إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [20]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • البعث يوم القيامة حق، والعرض والجزاء والحساب والميزان والصراط والجنة والنار كلها حق، ويجب الإيمان بها، كما أخبر عنها الله عز وجل وكما أخبر عنها رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    وجوب الإيمان بيوم القيامة وأحداثه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتُنصب الموازين، فتوزن بها أعمال العباد: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]، وتنشر الدواوين، وهي: صحائف الأعمال، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، كما قال سبحانه وتعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]، ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه كما وُصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ].

    صفة الصور وعدد النفخات

    قوله: (وتقوم القيامة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق).

    القيامة المقصود بها النفخ في الصور، والنفخ في الصور الصواب أنه يكون مرتين وليس ثلاثاً، النفخة الأولى نفخة الموت والصعق، كما قال جل وعلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].

    والنفخة الثانية نفخة البعث، وهي المراد هنا.

    والصور جاء وصفه في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قرن عظيم، ودائرته مثل عرض السماء، وينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، فتذهب كل روحٍ إلى جسدها الذي كانت فيه بعدما يجمع الله جل وعلا الأجساد من أجزاء التراب المتفرقة التي كانت في الدنيا، ثم تنبت كما تنبت الحبة في حميل السيل، ولكنها بدون أرواح، فإذا تكامل نبتها نفخ في الصور فذهبت كل روح إلى جسدها، فيقومون ينظرون، ثم يُساقون إلى الوقوف بين يدي الله جل وعلا.

    وفي هذا المساق يختلفون اختلافاً عظيماً، والحديث جاء أنهم يحشرون حفاةً عراةً غرلاً كما ذكر المؤلف هنا، فقوله: (حفاة) يعني: غير منتعلين. والعراة يعني: غير مكسوين، يعني: أبدانهم عارية لا نعال ولا ثياب، وأما كونهم غرلاً فمعنى ذلك أن خلقهم يعود كاملاً، والشيء الذي أخذ من جزء الإنسان يعود كما كان، و(غرلاً) أي: غير مختونين.

    القيامة متفق عليها بين الأمم

    وقوله: (أجمع عليها المسلمون) أي أن القيامة أجمعت عليها كل الأمم، المسلمون واليهود والنصارى، وكل من آمن بالله جل وعلا، وإنما أنكرها شراذم من الناس، مثل الدهرية من العرب وغيرهم، وكذلك الفلاسفة من اليونان والهند وغيرهم، وكذلك الملاحدة الذين لا يؤمنون بإله ولا بإعادة ولا بجنة، ولا بجزاء ولا بنار، وهؤلاء شذوا عن الفطرة، وعن أمر الله جلا وعلا وشرعه، ولا عبرة بالشاذ، فالقيامة مجمع عليها من جميع الخلائق، وإنما ذكر المسلمين هنا لأن الكلام موجهٌ إليهم، وهم الذين ينتفعون بالأخبار التي ذكرها الله جل وعلا؛ لأنهم يعملون بذلك، وأما غيرهم فهم معرضون عن هذا، ولا ينتفعون بالخبر الذي ذكره الله جل وعلا، ولا بما يشرح به ويبين.

    يجب الإيمان بالأخبار المتعلقة بيوم القيامة ولا تقاس على أمور الدنيا

    قوله: (في كتابه وعلى لسان رسوله) يعني أن القيامة ذكرت في القرآن في آياتٍ كثيرة جداً، وذلك أن القيامة تقوم على هذه الأمة، والقرآن نزل لهذه الأمة.

    وقوله: (على لسان رسوله) يقصد بذلك الأحاديث التي وضَّح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم القيامة، وهي كثيرةً جداً وموجودة وميسورة لمن أرادها، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، وبعد القيام يختلفون في المسير إلى المحشر الذي يكون في مكانٍ معين، فيجمعون فيه من أولهم إلى آخرهم، ويكونون وقوفاً قياماً، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، أي: قياماً على أرجلهم، فمنهم من يقوم ألف سنة، ومنهم من يقوم أكثر من ذلك على حسب أعمالهم، وأمور الآخرة ليست على الشيء الذي نعهده، ولهذا جاء أنهم يعرقون عرقاً عظيماً حتى يلجم بعضهم عرقه، ويكون في جواره آخر فلا يصل إليه من عرقه شيء، ومنهم من يكون عرقه إلى حقويه، ومنهم من يكون إلى أذنيه، ومن هم من يصل إلى فمه، ومنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون تحت ظل العرش فلا يعرق.

