدعو إليه إلا كل منافق مندسٍ في المسلمين، وهو في الحقيقة يدعو إلى الكفر، وإلى أن يكون الإنسان مطلق العنان يفعل ما يشاء من الكفر والفسوق والفجور في كل مجال.

    وكذلك يقولون: إن الإنسان له أن يعبر عما يشاء، وإن له حرية الرأي، ولكن في دين الله وأمره ليس له حرية، وهذا أمر عجيب!!

    فالمقصود: أن النصوص جاءت كثيرة جداً تأمر بقتال الكفار كما في هذا النص، يقول صلى الله عليه وسلم: (قاتلوا من كفر بالله)فهذا يشمل كل كافر يكفر بالله جل وعلا.

    والكفر أنواع متعددة: منه ما هو كفر عناد، ومنه ما هو كفر جحود، ومنه ما هو كفر نفاق، ومنه ما هو كفر شرك، أي: شرك بالله، ومنه ما هو كفر إعراض بالكلية، وعدم اهتمام بالدين، وهذا عند من لا يرفع به رأساً، ولا يهتم به، بل تكون همته دنياه فقط، فهذا يكون معرضاً.

    ثم قال: (لا تقتلوا وليداً) يعني: صبياً ليس له في القتال شأن، سواء كان ذكراً أو أنثى، ومثل ذلك الشيخ الفاني الذي لا دخل له في القتال، ومثل ذلك أهل الصوامع والبيع المعتزلون للتعبد، فهؤلاء لا يُقتلون ولا يُقاتلون، ومثل ذلك النساء، فإنه لا يجوز قتلهن، إلا إذا كنَّ يقاتلن كما هو في شرع الكفار وقوانينهم -فإنهن يقتلن، وكذلك كبار السن إذا أعانوا الكفار على القتال سواء بالرأي أو بالتدبير أو بالفعل فإنهم يقتلون، أما الذي لا شأن له في القتال فلا يجوز قتله، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى غزواته امرأة مقتولة فأنكر ذلك، وقال: (على ما تقتل؟)؛ فلا يجوز قتل النساء، وإنما يُقتل المقاتل الذي يقاتل المسلمين، أما غير المقاتلين فلا يجوز قتلهم.

    ثم يقول: (ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا)أما الغلول فهو: الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، والغنيمة تكون للمقاتلين الذين يقاتلون، فإذا غنموا من أموال الكفار شيئاً تقسم الغنيمة بينهم بالسوية، ولكن على قدر مكانتهم في القتال، فالقسمة كانت أن الراجل له سهم، والفارس لهم ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه، وهذا لما كان هناك قتال بين المسلمين والكفار، أما الآن في الوقت الحاضر فلم يعد المسلمون يقاتلون الكفار؛ لأن المسلمين أصبحوا متآخين متصاحبين مع الكفار، ولكن الله جل وعلا على كل شيء قدير، ولابد أن يبعث لدينه من ينصره، وأن يكون هناك قتال بإذن الله جل وعلا، والقتال الذي يجب أن يقاتل فيه هو ما كان قتالاً في دين الله فقط، أما القتال للدنيا فلا يجوز أن يقاتل فيه الإنسان المؤمن.

    والقتال الذي يحصل الآن في كثير من الأماكن أغلبه لأجل الدنيا، وطلب الرئاسات والحكم، وليس لطلب إقامة شرع الله، وإن وجد فهو من أفراد فقط، إنما القتال الذي إذا قتل الإنسان فيه يكون شهيداً هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، ليس ليكون الحكم لفلان، ولا يؤخذ الحكم من فلان، فإن هذا ليس في سبيل الله، وكذلك القتال ليكون البلد الفلاني تحت السيطرة الفلانية، ومأخوذ من سيطرة الدولة الفلانية، فإن هذا ليس قتالاً في سبيل الله.

    ثم يقول: (ولا تغدروا) والغدر هو: نقض العهد، يعني: إذا عاهدتم عهداً فلا تنقضوه، بل يجب عليكم أن توفوا به.

