قلت: فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله تعالى! ].
هذه من المسائل التي أخذت من الحديث السابق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعد قوله: (إنك تأتي قوم أهل كتاب) قال: (ادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله)، وهذا معناه أنهم لا يعرفون شهادة ألا إله إلا الله وهم من أهل الكتاب وهم علماء، ولهذا يقول الشارح: [فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله]، وهو يشير إلى الذين يعبدون غير الله وهم يقولون: (لا إله إلا الله)، تجد أحدهم -مثلاً- يطوف بالقبر، ويستنجد بصاحبه، ويسأله كشف الكروب، ويسأله ربما غفران الذنوب، ويسأله إزالة الخطوب التي قد تقع، ويدعوه بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وهو يقول: (لا إله إلا الله)!فهذه مناقضة تمام المناقضة؛ لأن معنى (لا إله إلا الله): إبطال كل دعوة لغير الله جل وعلا، ومعناها أن الدين كله لله،وقوله لهذه الكلمة يكون مثل المستهزئ الذي يستهزئ بهذا القول؛ لأنه يأتي بفعله ما يناقضها، والفعل أبلغ من القول بغير شك، فلهذا لا يقع أحد من المسلمين في الاستنجاد بالأموات وسؤالهم إلا وهو مناقض لهذه الشهادة تمام المناقضة مهما كانت، سواءٌ سموا الاستنجاد والدعوة توسلاً أو شفاعةً أو محبةً للصالحين، أو غير ذلك من الأسماء التي يزينون بها الشرك، وإلا فهي شرك صريح أعظم من شرك مشركي العرب الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بدرجات، وذلك أن مشركي العرب ما كانوا يدعون الأصنام والأشجار والأحجار عند الكربات، وما يدعونها لكشف الخطوب، وإذا وقع خطب فإنهم يقبلون على الله جل وعلا يدعونه وحده، كما قال الله جل وعلا محتجاً عليهم: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] يعني أنهم يعتقدون أنه لا يكون ذلك إلا لله وحده، ويعلمون هذا تماماً. ولهذا احتج الله به عليهم، بخلاف هؤلاء الذين يدعون المقبورين ويتجهون إليهم، عندما يقعون في الشدائد يخلصون الدعاء لهم، وينسون الله جل وعلا، وهذا لم يقع للمشركين الأولين، بل شرك هؤلاء أعظم بكثير من شرك الأولين، هذا وهم يقولون: (لا إله إلا الله)، والسبب في هذا أنهم ما علموا معنى (لا إله إلا الله)، ولا علموا معنى العبادة، ولا علموا معنى التأله، لا يعرفون ما معنى الإله، ويظنون أن الإله هو الذي يخلق ويرزق وهو الذي يدبر الكون فقط، وليس هو الذي تألهه القلوب وتدعوه وترجوه وتخافه وتحبه، ما عرفوا هذا، فلكونهم جهلوا اللغة العربية التي جاء بها القرآن وجاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم وقعوا في المتناقضات،ووقعوا في الشرك فهذا هو السبب.
قال النووي ما معناه: إنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، ولا يلزم من ذلك ألا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة، والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه، وهذا قول الأكثرين. اهـ ].
ما الفائدة بكونهم مخاطبين بفروع الشرع؟ ليس هناك فائدة إلا زيادة عذابهم فقط، ومعنى مخاطبتهم بها أنهم يعذبون على ترك الواجبات، ويعذبون على فعل المحرمات، هذا معنى المخاطبة، أي: أنه إذا فعل محرماً أو ترك واجباً يكون مرتكباً لجريمة، ويدل على هذا قوله جل وعلا في ذكر الكافرين عندما سئلوا وهم في النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42]؟ كان الجواب قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:43-46]، فذكروا أنهم ما يصلون، ولا يؤدون الزكاة، وكانوا لا يتركون محرماً إلا وفعلوه: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:45]، فبين بهذا أنهم يعاقبون على ترك الصلاة وترك الزكاة وغيرها، وأن هذا هو الذي سلكهم في سقر، وإن كان الأصل في هذا هو الكفر وعدم الإيمان، هذا هو الأصل، ولكنهم يعذبون على البقية.
أما كون الصلاة هي أعظم الواجبات بعد الإيمان بالله وشهادة ألا إله إلا الله فهذا تدل عليه أدلة كثيرة من الشرع، منها:
أن الله جل وعلا قرن الصلاة بحقه في مواضع متعددة، كقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:2-3]، وقال في سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] إلى أن قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9]، بدأ الأعمال بالصلاة وختمها بالصلاة، وكذلك في سورة سأل: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:19-23]، ثم ذكر أوصافهم وختمها بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:24-35]، فهذا كله يدلنا على عظم الصلاة، حيث إنها تبدأ في ذكر الأعمال الصالحة ويختم بها ذكر الأعمال الصالحة .