    فهذه أمور عجيبة جداً، كيف أن العرق يصل إلى هذا الحد مع أنهم لا ماء ولا أكل؟! ويكونون عراة، والشمس تكون قريبة منهم على قدر ميل، والميل ظهر أنه المسافة المعهودة المعروفة، وحر الشمس يتضاعف في هذا اليوم تضاعفاً شديداً، والناس خلقوا ليبقوا، فلا يمكن إذا زاد عليهم صهر الشمس وحرها أن يموتوا؛ لأنه لا موت بعد النفخ في الصور النفخة الثانية، ولا يكون هناك موت إلا للبهائم التي يجمعها الله جل وعلا ثم يقتص لبعضها من بعض؛ لأن بعضها يعتدي على بعض، وبعضها يكون له قرون، والآخر لا يكون له قرون، فيقتص لبعضها من بعض لكمال العدل، ثم يقال لها: كوني تراباً. عند ذلك يتمنى الكفار أن يكونوا تراباً، ولكن هذا لا سبيل إليه.

    وكذلك بعد هذا القيام الطويل والعذاب الشديد لأكثر الناس يتمنى كثيرٌ منهم أن يُقضى بينهم ولو إلى النار لشدة الوقوف وهوله وصعوبته.

    ولهذا فإن كثيراً من الآيات في القرآن فيها تحذير من هذا الموقف، كما قال الله جل وعلا: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3] وقال سبحانة: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-3]، وقال: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:1-2]، وهذه كلها يقصد بها القيام لرب العالمين؛ لأن هوله شديد، ويقول جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ [غافر:18]، ويقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

    والآيات في هذا كثيرة جداً، يذكر الله جل وعلا فيها شدة هذا اليوم، وقد أخبر أنه يوم عسير على الكافرين، وأخبر أن المتقين يخافونه فقال: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:9-10]، فالمؤمنون يخافون الوقوف في هذا اليوم، وهو خليق بأن يُخاف منه لشدة الهول فيه.

    ولم يذكر المؤلف رحمه الله الترتيب الذي يكون يوم القيامة؛ لأنه لم تأتِ نصوص تبين هذه الأمور مرتبة، فلم يأتِ أن هذا يكون بعد هذا، أو أن هذا يكون هذا، وإنما جاء الإخبار عنها هكذا، وإلا فالمناسب -فيما يظهر-، أن تذكر الشفاعة بعد الوقوف؛ لأن أول ما يقع بعد شدة الوقوف والهول الشديد الشفاعة -فيما يظهر- ويجوز أن يكون شيء آخر غير الشفاعة؛ لأنه لم تأتِ نصوصٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ولا عن الله جل وعلا ترتب أمور الآخرة، ولهذا اختلف العلماء فيها، وذكرا المؤلف هذه الأمور حسبما جاءت الأخبار بها من غير ترتيب، والترتيب الله أعلم به، ولكن لابد من وقوع ذلك، ولابد من الإيمان به.

    وجوب الإيمان بالميزان وذكر الاختلاف فيه

    ذكر الموازين أولاً فقال: (فتنصب الموازين).

    والموازين جاءت مجموعة وجاءت مفردة، فهل هي جمع، أو أن ذكرها بالجمع يراد به التعظيما؛ لأن الميزان له كفتان ولسان -أو الجمع لغير ذلك؟

    والجواب: قد يطلق المفرد ويراد به الجمع، كما قال جل وعلا: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105]، ونوح عليه السلام هو أول رسولٍ أرسل إلى أهل الأرض؛ لأن قبله لم يكن شرك، ومع هذا قال: الْمُرْسَلِينَ، وهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً، ويجوز أن يكون كذلك هنا، فهو ميزان واحد.

    وجاء في الصحيح من حديث أبي عامر الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان) ، فجعله ميزاناً واحداً، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى الرجل الضخم الجسيم فيوضع في الميزان فلا يزن جناح بعوضة)، وهذا أيضاً مفرد، وهذا في الرجل الفاجر.