    ثم يقول: (ولا تمثلوا) والتمثيل هو: العبث بالمقتول، كالتشويه، يعني: كأن تقطع أنفه أو تقطع أذنه، أو تقطع بضع أعضائه أو كلها، وهذا لا خلاف في أنه حرام، كما أنه لا خلاف في تحريم الغلول وتحريم الغدر، فكلها حرام، وقد جاء أن الغلول يمنع من الشهادة، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما انصرف من خيبر ونزل في وادي القرى كان معه عبد فكان يحل رحل النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه سهم غرب -يعني: سهم ما قُصِد به- فضربه فقتله، فقال الصحابة رضوان الله عليهم: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله!، فقال صلى الله عليه وسلم: (كلا، إن الشملة التي غلها لتلتهب عليه الآن ناراً) والشملة هي: مثل العباءة الرديئة، أخذها قبل أن تصيبها القسمة، فقوله: (كلا) يعني: ليس شهيداً، لأجل هذه الشملة، ولما سمع الصحابة ذلك ذهب رجل فجاء بشراكين من نعل، فقال: هذان أصبتهما، فقال صلى الله عليه وسلم: (شراكان من نار، من غل شيئاً أتى به يوم القيامة) وشراك النعل هو: الذي يدخل فيه الأصبع، يعني: هذا الشيء القليل الحقير يجب أن يؤدى في المغانم، وإذا غله الإنسان كان عليه ناراً.

    فالغلول من المحرمات الكبائر التي تمنع من الشهادة، وأي فائدة في الحياة إذا كان من أخذ شيئاً من تافه أمور الدنيا منعه ذلك من الشهادة وأوجب له النار؟! نسأل الله العافية.

    وأما الغدر فقد قال الله جل وعلا: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقال: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91]، فهذا أمر من الله جل وعلا، ومخالفته معصية تعرض صاحبها للعقاب.

    وأما المثلة فقد تكاثرت النصوص في النهي عنها، ولا فائدة فيها؛ لأن المقصود إزالة هذا المقاتل عن طريق الدعوة إذا كان عدواً للحق، فإذا قتل يكفي، ولا داعي إلى أن يمثل به، وكثير من الناس قد يحرقه أو يقطعه وهذا محرم.

    ثم قال: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه)هذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يجعل بينه وبين من يعاهده ذمة الله خوفاً من أن يحصل الغدر من غيره، أما هو فكيف يغدر وقد جعل لهؤلاء ذمة الله؟! فإذا كان عنده إيمان فلن يرجع، ولكن قد يغدر من لا يقدِّر الأمر حق قدره، فضعاف الإيمان قد يغدرون، فيكون هذا الغدر نقضاً للعهد.

    ثم قال: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك) وهذا دليل على أن الإنسان لا ينبغي أن يقول: أنا أحكم بحكم الله في كذا وكذا، وإنما هو يجتهد ولا يعرف حكم الله قطعاً؛ لأن القضايا التي تجددت وكثرت تختلف، فيختلف الحكم فيها، فهو لا يدري هل هذا حكم الله أو أنه غير حكمه، ولكن عليه أن يجتهد، وإذا اجتهد -وهو أهل للاجتهاد- فإن أخطأ الحكم فهو مأجور، وإن أخطأ فخطؤه مغفور والأجر حاصل له.

    حكم التمثيل بالقتلى

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (عن بريدة هو ابن الحصيب الأسلمي ، وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في المفهم.

    قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى) فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم.

    قال الحربي : السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، والجيش ما كان أكثر من ذلك.

    وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه.

    قوله: (ومن معه من المسلمين خيراً)أي: ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيراً: من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم.

    وقوله: (اغزوا باسم الله) أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له.

    قلت: فتكون الباء في (باسم الله) هنا للاستعانة والتوكل على الله.

    وقوله: (قاتلوا من كفر بالله) هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر، المحاربين وغيرهم، وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلاً به: (ولا تقتلوا وليداً)وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالباً، وإن كان منهم قتال أو تدبير قُتلوا. قلت: وكذلك الذراري والأولاد.

    قوله: (لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا) الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد، والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به، ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة.

    وقوله: (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال) الرواية بالشك، وهو من بعض الرواة، ومعنى الخلال والخصال واحد].

    الصواب: أن المثلة محرمة؛ لأن النصوص صريحة في ذلك، ولا يصرف معنى التحريم إلى الكراهة شيء، إلا أن بعض العلماء رخص في المثلة بقتلاهم إذا مثلوا بقتلانا، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الحديث يقول: (ولا تخن من خانك) ومن عصى الله فيك فلا تعص الله فيه، والمسلم يجب أن يلتزم بحكم الله، ولا يتعداه لكون الكفار تعدوا حكم الله.

