إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [108]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حمى النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد من كل جانب، وسعى لسد كل ثغرة قد يدخل منها الشرك، حتى لو كان ذلك من قبل النطق باللسان دون الاعتقاد بالجنان، ومن حمايته صلى الله عليه وسلم لكمال جناب التوحيد: أمره من حُلِف له بالله أن يصدق الحالف.

    1.   

    باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

    [ قال المصنف رحمه الله تعالى: باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ].

    الحلف بالله هو منتهى الاجتهاد في إثبات صدق الخبر، وقد أخبر الله جل وعلا عن الكفار والمشركين أنهم إذا اجتهدوا في أيمانهم أقسموا بالله، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [الأنعام:109]، فأصبح القسم بالله هو جهد اليمين، يعني: ليس وراءه شيء، وكذلك: مقتضى الوضع أن الذي يحلف بالله جل وعلا وهو صادق فمعناه أنه يعلم أن الله مطلع عليه، وأن الله يثيبه على صدقه.

    أما الكاذب فبخلاف ذلك، يعني: إما أنه مستهتر بالله جل وعلا ومتهاون به، أو أنه لا يعتقد أن الله يعلم ما في قلبه، وأن الله يعاقب على ذلك، وكل هذا خلاف كمال التوحيد، ومن تعظيم اسم الله جل وعلا ألا يذكر إلا على حق، ثم إذا ذكر له فإنه يقتنع ويرضى به، ولكن هذا ليس في كل موطن، وإنما يكون ذلك في الأيمان الشرعية عندما يكون هناك حكم شرعي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (البينة على المدعي، وعلى المنكر اليمين)، فالمدعى عليه يقسم بالله، ويبرأ، فإذا حصل الحلف بالله يجب على المحلوف له أن يرضى؛ لأن هذا حكم شرعي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجب أن يرضى به، والذي لا يرضى يكون إما ناقص التوحيد؛ لأنه ارتكب محرماً، أو لأنه لم يقدر الله جل وعلا حق قدره، أما في مخاطبات الناس ومحاوراتهم فإن هذا لا يلزم؛ لأن كثيراً من الناس يحلف بالله إما على ظن ضعيف، وإما على غير ظن.

    فإذا كان الإنسان يعلم أن الأمر في الواقع بخلاف حلفه لم يلزمه أن يرضى بذلك؛ غير أن المؤمن يجب أن يحفظ أيمانه، وكذلك عند الاعتذارات: إذا اعتذر أخ لأخيه، أو عند التهم: إذا اتهم بشيء فحلف بالله أنه ما صار كذا، وأنه ما وقع مني كذا، أو حلف بالله يعتذر له، ويقول: إنه صادق، فإنه ينبغي عليه أن يرضى بذلك، ويصدق ويحمل أخاه على المحمل الطيب الحسن، فإن هذا من حق المسلم على المسلم، ومن لم يفعل ذلك فإنه آثم وتوحيده ناقص، أي أنه لم يأت بكمال التوحيد، فهذا هو وجه إدخال هذا الباب في كتاب التوحيد من هذا الوجه.

    والذي لا يرضى بما حلف له على وجه الاعتذار أو رفع التهمة من أخيه يكون مذنباً، ويكون ذلك نقصاً في توحيده، أما الحلف بغير الله جل وعلا فإنه مضى أنه من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر وقد يكون أصغر على حسب ما يقوم في نفس الحالف.

    قال المصنف: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم؛ من حُلف له بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله)، رواه ابن ماجة بسند حسن].

    أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم) فقد سبق بيانه، وأن الحلف بغير الله جل وعلا شرك أو كفر، سواء كان بالآباء، أو بالأمانات، أو بالبيت، أو بالنبي، أو بأي مخلوق من المخلوقات فإنه لا يجوز أن يحلف بغير الله جل وعلا، أو بصفة من صفاته؛ لأننا منعنا من غير ذلك.

    وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الحلف بغير الله شرك؛ فلا يجوز أن يرتكب هذا النهي، ولو كان ذلك يجري على لسانه مجرد كلام لا يقصد به حقيقته فإنه محرم، ويكون من الشرك اللفظي الذي يكون من الشرك الأصغر، أما إذا كان يقصد الحقيقة، فهذا قد يرقى عن الشرك الأصغر إلى الأكبر.