    ومن العلماء من يقول: إِن الموازين حسب الأعمال، ويكون لكل عملٍ ميزان. ولكن هذا يحتاج أيضاً إلى دليل، فكونها جمعت في القرآن وفي الأحاديث لا يقتضي أنها متعددة، والوزن يكون للأعمال، وقد يكون مع الأعمال للأبدان، أي: يوزن الإنسان نفسه، كما جاء في الحديث أن ابن مسعود كان يجني الكباث وكان دقيق الساقين، فكأن بعض الصحابة تعجب من ذلك، فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولكنهما في الميزان أثقل من جبل أحد).

    وغير ذلك من النصوص التي جاء فيها أن الإنسان نفسه يوزن، ولا مخالفة في هذا للنصوص الأخرى، فيجوز أن يكون هذا وهذا، توزن الأعمال ويوزن أصحابها، وقد جاء صريحاً أن الأعمال توزن كما في حديث أبي عامر الذي ذكرنا وغيره.

    وجاء في الترمذي قصة البطاقة، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصاح برجلٍ من أمتي على رءوس الأشهاد يوم القيامة، فيُخرج له تسع وتسعون سجلاً، كل سجلٍ مد البصر فيه سيئاته، فيقال له: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا. فيقال له: ألك عذر؟ فيقول: لا. لا عذر لي. فيقال له: ألك حسنة؟ فيهاب ويقول: لا. ليس لي شيء. فيقال له: بلى. إن لك عندنا حسنة وإنك لا تظلم اليوم شيئاً. ويخرج له بطاقة مكتوب فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا ربِّ! ما هذه البطاقة أمام هذه السجلات؟! فيقال له: إنك لا تظلم شيئاً. فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة)، فهذا صريح بأن الذي يوضع في كفة الميزان صحائف الحسنات، وفي حديث أبي عامر أن نفس الأعمال توضع.

    يقول العلماء: يجعلها الله جل وعلا أجساماً. أي: بدل أن كانت أعراضاً تكون أجساماً، فالأعراض مثل الكلام، والعمل الذي يعمله الإنسان ليس مشاهداً، ولكن يقلب أشياء مشاهدة، وليس ذلك على الله بعزيز، وهو على كل شيءٍ قدير، فتوضع في الميزان وتشاهد، والميزان له كفتان ولسان، ويميل بمثاقيل الشعر، حتى الذرة يميل بها، كما قال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].

    وأخبر جل وعلا أن الوزن حق، وأنه: مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]، فالوزن في الأعمال بين الحسنات والسيئات، فمن ثقل ميزان حسناته -الكفة التي فيها الحسنات- ولو مقدار شعرة فهو من المفلحين، ومن ثقلت كفة السيئات على كفة الحسنات فهو من الخاسرين الهالكين، وهذا يكون مشاهداً أمام الخلق كلهم، وكل واحد توزن أعماله ينادى عليه بأنه ثقلت موازينه أو خفت موازينه ويفتضح.

    والوقوف والوزن والمحاسبة كلها يتولاها رب العالمين جل وعلا، وهو الذي يحاسب خلقه، ومحاسبته لهم في آنٍ واحد، يحاسب جميعهم في لحظات، وكل واحدٍ يقرره بذنوبه ويعرضها عليه، وهذا أنواع: نوع تقرير، والعرض نفسه، ونوع في الصحف التي سجلت عليه.

    وهنا يقول: (فتوزن بها أعمال العباد) أي: أن الوزن يكون للأعمال التي يراها، وهذا هو أكثر ما جاء في الآثار والأحاديث، كما في الحديث: (أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن)، وهذا من الأعمال التي يقوم بها الإنسان.

    وقوله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8] يعني أن الدليل واضح على أنه أفلح، والفلاح هو السعادة: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، والموازين هنا جمعت بالنسبة إلى كل واحد، وهذا بالنظر إلى الأعمال، ويظهر أن الأعمال يختلف وزنها، فلكل أعمال ميزان، وكل عملٍ يوضع في الميزان على حدة، وذلك لتمام العدل وكماله؛ حتى يظهر أمام الخلق كلهم عدل الله جل وعلا.

    سبب ذكر الميزان في كتب العقائد

    والميزان ذُكر في القرآن كثيراً، والوزن ينص عليه العلماء في العقائد التي يجب أن تعلم وتحفظ وتعتقد، والسبب في هذا أن بعض أهل البدع أنكروا الميزان، مثل المعتزلة والخوارج، فالمعتزلة يقولون: الميزان عبارة عن العدل، وليس هناك ميزان حقيقي، والله جل وعلا حكمٌ عدل، فهو عبارة عن حكمه الذي يحكم به بين الناس. وذلك أنهم ليس عندهم طريق مستقيم يسلكونه، وإنما ينظرون إلى آرائهم وعقولهم فيقيسون على الشيء الذي يروق لهم، وإلا فالموازين في كتاب الله ذكرها واضح وجلي، وكذلك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا السبب نص العلماء على ذكر الموازين.

