إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [117]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد جاء نهي الشارع عن قول: السلام على الله؛ وذلك لما يتضمنه من معان لا تليق بالله سبحانه وتعالى، في كونه محتاج إلى من يسلمه من الأذى، وهذا نقص، والله عز وجل كامل لا يلحقه نقص ولا أذى ولا عيب.

    1.   

    وجه النهي عن قول: السلام على الله

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يقال السلام على الله.

    في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام) ].

    قوله: (في الصحيح) يعني: الحديث صحيح، وليس المقصود أنه في صحيح البخاري أو صحيح مسلم؛ لأن هذا أعم.

    وقوله: (باب لا يقال السلام على الله) يعني: أن هذا يكون من باب التنقص، ومن قال ذلك فإنه يكون ما عرف حق الله، ولا جاء بما يستحقه من التعظيمات والتحميدات والتمجيدات، وذلك أن قولك: السلام على كذا، على فلان، إما أن يقصد به التحية وهو الظاهر في هذا، وهو الذي قصده الصحابة، وإما أن يقصد به الدعاء، يعني: أنك تذكر اسم الله وتطلب بهذا الاسم أن الله يسلم على من سلمت عليه، تقول: لك السلامة، فالسلام عليك يعني: أنا أطلب من الله أن يسلمك من المكاره، ومن العيوب والنقائص.

    وقد يكون المعنى: أن السلام اسم من أسماء الله فإذا قلت: السلام عليك يعني: عليك هذا الاسم، وفي ضمنه إعلامك بأني سلم لك، يعني: أني أخوك فلا يأتيك من قبلي مكروه فلتسلم من قبلي، فلهذا يلقي اسم السلام، وإذا لم يسلم عليه قد يلحقه نقص، وقد يلحقه خوف، وقد يلحقه أذى، فيسلم عليه دفعاً لذلك.

    فعلى هذا لا يليق بأن يقال: السلام على الله؛ لأن الله كامل لا يلحقه نقص ولا يلحقه أذى، فهو كامل في ذاته، غني بذاته عن كل ما سواه، فالسلام منه، ولا يكون السلام مطلوباً له، بل يطلب منه للمخلوق الناقص، أما الله جل وعلا فهو تام، وهو السلام ومنه السلام.

    فمعنى السلام أنه سالم من كل نقص وعيب تعالى الله وتقدس، وهو سالم من الحاجة ومن الافتقار.

    فبين المؤلف أنه لو قيل: السلام على الله، فإن هذا ليس من التوحيد، بل هذا نقص في التوحيد؛ لأنه يتضمن التنقص لله جل وعلا، فيكون قدحاً في التوحيد، فأراد أن يبين أن توحيد الله جل وعلا أن يتأدب الموحد مع ربه جل وعلا، فيأتي بالتحميد والتسبيح والتهليل والكلام الذي يناسب، والثناء على الله جل وعلا، وأن يجتنب ما فيه شيء من النقص.

    وقوله: (كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، كنا أو كان: تدل على مزاولة الشيء وتكراره، يقال: كان يفعل كذا، أي: كان يكرر ذلك ويكثر منه.

    وقوله: (مع رسول الله) المعية تدل على أن هذا كان في الصلوات؛ لأن معيتهم في الغالب كانت في الفرائض؛ لأنها هي التي يجتمعون فيها ويصلونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    أما النوافل فكانت تصلى فرادى، هذا هو الكثير الغالب، ومطلوب أن تكون النوافل في البيت، وأن يكون الإنسان فيها خالياً، ليس عنده أحد، حتى يكون ذلك أدعى للإخلاص، وأقرب إلى أن يكون العمل لله وحده، حيث لا يقصد به رياء ولا سمعة ولا مقاصد أخرى.

    أما الفرائض فالطريقة فيها التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتماع في المساجد.