    وأما قوله: (ومن حلف بالله فليصدق)، فهذا من حفظ الأيمان، والإنسان يحفظ يمينه والصدق مأمور به مطلقاً، فالله أمرنا أن نكون مع الصادقين، وأمر بالصدق ونهى عن الكذب، فالصدق من الحسنات، والكذب من صفات المنافقين، والمؤمن لا يكذب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيكذب المؤمن؟ قال: لا)، فالكذب محرم قليله وكثيره، ولا يصلح منه شيء إلا ما استثني في الحديث من الأمور الثلاثة ، وفي الواقع أنها من المعاريض وليست كذباً صريحاً، ولكن الأخبار التي يخبر بها تحمل على فهم السامع، فإذا كان الخبر على خلاف ظاهره فإنه يحتمل أن يكون مراداً ويحتمل أن لا يكون مراداً، وإذا كان له غرض صحيح فلا بأس بذلك، ولهذا جاء في الحديث: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)، يعني: فيها مجال ومتسع يغني عن أن يكذب الإنسان، فالكذب لا يجوز منه شيء، والصدق واجب، فكيف إذا كان مع الخبر يمين فإن الكذب يكون أكبر وأعظم جرماً مما لو كذب بلا حلف، لهذا قال: (ومن حلف بالله فليصدق)، وهذا أمر يقتضي الوجوب.

    ثم قال: (ومن حلف له بالله فليرض)، أي: أذا أخبرك مخبر ثم أقسم على خبره بالله أن هذا هو الواقع، فيجب عليك أن ترضى إن لم يكن المخبر معروفاً بانتهاك الدين وبكونه لا دين له؛ لأنه جاء في قصة محيصة وحويصة اللذين قتل أخوهما في خيبر ولا يدرى من قتله، ومعلوم أن الذي قتله اليهود؛ لأنهم أعداء المسلمين في ذلك اليوم، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره قال: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً، قال: إنهم لا أيمان لهم)، يعني: كيف نرضى بهذا؟! فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم عدم الرضا؛ لأن هؤلاء لا دين لهم، وقد يحلفون وهم كذبة.

    وكذلك الرجل الذي جاء يخاصم آخر في أرض قد استولى عليها أحدهم، قال له: (ألك بينة؟ قال: لا. قال: إذاً لك يمينه، فقال: إذاً يأكل مالي)؛ لأنه رجل فاجر، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا قال: يلزمك أن ترضى بهذا، بل قال: (ليس لك إلا يمينه) ، فدل هذا على أن المتهم في دينه لا يلزم أن يصدق يمينه إذا حلف.

    غير أن الحكم الشرعي إذا حكم الحاكم باليمين يلزم المحكوم عليه أن يرضى بهذا الحكم ويسلم بذلك؛ لأن هذا هو حكم الشرع.

    (ومن لم يرض فليس من الله في شيء): هذا كقوله جل وعلا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، يعني: ليس له نصيب في الآخرة؛ فهو من الوعيد الشديد الذي يقتضي وجوب الرضا بالحلف بالله جل وعلا في الحكم ، قال بعض العلماء: إن الحديث خاص بالحكم؛ لأنه يجب الرضا به، ويظهر أنه عام فيما إذا جاء إليك أخوك معتذراً من أمر قد بدر منه، ويحلف لك أنه صادق، وأنه ليس لديه إلا النصح لك والمودة، فإنه يجب عليك أن ترضى بهذا.

    وكذلك إذا اتهم في شيء وعوتب في ذلك، ثم حلف أنه على خلاف هذا، فإنه يجب أيضاً عليك أن ترضى، ومن لم يرض فإنه داخل في هذا الوعيد.

    ومناسبة الحديث للباب: أن الذي لا يرضى بالحلف بالله متوعد بقوله: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْء، وهذا يدل على نقص توحيده: إما ذهابه كله، وإما ذهاب كماله.

    آثار تصديق الحالف في اليمين

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (لا تحلفوا بآبائكم) تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموماً.

    قوله: (من حلف بالله فليصدق) هذا مما أوجبه الله على عباده، وحضهم عليه في كتابه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ [الأحزاب:35] وقال: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21]، وهو حال أهل البر، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ إلى قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] ].

    قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) يعني: كل الخصال التي ذكرت في أهل البر صدقوا فيها، فهذا يدلنا على أن الصدق يجمع خصال الخير كلها، فهو وصف أهل الإيمان، وأهل التقى والبر، أما خلاف الصدق فهو الكذب، فهو صفة أهل النفاق.

    [ وقوله: (من حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله)، أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضا، وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك؛ فهذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف له معتذراً أو متبرئاً من تهمة. ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه، كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه: (ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها من الخير محملاً).

    وفيه من التواضع والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم؛ وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد، كما في الحديث، وهو من مكارم الأخلاق.

    فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله من القيام بحقوقه، وحقوق عباده، وإدخال السرور على المسلمين، وترك الانقباض عنهم، والترفع عليهم؛ فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، وبسط هذه الأمور، وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها.

    فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به منه، وترك ما يجب تركه من ذلك؛ دل على وفور دينه وكمال عقله، والله الموفق والمعين لعبده الضعيف المسكين. والله أعلم ].

    يعني: هذا من حق المسلم على المسلم، ومما يجب أن يعتنى به ولا يتهاون به؛ لأن هذا مقتضى الإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا؛ أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام فيما بينكم).

    فقوله: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، هذا أمر من ضروريات الشرع وأن الإيمان لابد منه، وأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، وقوله: (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) المقصود به التحاب في الدين وعلى العقيدة، فتحبه لأنه يعبد الله، ولأنه شاركك في الإيمان بالله، وفي طاعة الله جل وعلا، فتود له ما تود لنفسك، وهذا يجب على جميع المسلمين، ومن أخل به فإنه ناقص الإيمان إن لم يكن إيمانه زائلاً بالكلية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، كذلك يمثلهم بأنهم كالبنيان يشد بعضهم بعضاً، يعني: أنه يجب التعاون فيما بينهم، ويجب أن يتراحموا، ويكون بينهم ألفة الإيمان، ويكون المؤمن مرآة المؤمن، والمرآة ينظر فيها حتى يزيل الأذى من وجهه وبدنه، فالمؤمن يزيل الأذى عن أخيه، ويبعده عنه، هذا معناه: أنه لا يكون إلا جالباً للخير لأخيه. أما إذا انعكست الأمور وصار يجلب له الأذى والشر، فمعنى ذلك إما أن يكون الإيمان زائلاً بالكلية، وأنه لا أثر له في أعماله فهذا إيمانه ضعيف وغير مؤثر، وقد يزول في وقت ما.

    والذي ينظر إلى حالة المسلمين ولاسيما في المشاعر والطواف مثل رمي الجمار ويرى بعضهم يدوس بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً يعرف أن الإيمان عندهم إما معدوم، وإما ضعيف وإلا لو كانوا يتحلون بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يقتل مؤمناً مؤمن برجليه يدوسه وهو يؤدي فريضة من فرائض الله جل وعلا، وليس الأمر لأن هذه الأماكن تقتضي ذلك، كلا. ولكن الواقع أن الفعل يصدر مهم لجهلهم وعدم مراعاة حقوق إخوانهم بعضهم لبعض.

    وهكذا في جميع المجالات يجب أن يراعى حق المؤمن لأمر لله جل وعلا واتباعاً لشرعه، وكذلك عندما يبدو منه بادرة تدل على المخالفة؛ فإنه يجب نصحه أولاً فربما يكون ذلك لأنه جاهل ولو عرف الحق لم يفعل ذلك، ولا يجوز أن تعنف عليه بالكلام، أو السب والشتم، بل يجب أن يكون ذلك برفق وبلين يقصد به هدايته، وإذا اعتذر يجب أن يقبل عذره في جميع المجالات التي يمكن أن يسعه الاعتذار فيها في أمور الدين، أما أمور الدنيا فلا تساوي شيئاً كلها ولا يجوز أن يتعادى عليها أو يتباغض من أجلها، فإن حصل ذلك فهذا من الظلم.

    المسائل التي اشتمل عليها الباب

    قال المصنف رحمه الله: [ فيه مسائل:

    الأولى: النهي عن الحلف بالآباء.

    المسألة الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.

    المسألة الثالثة: وعيد من لم يرض].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755775592