إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [18]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الناس في التوحيد على مراتب، فمنهم من حقق التوحيد باجتناب المعاصي، ومنهم من قصر فيه بارتكاب المعاصي، وقد أثنى الله تعالى على محققي التوحيد وامتدحهم؛ وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن حال الموحدين يوم القيامة وقلتهم في عموم الناس، فأخبرنا عن أنبياء يأتون في قلة من الموحدين المتبعين، وهؤلاء الموحدون هم المستحقون لأن تنالهم رحمة الله تعالى.

    1.   

    مسائل في باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب

    مراتب الناس في التوحيد

    قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد].

    معرفة مراتب الناس في التوحيد لأن من ذُكر من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ليسوا كغيرهم من الذين يحاسبون، وإنما ذلك لكونهم حققوا التوحيد، وكذلك كونه أثنى جل وعلا على الذين تركوا الشرك، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:59]، وكذلك كونه أثنى على إبراهيم وجعله أمة، كما قال تعالى: أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ [النحل:120] يعني: قدوة يقتدى به ويسلك طريقه لتحقيقه التوحيد.

    معنى تحقيق التوحيد

    [المسألة الثانية: ما معنى تحقيقه].

    معنى تحقيقه هو علمه أولاً، أن يعلم التوحيد، ثم يتحلى به قلبه وجوارحه، ثم يجتنب ما يقتضي التوحيد تركه من الذنوب والبدع فضلاً عن الشرك؛ لأن الشرك إذا وقع فيه فإن كان كبيراً فهو مناف للتوحيد، وإن كان صغيراً فهو مناف لكماله، وكذلك الذنوب والمعاصي، فيكون تحقيقه هو تخليصه وتصفيته من البدع وشوائب الشرك والذنوب، فيخلصه بأن يكون عمله خالصاً لله على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي به على الوجه الأكمل الذي أمر الله به بأن يكون عمله ما يقصد به إلا وجه الله جل وعلا، ولا يلتفت إلى غيره من معانٍ دنيوية، ولا من وجوه الناس ولا غيرهم، فمعنى ذلك أنه يقبل على الله بكليته، ولا يكون ملتفتاً بقلبه إلى غير الله جل وعلا من المؤثرات والأسباب، فمن كان كذلك فقد حقق التوحيد.

    إبراهيم عليه السلام والثناء عليه بترك الشرك

    [المسالة الثالثة: ثناؤه تعالى على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين].

    قوله تعالى: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123] دليل على إبطال قول اليهود والنصارى والمشركين؛ لأن كل طائفة تدعي أنه منهم وأنهم منه، فالمشركون يزعمون أنهم على ملته، والنصارى يزعمون أنهم على ملته، واليهود يزعمون كذلك، فبرأه الله جل وعلا من ذلك، وقال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [آل عمران:68] يعني محمداً صلوات الله وسلامه عليه، فهو أولى الناس به، وهو أقربهم إليه طريقة ونهجاً وسلوكاً.

    الثناء على الأولياء بترك الشرك

    [الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك].

    قوله: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك يعني قول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:58-59]، فأثنى عليهم باجتناب الشرك، فدل على أن تحقيق التوحيد هو اجتناب الشرك، أن يجتنب الإنسان الشرك دقيقه وجليله كبيره وصغيره، والذي يجتنب الشرك لا بد أنه يعبد الله وحده، فيحقق عبادة الله جل وعلا وحده.

    تحقيق التوحيد بترك الرقية والكي

    [الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد].

    الاسترقاء غير الرقية، فالاسترقاء هو طلب الرقية، أن يطلبها من غيره؛ لأن الطلب فيه افتقار لغير الله جل وعلا، فتركه استغناءً بالله جل وعلا من تحقيق التوحيد، وكذلك الكي.

    أما وجه كون الكي تركه من تحقيق التوحيد فهو ما ذكره العلماء بأن الكي فيه ألم محقق ومستعجل، وأما الشفاء فيه فهو مظنون، وقد يكون وهماً لا حقيقة له، فالذي يقدم عليه غالباً يكون راغباً في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، فمن هنا صار فعل الكي ليس من تحقيق التوحيد، وتركه توكلاً على الله يكون من تحقيق التوحيد، أما فعله فيدل على الرغبة في الدنيا أكثر، وليس معنى هذا أن الكي محرم، لا. بل الكي مباح، فهو علاج جائز، فإذا أراد الإنسان أن يكتوي فله ذلك، ولكن تركه أفضل فقط، هذا هو المقصود، فالذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب هم الذين يفعلون الواجبات ويتركون المحرمات والمكروهات، ويفعلون المستحبات، وهؤلاء هم الذين ذكرهم الله جل وعلا في أحد أقسام الذين أورثهم الله جل وعلا الكتاب، وهم الذين اصطفاهم الله، فهم السابقون بالخيرات بإذن ربهم؛ لأن الله جل وعلا قسمهم ثلاثة أقسام: قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله.