    جواز السلام على الملائكة وغيرهم من الخلق في الصلاة

    وقوله: (كنا نقول: السلام على الله .. السلام على فلان وفلان) جاء أنهم كانوا يقولون: (السلام على جبريل، السلام على ميكائيل)، فيسلمون على الملائكة، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: السلام على الله، وترك قولهم: السلام على جبريل وميكائيل؛ لأن جبريل وميكائيل مخلوقان من مخلوقات الله جل وعلا، والمخلوق يطلب له أن يسلم، لأنه قد يلحقه خوف أو نقص؛ لأنه ليس له غنى بنفسه، وإنما الغني بنفسه هو الله جل وعلا، وهو الذي يطلب منه تكميل الناقص، أو إزالة الخوف عمن يتوقع الخوف له.

    دلالة النهي في قول: السلام على الله

    وجاء في تمامه أنه قال: (نهاهم عن ذلك)، وهذا النهي يدل على التحريم، لما عرفنا أن معناه: إما أن يتضمن نقصاً، وإما أن يتضمن سوء أدب مع الله جل وعلا، فإذا كان كذلك فإنه حرام أن يقول الإنسان: السلام على الله؛ لما يتضمنه ويدل عليه.

    فالله جل علا كامل غني سالم من كل نقص وعيب، فلا يسلم عليه، ولا يطلب منه أن يسلم نفسه؛ لأنه لا معنى لهذا، حيث إنه هو الغني والكامل بنفسه عن كل ما سواه، ولا يلقى عليه السلام من عباده بهذه الصفة؛ لأن هذا لا يناسبه تعالى وتقدس، فيكون ذلك سوء أدب.

    1.   

    معنى التحيات لله والصلوات والطيبات

    فقال لهم: قولوا: (التحيات لله والصلوات والطيبات)، ثم بين لهم السلام أن يقولوا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

    والتحيات تعني: التعظيمات من التحميد والتهليل والتكبير والقيام والركوع والسجود والدعاء، وجميع ما يعظم به جل وعلا ويكون خاصاً به أي: التحيات اللائقة به جل وعلا قوله: (لله) يعني: خالصة لله ليس لأحد فيها شيء.

    ثم عطف عليها الصلاة عطف الخاص على العام، قال: (والصلوات) يعني: جميع الصلوات التي يصليها يصليها لله.

    قوله: (والطيبات) أي: الطيبات من الأعمال الخالصة، ومن الكلمات الطيبة التي تتضمن الحمد والثناء والتمجيد؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب.

    فهذا الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته، وهو تعليم للأمة كلها، بدل أن كانوا يقولون: (السلام على الله من عباده)، فقال لهم: (إن الله هو السلام ومنه السلام، فلا تقولوا: السلام على الله من عباده، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات).

    ثم قال: و(الطيبات) إشعاراً بأنه يجب أن تكون التحيات والصلوات خالصة طيبة لله جل وعلا، ليس فيها مقصود غيره، فإذا كانت كذلك فهي طيبة، فله الطيب من العمل والطيب من القول، الذي هو التسبيح والتهليل والتكبير وغيره.

    جواز السلام على النبي في التحيات بكاف الخطاب

    ثم قال: قولوا: (السلام عليك أيها النبي!) هكذا علمهم، والخطاب يبقى على ما هو عليه: (السلام عليك) فالذي يسلم يستشعر في ذهنه أنه يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان غائباً فيقول: (السلام عليك أيها النبي!)، وليس معنى ذلك أنه يستحضره في ذهنه، ولكن يستشعر خطابه تعظيماً لذلك، وهذا الأسلوب كان معروفاً عند العرب، فإنهم يستشعرون الحبيب أو المعظم فيخاطبونه وإن كان ميتاً أو غائباً، كما هو معروف في أشعارهم.

    وكان صلى الله عليه وسلم يقول في تشهده كما رواه الطحاوي في مشكل الآثار: (السلام عليك أيها النبي!).