    فالصواب: أن التمثيل محرم للنصوص الناهية عنه، وفي هذا النص لم يفرق بين التمثيل والغلول والغدر، بل جعله معها.

    أوجه الإعراب في (أيتهن)

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب (أيتهن) على أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر، و(ما) زائدة، ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف جر.

    قلت: فيكون في ناصب (أيتهن) وجهان -ذكرهما الشارح-: الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض].

    المقصود بالشارح: شارح صحيح مسلم ، والوجهان الأول: أنه يكون منصوباً بالفعل، والفاعل في أيتهن أجابوا، والثاني: أن يكون على تقدير حرف الجر، أي: فإلى أيتهن ما أجابوك فاقبل، فإذا حذف حرف الجر نصب المجرور ويقال فيه: إنه نصب على نزع الخافض.

    حكم الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم (ثم ادعهم) بزيادة (ثم) والصواب: إسقاطها كما روي في غير كتاب مسلم كمصنف أبي داود ، وكتاب الأموال لـأبي عبيد ؛ لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال.

    وقوله: (ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين) يعني: المدينة، وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرها].

    الهجرة هي: الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإسلام، وهي باقية حتى تطلع الشمس من مغربها، أي: إلى قيام الساعة، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) فالمقصود بالفتح: فتح مكة، أي: أنه لا هجرة من مكة بعد الفتح؛ لأن مكة أصبحت دار إسلام، وإلا فالهجرة من بلاد الكفار باقية.

    والهجرة قد تجب على الإنسان وجوباً عينياً لقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97] وهؤلاء إذا كانوا لا يستطيعون أن يمارسوا شعائر دينهم، ولا يستطيعون أن يظهروا دينهم، كأن يكونوا في بلد لا يستطيعون أن يصلوا ويصوموا جهاراً، ولا يستطيعون أن يظهروا عبادة الله جهاراً، فإنه يجب عليهم في هذه الحالة أن يهاجروا إلى البلد الذي يستطيعون إظهار دينهم فيه، ولا يلزم أن تكون الهجرة إلى بلد معين، لا المدينة ولا غيرها، بل أي بلد يستطيعون إظهار دينهم فيه فيجب عليهم الهجرة إليه.

    أما إذا كانوا مستطيعين إظهار الدين ولا أحد يمنعهم من ممارسة شعائر دينهم، ولا أحد يمنعهم من أن يظهروا توحيد الله وعبادته فإنه لا يجب عليهم أن يهاجروا في هذه الحالة، بل يبقون في البلد الذي يستطيعون فيه أداء شعائر دينهم ظاهراً.

    سبب انقطاع الهجرة في هذا الزمن

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فإن أبوا أن يتحولوا) يعني: أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يُعطى من الخمس ولا من الفيء شيئاً، وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب، فلم يرَ لهم من الفيء شيئاً، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم].

    هذا من الأحكام التي تركت، ولم يعد يُعمل بها؛ لأن المسلمين تركوا الجهاد في سبيل الله، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أنه يوشك أن تتداعى علينا الأمم من أقطار الأرض فقالوا: يا رسول الله! أمن قلة نحن؟ قال: (لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل) وغثاء السيل لا خير فيه، فالسيل إذا جاء يأخذ معه الشيء الذي لا خير فيه ويرميه على الجانب، هذا هو الذي يسمى غثاء السيل (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله من قلوب أعدائكم المهابة) يعني: لم يعودوا يهابونكم ولا يرهبونكم، (ويقذف في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، ويقول في حديث آخر: (إذا اتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم) هذا هو الذل الذي يُقذف في القلب بسبب حب الدنيا وكراهة الموت، فإذا كان الإنسان يحب الدنيا ويكره الموت فلا يمكن أن يجاهد؛ لأنه يخشى أن يقتل فيترك الدنيا التي يحبها، فالموت مكروه عنده، ويصبح نظير الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء أخبر الله جل وعلا عن حالهم السيئة إذا تركوا الجهاد، بل أصبح الناس الآن إخواناً لا فرق بين ملحد ومؤمن وكافر وتقي إلا عند من شاء الله، ولهذا السبب صار هناك من الناس من دعاه هذا الأمر إلى التطرف وإلى رد الفعل فجاء بمنكر آخر لا يسوغه الإسلام، وهو أنه أصبح يكفر الناس بالعموم، ويقول: كل من مالأ الذين يحكمون بالقوانين ويتركون الشرع أو رضي بهذا الوضع فهو كافر، وهذا منكر من القول وزور، والذي يدعو إليه هو الجهل. نسأل الله العافية.