    فهؤلاء الذين يسبقون بالخيرات بإذن الله جل وعلا هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فيسبقون إليها قبل غيرهم، وهذا أيضاً لا يلزم منه أن الذين يحاسبون ولا يسبقون إليها يكونون أقل منهم درجة، فقد يكون الذين يحاسبون منهم من إذا دخل الجنة كان أعلى من السابقين الذين دخلوها بلا حساب، كما إذا كان الإنسان عنده جهاد وعنده أموال، ولكنه ينفق في سبيل الله وينفع عباد الله بأمواله، فهو يحاسب عن ماله: من أين جمعه وفيم أنفقه، ولا بد من المحاسبة، ولكن بعد المحاسبة قد تكون درجته أرفع من درجة الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب .

    فإذاً هؤلاء الذين يتركون الكي ويتركون الاسترقاء ليس معنى ذلك أنهم يكونون أفضل من غيرهم على الإطلاق، فقد يكون الذي يفعل شيئاً من ذلك عنده حسنات أكثر من حسنات هذا الذي ترك هذا الأمر توكلاً على الله، فإذا دخل الجنة كان أرفع ممن سبق إليها.

    التوكل وجمعه لخصال السبعين ألفاً

    [السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل ].

    ذلك لأنه قال: (وعلى ربهم يتوكلون)، فالخصال التي ذكرها أربع خصال، والذي جمع هذه الأربع هو التوكل، فالخصلة الأولى: كونهم لا يسترقون. يعني: لا يطلبون الرقية. وتبين لنا أن الرقية مستحبة في نفسها، أي: كون الإنسان يرقى نفسه، أو كونه يرقى غيره، أو كونه يُرقى بلا طلب منه، فهذا لا يدخل في ذلك، بل هذا جائز ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه، وكان يرقي غيره، وجبريل عليه السلام رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والثانية: كونهم لا يتطيرون. والطيرة نوع من الشرك، وهي التشاؤم بأفعال الطيور أو بأصواتها، وكذلك بالحيوانات، ومن المعلوم أن الطيور والحيوانات وجميع المخلوقات لا تدبير لديها ولا تصريف في الكون، وليس عندها من الخير شيء، وليس عندها من دفع الشر شيء، وإنما تلك أوهام يلقيها الشيطان في نفس الإنسان، فإذا سمع شيئاً من ذلك فقد يقع في نفسه أمر فيثنيه عن مقصوده، فيكون في هذه الحال قد وقع في شيء من الشرك، وهؤلاء لا يلتفتون إلى ذلك، بل يمضون في كل ما أرادوا اعتماداً على الله، وعلماً منهم أن الطيور وغيرها لا تؤثر في شيء من الأشياء، وإنما المؤثر هو الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

    ثم إن الممنوع من الطيرة -كما سيأتي- هو ما أمضى الإنسان أو رده، أما أن يقع في نفسه شيء ثم يعرض عنه ولا يلتفت إليه فهذا لا يضره، ولا يقال: إنه تطير. وإنما الذي يضر كونه يحقق هذا الشيء الذي يقع في نفسه بأن يمنعه من المضي، فإذا سمع شيئاً يكرهه على حسب اعتقاده أو يجعله يقدم إذا سمع شيئاً أو رأى شيئاً يحبه ويريده فهذه هي الطيرة، أما إذا وقع في نفسه شيء ثم لم يثنه عن مراده أو لم يزد من عزيمته ومن مراده وإنما شيء عرض في نفسه فأعرض عنه فهذا لا يضره، ولهذا جاء في الحديث: (الطيرة ما أمضاك أو ردك)، فهذه الطيرة التي منع منها.

    والخصلة الثالثة: كونهم أيضاً لا يكتوون كما سبق .

    والخصلة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون. فلكونهم يعتمدون على الله في جميع أمورهم جعلهم لا يفعلون هذه الأمور الثلاثة، والتوكل معناه الاعتماد على من بيده كل شيء، وهو الله جل وعلا، فيفعل السبب ويعتمد على ربه في حصول مقصوده ومراده.

    نيل الدرجات بالعمل هو فهم الكرام

    [السابعة: عمق علم الصحابة رضي الله عنهم بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل ].