    أما ما قاله بعض العلماء من الصحابة وغيرهم: أن هذا كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما توفاه الله جل وعلا صاروا يقولون: (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته)، فنقول: ما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بنفسه وعلمه الصحابة، فإنه يبقى كما كان يقول ذلك.

    وليس في هذا دعوة له ومخاطبة له، كما يقول الذين يحبون أو يميلون إلى عبادته ويقولون: إن هذا دليل على أنه يدعى ويخاطب ويقال له: (السلام عليك)؛ لأن هذه كاف الخطاب، والخطاب لا يكون إلا للحاضر ولا يكون للغائب، لكن يقال: إن هذا ليس كذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء بتعليم الإخلاص لله جل وعلا، وفي هذا التشهد علمنا كيف نخلص لربنا جل وعلا الدعاء، فكيف يكون فيه تناقض؟ هذا لا يمكن، وإنما ذلك يبقى على صفة التعليم الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فيبقى كما هو.

    معنى السلام على النبي في التحيات

    قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، هو سلام عليه، وهو دعاء له بالسلامة من كل مكروه، وكذلك دعاء له برحمة الله وتبريكاته، بأن يبارك عليه في أعماله وفيما يعطيه جل وعلا من أمور الآخرة، فيزيده من فضله.

    سلام الإنسان على نفسه وعلى عباد الله الصالحين في التحيات

    ثم قال أيضاً: يسلم الإنسان على نفسه: (السلام علينا)، يعني: يسلم على نفسه وعلى الحاضرين الذين في الصف معه من إخوانه المؤمنين ومن الملائكة الذين معه، ثم يسلم تسليماً عاماً على جميع عباد الله الصالحين، الذين في الأرض، والذين في السماء، الأحياء والأموات، ويكون عاماً بعد خاص: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).

    ثم يتشهد التشهد الذي هو أصل التوحيد: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).

    فهذه التحيات التي كان يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقد جاء في حديث ابن مسعود : (أنه كان يعلمهم إياها كما يعلمهم السورة من القرآن)، اهتماماً بها.

    1.   

    وجه إيراد المؤلف لحديث ابن مسعود في باب: لا يقال السلام على الله

    فعلى هذا يتبين لنا وجه إيراد المؤلف لهذا الباب (باب لا يقال: السلام على الله)؛ وذلك لأن الله هو السلام والمسلم، فإن السلام، إما أن يلقى تحية، وإما أنه يطلب السلامة للمسلم عليه، أو أنه يخبره بأنه سلم له، أي: مسالم له، وأنه لا يناله منه مكروه، وكل هذا لا يليق بالله جل وعلا، ولا يليق إلا بالمخلوق، أما الله جل وعلا فهو غني بذاته جل وعلا، لا يلحقه نقص ولا عيب، فهو الذي يهب السلامة لمن يشاء، ويهب الحياة لمن يشاء، ويهب الملك لمن يشاء، وبيده تصريف كل شيء، فلا يليق أن يقال: (السلام على الله)، فصار من معاني كمال التوحيد أن المسلم يعرف الشيء الذي يليق بالله جل وعلا فيقوله لله جل وعلا معظماً له، ويعرف الشيء الذي لا يليق بالله جل وعلا فيجتنبه، فيكون بذلك قد كمل توحيده.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (في الصحيح عن ابن مسعود) [ هذا الحديث: رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان ..) الحديث ، وفي آخره ذكر التشهد الأخير. ورواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنه، وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله : (فإن الله هو السلام ومنه السلام) ].

    هناك تشهد أول وأخير؛ التشهد الأول يقتصر فيه على هذا، والمقصود بالأول الذي يكون بعد الركعتين الطويلتين التي يقرأ فيهما بالفاتحة وسورة، ومعلوم أن قراءة السورة سنة ليست واجبة، وإنما الواجب قراءة الفاتحة، ثم يفصل بين الركعتين الطويلتين واللتين بعدهما بالجلوس، فيكون فيه التشهد الأول ويقتصر فيه إلى قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) صلى الله عليه وسلم.

    وكانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخففه، حتى جاء في الحديث: (أنه إذا جلس كأنه يجلس على رمض)، يعني: على الحجارة المحماة من سرعته في ذلك، فما كان يطيله، وهذه هي السنة، عكس ما يفعله كثير من الأئمة، فإن فعلهم خلاف السنة، فالسنة أن يخفف التشهد الأول.

    أما التشهد الأخير فهو الذي يصلى فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ويستعاذ به من عذاب القبر وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، إلى آخره.

    فهذا التشهد الأخير يطال، وقد جاء في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! علمني شيئاً أقوله في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

    فكثير من العلماء يقول: هذا يقال بعد التشهد، لأنه قال: (قله دبر كل صلاة)، ودبر الشيء آخره، فهل يكون هذا بعد نهاية الصلاة، أو قبل السلام؟ فيه خلاف بين العلماء: منهم من قال: يكون قبل السلام ومعنى ذلك: أنه يقرنه بالتشهد الأخير، وقال بعضهم: إنه يقوله بعد فراغه من الصلاة؛ لأن كلمة دبر أيضاً قد يراد بها الخارج من الشيء المنفصل عنه، ولكن الغالب أنه يقصد الشيء المتصل به.

    1.   

    سلام الله على عباده في الجنة لا في موقف الحساب

    قال الشارح: [ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثاً ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!)، وفي الحديث: (إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى)، وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة، كما قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] ].

    هذا جاء مكرراً في القرآن في آيتين من كتاب الله جل وعلا: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، ولقاء الله جل وعلا يكون في الموقف بين عباده، ولكن الموقف مكان محاسبة، وليس مكان إكرام.

    ولهذا لما سئل ابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ أي: مناجاة الله لعبده.

    وهذا شيء عظيم جداً، كونه يناجيه جل وعلا، وهذه لا تقاس بما يعرفه الإنسان؛ لأن نجواه تكون لعباده كلهم في آن واحد، كل واحد يتصور أنه لا يكلم إلا هو، وهو يكلم جميع المؤمنين في ذلك الموقف.

    يقول ابن عمر : (سمعته يقول: يدني عبده المؤمن فيضع عليه كنفه)، والكنف هو: الستر، يستره عن الذين يشاهدونه في الموقف، لأنه يقرره بذنوبه، ولا يوجد أحد يخلو من الذنوب أبداً.

    فإذا قال: (فعلت كذا يوم كذا وكذا)، وتركت كذا من الأمور الواجبة، عندها يخجل كثيراً فيتغير وجهه، فلأجل هذا ستره الله، حتى لا يراه المؤمنون ويقولون: إنه قد هلك.

    قال: (فإذا رأى أنه قد هلك؛ قال الله له: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، فيعطى كتابه بيمينه فيصبح فرحه فوق ما يتصور، حتى يصبح يمد كتابه أمام الناس ويقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] يعني: يا هؤلاء! اقرءوا كتابي، كأنه لا يهمهم إلا قراءة كتابه، فالفرح استولى عليه، وكان أولاً يظن أنه قد هلك.

    فالمقصود أن الموقف وإن كان فيه الكلام، وإن كان فيه اللقاء، فكلام الله جل وعلا في الموقف هو محل مناقشة ومحل مسائلة، فقد يكون الإنسان عنده مواقف حرجة جداً، حتى يرى أنه قد هلك، فإذا أوتي كتابه بيمينه بدأت السعادة تظهر عليه، أما التحية واللقاء فلا تكون إلا في الجنة.

    ولهذا لما قيل للإمام أحمد : متى يأمن المؤمن؟ قال: يأمن إذا وضع أول قدم له في الجنة. أما قبل هذا فلا يأمن؛ لأن النار أمامه، فالنار بين الناس الواقفين وبين الجنة، فلا يوجد عبور على الجنة، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، قوله: (وإن) تفيد القسم وأن كل واحد سيرد.