    تطاير الصحف والدواوين في عرصات القيامة

    ثم ذكر نوعاً آخر مما يحصل في الموقف، وهو نشر الدواوين، يقول: (وتنشر الدواوين).

    والدواوين: جمع ديوان وهو الكتاب الذي يسجل به عمل الإنسان، ولا يترك منه صغيرٌ ولا كبير، فكله يسجل في كتاب محفوظ، ويتولاه كرام كاتبون يكونون مع الإنسان لا يفارقونه في وقتٍ من الأوقات حتى يموت، فإذا مات طوي هذا الكتاب وحفظ، فإذا وقف يوم القيامة أخرج له هذا الكتاب، كما قال جل وعلا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14].

    والصواب من أقوال العلماء في تفسير هذه الآية أن هذه هي صحائف الحسنات، والصحف التي تؤخذ بالأيمان أو بالشمائل هل هي -كما يقول بعض العلماء- صحيفة كأنها جواز يجوز بها النار ويدخل بها الجنة، أو أنها صحائف الأعمال؟

    الظاهر أنها صحائف الأعمال، فهذا الذي يدل عليه ظاهر النصوص وظاهر القرآن، فصحيفة عمله إما أن يأخذها بيمينه أو يأخذها بشماله، وهذا عندما تنشر الدواوين التي هي صحائف الأعمال.

    ولهذا قال: (وهي صحائف الأعمال، فآخذٌ كتابه -ديوانه الذي نُشر له- بيمينه)، فإذا أخذها بيمينه فهو دليلٌ على أنه من أهل اليمين السعداء، والمسألة ليست باختيار الإنسان، وليس من أراد أن يأخذ الصحيفة بيمينه أخذها وإن أراد أن يأخذ بشماله أخذها، بل لا يستطيع أن يمد أحد يديه إلا من أراد الله جل وعلا أن يمدها، سواء أكانت اليمين أم الشمال، فإذا أذن الله له بمد إحداهما تبقى الأخرى ليست باستطاعته، ثم الكتاب نفسه يذهب بنفسه إلى اليد، إما أن يذهب إلى اليمين أو يذهب إلى الشمال، ومنهم من يأخذه بشماله أخذاً سهلاً، ومنهم من تلوى يده خلف ظهره ويأخذه بشماله من خلف ظهره ثم تلوى عنقه ويجعل وجهه إلى ظهره ويقال: اقرأ كتابك. وهذا أشد من الأول، كما قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:7-12]، وقال في الآية الأخرى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20] إلى أن قال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26].. إلى آخر الآيات.

    والناس يختلفون في جرمهم وأعمالهم، ومعلوم أن أعمال الناس ليست على طريق واحد، بل هي مختلفة، فاختلف جزاؤهم على هذا النمط.

    وقوله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13]، فـ(كل) نصبت بفعل مقدر تقديره: ألزمنا كل إنسان.

    وقوله: أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ) (الطائر) هنا المقصود به ما طار له من العمل الذي عمله وكان في صحيفته، فإنه يلزم هذا الشيء. وفي ذكر أنه في عنقه دليل على أنه لا ينفك عنه؛ لأن الذي يكون في العنق يكون ملازماً لا ينفك ولا يحيد عنه.

    وقوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13] يعني: كتاب أعماله التي كانت تسجلها الملائكة، ويقال له: اقرأ كتابك، فيقرأ أنه في يوم كذا في مكان كذا في ساعة كذا عمل كذا وكذا أو قال كذا وكذا.

    وهذا الكتاب -كما ذكر الله جل وعلا في الآية الأخرى- : لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] أي: لا يترك شيئاً. وفي الآية الأخرى قال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18].

    قوله: ما يلفظ (ما) عامة شاملة، وليس هذا في اللفظ فقط. بل العمل كذلك، وفي آية أخرى يقول جل وعلا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] أي: كاتبين لا يتركون شيئاً. وقد جاء في الأثر أن رجلاً كان راكباً حماراً، فعثر الحمار فقال: تعس الحمار فقال الذي يكتب الحسنات: ليست حسنة فأكتبها. فأوحى الله جل وعلا إلى صاحب السيئات أن: ما لم يكتبه صاحب الحسنات فاكتبه, ومعنى ذلك أن كملة (تعس الحمار) كتبها الملك في صحائف السيئات، وهذا يدل على أن هذا أمرٌ دقيقٌ جداً؛ لأنه لا يترك شيئاً، حتى قول الإنسان: أعطني الكتاب. أعطني القلم. خذ هذا. وما أشبه ذلك يُكتب، ولكن هذا هل يبقى؟

    قال بعض العلماء: إن هذا لا يبقى، وإن هذا هو الذي يقول الله جل وعلا فيه: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] أي أن الذي ليس فيه عليه عقاب ولا ثواب يُمحى، ويُثبت الذي فيه العقاب والثواب، ولكن قول الله جل وعلا في وصف الكتاب: لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] يظهر منه أنه لا يترك شيئاً، بل كل شيء يكون موجوداً، وكل شيء هو مسجل ومكتوب، ثم بعد ذلك يكون الجزاء على السيئات والحسنات.

    وقراءة الكتاب ومحاسبة النفس واعترافها ليست على حالة واحدة.

    مواقف الناس يوم القيامة في العرصات

    كما أن موقف الناس يوم القيامة يختلف فهناك مواقف مختلفة، وفيها موقف لا أحد يستطيع أن يتكلم أو ينطق فيه، ولا يُسمع إلا مشي الأقدام، كما قال جل وعلا: فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:108]، يقولون في تفسيرها: أي صوت الأقدام إذا صاروا يمشون، أما الكلام فليس هناك من يتكلم، وهناك موقف يتكلمون فيه، كما يقول جل وعلا: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات:38-39]، أخبر أنهم ينطقون أيضاً في هذا اليوم، ولكن هذا ليس دائماً، بل في بعض الأماكن والمواقف، فيقبل بعضهم على بعض يتساءل، ويقول بعضهم: كم لبثتم؟ فيقولون: لبثنا يوماً أو بعض يوم. وفي مواقف أخرى لا أحد يتكلم ولا ينطق ولا يتساءل، كما قال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج:4-10].

    أي: لا أحد يسأل قريبه أو صديقه. وهذا ليس عاماً في كل المواقف؛ فإن بعض الأماكن يختلف اختلافاً عظيماً، ولهذا جاء أن بعض الناس ينكر كتابة الملائكة ويقول: لا أقبل هذا. ويقول: يا رب! أنت الحكم العدل الذي لا تظلم شيئاً، وأنا لا أقبل على نفسي إلا شاهداً من نفسي فيقول الله جل وعلا: سنبعث شاهداً عليك. فيفكر في نفسه عن الشاهد، فيختم على فمه فلا يستطيع أن يتكلم، فيقول الله جل وعلا لأعضائه: انطقي تكلمي فتتكلم الجلود والأسماع والأبصار والأيدي والأرجل بكل ما حصل، ثم بعد ذلك يخلى بينه وبين الكلام، فيعود على أعضائه باللوم فيقول: لماذا؟ فعنكن كنت أنافح. فيقلن: أنطقنا الله. قال الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فأصبحتم من الخاسرين [فصلت:20-23]، فهذا الكلام يذكره الله جل وعلا عن الجلود والأسماع والأبصار، كذلك الأيدي والأرجل تتكلم وتشهد بما وقع.

    إذاً فيوم القيامة يوم عظيم جداً، وفيه من الأحوال والأهوال والأشياء ما تشيب له الولدان.

    محاسبة الله عز وجل للخلق يوم القيامة وكلامه لعباده المؤمنين.

    المحاسبة تختلف باختلاف الأعمال واختلاف العباد، فالمؤمن حسابه أن تعرض عليه أعماله عرضاً، ويقال له: عملت كذا وكذا فقط، أما الكافر فحسابه: تعداد السيئات وعرضها عليه، ولكنه عرض وجزاء.

    ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عُذب)، والمناقشة معناها: الاستقصاء في الحساب، بأن يحاسب على أعماله كلها، فالذي يُستقصى في حسابه ويُناقش فيها يُعذب ولابد؛ لأنه ليس من الخلق أحد يستطيع القيام بحقوق الله كاملة، ولكن لكرم الله وجوده جل وعلا فإنه يعفو، فعند أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عُذب)، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أليس الله جل وعلا يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7-8]؟ قال: ذلك العرض من نوقش الحساب عُذب) أي أن المؤمن تعرض عليه أعماله عرضاً فقط، حتى يعرف فضل الله عليه وإحسانه إليه وكرمه وجوده عليه.

    وقوله: (يخلو بعبده المؤمن) أي أنه يدنيه ويقربه إليه فيضع عليه ستره، أي: يستره أن ينظر إليه الناس فيقرره بذنوبه فيقر بها ويعترف، ويظن أنه هلك، وأنه لا نجاة له، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا له: (أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، ثم يعطى كتابه بيمينه.

    فهذا اللفظ هو من لفظ حديث ابن عمر ، كما جاء في الصحيحين أنه قيل له: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعته يقول: (يدني الله جل وعلا عبده المؤمن، فيضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فإذا اعترف بها وظن أنه قد هلك قال له جل وعلا: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم ثم يعطى كتابه بيمينه)، ومعنى كونه يضع عليه كنفه أي: يستره عن نظر الخلائق. والكنف هنا هو الستر، وهذا من رحمة الله جل وعلا؛ لئلا يرى الناس ما يحدث له من تغير الوجه؛ فإنه إذا عرضت عليه أعماله يتغير وجهه ويسود ويشتد كربه، فمن رحمة الله أنه يستره، وهذا للمؤمن.

    أما الفاجر والمنافق والكافر فيصاح به على رءوس الأشهاد فيقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، ويقال أيضاً: إن فلان ابن فلان خسر خسارةً لا ربح بعدها أبداً. أو: شقي شقاوةً لا يسعد بعدها أبداً.

    ثم إنه جاء في الحديث: (أن العرض يكون ثلاث عرضات: عرضتان جدال ومعاذير، والعرضة الثالثة تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذٌ كتابه بشماله، ولكن الترمذي قال: إنه حديث فيه نظر. ومعروف تساهل الترمذي رحمه الله، إلا أن الإمام أحمد رواه بسندٍ حسن، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، وكذلك في كتاب شعب الإيمان وقال: إنه حديث حسن. وبعض العلماء صححه.

    فقوله هنا: (جدال ومعاذير) يدل على أن هناك كلاماً بين الرب جل وعلا وبين عباده، وأنهم يتكلمون ويعتذرون، ولكن أكثرهم لا يؤذن لهم فيعتذرون، كما قال جل وعلا: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:38-40]، وقال: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36]، فقوله: هذا يوم لا ينطقون ليس هذا للخلق كلهم، وإنما لبعضهم، ولا يؤذن لهم فيعتذرون هؤلاء هم الذين جاءت النصوص في أنهم لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، هؤلاء هم الذين لا يؤذن لهم فيعتذرون، وكذلك لا يخلى بينهم وبين النطق بالكلام، وإنما الإذن والاعتذار والمعاذير تكون للمؤمنين الذين وقعوا في الكبائر ووقعوا في الذنوب، فمنهم من يُعذر ومنهم من لا يُعذر حتى يُدخل النار فيطهر على حسب أعماله.

    وقوله: (ويحاسب الله الخلائق) جاء في وصف الحساب أن الله جل وعلا سريع الحساب، وجاء أنه جل وعلا يحاسب كل فرد على حدة، ففي الصحيح من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان).

    فهل الخطاب هنا في قوله: (كل واحد منكم سيكلمه ربه) للمؤمنين خاصة، أم للأمة؟

    من المعلوم أن النصوص لا تتضارب ولا يعارض بعضها بعضاً، فهنا الكلام للمؤمنين؛ لأنهم هم الذين يُكلَّمون، وأكثر الخلق لا يكلَّمون ولا يؤذن لهم في الاعتذار؛ لأن الكفار ليس عندهم إيمان، وليس لهم حسنات فيحاسبون عليها، وليس لهم حسنات فتوضع في الميزان، ولهذا جاء نفي ذلك عنهم، كما قال تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، يقول جل وعلا في الذين كفروا: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18]، وفي الآية الأخرى: أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39]، وقوله: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ أي أنه يُجزى يوم القيامة، فهو يظن أن له أعمالاً وأنها تنفعه، فإذا بعث يوم القيامة تبين أنها ليست بشيء، ثم يلقى جزاءه، وليس هناك محاسبة، إلا أنها تعرض عليه وتعدد له سيئاته حتى يعترف ويقر بأن الحكم عليه عدلٌ من الله جل وعلا، فيحمد الله على ذلك، ويعلم أنه لا يصلح له إلا هذا الحكم، ولا يناسب له إلا هذا الجزاء.