    يعني أنه لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن السبعين ألفاً يسبقون إلى الجنة علموا أنهم ما نالوا هذه السابقة إلا بعمل، فصاروا يبحثون عن هذا العمل، فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا لعلمهم بأن الصحابة أفضل الأمة، بل أفضل الناس بعد الأنبياء، كما جاءت الأحاديث في ذلك، ولأن الله جل وعلا أثنى عليهم في كتابه، وذكر أنه رضي عنهم، ومعلوم أن الذي تلقى العلم والإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة وقاتل بين يديه وامتثل أمره لا يكون مثل من يأتي بعده لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتلق منه ولم يمتثل أمره المباشر، فلا يكون مثله ولا قريباً منه، بل الذين سبقوا بصحبتهم ما يكونون مثل الذين تأخروا، كما حدث بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، فـخالد بن الوليد كان متأخر الإسلام، وقد أسلم قبل الفتح، لكن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين، فحدث بينهما شيء، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دعوا لي أصحابي. لا تؤذوا أصحابي. فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، هذا الكلام يوجه إلى بعض الصحابة فكيف بمن عداهم؟ وكيف بالذين أتوا بعدهم؟ ولهذا لما قيل لبعض العلماء: أرأيت عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ومعاوية رضي الله عنهما أيهما أفضل؟ قال: غبار دخل في منخر معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بن عبد العزيز لأن الصحبة لا يعدلها شيء، صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدلها شيء، فلا شك أن هذا القول منهم بأنهم لعلهم الصحابة له وجه في النظر.

    وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام. لأن الصحابة كانوا مشركين قبل أن يسلموا، أما الذين ولدوا في الإسلام فلم يقع منهم شرك، وذكروا أشياء، منها -في غير هذه الرواية- أن بعضهم قال: لعلهم الذين قتلوا في سبيل الله. يعني الشهداء.

    وهذا دليل على جواز المناظرة في مسائل العلم والتفقه فيها والبحث، ولو لم يكن الإنسان عنده ضرورة في ذلك، أي: عنده من يبين له المراد، فإنه يجوز أن يبحث بنفسه وإن كان عنده من يبين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم، فإذا سألوه أخبرهم، وهم خاضوا في هذه الأمور وصاروا يبحثون فيها وهو موجود صلوات الله وسلامه عليه.

    حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير

    [الثامنة: حرصهم رضي الله عنهم على الخير].

    حرصهم على الخير وعلى طلبه شيء معروف، فهم أحرص من غيرهم، أحرص من غيرهم على الخير، وهم إذا سمعوا شيئاً من الفضائل لا يتركونه حتى يعملوا به، ولهذا يقول ابن عمر رضي الله عنهما: تعلمت سورة البقرة في ثمان سنوات وما كان هذا لأنه غير قادر أن يحفظها في يوم أو يومين، لا. ولكن ما كان يهمهم التعلم، وإنما يهمهم العمل، فلهذا يقول: (فتعلمنا العلم والإيمان والعمل معاً) يعني: كلما تعلموا شيئاً عملوا به، فما يتعلمون مثلنا للحفظ فقط، أو لغير نفسه، لا، وإنما يتعلم لنفسه، ويتعلم ليعمل، ولهذا لما جيء بصدقة الفطر في آخر رمضان، وعادة الصحابة رضوان الله عليهم أن يأتوا بالزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يتولى قسمتها، فجمعوها في المسجد، فوكل أبا هريرة بحفظها، فصار يحفظها، فجاءه رجل في وسط الليل فصار يحمل من التمر فأمسكه، قال: مالك؟ قال: دعني؛ فإني ذو حاجة وعيال. يقول رضي الله عنه: فرحمته. لأن هذه زكاة، وهي للفقراء ولذوي الحاجة فتركه، ثم جاء الليلة الثانية فأمسكه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعني فإني ذو حاجة وعيال. قال: فرحمته. ولكن لما غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل أسيرك يا أبا هريرة ؟ قال: زعم أنه ذو حاجة وعليه عيال فتركته. قال: أما إنه سيعود. قال أبو هريرة : فعلمت أنه سيعود لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فصرت أترصد له، فجاء فأمسكته في الثالثة وقلت: لن أفلتك. فهذه ثالث مرة وأنت تزعم أنك ذو حاجة وعليك عيال. فقال: دعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به قال: نعم. قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، ولا يقربك شيطان. فتركه من أجل ذلك، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له هذا الكلام، قال: صدقك وهو كذوب. أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ يقول: قلت: لا. قال: ذاك الشيطان.

    فالشيطان أتاه في صورة إنسان محتاج؛ لأنه لم يستطع أن يضر الصحابة في أديانهم وفي أخلاقهم فأراد أن يضرهم ولو بأكل شيء من الزكاة، ولو بهذا القدر.