    وورود الشيء لا يلزم منه الدخول، فقد يرد عليه ولا يدخله وقد يدخله.

    فالسلام الذي يكون من رب العالمين لعباده يكون في الجنة.

    1.   

    معنى قوله: إن الله هو السلام وأقوال العلماء في ذلك

    قال الشارح: [ ومعنى قوله: (إن الله هو السلام) أي: إن الله تعالى سالم من كل نقص، ومن كل تمثيل، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص.

    قال العلامة ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد: السلام: اسم مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء، يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيه لا تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية، وفيه قولان مشهوران:

    الأول : أن الله عز وجل هو السلام، ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم، ونحو ذلك ].

    يعني: أن السلام اسم من أسماء الله، وقد جاء ذلك في الأسماء الحسنى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23].

    قال: [ فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء.

    الثاني : أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية ].

    فهذا يكون مجرد تحية، فهو يحييك بهذه الكلمة، وليس في ظنه إلا أنه يقول لك: أنت سالم مما ينالك من الأذى، وهذا هو المقصود من المسلم لأخيه المسلم، أن يخبره أنه لا يناله منه أذى، وإذا لقيه قال: السلام عليكم، فهو يشعره بأنه أخ له، وأنه لا يلحقه منه أذى.

    وإذا قلنا: إنه اسم الله ففي ضمن ذلك الدعاء، وأن المسلم يدعو للمسلَّم عليه بالسلامة، أي: أنه يسلم من المكاره التي ستلحق كل مخلوق.

    قال: [ ومن حجة أصحاب هذا القول: أنه يأتي منكراً، فيقول المسلم: سلام عليكم، ولو كان اسماً من أسماء الله لم يستعمل كذلك، ومن حجتهم: أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه: الإيذان بالسلامة خبراً ودعاء.

    قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وفصل الخطاب أن يقال: الحق في مجموع القولين، فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما، وإنما يتبين ذلك بقاعدة وهي: أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى، أن يسأل في كل مطلوب، ويتوسل بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى، متوسل إليه به.

    فإذا قال: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور، فقد سأله أمرين، وتوسل إليه باسمين من أسمائه، مقتضيين لحصول مطلوبه، وقال صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر رضي الله عنه وقد سأله ما يدعو به؟ قال: قل: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

    فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل، أتى بلفظها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، فتضمن لفظ السلام معنيين: أحدهما: ذكر الله، والثاني: طلب السلامة، وهو مقصود المسلم ].

    يعني: أن المجموع في هذا أنه يذكر اسم الله طالباً بهذا الاسم السلامة للمسلَّم عليه، وفي ضمن هذا معنىً ثالث: وهو أنه يعلمه بأنه سالم من شره لا يناله منه شيء، فإذاً تكون المعاني ثلاثاً: ذكر، ودعاء، وإخبار. ذكر الله باسمه، ودعاء له، وتوسل له بهذا الاسم أن يسلم هذا المسلَّم عليه من الآفات، وإعلامه بأنه لا يناله منه أذى، وهذا هو مقصود السلام.

    وأما كونه جل وعلا تذكر أسماؤه عند كل طلب بما يناسب ذلك الطلب من الأسماء، فهذا هو الذي دل عليه القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طلب الإنسان الرزق يقول: يا رزاق! يا كريم! وإذا طلب التوبة يقول: يا تواب! يا رحيم! تب علي، وإذا طلب المغفرة يقول: يا غفور! يا رحيم! اغفر لي، ولا يقول: يا شديد العقاب! اغفر لي؛ لأن هذا لا يناسب ذلك، فهذا معنى قوله: (إنه عند كل طلب يتوسل باسمه المناسب لذلك الطلب)، هذا من المعاني التي ينبغي أن يعتني بها المسلم.

    1.   

    حقيقة السلام ومعناه وما يتضمنه هذا الاسم وتصاريفه

    قال: [ قد تضمن (سلام عليكم): اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة!

    وحقيقته: البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب ].

    يعني: حقيقة السلام هو الرب جل وعلا، واسمه السلام يعني البراءة والخلاص والنجاة من كل عيب ونقص، فهو سالم من كل عيب ونقص، وفي ضمن هذا أن له الكمال؛ فإذاً هو نفي وإثبات، وهذا معنى قولهم: فيه سلب وإيجاب، فالسلب: هو نفي النقائص، والإيجاب: هو إثبات الكمال لله جل وعلا.

    قال: [ وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم].

    جاء في الحديث أنه لا يتكلم على الصراط إلا الأنبياء، لأنه لما سأل أحد الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع له؟ قال: (أنا فاعل إن شاء الله، قال: أين أجدك؟ قال: عند الحوض، فإن لم تجدني عند الحوض فعند الميزان، فإن لم تجدني عند الميزان فعند الصراط، لا أعدو الثلاثة الأماكن هذه).

    ثم ذكر أنه عند الصراط لا يتكلم أحد؛ وذلك من شدة الكرب والهول إلا الأنبياء، وكلامهم: (اللهم سلم سلم)فقط؛ لأن الأمر صعب جداً، يسيرون من فوق جهنم ويسقط فيها أكثر الناس، المسير من فوقها أمر شديد، فالإنسان لو سار من فوق سقف على خشبة منصوبة، أو ما يشابهها، أو أكثر من كونها خشبة، فقد لا يستطيع أن يسير، فكيف إذا سار وتحته جهنم وشدة حرها، وقعرها أكثر من سبعين سنة يهوي فيها.

    أمر شديد جداً جداً، ومع ذلك نفس الصراط الذي يسار عليه يكون ملتهباً بالنيران؛ لأن تحته النار، ولهذا جاء أنه أحر من الجمر، ويكون مضطرباً أيضاً، فمعنى ذلك أن السير عليه بالأعمال فقط، وليس بالأقدام، فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا مستقيماً على صراط الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سوف يستقيم على ذلك الصراط الحسي ويسير عليه.

    أما إذا كان مرة يكبو ومرة يستقيم في هذه الدنيا فيكون سيره كذلك وربما سقط.

    وعليه أيضاً كلاليب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كشوك السعدان)، ثم يقول لصحابته: (هل رأيتم شوك السعدان؟ هو نبت يكون في نجد تأكله الإبل)، وهو معروف، وهي شوكة عقيفاء مفلطحة، ولكن هذه التي على الصراط لا يعلم عظمها إلا الله جل وعلا، تأخذ من أمرت بأخذه، وتلقيه في النار، فمخدوش ناج ومكردس في النار، ومرة يحبو، ومرة تسقط رجله، ومرة يتعلق بيد، ومرة يسير.

    وأخبر أن مرور أولهم يكون كلمح البصر في سرعته، ومنهم من يكون كلمح البرق في السرعة، ومنهم من يكون كالريح، ومنهم من يكون كأجاود الخيل، ومنهم من يحبو مرة ويمشي مرة، ثم تعجز أعمال الناس عن حملهم ويتساقطون في النار، نسأل الله العافية، فهؤلاء كلهم من أهل التوحيد ولكنهم مخلطون، تركوا واجبات وفعلوا محرمات، ولم يكفهم ما مضى عليهم في القبر وفي الموقف في التطهير والتكفير، فلابد أن يطهروا بنار جهنم.

    ومنهم من يحترق نهائياً، إذا سقط احترق وصار حممة، وهذا جاء في الحديث أنهم فيما بعد يحملون حمماً قد احترقوا فيلقون في نهر الحياة من أنهار الجنة، فينبتون ثم يدخلون الجنة، ويزول العذاب كله، ويرون النعيم والحياة السعيدة، ومن نجا من النار ولو بعدما احترق فيها فهو سعيد.