    المقصود: أنه لابد أن يقوم لدين الله من يقوم بإذن الله جل وعلا، ولكن هناك فترات -كما هو معروف- يحصل من الناس فيها جفاء للدين وفترات يحصل منهم إقبال على الدين، وإن من الجفاء أن يجفو الناس بأسرهم، ومن الإقبال أن يتفقهوا في دين الله ويرغبوا فيه بأسره، لكن أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن القتال سيبقى في هذه الأمة إلى قيام الساعة، وأنه سيكون في هذه الأمة من يقاتل الدجال، والدجال من المفسدين الذين يظهرون في آخر الزمان، وأول ما يظهر يدعو إلى الإصلاح ويزعم أنه مصلح وأنه جاء بالعدل، فيتبعه أكثر الناس، ولكن بعد ذلك يزعم أنه نبي، ثم بعد ذلك يزعم أنه الله رب العباد، فيُبتلى الناس به، فتكون فتن عظيمة، حتى إنه يأتيه الرجل فيقول له الدجال: إذا أحييت أباك وأمك وجئت بهما أمامك تؤمن بأني ربك، فيتمثل شيطانان أحدهما بصورة أمه والآخر بصورة أبيه، فيقولان: يا بني! أطعه فإنه ربك، ويقول للسماء: أمطري فتمطر، ويقول للأرض: أنبتي فتنبت، ويأتي القوم فيدعوهم إلى طاعته فإذا أطاعوه أُغدقت عليهم الدنيا، وكثرت أموالهم، ودرت عليهم الخيرات، ويأتي الآخرين ويردون دعوته. فيفتقرون، والناس عند الافتتان بهذه الأمور قليل من يصبر، وقليل من يثبت، هذا في آخر الزمان؛ ونحن الآن لا شك أننا في آخر الزمان، ولكن لم تأت الآيات الكبيرة التي تكون الساعة قريبة منها؛ فإن من علامات الساعة ما هو كبير ومنها ما هو متوسط ومنها ما هو صغير، كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وموته، وقد قال الله جل وعلا: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى) والفرق بينهما يسير. ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم نبي الساعة؛ لأنه ليس بعده نبي، وعلى أمته تقوم الساعة، والجهاد يبقى إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة آخر اليهود، حتى إن الحجارة تتكلم والشجر يتكلم.

    بيان الأصناف الباقية من مستحقي الزكاة

    قال الشارح رحمه الله: [كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله، وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين، وجوَّزا صرفهما للضعيف].

    وهذه أحكام قد تركت، وأصبح لا يلتفت إليها، يعني: الصدقات أصبحت موكلة للإنسان نفسه غالباً، فإن كان مؤمناً وتقياً يخاف الله أخرجها وإلا فوزرها عليه، وبعضهم يكتب في الأوراق الرسمية أن ماله كذا، ويكتب جزءاً بسيطاً من ماله، والباقي يخفيه خوفاً من أن تؤخذ منه زكاة، وهذا من التحايل الذي لا يجوز.

    والمقصود: أنه إذا لم يكن عنده إيمان فقد لا يخرجها، ثم الصدقة الآن غالباً ما تُدفع إلى نوع واحد من الأنواع الثمانية فقط وهم الفقراء، أما البقية كعتق الرقاب فأصبح لا وجود له، وكذلك الجهاد في سبيل الله كثير من الناس يرغب عنه، وإن كان الجهاد أمره واسع، فالدعوة إلى الله من الجهاد في سبيل الله، وكون الإنسان يخرج الزكاة فيها فقد أخرجها في مصرف حق.

    وكذلك الغزاة؛ لأن الغزاة لا يوجد منهم الآن إلا من يغزو متبرعاً، إلا من شاء الله في بعض الجهات، وهذا نادر، وإن حصل فهو من أشخاص وأفراد وليس من أمم ودول.

    وكذلك ابن السبيل لا يُعطى نصبيه، وابن السبيل هو: المسافر الذي انقطع.