    المقصود أنهم حريصون على الخير أكثر من غيرهم، فإذا سمعوا بشيء عملوا به، ولهذا لما سمعوا هذا ذهبوا يتساءلون ويبحثون حتى يعلموا من يسبق إلى الجنة، ولهذا كانوا لا يفعلون هذه الأشياء التي ذكرت، لا الطيرة، ولا الاسترقاء، ولا الكي، وهم المتوكلون على الله جل وعلا.

    فضيلة هذه الأمة كماً وكيفاً

    [التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية].

    أما الكمية فمعناها الكثرة، وهذا مأخوذ من قوله: (ولكن انظر إلى الأفق)، والأفق هو أنك إذا التفت يميناً أو شمالاً أو أمامك أو خلفك رأيت السماء. فقيل له: انظر إلى الأفق. ثم قيل له: انظر إلى الأفق الآخر فكلما نظر إلى جهة إذا بالرجال قد سدوا الأفق من كثرتهم، فهذه الكمية، أما الكيفية فلأن فيهم السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب.

    وقد جاءت أحاديث جيدة الإسناد في أن مع كل ألف سبعين ألفاً، فيكون العدد أكثر، وجاء في أحاديث أخرى فيها ضعف أن مع كل واحد سبعين ألفاً، فتصبح سبعين ألفاً مضروبة في سبعين ألفاً، فيكون هذا عدداً كبيراً جداً، وجاء ما هو أكثر من هذا، وهو أن الصحابة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك: (ألا استزدت ربك يا رسول الله؟ قال: بلى. استزدته فزادني بأن أعطاني ثلاث حثيات من حثياته جل وعلا. فقال قائل: ألا استزدته يا رسول الله؟ فقال عمر : حسبك، إذا شاء ربنا جل وعلا أدخل عباده كلهم بحثية واحدة من حثياته، قال صلى الله عليه وسلم: صدق عمر)، والحديث فيه ضعف، ولكن فضل الله واسع جل وعلا.

    وهذه الأمة هي أفضل الأمم على الإطلاق، غير أنه لا يلزم من كونها أفضل الأمم أن تكون السابقة منها؛ لأنه جاء في سورة الواقعة لما ذكر الله جل وعلا السابقين قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:14]، و(الأولون) لا يطلق على الأمة هذه، ولهذا يقول المفسرون: (ثلة من الأولين) يعني: من الأنبياء السابقين وأتباعهم. وجاء في سورة آل عمران قوله جل وعلا: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، وهذا يدل على فضلهم وعلى كثرتهم أيضاً.

    والمقصود أن هذه الأمة في الجملة أفضل من غيرها إطلاقاً، ولا يلزم أن تكون أفضل من الكل مطلقاً، فإنه يوجد في الأمم السابقة من هو أسبق إلى الجنة وأحسن سابقة، ولكن بالنسبة إليهم فقط لا بالنسبة للأمة هذه، أما من يلي هذه الأمة في الصفات فهم بنوا إسرائيل، ولهذا ظن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى بني إسرائيل أنهم أمته لكثرتهم، فقيل له: هذا موسى وقومه. فهذا يدل على فضيلتهم، وقد قال الله جل وعلا فيهم: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]، وقوله: (على العالمين) يعني: عالمي زمانهم، فقد فضلوا عليهم، فهذا يدل على فضلهم في الجملة أيضاً.

    فضيلة أصحاب موسى عليه السلام وعرض الأمم على محمد صلى الله عليه وسلم

    [العاشرة: فضيلة أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام.

    الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام].