    قال: [ ومنه سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده ].

    لو تحقق الإنسان هذه الأمور بأنها ستمضي عليه يقيناً، لاستقامت حالته؛ ولكنه يستبعدها وكأن المراد غيره، وهي حقيقة لابد منها، فالعجيب في ابن آدم غفلته وأمله وتفكيراته، ولو قدر مثلاً وقيل للناس: إن واحداً منكم سوف ينجو من العذاب، فكل واحد من الكثيرين يؤمل أن يكون هو الناجي، وهذا أمل عجيب من هذا الإنسان، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ولخرجتم في الصعدات تجأرون إلى الله، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش) يعني: الغفلة والأمل، فلو قدر الواحد أنه سيموت، وهو يعلم أن الموت فيه انقطاع عن العمل، فقال: وأنا لابد أن أعمل للآخرة، بالشيء الذي يرضي الله جل وعلا، لأنه كثيراً ما يأتي الإنسان الموت فجأة، وموت الفجأة تعوذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم إني أعوذ بك من موت الفجأة)، وإن جاء في بعض الأحاديث أنه راحة للمؤمن، ولكن فيه أنه قد يأتي الإنسان ولم يتمكن من التفكير في نفسه، ولم يوص وغير ذلك، مع أنه يجب على الإنسان أن يوصي دائماً.

    قال: [ وقد تضمن سلام عليكم: اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة: وحقيقته البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: (رب سلم سلم)، ومنه: سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29] أي: خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره، ومنه السلم ضد الحرب؛ لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر، ولهذا بني فيه على المفاعلة، فقيل: المسالمة مثل المشاركة، ومنه: القلب السليم وهو النقي من الدغل والعيب.

    وحقيقته: الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فهو مستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته.

    وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته، ومنه أخذ الإسلام، فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه، ليس له فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه، وللمشرك به ].

    1.   

    مسائل باب: لا يقال السلام على الله

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل:

    الأولى: تفسير السلام.

    الثانية: أنه تحية.

    الثالثة: أنها لا تصلح لله ].

    أي: أن قولهم: السلام على الله يقصدون به تحية، ولا يقصدون به الدعاء لله؛ لأن هذا غير معقول ولا يمكن أن الصحابة يجهلون هذا، فإنما نسبوا أنهم يحيون الله بالسلام.

    فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله) إلى آخره.

    والأولى أنه يقول: معنى تفسير السلام، وسبق أن عرفنا أنه يتضمن الدعاء والإخبار، فهو إخبار بأنه سلم لمن يسلم عليه، وهو يدعو له بالسلامة، وكذلك يذكر اسم الله عليه طالباً من الله أن يسلمه من المكاره، ويخبره في ضمن ذلك أنه سلم له، أي: مسالم له، وأنه لا يناله منه أذى، شأن المسلم مع المسلم؛ لأنه كلما قرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، علم أن هذا هو المسلم حقيقة، فعندما يقول: السلام عليك، يعني: أنت سالم مني، لا ينالك مني أذى، لا من لساني ولا من يدي؛ لأني مسلم.

    وكذلك هو يدعو له في ذلك ذاكراً اسم الله، هذا هو حقيقته، وتقدم أن معنى هذا: أن الإنسان يجب عليه أن يعلم الشيء الذي يجب لله، والذي لا يجوز أن يضاف إلى الله فيجتنبه، ويكون ذلك من كمال التوحيد.

    [ الرابعة: العلة في ذلك ].

    وهذا هو معنى قولهم: بأن الله هو السلام ومنه السلام؛ لأنه جل وعلا كامل لا يلحقه نقص، فهو الذي يستحق أن تقدم له العبادات ويتقرب إليه بها، مثل: القيام والقراءة والركوع والسجود والتسبيح والتهليل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: التحيات لله)، يعني: التعظيمات التي فيها عبادة الله جل وعلا.

    [ الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله ]

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755984980