    وكذلك المؤلفة قلوبهم لا وجود لهم الآن، فلا يُعطون شيئاً؛ لأن الكفر هو الذي أصبح يرفع عنقه الآن، وهو الذي يريد أن يسيطر على الدنيا كلها، وكذلك بقية الأقسام التي ذكرها الله جل وعلا، فالغنيمة لا وجود لها، حتى يقال: إنها لا تعطى إلا الغارمين، فالجهاد ليس بموجود، ومن ناحية المفهوم هل الغنيمة غير الصدقة؟ لا شك أنها غيرها؛ لأن الله جل وعلا جعل لأهل الجهاد نصيباً في الصدقة، والصدقة المقصود بها الزكاة، فإذا كان لهم نصيب في الزكاة فللفقراء نصيب من خمس الغنيمة؛ لأن الله أخبر أن الخمس لله ولرسوله، وللفقراء والمساكين وابن السبيل وهؤلاء الفقراء والمساكين وابن السبيل هم من أهل الزكاة.

    فإذاً: لا فرق بين هذا وهذا.

    وعلى كل حال إذا جاءت الحاجة لمثل هذا فالأحكام واضحة بإذن الله تعالى، ولكن ما دام أن الأحكام أصبحت لا تطبق فلا فائدة فيها.

    من تؤخذ منهم الجزية من غير المسلمين

    قال الشارح رحمه الله [قوله: (فإن هم أبوا فاسألهم الجزية) فيه حجة لـمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر، عربياً كان أو غيره، كتابياً كان أو غيره، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم، وقال الشافعي لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس].

    وهذا الحكم من أحكام الشرع التي لا يُعمل بها الآن، ولن يُعمل به حتى يكون للإسلام السيطرة والقوة، أما ما دام أهل الإسلام تاركين الجهاد في سبيل الله فكيف الطريق إلى الجزية؟! بل ربما أخذت الجزية الآن -أو شبه الجزية- من المسلمين، فقد أصبح أعداؤهم يسلبونهم ما بأيديهم كما هو موجود في كثير من الأقطار، ويفرضون عليهم أشياء يسمونها ضريبة، وهذه الضرائب أشبه بالجزية، فإذا صار المسلمون أقوياء وصاروا مسيطرين على الكفار فإن كفار أهل الكتاب أو غيرهم يخيرون بين أمور ثلاثة:

    فيقال لهم: إما أن تدخلوا في الإسلام، ويكون لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، ولا فرق بينكم وبين المسلمين؛ لأن الأرض كلها لله يورثها أهل الإسلام.

    فإن لم يقبلوا هذا قيل لهم: إذن تدفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، ذليلون حقيرون، ولهذا ينبغي أن يُذلوا ويهانوا عند أخذها، حتى يدعوهم ذلك إلى الدخول في الإسلام، فإن امتثلوا هذا أخذت منهم الجزية وتركوا، وصار على المسلمين حمايتهم من الظلم وممن أرادهم بقتل أو غيره، وهذا بدل الجزية التي يدفعونها، وهذه الحماية تكون لهم إذا كانوا في بلاد المسلمين، وهؤلاء هم أهل الذمة الذين يعطون العهد بأن يتركوا على دينهم بشرط ألا يظهروا دينهم، ولا يدعوا إليه؛ لأنهم إذا أظهروه بين المسلمين فقد يغتر بهم من يغتر من جهال المسلمين، وإنما يمارسونه في صوامعهم وفي أماكن عباداتهم كما هو معروف.

    فإن أبوا قبول هذا قيل لهم: بقيت خصلة ثالثة وهي القتال، ولابد من قتالكم، ويد الله مع من يشاء، ومن أراد الله نصره يُنصر. فكل من يقاتل في سبيل الله إذا أتى الكفار يخيرهم بين هذه الأمور الثلاثة: يدعوهم أولاً إلى الإسلام فإن أجابوا فهذا المطلوب، وإذا جابوه وجب أن يتركهم في بلادهم وأموالهم، ولا يتعرض لهم بشيء، فإن لم يجيبوه طلب منهم الجزية.

    وحد الجزية اختلفوا فيه: فالمشهور في مذهب الإمام مالك أنها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا فرق بين الفقير والغني فيؤخذ من كل واحد دينار، في السنة، وهذا أمر سهل وبسيط، والمشهور في مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد أن على الأغنياء أربعين ديناراً وعلى الفقراء عشرة، وعلى المتوسطين عشرين، وهناك رواية أخرى في تحديدها، وعلى كل حال فهذه تقديرات اجتهادية.

    والمقصود: أن يفرض عليهم شيء يؤخذ منهم، كما فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على مجوس أهل البحرين، فإنه كان يأخذ منهم الجزية سنوياً.

    وهذا من الأحكام المتروكة المنسية التي لا يعمل بها، وإذا احتيج إليها فهي سهلة.

    قال الشارح رحمه الله: [قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، وقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)].

    وقد اختلفوا فيمن تؤخذ منهم الجزية، وهل تؤخذ من كل كافر؟

    والصواب: أنها تؤخذ من الكفار عموماً، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، أما عند الإمام أبي حنيفة فيخرج بذلك الكفار العرب وقال: لا تؤخذ منهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخذها منهم، يعني: أنهم إما أن يقتلوا أو يسلموا، وليس هناك مجال آخر، ويقول الإمام أبو حنيفة: إذا كانوا من أهل الكتاب فتؤخذ منهم الجزية، يعني: اليهود العرب أو المجوس العرب، ويلحقون بأهل الكتاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية منهم، والصحابة كذلك سنوا بهم هذه السنة.

    مقدار الجزية

    قال الشارح رحمه الله: [وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية: فقال مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان:

    قال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه الله والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهماً والوسط أربعة وعشرون درهماً، والفقير اثنا عشر درهماً، وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله.

    قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله:

    وقاتل يهوداً والنصارى وعصبة الـ مجوس فإن هم سلموا الجزية أصدد

    على الأدون اثني عشر درهماً افرضن وأربعة من بعد عشرين زيد

    لأوسطهم حالاً ومن كان موسراً ثمانية مع أربعين لتنقد

    وتسقط عن صبيانهم ونسائهم وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومقعد

    وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ومن وجبت منهم عليه فيهتدي].

    يعني: أن الجزية لا تؤخذ من الفقراء ولا من الشيوخ الكبار الفانين، ولا من النساء ولا من الصبيان، ولا من الأعمى ولا من الأعرج، ولا ممن أسلم.

    لا يجزم الحاكم في المسائل الاجتهادية بأنه حكم فيها بحكم الله

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه) الذمة: العهد، وتخفر: تنقض يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته: أجرته، ومعناه: أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد كجملة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعدٍ معتدٍ كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم.

    قوله: وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال، ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال، قال: وهو أن مالكاً قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا، ولا تلتمس غرتهم. إلا أن لم يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تلتمس غرتهم، وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح؛ لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سبباً مميلاً لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتواً وبغضاً. والله أعلم].

    قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله أو حكم رسوله، فلا تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم) هذا فيه دليل على أن الله له في كل قضية حكم، ولكن هذا الحكم المعين قد لا يصيبه المجتهد، وإذا أخطأ وهو أهل للاجتهاد فخطؤه مغفور، وهو مأجور على اجتهاده، ولكن لا يقل: إن هذا حكم الله، بل يقول: هذا اجتهادي، فإن أصبت فهو بمنة الله وفضله، وإن أخطأت فالخطأ عليّ أنا، ولا ينسبه إلى الإسلام، فالإسلام منه بريء إذا كان خطأً.

    وفيه دليل على جواز الاجتهاد، وأنه يجوز حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يجتهدوا في إنزالهم القوم على حكمهم، فإن أصابوا فهو بفضل من الله، وإن أخطئوا فالخطأ يكون مغفوراً لهم، وهذا لمن كان أهلاً للاجتهاد، وأما الجاهل فهو ليس أهلاً للاجتهاد، فلا يجوز له أن يفعل ذلك، فالجهلة الذين ليسوا أهلاً للاجتهاد حكمهم باطل على كل حال، سواء أصابوا الحق أو أخطئوه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وواحد في الجنة، أما اللذان في النار: فأحدهما عرف الحق وقضى بخلافه، فهو في النار، والثاني لم يعرف الحق فقضى بجهل، فهو في النار) وهذا معناه: وإن أصاب الحق فإنه يكون من أهل النار؛ لأنه ليس أهلاً للقضاء، ولأنه نصب نفسه لشيء لا يحسنه، وليس هو من أهله.