    قلنا: إن العرض يجوز أن يكون في المنام، ويجوز أن يكون في اليقظة، وهو تمثيل، فمثلوا له كهيئة مجيئهم يوم القيامة، كما مثلت له الجنة والنار وهو يصلي صلاة الكسوف صلوات الله وسلامه عليه، فأخبر أصحابه أنه رأى فيها أشياء، وأخبرهم أنه رأى عمرو بن لحي الخزاعي فيها، ورأى امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، ورأى أشياء أخبرهم فيها، وقال: (إني لم أر منظراً كاليوم)، وخطبهم وقال: (إن الله يغار أن تزني أمته أو يزني عبده)، ولهذا يقول العلماء: إذا حدث الكسوف فمعنى ذلك أن الله يستعتب عباده، فيجب أن يخافوا، ويجب أن يهرعوا إلى الصلاة والاستغفار والتوبة والصدقة، ولا ينافي هذا أن الكسوف يحدث في أشياء معينة يعرفها أهل الفلك، ولكن عند ذلك الله جل وعلا يحدث ما يستعتب به عباده، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك خشي أن تكون الساعة، وأشار بهذا الكلام إلى أن هذا بأسباب تحدث من بني آدم، وإن كان بالحساب فيكون بأسباب، وهكذا كل ما يقع، مثل ما يسميه الناس اليوم: الكوارث الطبيعية. فهي ليست كوارث طبيعية كما يقولون، بل هذه عقوبات وأحداث يأخذ بها من يشاء من عباده، ولعل بعضهم يتوب ويستعتب ويرجع إلى الله، سواءٌ أكانت مطراً، أم كانت رياحاً وعواصف، أم كانت زلازل، أم كانت براكين، أم غير ذلك، ولا يجوز أن نقول: هذه كوارث طبيعية وننسى الأسباب، وننسى مسبب الأسباب جل وعلا، بل يجب أن نرجع إلى أنفسنا، ولهذا في خلافة عمر رضي الله عنه حدث زلزال في المدينة وإن كان ليس كبيراً، فقال عمر رضي الله عنه: (والله لئن عادت لا أساكنكم فيها)؛ لأنها لا تحدث إلا بذنوب العباد، فالله جل وعلا يحدث ذلك لعلهم يتوبوا ويرعووا، وهكذا غير الزلازل من الأمطار الجارفة والرياح العاصفة والبراكين، ولكن الذين نسوا الله ينسيهم الله جل وعلا أنفسهم لئلا يتذكروا ولا يرجعوا إلى الله، فيضيفون هذه الأمور إلى الطبيعة، إلى الأرض وطبيعتها، وينسون الله جل وعلا فلا يتوبون، وهذا من نسيان الله لهم، بخلاف المؤمن، فإنه يهرع إلى الله ويضرع إليه ويتوب ويستعتب، ويترك ما هو فيه من المعاصي، وهذا المقصود في احداث هذه الأمور، ومن ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر فإنه من هذا النوع.

    كيفية الحشر مع الأنبياء عليهم السلام

    [الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها].

    هذا واضح من قوله: (فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)، فكل نبي أرسل إلى قومه يأتي يوم القيامة فيمن آمن معه، وإذا لم يؤمن به أحد أتى وحده، وذلك أن الكفار كلهم يجمعون جميعاً من أولهم إلى آخرهم فيلقون في جهنم، وكلما دخلت أمة من الأمم لعنت التي تقدمتها، لأنهم يقولون: أنتم الذين سننتم لنا هذا الطريق، وسننتم لنا الكفر والشرك وعصيان الرسل. فيعود عليهم أولئك أيضاً باللعن فيقولون: هذه هي أفعالكم وأعمالكم أنتم، ونحن ما لنا عليكم من سلطان، ولكن أنتم الذين اخترتم هذا المسلك وسلكتموه فعليكم اللعنة.

    الأنبياء وقلة أتباعهم

    [الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.

    الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده].

    يعني من الأنبياء. فالذي لم يجبه أحد يأتي وحده، وهذا مثل لوط عليه السلام؛ فإنه لم يستجب له رجل واحد من قومه، فخرج من بلاد قومه التي كان يدعوهم فيها هو وبناته فقط، حتى زوجته كفرت به، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنها في الغابرين وفي المدمرين، وأمره أن يخرج ويسري في قطع من الليل ببناته، وأن يتبع أدبارهم، فيكون خلف البنات، وألا يلتفت خلفه خوفاً من أن يصيبه ما أصابهم؛ لأن الالتفات يكون فيه شيء من العطف عليهم أو التعلق بهم، والله قطع العلاقة بهم، وقطع أن يكون بينه وبينهم صلة بالعطف أو بغيره، فقال له: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر:65]، وهذا في الواقع بعدما وقع في أشد الكرب من قومه، وهكذا الأنبياء إذا ضاقت الأمور إلى آخر حد جاءهم النصر وهلاك القوم، وهؤلاء كانوا -في الواقع- في فعلة ما فعلها أحد قبلهم، فكانوا يأتون الذكران من العالمين، فانتكست أخلاقهم، وانتكست أذواقهم، فأصبحوا يتركون الشيء الطيب الطاهر ويبحثون عن الخبيث المنتن القبيح لقبحهم، فلما تمادوا بهذا الشيء. ولوط عليه السلام يدعوهم وينهاهم عن ذلك وهم يعيبون عليه بأنه من المتطهرين كان من تمام البلاء أن الله جل وعلا أرسل إليه جماعة من الملائكة في صور شباب حسان الوجوه، فلما علموا بذلك جاؤوا يهرعون إليه يريدون أن يفعلوا الفاحشة بهؤلاء، ولوط لا يدري أنهم ملائكة؛ لأنهم جاؤوا بصورة أضياف، كما كانوا عند إبراهيم كذلك، وصار يدافعهم ويعرض عليهم بناته، كما قال تعالى عنه: قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الحجر:71]، وقال تعالى عنه: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود:78]، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79]، فلما انتهى به الأمر والكرب والشدة قال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله لوطاً؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد)؛ لأنه يأوي إلى ركن الله جل وعلا، وأي ركن أشد من ركن الله؟ فلهذا لما وصل إلى هذا الحد قال له جبريل عليه السلام وهو معهم: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [هود:81]، عند ذلك قال: متى عذابهم؟ قال: مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود:81]، فقال: أريده الآن. فقال له: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]، ثم أمره أن يمضي في الليل مع بناته ويخرج، عند ذلك تولى تعذيبهم جبريل عليه السلام، فاقتلع مدائنهم من أسفل الأرض، من تخوم الأرض، وطار بها على طرف جناحه وهي سبع مدن، حتى كانت الملائكة الذين في عنان السماء يسمعون نباح الكلاب وصياح الديكة، فقلبها وجعل عاليها أسفلها، ثم أمطروا بحجارة من سجيل، وصار لكل واحد حجر يصيبه ويقتله، ثم خسفت بهم الأرض، وصارت أبدانهم في الغرق ولكن أرواحهم في الإحراق في جهنم، ويوم القيامة أشد وأنكى، نسأل الله العافية.

    فقال الله جل وعلا لما ذكر عقابهم: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83] يعني: هذه العقوبة ما هي من ظالمي هذه الأمة ببعيد، فإذا فعلوا كهذا الفعل سوف يصيبهم مثلما أصاب أولئك؛ لأن الله جل وعلا من كفر بأفضل الأنبياء عذبه أشد مما عذب من سبق، لا سيما وقد أبلغوا وأنذروا وحذروا، والله جل وعلا يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ لم يفلت، وإذا أخذ فأخذه أليم شديد، نسأل الله العافية.

    ثمرة العلم

    [الخامسة عشر: ثمرة هذا العلم وهو عدم الاغترار بالكثير].

    يعني أن ثمرة هذا العلم -الذي هو مقصود هذا الحديث- ألا يغتر الإنسان بالكثرة؛ لأن فيه أن أكثر الناس هالكون، وأن كثيراً من الأنبياء لا يأتي إلا معه رهط -أي: عشرة فأقل- وقد يأتي وليس معه إلا رجل أو رجلان، فإبراهيم عليه السلام ما آمن له إلا لوط، وهو خليل الرحمن، ولوط ابن عمه، ثم أرسل لوط إلى هذه القرى التي كفرت به، وهكذا كثير من الرسل ما يكون معه إلا قلة، وأكثر الخلق كافرون، مع أنَّ كفرهم ما هو كفر جحود بالله جل وعلا بحيث لا يعرفونه، ولكن عناداً وتكبراً واتباعاً لما تهواه الأنفس، ولهذا قوم صالح تبين لهم الحق تماماً وجاءهم ما طلبوا حيث اقترحوا على نبيهم أن يخرج لهم ناقة من الجبل تكفيهم كلهم إذا أرادوا شرب الحليب منها، فلما أخذ مواثيقهم على ذلك خرجت الناقة من الجبل، وصارت كما أرادوا، ثم إن بعض الكفرة منهم تقاسموا بالله وتعاهدوا بالله على قتله، وهذا يدل على أنهم يؤمنون بالله، ويعرفون أن الله هو الذي يدبر الكون كله، وهو الذي يصرف الأمور كله، قال تعالى: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49]، فتعاهدوا وتعاقدوا على ذلك، فحصل ما حصل من عقرهم الناقة ومحاولتهم قتل صالح عليه السلام، فجاءتهم الكارثة التي أهلكتهم.

    فالمقصود أنه ليس كفر الكافرين لأنه خفي عليهم معرفة الله جل وعلا، ولكنه عناد وتكبر، ولهذا لما قيل لـأبي جهل : أكنتم تتهمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: والله لقد عرفناه بالأمين في شبابه، ولا يمكن إذا خطه الشيب أن يذهب يكذب على الله جل وعلا. فقيل له: ولماذا لا تؤمنون به وتتبعونه؟ فقال: تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، أطعموا فأطعمنا، وأكرموا فأكرمنا، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، ومتى يكون لنا ذلك؟ والله لا نؤمن به أبداً. هكذا الحسد الذي يمنع أكثر الناس.

    ولهذا يقول العلماء: إن غالب الكفر هو كفر الجحود والعناد، أو كفر الإعراض، وليس كفراً لخفاء دليل وتعمية الأمر؛ لأن الرسل كلهم جاؤوا بالبينات الواضحات التي لا تبقي للإنسان شكاً في أنهم رسل من عند الله جل وعلا، أما الإعراض فنعم، وكفر الإعراض كثير، وذلك لأن الإنسان يعرض عن النظر فيما جاء به الرسول والتفكر فيه، مثلما وقع لبني عبد يا ليل الذين أتى إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلاثة، وذلك بعد أن لم يجد إجابة قريش له، واشتدوا عليه، وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب ؛ لأنه كان يحوطه ويحميه، فلما توفي تسلطوا عليه أكثر، وخرج إلى الطائف لعله يجد من يستجيب له ويناصره، فكان أول من لقي ثلاثة إخوة هم بنو عبد يا ليل، فدعاهم إلى الله جل وعلا، وقال لهم: إني رسول الله جئت بكتابه، وإنه من آواني ونصرني فله الجنة. فقال له أحدهم: هو يسرق أستار الكعبة إن كان الله أرسلك. أي: أنه سارق ثياب الكعبة إن كنت رسولاً. فهو تكذيب مباشر بدون نظر، أما الآخر فجاء بأمر أعظم من هذا استهزاء وسخرية وقال: ما وجد الله أحداً غيرك يرسله؟! وأما الثالث فقال له: والله لا أكلمك كلمة، لئن كنت رسولاً فأنا أحقر من أرد عليك شيئاً، ولئن كنت كاذباً فلأنت أحقر من أكذبك.

    فهذا الإعراض لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالآيات الباهرات البينات الواضحات، وإذا نظرت بعقلك وفكرت تبين لك أنه رسول أو غير رسول، ومعلوم أن الإنسان إذا قال: أنا رسول الله فإما أن يكون هو أبر الناس وأصدقهم، أو أفجر الناس وأكذبهم، وهل يلتبس أكذب الناس بأصدق الناس؟ أبداً. ولا يمكن هذا؛ لأن الكاذب يتبين من وجهه وحاله ومنطقه وعمله وكل ما يحيط به، لهذا عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال: وأتيت إليه ورأيت وجهه فعلمت أن وجهه وجه الصادق، وأنه لا يكذب.

    فقبل أن يتكلم، ومنذ رأى وجهه علم أن وجهه وجه صادق لا يكذب، فالذي يعرض معناه أنه يصرف نظره وفكره عما جاءت به الرسل، وهذا في الواقع كفر بالله جل وعلا وإعراض عن دينه وعن رسله، وهذا يقع كثيراً، واليوم كفر الناس أكثره من هذا القبيل، فأكثر كفر الكافرين اليوم بالإعراض، فلا يتأملون كتاب الله وآيات رسوله صلى الله عليه وسلم التي جاء بها، بل يعرضون عن سماع ذلك بآذانهم ورؤيته بأعينهم، ويحاولون أن يصدوا الناس عن الإيمان به بكل ما يستطيعون، كل ذلك عناداً من العالمين واستكباراً، وأكثرهم معرض لا يتبين له ذلك، والذين يسمعون ويشاهدون تعرض عليهم أمور مزيفة، أمور في الواقع مشوهة، أمور الإسلام والمسلمين تشوه لديهم، فيصدقون ذلك ويتبعونه، وهذا من الإعراض، ولا يجوز أن يفعلوا هذا، ويجب عليهم أن ينظروا؛ لأن الله أعطاهم عقولاً، وأعطاهم أفكاراً وأنظاراً، فلماذا تعطل العقول والأفكار والأنظار؟ ثم يتبعون سادتهم وكبراءهم ولن يغنوا عنهم شيئاً.

    الرقية من العين والحمة

    [السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة].

    الواقع أن الرخصة من الرقية عامة وليست من العين والحمة فقط، وسبق لنا أن العين هي إصابة الحاسد بعينه، وأن الحمة هي إصابة ذوات السموم بحمتها التي تحدث المرض والحمى، ولكن المعنى أن الرقية من هذين المرضين أشفى وأنجح من غيرهما من الأمراض الأخرى، وإلا فالرقية مستحبة، هذا هو الصحيح، ولكن الممنوع هو الافتقار إلى الناس وطلبهم.

    عمق علم السلف في العمل بالدليل

    [السابعة عشرة: عمق علم السلف رحمهم الله بقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني].

    هذا هو الواجب على الإنسان، فإذا جاءه من آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم شيء يبدو منه التعارض يجب عليه أن يبحث عن وجه الجمع، فإن تمكن من ذلك وإلا فعليه أن يتهم رأيه ونظره وأنه قاصر المعرفة، أما كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فهي لا تتضارب ولا تتعارض، ولكن لها أوجه قد لا يدركها الإنسان، ثم إذا عجز الإنسان عن ذلك يجب عليه أن يكل العلم إلى أهله، فالعلماء يعرفون كيف يجمعون بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي يبدو لكثير من الناس أنها متعارضة، فالسلف ما كان يحدث عندهم تعارض من هذا القبيل لعمق علمهم.

    من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وفضل عكاشة

    [التاسعة عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم) علم من أعلام النبوة].

    أما كونه علماً من أعلام النبوة فالأمر كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله، حيث يقول: الصحابة كلهم في الجنة، ولكن هذا لأن عكاشة بن محصن قتل شهيداً في سبيل الله، ومعلوم أن هذا من أفضل الأعمال، والله أخبر جل وعلا عن الشهداء أنهم أحياء عنده يرزقون جل وعلا، وأنهم ليسوا أمواتاً، ولا يجوز لنا أن نسميهم أمواتا، فالله نهانا عن ذلك فقال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ [البقرة:154]، وفي الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـجابر: (أما إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي! تمن علي. فقال: يا رب! وماذا أتمنى؟ فأعاد عليه، فلما رأى أنه لا بد من ذلك قال: تحييني مرة أخرى فأقتل في سبيلك. قال: أما هذه فلا. فقال: إذاً أبلغ عنا من خلفنا أنا قد لقيناك فأرضيتنا)، فأنزل الله جل وعلا بعض الآيات التي في سورة آل عمران، ولكن الأمر الذي حقق أن الشهيد هو أفضل الناس، فمن أفضل الأعمال الشهادة، ولهذا جاء أنه لا يحس الموت إلا كعضة جراد، وأنه يزوج من الحور العين سبعين، وأنه يؤمن من فتنة القبر وعذابه، في أشياء كثيرة جاءت خاصة بالشهداء، والله جل وعلا يقول في كتابه: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]، فجعل الشهداء مع النبيين أول ما يجاء بهم، وكذلك في آيات أخر مما يدل على فضل الشهادة في سبيل الله، فهذا من باب هذه الأدلة فقط، ولكن أعظم من هذا كله قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم)، فهذا يجب أن يؤمن به ويصدق ولو لم يقتل في سبيل الله، فهو منهم لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

    [العشرون: فضيلة عكاشة رضي الله عنه ].

    المعلوم أن كثيراً من الصحابة أفضل منه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خص إنساناً بشيء معين فكل يفرح أو يحب أن يكون له شيء من ذلك، وإلا فـأبو بكر أفضل منه بالاتفاق، وعمر أفضل منه، وعثمان أفضل منه، وعلي أفضل منه، وكذلك عبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من العشرة الذين شهد لهم بالجنة، وغيرهم من السابقين، ولكن إذا خص الإنسان بشيء معين من بين الناس فكل واحد يحب أن يكون له شيء من ذلك، وهذا فضل بلا شك.

    جواز استعمال المعاريض

    [الحادية والعشرون: استعمال المعاريض ].

    استعمال المعاريض مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (سبقك بها عكاشة)، والمعاريض: هي ألا يصرح بالمنع من الشيء أو إجابة الإنسان إلى الشيء، وإنما يؤتى بكلام عام يكون صرفاً له لئلا يخدش شعوره، ولا يكون به في الواقع إجابة صريحة وقد جاء: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)، فالإنسان قد يطلب منه شيء فيذهب يقول كلاماً ليس بصحيح، بل كذب، فما يجوز له، ولكن يأتي بأشياء تخرجه من كون الإنسان يجد عليه في نفسه ولا تضره ولا تضر غيره، فهذا في الواقع من حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فكان يستطيع أن يقول: لا أسأل لك. ولا يغضب الإنسان إذا قال له ذلك، ولكنه لا يقول مثل هذا؛ لأنه يتألف الناس ويتحبب إليهم بما أعطاه الله جل وعلا من حسن الخلق، لهذا قال: (سبقك بها عكاشة).

    [الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ].

    حسن الخلق من أفضل الأعمال، بل جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما شيءٌ أثقل في ميزان العبد من تقوى الله وحسن الخلق)، لهذا يسن للإنسان أن يقول: (اللهم اصرف عني سيء الأخلاق لا يصرفها إلا أنت)، ويقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت)، فيسأل ربه هذا الشيء، وقد جاء تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك لعظمه، فما هناك أحسن من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما سئلت عنه عائشة قالت: كان خلقه القرآن. فتخلق بالقرآن، فكان يحلم على الجاهل، وكان يسع بحلمه من يتطاول عليه، كما روى أنس في الصحيح أن أعرابياً لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليه كساء غليظ الحاشية، فأخذ يجبذه إليه حتى أثر ذلك في صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنس : فرأيتها تكاد يصب الدم منها. فالتفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وضحك، وما نهره، بل أمر بأن يعطى ويحسن إليه ويزاد على حقه، وهكذا صلوات الله وسلامه عليه كان عظيم الخلق حسن الخلق، وكان يأمر بهذا ويحض عليه، ولا سيما مع الأهل؛ فإنه قال: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) صلوات الله وسلامه عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756308285