    ولهذا لما ذكر الله جل وعلا القضاء بين الخلائق ذكر بعد الفراغ أنه يحمد جل وعلا بعد انتهاء الحساب، كما قال جل وعلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:68-69] إلى أن قال جل وعلا: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75].

    يقول العلماء في قوله تعالى وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ: يدل حذف الفاعل على أن هذا عامٌ مطلق، وأن جميع من قضي بينهم يقولون: الحمد لله على قضائه. لأنه قضى بالعدل الذي لا يستحق المقضي له إلا ذلك، ولا يليق به إلا ذلك.

    شروط قبول الأعمال

    قال: (وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها).

    هذه هي المحاسبة، أي أنه يقال للكافر: هذه أعمالك التي عملتها، فهل تقر؟ ولابد من الإقرار بها.

    وفي صحيح مسلم : (أن الكافر يجزى بحسناته في الدنيا، فيوافي يوم القيامة ولا حسنة له)، وكونه يجزى في الدنيا؛ لأن الله جل وعلا لا يقبل من الكافر عملاً يثاب عليه؛ لأن قبول العمل له ثلاثة شروط، لابد أن يتوافر فيه ثلاثة شروط:

    الشرط الأول: الإيمان. كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [طه:112]. أي: حالة كونه عمل وهو مؤمن؛ إذ لابد من الإيمان.

    الشرط الثاني: أن يكون على السنة. أي: أن العمل جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس بالاختراعات والآراء والاستحسانات؛ لأن البدع كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، أي: مردود عليه لا يقبل.

    الشرط الثالث: الإخلاص بأن يكون العمل خالصاً لوجه الله جل وعلا، كما قال سبحانه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فعلى هذا أي عملٍ يعمله الكافر فإنه لا يُعتد به ولا ينفعه، ولكن من كرم الله وجوده وتمام عدله أنه يجزيه به في الدنيا إذا كان العمل عمله لله، فإذا عمل الكافر عملاً لله، مثل صلة الرحم، وإطعام الفقراء، والإحسان إلى المحتاجين وما أشبه ذلك فإنه يجزى به في الدنيا.

    وأكثر الكفار يقولون: نعمله إحساناً للإنسان. ولا يقصدون به وجه الله، وإنما يقولون: نعمله للإحسان إلى الناس. لأن الإنسان له قيمته وله كرامته، وينبغي أن يحسن إليه، وإذا عملوا ذلك يجزون أيضاً كما في هذا الحديث الصحيح، يجزون به في الدنيا، وجزاؤهم في الدنيا هو صحة أبدانهم ووفرة أموالهم وأولادهم وما يُعطون من المنافع التي يستهلكونها في الدنيا.

    (أما المؤمن فإنه يعطى بحسناته في الدنيا ويجزى عليها أيضاً في الآخرة)، وهذا أيضاً جزء من تمام الحديث الذي في الصحيح، والذي لا يحصل له شيء من جزاء أعماله في الدنيا يكون جزاؤه أكمل في الآخرة، ولهذا ذكر عبد الرحمن بن عوف -وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم- حالتهم السابقة فقال: إنا آمنا وهاجرنا، فمنا من استكمل حسناته ومنا من عجلت له بعض حسناته، وأخشى أن أكون ممن عجلت له حسناته. يعني: ليس الذي يعجل له شيء من الحسنات كالذي مات ولم يأخذ شيئاً من الجزاء. والله جل وعلا كرمه واسع، وقد أمرنا وشرع لنا أن نقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، فعلى المؤمن أن يسأل ربه في الدنيا والآخرة، وفضل الله واسع وكرمه يعم.

    1.   

    الأسئلة

    الميزان له لسان

    السؤال: هل هناك دليلٌ صحيح على أن للميزان لسان؟

    الجواب: الميزان لا يكون إلا بلسان، وبدون لسان لا يكون ميزان، فلابد أن يكون له لسان يعرف رجحانه من عدمه، وهذا أمرٌ يدل عليه كلمة (ميزان)، وقد أثبت العلماء ذلك من هذا.