    وكذلك الاجتهاد في المسائل.

    والقضاء أمر عام، حتى وإن كان بين اثنين في قضية خاصة، فيعتبر من يقضي فيها قاضياً ما دام أنهما رضيا به أن يكون قاضياً، فيجب أن يقضي بالحق إذا كان يعرفه، وإن كان لا يعرفه فيجب ألا يقدم على ذلك.

    ثم إن في هذا أنه ليس كل مجتهد يصيب، بل كثير من المجتهدين يخطئون، فإذا اجتهد في المسألة عدد من الناس، فقال فيها أحدهم بقول، وقال الآخر بخلاف قوله كما يحصل كثيراً من طلبة العلم، فإن المصيب يكون واحداً، أما الذي يخالفه فهو مخطئ، وهذا في كل قضية تحدث، وذلك أن كتاب الله وأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم جاءت بقضايا عامة كلية جامعة، وأما أفعال المكلفين فهي لا حصر لها.

    فمثلاً: إذا صلى إنسان صلاة معينة فإنه لا يمكن أن يستدل على قبول صلاته من الكتاب والسنة؛ لأن هذا الفعل يتوارد إليه أسباب ويتوارد عليه موانع من القبول، فلا ندري ما حكمها عند الله، وإنما على الإنسان أن يجتهد في الظاهر، وكذلك إذا فعل فعلاً من أمور الدنيا وطلب الحكم فيه، فيجتهد في إصابة الحق فيه، فإن أصاب الإنسان ذلك فهذا المطلوب، وإن لم يصبه فحكم الله غيره، وقد ذكر الله جل وعلا عن نبيين كريمين أن أحدهما حكم في قضية معينة فأخطأ، وحكم الآخر فيها فأصاب، فأثنى الله جل وعلا عليهما جميعاً، ولكن أثنى على الذي أصاب أكثر، وهي القضية التي حدثت لداود وسليمان في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، فحكم فيها داود عليه السلام بأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم، بدل حرثهم الذي أكلته، أما سليمان فلم يرض بهذا، وقال: أرى أن أصحاب الحرث يأخذون الغنم يستغلونها حتى يقوم الذين أكلت غنمهم هذا الحرث عليه بالسقي والتعاهد فيعود مثلما كان، فإذا عاد مثلما كان أخذوا غنمهم واستلم هؤلاء حرثهم، فأثنى الله عليه بهذا الحكم؛ لأن هذا هو الحق وقد أصابه؛ ومع ذلك قال: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79] أي: لداود وسليمان.

    فدل على أن الاجتهاد لا يكفي في الإصابة، وكون المجتهد يجتهد لا يكفي في كونه يصيب، وإنما الإصابة يجب أن تكون موافقة لما حكم الله جل وعلا به في هذه القضية بعينها، ولله في كل قضية حكم معين، وهذا الذي يفتي أو يذكر حكم المسألة لا يجوز له أن يجزم جزماً معيناً وهو غير متيقن من الدليل، وإنما يقول: الذي أرى أن حكمها كذا وكذا، والعلم عند الله تعالى.

    1.   

    مسائل في باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

    إخفار ذمة المسلمين أهون من إخفار ذمة الله ورسوله

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل:

    الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين].

    يعني: أن ذمة الله وذمة نبيه سواء، ونقضهما عظيم جداً، بخلاف ذمة المسلمين فإن نقضها وإن كان محرم ولكنه أسهل من نقض ذمة الله وذمة رسوله.

    على المسلم أن يفعل أخف الضررين في أي أمر

    [الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً].

    هذا عام في كل أمر من الأمور، وفي كل مسألة من المسائل، فإذا عرض لك أمران أخذت بأخفهما، فإن كان من الممنوعات فعليك أن تختار أخفها ضرراً، وإن كان من المأمورات تختار أيسرهما وأسهلما، وهذا يتطلب نظراً وبصيرة من الإنسان للأمور، والله جل وعلا يحب البصير عند توارد الشبه، كما أنه يحب الصابرين عند توارد الشهوات.

    الاستعانة بالله واجبة في كل الأمور

    [الثالثة: قوله: (اغزوا باسم الله في سبيل الله)].

    معنى الاستعانة بالله جل وعلا: أن المسلم لا يستعين إلا بربه جل وعلا، فيتعلق بربه ويعتمد عليه، ويذكره بأسمائه وصفاته.

    قتال الكفار واجب

    [الرابعة: قوله: (قاتلوا من كفر بالله)].

    يعني: أن هذا عموم يشمل جميع الكفار، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مشركين أو ملاحدة أو غيرهم، ويشمل الذين يقاتلون المسلمين ويريدون صدهم عن دينهم والاستيلاء على بلادهم أو الذين لا يقاتلون؛ لأنه قال: (قاتلوا من كفر بالله)وهذا هو الواجب على المسلمين؛ لأن الله جل وعلا يقول: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]وكثير من المفسرين وغيرهم يقولون: إن هذه الآية: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ هي آية السيف التي أمرت المسلمين بسله وشهره على جميع الكفار، فهي ناسخة لكل آية فيها الأمر بالتحمل والصبر والدفع بالتي هي أحسن، ولكن هذا -في الحقيقة- ليس صحيحاً؛ إذ إن المسلمين على حالة واحدة دائماً، وأحياناً قد يضعفون ولا تكون عندهم قوة ولا استطاعة للدفاع فيصبح التحمل والدفع بالتي أحسن والصبر واجباً عليهم حتى يتمكنوا كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة، فإن الله أمره بالتحمل والصبر ودفع الأذى بالتي هي أحسن، وليس بالحسنى فقط، إنما بما هو أحسن، أمره أن يصبر ويتحمل هو وأصحابه، حتى صار له قوة وجنود، وصار له دولة عند ذلك أمره الله جل وعلا بقتال الكفار عموماً.

    وهكذا تكون حالة المسلمين إذا ضعفوا، فيجب عليهم أن يتحملوا ويصبروا حتى يكون لهم قوة تمنعهم وتمنع بلادهم وأولادهم وذراريهم ومن تحت أيديهم من المسلمين، ولو: أقدموا على القتال وليس عندهم قوة لصار هذا فساده أعظم من المنافع التي ترجى منه؛ لأنه قد يتسلط عليهم العدو ويقتلهم، ويقضي عليهم نهائياً.

    فالواجب النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع ما أمره الله جل وعلا به.

    الاعتماد على الله واجب في كل أمر

    [الخامسة: قوله: (استعن بالله وقاتلهم)]

    هذا أيضاً فيه أن المسلم يجب أن يعتمد على الله جل وعلا في جميع شئونه، وأن القتال يكون بالاعتماد على الله وبعونه، لا بالاعتماد على الكفار الذين يقال: إنهم أصدقاء أو غيرهم، بل الاعتماد يكون على الله جل وعلا، ولكن هذا لابد له أيضاً من الاستعداد؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] فإذا ترك المسلم الاستعداد فمعنى ذلك أنه عاص، وأنه مفرط لم يتمثل الأمر، والله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، فلابد من فعل الأسباب، ثم بعد فعل الأسباب يعتمد على ربه جل وعلا ويستعين به في حصول مراده، هذا هو شأن المؤمنين، وهذا هو الذي أمر الله جل وعلا به.

    حكم الله واحد في كل قضية

    [السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء].

    لأن الله له حكم في كل قضية معينة، وسوف يحكم الله بين خلقه يوم القيامة في كل دقيقة وجليلة، وكل قضية حصلت سوف تعاد يوم القيامة ويحكم الله جل وعلا فيها بالحق، وهو خير الحاكمين جل وتقدس.

    أما حكم العلماء وحكم المجتهدين فيجوز عليه الخطأ، بل كثيراً ما يكون خطأً، ويجب أن يضاف إليهم ذلك لا إلى الله جل وعلا.

    الاجتهاد جائز لمن كان أهلاً له

    [السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا].

    يعني: أن الاجتهاد جائز، حتى لو قدر أن الإنسان يمكنه الرجوع إلى من يعلم القضية يقيناً فإنه يجتهد إذا وكل في هذا؛ لأن مسائل المسلمين لا يجوز أن تعطل حتى يطلب الحكم يقيناً، ويبحث عنه بأي مكان كان، بل يجب ألا تتعطل أعمال المسلمين، فيحكم فيها الحاكم ويجتهد غاية ما يمكنه، ثم الأمر إلى الله، وإذا كان نيته ومراده الحق وقد بذل وسعه فإنه مأجور وخطؤه مغفور.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756229601