والمقصود أن الصلاة أمرها عظيم جداً، ومن ذلك ما جاء في الحديث أن الله يسأل الملائكة الذين وكلوا بحفظ أعمالنا في الليل والنهار؛ لأنه يتعاقب جماعة منهم علينا بالليل وجماعة منهم بالنهار، فيجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا ويبقى الذين يريدون أن يبقوا في النهار حتى تأتي صلاة العصر، فإذا صعدوا سألهم الله جل وعلا وهو أعلم: (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، والمشكلة إذا كانوا نياماً أو يلعبون فما الجواب؟
هذه مشكلة، أتيناهم وهم يلعبون. أو تركناهم وهم يلعبون أو نائمون، وهذا في المصلين فقط، أما غيرهم فقد علم ماذا يكون مصيرهم عند الله جل وعلا.
والمقصود أن هذا يدل أيضاً على تعظيم الصلاة، ولهذا أمر بإقامتها في آيات كثيرة، وكلما جاء ذكر الصلاة يقول جل وعلا: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3]، أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الأنعام:72]، وما جاء في القرآن (صلوا) أو (أدوا الصلاة)، بل (أقيموا)، فالإقامة يقصد بها أن يؤتى بها تامة بشروطها وما يلزم لها، لا مجرد قيام كل إنسان فيها؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، وإذا دخل في الصلاة فقد دخل على الله جل وعلا، وإذا رفع يديه عند التكبير وقال: (الله أكبر) يقول العلماء: هذا عبارة عن رفع الحجاب بينه وبين ربه، فإنه يخاطب ربه جل وعلا، فليتأدب مع الله وليحضر قلبه؛ لأن الله ينظر إليه ويسمع كلامه، وهو قريب منه، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، فعلى الإنسان أن يهتم بصلاته.
من الأصناف الثمانية الفقراء والمساكين، والمساكين صنف آخر، وقد اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين، فمنهم من يقول: إن المسكين أكثر حاجة. ومنهم من يقول: الفقير أكثر حاجة. والذين قالوا: إن المسكين أكثر حاجة يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، وإنما المسكين الذي لا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس) وهذا معناه أنه ما عنده شيء.
واستدل الذين قالوا: إن الفقير أكثر حاجة بأن الله بدأ به، والله جل وعلا لا يبدأ إلا بما هو أهم، ولأنه جلا وعلا قال في سورة الكهف: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، فأخبر أنهم مساكين ولهم سفينة، فدل على أن المسكين يكون عنده مال. ولهذا قالوا: الفقير أشد حاجة. فعرفوه وقالوا: الفقير الذي لا يجد شيئاً، والمسكين الذي يجد نصف الكفاية. مثلاً نصف كفاية السنة، وأما الفقير فهو الذي لا يجد إلا أقل من ذلك.
والعاملون هم الذين يعملون على الزكاة، فمن أرسلوا لجباية الزكاة وأخذها من أصحابها فإنهم يعطون أجر عملهم من الزكاة.
وقوله: وفي سبيل الله يعني: في الجهاد. يشتري بالزكاة أسلحة، وكذلك يشري بها ما يحمل الناس، ويعطى منها الذين يجاهدون.
وقوله: وابن السبيل يعني: المسافر الذي يترك بلده ويسافر وتنقطع نفقته أو تقل. فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده، فيعطى منها الشيء الذي يوصله.
وقوله: والغارمين الغارم هو الذي يتحمل الأموال في سبيل الإصلاح وغير ذلك.
والمؤلفة قلوبهم هم رؤساء الكفار، وهذا خاص بهم فقط، ولا يجوز إعطاء كافر من الزكاة إلا هؤلاء، فإذا كان للكفار رؤساء ولو أسلموا أسلم بهم ناس كثير فإنهم يعطون منها تأليفاً لهم وترغيباً لهم في الدخول في الإسلام.
( وفي الرقاب ): أي: يشترى الرقيق من مالكيهم ويعتقون من الزكاة. فهؤلاء هم أهل الزكاة.
هذا يدل عليه حديث فيه أن الإمام من المسلمين هو الذي يأخذ الزكاة أو نائبه الذي ينيبه، ثم إذا أخذها فقد برئت ذمة صاحبها.
[ وفي الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد .
وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني، ولا إلى كافر غير المؤلَّف، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور؛ لعموم الحديث ].
الحديث يدل على أن الزكاة لا تجوز للغني، ولذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا هو الذي تولى قسمة الزكاة بين الأصناف الثمانية، فلا يجوز أن يتعدى المسلم بزكاته أحد هذه الأصناف.
أما كونه يجوز أن يدفع الزكاة لصنف واحد منها فقد أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (فأخبرهم أن الله جلا وعلا افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، والفقراء صنف واحد من أصناف الصدقة؛ فإن الله جل وعلا قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] ثم عطف عليهم بقية الثمانية.