    وزن العامل يوم القيامة

    السؤال: إذا قلنا: إن الذي يوزن هو الأعمال. فكيف نقول في حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما ضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما لأثقل في الميزان من جبل أحد

    الجواب: قد أجبنا عن هذا في نفس الشرح.

    يجب الإيمان بأمور الآخرة دون السؤال عن الكيف

    السؤال: كيف يوزن العمل وهو وصف قائمٌ بالعامل، وليس بجسم حتى يوزن؟

    الجواب: الله جل وعلا لا يعجزه شيء، فهو على كل شيءٍ قدير، فـ(كيف) غير واردة أصلاً، وأمور الآخرة لا يقال فيها: (كيف)، كما لا يقال في صفات الله وفي أفعاله: كيف.

    موقف الخوارج والمعتزلة من الميزان

    السؤال: بماذا فسر الخوارج الميزان؟

    الجواب: الخوارج أنكروه، وكذلك أكثر المعتزلة أنكروه، وقالوا: الميزان عبارة عن العدل.

    مفارقة الكرام الكاتبين للإنسان في أماكن قضاء الحاجة

    السؤال: ذكر أن الكرام الكاتبين لا يفارقون الإنسان، فكيف إذا دخل الخلاء، هل يكونون معه في مكان النجاسة؟

    الجواب: إذا دخل الخلاء يكون الملك قريباً منه ويستمع، فإن تكلم سجله عليه، ولهذا نهي عن هذا الكلام في هذا الموضع، وكذلك إذا اتصل الإنسان بأهله فإنه يفارقه، ولكن ليست مفارقة بعيدة؛ لأنهم لا يشاهدون العورات ولا يجلسون عند الأمور المستبشعة، فإذا تكلم فإنه يأتي ويسجل، ولهذا جاء في الحديث: (إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوهم)، يعني: استح منهم ولا تتكلم في مثل هذه المواقف. وهم كرام عند ربهم جل وعلا، فينبغي أن يكرموا، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11]، ومن كرمهم أنهم لا يأتون إلى هذه الأماكن ولا يكونون فيها.

    تفسير الطائر في قوله: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)

    السؤال: ورد في تفسير الطائر في الآية أنه نصيب الإنسان في الدنيا وما كتب له فيها من رزق وعمل، فهل هذا صحيح؟

    الجواب: هذا داخل في عمله، فالقول واحد وإن اختلفت العبارة، فالطائر هو ما طار من عمله، ويشمل كل عملٍ يعمله.

    الكفار يتفاوتون في العذاب

    السؤال: هل صحيح أن أعمال الكافر في الدنيا ترفعه من دركات النار إلى أعلاها؟

    الجواب: لا. ولكن الكفار ليسوا على طبقة واحدة، فالكفار بعضهم مجرمون وجرمهم كبير، وبعضهم أقل جرماً، فيوضعون حسب أعمالهم، فمنهم من يكون في الدرك الأسفل، ومنهم من يكون فوق، وهكذا، فالله جل وعلا حكمٌ عدل، لا يظلم أحداً شيئاً.

    معنى قوله تعالى: (كل من عليها فانٍ)

    السؤال: قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، ما المراد بهذه الآية؟

    الجواب: المراد بـ كل من عليها من على الأرض أو الحياة، فكل من كان حياً فإنه سيموت، ولهذا ذكر أن هذا يشمل حتى الملائكة، وأنه لا يبقى إلا الأول والآخر الذي ليس قبله شيء وليس بعده شيء سبحانه وتعالى، وهذا في الوقت الذي يكون بين النفختين: نفخة الصعق ونفخة البعث، ففي هذا الوقت لا يبقى أحد حياً، حتى الملائكة وحتى جبريل عليه السلام، وإنما الباقي هو الله جل وعلا، ولهذا جاء أنه سبحانه يقبض السماوات والأرض بيده، ثم يقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ أين ملوك الدنيا؟ أين الجبارون المتكبرون؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه ويقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، فلا يوجد أحد يجيبه من الخلق، بل كلهم موات، وهذا يكون بين النفختين: النفخة الأولى والنفخة الثانية التي يكون فيها البعث، ثم بعد ذلك يبعث الخلائق وتبقى الجن والإنس والملائكة أحياء، فهؤلاء في العذاب وهؤلاء في النعيم دائماً ما دامت السماوات والأرض.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756009523