وكونها لا تجوز لكافر فقوله: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فالضمائر تعود على المسلمين، فالكافر لا تؤخذ منه الصدقة، وكذلك لا يعطاها، ولكن خص من ذلك الكافر الذي يتألف لدخوله في الإسلام، وليس كل كافر، وإنما الرؤساء الذين إذا أسلموا أسلم بإسلامهم أناس كثير؛ لأن الله جل وعلا يقول في الآية: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60] يعني أنهم يعطون ولو كانوا كفاراً تأليفاً لهم وترغيباً لهم في الدخول في الإسلام .
قال الشارح: [ والفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين، وبالعكس كنظائره كما قرره شيخ الإسلام ].
يعني أنه إذا قيل: ( الفقير ) دخل فيه المسكين، وإذا قيل: ( المسكين) دخل فيه الفقير، أما إذا اقترنا كما في الآية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] فكل واحد يفسر بنوع من أنواع الناس، ولا يكون هذا داخلاً في هذا، فيكون هذا مثل الإيمان والإسلام، فإذا جاء أحدهما دخل فيه الآخر، أي: إذا جاء مفرداً دخل فيه الآخر، كقوله جل وعلا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فهذا يدخل فيه الإيمان كله، أما إذا اجتمعا -كما في حديث جبريل- فإن لكل منهما معنىً، فإنه سأله عن الإسلام أولاً، ثم سأله عن الإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة التي تكون في القلب، وهكذا الفقير والمسكين، وهذا له نظائر في لغة العرب.
قلت: وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً ].
الكرائم لا يجوز أن تؤخذ في الزكاة؛ فإنه ظلم، وإنما المتعين أن يؤخذ من الوسط، لا يؤخذ من نفائس الأموال وخياره، ولا من شراره وأردئه، وهذا يكون في الأموال إذا كانت حبوباً أو ثماراً أو كانت ماشية، أما إذا كانت من الذهب والفضة أو ما يقوم مقامهما فهذا غالباً لا يكون فيه تفاوت.
قال الشارح: [ وفيه: أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال، بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز.
قوله: (واتق دعوة المظلوم) أي: اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم. وهذان الأمران يقيان من رُزِقَهُما من جميع الشرور دنيا وأخرى.
وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم.
قوله: (فإنه -أي: الشأن- ليس بينها وبين الله حجاب) هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي: فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها.
وفي الحديث أيضاً قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به، وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمر بتقوى الله تعالى، ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم بسوء عاقبته، والتنبيه على التعليم بالتدرج، قاله المصنف.
قلت: ويبدأ بالأهم فالأهم ].
قوله: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فسر عدم الحجاب بأنها تقبل، فالمظلوم إذا دعا أجابه الله جل وعلا.
والتقوى المقصود بها مخافة الله وإقامة العدل، فإذا كان الإنسان يخاف ربه جل وعلا فإنه يفعل المأمور ويترك المحذور، فمن رزق ذلك فإنه يكون عنده وقاية تقيه من عذاب الله جل وعلا.
ومن أسباب العذاب العاجل -وليس الآجل- الظلم، والظلم أنواع: قد يكون بأخذ الأموال، وقد يكون بالاستطالة في الأعراض، وقد يكون بالاحتقار والازدراء، أي أنه قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول، وقد يكون بغير ذلك، فالواجب على العبد أن يتقي ربه، وألا يرى نفسه فوق الناس وأحسن من الناس، فإنه إذا رأى نفسه بهذه الصورة فإنه يزدري كثيراً من الناس ويظلمهم، سواءٌ بالفعل أو بالقول، ومعلوم أنه ليس كل أحد يستطيع الظلم بالفعل، وإنما يستطيع ذلك من كان بيده شيء من أمور المسلمين العامة، ولو لم يكن الأمر له فيه استقلال، فإنه إذا كان بهذه المثابة استطاع أن يظلم، فيظلم نفسه أولاً بعدم أداء الواجب، ثم يظلم عباد الله لعدم قضاء الأمور التي أنيطت به، والسبب في هذا عدم مخافة الله جل وعلا، ثم كونه لا يتقي أسباب العذاب الذي سوف يكون عاجلاً.
وقد يقول قائل: إننا نرى كثيراً من الناس يظلمون وما رأينا عذاباً عاجلاً يصيبهم!
فالجواب: جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) يملي له ليزداد عذابه، ما يملي له لأنه ترك معاقبته، بل ليزداد عذاباً، ولكن لو رجع وتاب إلى الله فإن الله تواب رحيم جل وعلا، ولهذا ذكر في كتابه المشركين ثم عرض عليهم التوبة فقال: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ [المائدة:74]، يقول لهم هكذا: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ بعدما ذكر طغيانهم مما يدل على كرمه وجوده جل وعلا.
فالمقصود أن الظلم سبب عاجل للعذاب، وإذا وقع الظالم في شدة لم يفلت منها، فيأخذه الله جل وعلا أخذاً قريباً جداً، ومهما امتد به العمر أو فسح له في الأجل فهو قريب، وإذا أخذه لم يفلته، فأخذ الله أليم شديد جل وعلا.
ويقول جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فـ(ناضرة): بهية جميلة، ظهر بهاؤها ونعيمها. فهي ناضرة من (النضرة)، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) من النظر، فهي تنظر إلى الله جل وعلا، فهذا أعلى نعيم لأهل الجنة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن الصحابة سألوه فقالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: (هل تضامون في القمر ليلة البدر -يعني: ليلة أربع عشرة- ليس بينكم وبينه حجاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر)، فهذا كلام واضح جلي، ولو تكلف أحد من الناس أن يأتي بكلام أبلغ من هذا وأوضح منه وأفصح منه ما استطاع، فالذي ينكر الرؤية بعد هذا قد ضل.
الأولى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة قال لمن معه: (من كان معه بعير ضعيف أو صعب فليرجع) يعني: من كان معه بعير ضعيف أو صعب لا يستطيع أن يتحكم به فليرجع. فأبى رجل كان معه بعير صعب أن يرجع، فشرد به فسقط فاندق عنقه، فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقال: (ماله؟ قالوا: كان على بعيرٍ صعب. فقال لـ
الثانية: لما حضر القتال مع اليهود في خيبر صف أصحابه وقال: (لا يقاتلن أحد منكم حتى آمره)، فخرج يهودي ليبارز فانتدب له واحدٌ من المسلمين فقتله اليهودي، فقالوا: شهيد. فجاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (هل قتل بعد ما قلت: لا يقاتلن أحد؟ قالوا: نعم. قال: لا يدخل الجنة من عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فكيف إذا جاء أمر صريح واضح جلي وخالفه مسلم؟! فإنه على خطر عظيم، فالأمر ليس سهلاً، وكثير من الناس يتساهل في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب على المسلم أن يعظّم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أمر أي أحد من الخلق، وأن يمتثل أمره ويجتنب نهيه، وإلا فهو على خطر عظيم، فكيف بالذي يخالفه صراحة وعناداً لأجل أن مذهبه لا يتبنى هذا القول فقط؟ فمعنى ذلك أنه قدم إمامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان كذلك يجوز أن يذهب به يوم القيامة إلى جهنم ويقال له: اتبع ما كنت تعظمه. ففي يوم القيامة كل من كان يتولى شيئاً يؤتى به فيساقان معاً إلى جهنم.
قوله في هذا الحديث: (إنه ليس بينها وبين الله حجاب) معناه: إن الله قريبٌ سميعٌ، إذا دعاه المظلوم استجاب دعوته. وأوقع في الظالم هذه الدعوة التي صدرت من المظلوم.
وهذا يدلنا على أن الظلم وإن كان قليلاً فإن الله يستجيب للمظلوم؛ لأن كون الساعي الذي أُمر بأخذ الصدقة يأخذ شاة حسنة جميلة وقد أمر أن يأخذ شيئاً متوسطاً، فهذا أظلم والفرق ليس كثير، فيمكن أن الفرق شاة فقط؛ لأن بعض الشياه تساوي اثنتين، فكون مثل هذا ظلم، مع أنه لا يأخذها لنفسه وإنما يأخذها للفقراء، ومع ذلك يكون ظالماً يستحق أن الله يستجيب لمن أُخذ منه ذلك ويوقع به عقابه، فكيف بالذي يظلم الناس ظلماً صريحاً ليس له فيه شبهة؟ فهذا أحق بأن يعاقب، وأحق بأن يُجاب للمظلوم عليه، وهذا في الواقع محاربة لله جل وعلا، ومن يحارب الله فإن الله يغلبه تعالى الله وتقدس .
ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله تعالى الشهادتين، ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم، فإما أن يكون قبل فرض الحج، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه.
وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما؛ لأنهما عبادتان ظاهرتان، بخلاف الصوم فإنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم وأن يأكل سراً، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو صلى الله عليه وسلم يذاكر الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها. ويصيرون مسلمين بفعلها].
لا يصلح أن يقال: (يذاكر)؛ فالرسول لا يذاكر أحداً، والمعنى: يذكر لهم الأعمال التي يقاتل عليها.
قال الشارح رحمه الله: [ فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم وإن كان واجباً، كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس، وكذلك لما بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم؛ لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج؛ لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة . انتهى بمعناه.
وقوله: (أخرجاه) أي: البخاري ومسلم، وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر