أما بعــد:
أيها الإخوة:
يشرِّفُ إدارة الرعاية الصحية الأولية بـالقصيم، أن تتشرف باستضافة هذا الجمع المبارك، والمتمثل بلقاءٍ مع فضيلة الشيخ الداعية سلمان بن فهد العودة فجزاه الله خيرًا على تجشمه الصعاب، ومجيئه إلينا في هذا الوقت, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها في ميزان حسناته يوم أن نلقى الله, وأول ما نبدأ به هذا اللقاء المبارك، هو القرآن الكريم ومع الأخ خالد الحسين فليتفضل جزاه الله خيرًا.
أما بعد أيها الإخوة!
فنبقى مع الفقرة الثانية من هذا اللقاء الطيب المبارك، ومع كلمةٍ ترحيبية لسعادة الدكتور/ طلال البياري، مدير عام الشئون الصحية بمنطقة القصيم, فليتفضل مشكورًا جزاه الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله نبينا محمد, فضيلة الشيخ سلمان العودة, الإخوة الزملاء, وضيوفنا الأفاضل, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بفضيلة الشيخ، وأتقدم له بالشكر على تفضله بقبول الدعوة والمجيء لهذا اللقاء المبارك، وهو اللقاء الثاني خلال هذا الأسبوع, وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يثيب الشيخ على هذا الإقدام الطيب, وأن يجعل في نصائحه وكلماته الطيبة كل البركة, لرفع المعنويات لدى الزملاء.
ولا أشك أن هذه اللقاءات الطيبة والخيرة فيها ترويحٌ للنفس, وفيها أيضًا رفعٌ للمشاعر والمعنويات لدى الزملاء والعاملين في الشئون الصحية, وأعتقد جازمًا، أننا نحتاج لمثل هذه الجلسات الطيبة، حتى ترتقي المعنويات، ويزيد الالتزام والانتماء والحب فيما بيننا، ولأهدافنا السامية التي نعمل من أجلها, ألا وهى الخدمات الصحية, وأن نرتقي بهذه الخدمات للمستوى الذي يرضينا ويرضى الله سبحانه وتعالى عنا, ويلبي احتياج المواطن، وأيضًا يرتقي إلى المستويات التي تنشدها الدولة رعاها الله, فلعلَّ في هذه الاجتماعات ما يروح عن نفوسكم, وما يرفع المعنويات ويزيد الانتماء إلى أهدافكم السامية النبيلة, والتي تلتقي بإذن الله مع أهداف الأمة الإسلامية جمعاء.
وبودي أن أشكر كافة الزملاء في إدارة الرعاية الصحية الأولية، يتقدمهم الأخ عبد الرحمن البليهي، وهو الذي فكر في هذا الاجتماع مع زملائه العاملين، ومع الدكتور عصام الحركة، وبقية الزملاء الذين هيئوا لهذا الاجتماع الطيب المبارك, وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يثيبهم الثواب الحسن على هذا الإقدام, وكذلك أشكر الإخوة منسوبي الشئون الصحية من الحاضرين, والضيوف الذين أحبوا أن يشاركونا هذا اللقاء الطيب المبارك, وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يثيب شيخنا، وأن يوفقه في تقديم ما ينفعنا في دنيانا وأخرانا وما يزيد -كما ذكرتُ- من رفع معنوياتنا، والتزامنا وحبنا والتصاقنا بعملنا، وما يقدمنا إلى الأمام بإذن الله, أشكركم مرةً أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عفوًا أيها الإخوة! هذه القصيدة ليست لي وإنما هي للزميل إبراهيم السمحان، الذي جادت قريحته بهذه الكلمات، وهي قصيدة نبطية أبى إلا أن يشارك بها, فلنستأذن فضيلة الشيخ بإلقائها بين يديه.
بسم الله والحمد لله، فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة أيها الجمع الكريم! أحييكم بتحية الإسلام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الواقع أن بضاعتي مزجاة, ولكن طمعًا في الوقوف أمام هذه الوجوه الطيبة، كانت القصيدة، فأستميحكم عذرًا لإلقائها، والقصيدة بعنوان "قصيدة القلب":
قصيدة القلب كيف الحبر يكتبها ويش لون بحر الورق يقوى مراكبها |
بحر شواطيه جفت واختفى المينا والموج راكب وموج النفس يتعبها |
وابحرت مجدافي الكلمة ومعناها زادي وقدامى الحكمة وكاسبها |
الحكمة التي غدت ويش لو نلقاها في مهمه الطيش ساق الحبل غاربها |
وبديت تقليد ديوان أمة ثكلى قريت خلف السطور وذي مصايبها |
نسأل على الغرب يهزمها ويهزمنا وعن الليالي لنا تعقد حواجبها |
نسأل عن الحرب تستوطن بعالمنا وعوالم الكفر ويش فيها تجنبها |
نسأل عن الجوع الاكبر عن تناحرنا وعن هتكة العرض والتهجير جالبها |
وعن كسرة الخبز تغرق ساحة البوسنة وعن عدة الحرب تعطى غير طالبها |
وعن مسجد البابري عن هيبة المقدس يا كيف الأنجاس تفتل به شواربها |
واحنا علينا البكاء ويا كثر ما نبكي وأخطر قراراتنا ننكر ونشجبها |
نسأل وكل الإجابة بعدنا السافر عن ديننا لا حظوظٍ بس نندبها |
قصيدة القلب طالت بس ما طالت أشجاراً بخاطري تصفق جوانبها |
والمعذرة منك يا سلمان ذا جهدي قليل والقلب عذر النفس مشجبها |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته....
والآن أيها الأحبة.. مع اللقاء المنتظر مع العالم العامل! مع الداعية المعروف, مع قائد من قواد هذه الصحوة الطيبة المباركة, مع فضيلة الشيخ سلمان العودة.
أما بعـد:
أيها الأحبة.. فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وإنني -بادئ ذي بدءٍ- أشكر سعادة مدير الشئون الصحية بـالقصيم, كما أشكر جميع إخوانه العاملين معه, وزملائه الذين كانوا سببًا في ترتيب مثل هذا اللقاء, والذين حضروا إلى هذا اللقاء أيضًا, وأشكركم جميعًا وأدعو الله تعالى لكم بكل خير, وأقول لكم: إنني أحبكم في الله تعالى, وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا من المتحابين فيه, وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله, وأن يجمعنا جميعًا في دار كرامته إنه على كل شيءٍ قدير؛ ثم أما بعد أيضًا:
فإن مثل هذه اللحظات هي لحظات نفيسة حقًا, فإن الحديث إلى مثلكم أنتم بالذات، أيها الأحبة.. حديث شيق, وحديثٌ طويل، وفي النفس خواطر, أحببت أن أقدمها بين أيديكم الآن.
أول هذه الخواطر، نقول: إننا جميعاً نعيش في خندقٍ واحد, ونحمل هماً واحداً, وإن اختلفت المهمات وتنوعت المسئوليات وتعددت المواقع, إلا أن الهدف يجب أن يظل واحدًا.
فهذا الاسم الرباني الإلهي: تاجٌ على رأسي وعلى رأسك, وشرفٌ لا يقدِّر أحدٌ قدره, إلا الله عز وجل.
إنه علامة على كل معاني الخير والكمال, فكل خيرٍ أو كمالٍ فهو في الإسلام, وكل ضررٍأو نقصٍ أو عيبٍ فهو مما جاء الإسلام بذمه والنهى عنه.
إذاً: هذا الاسم الشريف العظيم الكبير الرباني، الإسلام هو التاج الذي نكلل به رؤوسنا, ونفتخر بالنسبة إليه, فليس فخرنا لأننا عرب, فإن العروبة بحد ذاتها قد يدخل فيها من هم حطب جهنم.
لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب |
فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب |
ليس فخرنا بالعروبة بذاتها، فإن العروبة بذاتها لا تكفي؛ ما لم يكن الإسلام سرها, وليس فخرنا أيضًا بتاريخ نردده؛ فإن أجدادنا الذين مضوا, مضوا بمفاخرهم, ومضوا بجهادهم, ومضوا بصدقهم, وكتب التاريخ لهم أروع الصحائف, في كل المجالات، في العلم, وفي العمل, وفي الدعوة, وفي الجهاد, وفي الإخلاص, وفي النـزاهة, وفي كل الكمالات مضوا بها, ولا ينفعك أن تكون أنت من أحفادهم فتكتفي بترديد مآثرهم, فتصبح إنسانًا كنتياً، أي: يتكلم أن أجدادنا كانوا وكانوا وكانوا.
كن ابن من شئت واكتسب أدبًا يغنيك محمـوده عن النسب |
إن الفتى من يقـول هـأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي |
والنار -أحياناً- تخلف الرماد كما هو معروف, فإذا كان أجدادنا السابقون نارًا تضيء وتشرق، وفيها تدفئة, وخير, ونور, فقد يكون من أحفادهم من انقلب وتحول إلى رمادٍ تذروه الرياح, وقد لاحظ هذا المعنى شاعر الهند محمد إقبال فقال:
أرى نارًا قد انقلبت رمادًا سوى ظل مريض من دخان |
فليس فخرنا لأننا أبناء رجال, وأحفاد رجال, الفخر هو بما يقدمه الإنسان وينجزه، سواءً في الدنيا أو في الآخرة, فأما في الدنيا فإن العالم اليوم لا يحترمك احترامًا تاريخيًا, إنما يحترم القوة, ويحترم العمل, ويحترم الإنجاز, وماذا ينفعنا إذا صرَّح متحدثٌ رسمي أو غير رسمي في الشرق، أم في الغرب بأننا نحترم الإسلام ونقدره، ونعتبره دينًا تاريخيًا له فضلٌ على الحضارة الإنسانية؟
ماذا يقدم هذا وماذا يؤخر؟
لا ينفع شيئًا.
إنها مجرد إبرة للتخدير, لكن الذي ينفع هو الذي يملك قوة، ولا أعني بالقوة فقط قوةُ السلاح, بل كل ألوان القوة, حتى القوة العلمية, والفنية, والإدارية, والعملية, قوةُ وحدةِ الكلمة واجتماع الصف, كل ألوان القوة هي التي أصبح العالم اليوم يحترمها.
وكذلك الحال في الدار الآخرة: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الدخان:41].. لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة:48].. لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً [لقمان:33] ومن حكمة الله تعالى أن يعلن الله تعالى لنا في القرآن أن بعض أقارب الأنبياء كانوا من الكافرين, ومن المعذبين بالنار أيضًا, كما هي الحال بالنسبة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، كان والده من أهل النار, كما صرح بذلك القرآن الكريم، فقال تعالى:وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً [الأنعام:74] وفي الآية الأخرى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114] وفي الصحيح : {. إن إبراهيم يلقى أباه يوم القيامة وعليه غَبَرة وَقَترة, فيقول له: يا أبت! ألم آمرك فعصيتني؟ فيقول: الآن لا أعصيك, فيذهب إبراهيم وكأنه يريد أن يشفع فيه, فيقول الله تعالى له: يا إبراهيم إني حَرمتُ الجنة على الكافرين
إذاً: العبرة في الدنيا وفى الآخرة ليست بالأمجاد الغابرة, ولا بالتاريخ الماضي أو بالنسب أو بالأرض, إذ أن ولادة الإنسان في هذه الأرض أو تلك، لم يكن باختياره، وليس له فيه يد, كما أن العبرة لا تكون بلون الإنسان ولا بأي صفةٍ أخرى من الصفات الشكلية الذاتية التي قد لا يكون للإنسان أصلاً يدٌ في اختيارها, إنما العبرة بعمل الإنسان.
فعمل الإنسان هو الذي يحدد موقعه في الدنيا, وهو الذي يحدد مستقره في الدار الآخرة, فإذا انتسبنا نحن إلى الإسلام؛ كانت هذه النسبة الحقيقة التي اختارها الإنسان ورضيها لنفسه، ثم لم يكتف بمجرد أن يكون انتسابه للإسلام وراثياً, كون أبيه أو أمه مسلمين؛ بل حقق هذه النسبة التي ورثها بالتطبيق العملي لهذا الانتساب, وأن يصدق هو في تطبيق هذا الدين والعمل به، والدعوة إليه, حتى يعرف أن كونه مسلمًا ليس أمراً عفوياً, أو أمراً وراثياً, أو أمراً بيئياً, وإنما هو أمرٌ رضيه الإنسان لنفسه، واختاره وارتضاه وآمن به, وصدق بفعله ما وجده في واقعه أو في بيئته.
فكثيراً ما نسمع تعبيراً يقول: الناس الملتزمون يفعلون كذا, والناس الملتزمون يقولون كذا, إذاً وأنت, لماذا نرضى -فعلاً- بأن نجعل مهمة التدين والالتزام، والصلاح، والدعوة، ونشر الخير، مهمة فئةٍ معينة في المجتمع؟
أما نحن فنكتفي بأن نقول: الملتزمون فعلوا كذا, فقد نثني أحيانًا على ما فعلوه، وقد نعتب عليهم أحيانًا في خطأٍ أو تقصيرٍ وقعوا فيه.
والملتزمون بشر يخطئون ويصيبون ولا شك! وليس بشرط كون الإنسان ملتزمًا بدينه أن يكون معصومًا, إنما العصمة للأنبياء فقط عليهم الصلاة والسلام, أما غيرهم من الناس فيخطئ ويصيب, ولذلك يجب أن نضع الأمور في مواضعها، ونعدل وننصف في النظر إلى هذه الفئة من الناس.
وقد قلت لبعض الإخوة: كثيراً ما تردد الصحف والإعلام العربي -تبعًا للإعلام العالمي- لفظ المتطرفين والأصوليين والإرهابيين، وما أشبه ذلك من الكلمات التي يقصد بها المتدينون, سواء ًكانوا من المعتدلين، أو كانوا من غير المعتدلين, إن صح هذا التقسيم -أيضًا- فلننظر قليلاً إلى اليهود ألا يوجد فيما يسمى اليوم بدولة إسرائيل وهي فلسطين المغتصبة, ألا يوجد عندهم اليوم في شعب اليهود أحزاباً ومجموعات كبيرة ممن يسميهم الإعلام العالمي ويسمونهم اليهود أنفسهم, ويسميهم العرب بـاليهود المتطرفين, كـحزب غوش أمنيوم وغيره من الأحزاب؟ بلى. يوجد أحزاب يهودية متطرفة، بعضها يؤمنون بما يسمونه دولة إسرائيل العظمى التي تمتد من الفرات إلى النيل, وبعضهم يؤمنون بحكومة العالم اليهودية الخفية، التي يجب أن تعلن لتحكم العالم كله باسم بني إسرائيل, وبعضهم يؤمنون بأشياء يرفضها العالم كله.
لكن هؤلاء المتطرفون -كما يسمونهم- اليهود أين يعيشون؟
هل هم يعيشون في غياهب السجون؟
لا. هل هم يعيشون في زوايا المجتمع، حيث الإهمال والنسيان والضغط عليهم؟
لا. إذاً أين يعيشون؟!
لعلك تعلم أنهم يعيشون في الكنيسة, ويشاركون في الحكم, وفي القرار, ويؤثرون في اختيار المسئولين في تلك الدولة الممسوخة؛ ولذلك تجد أن مجتمعهم على ما فيه من تناقضات واختلافات وفيه حرية للمتدينين والبارحة كان هناك تهديدات لرئيس الوزراء وللحكومة بالموت, من قبل اليهود المتطرفين تهديدات هاتفية, وتهديدات عبر مظاهرات, حيث هناك حفريات في بعض المقابر، التي يقول اليهود إنها قبورٌ تاريخية لهم, وتقول الحكومة اليهودية: إنها قبورٌ للنصارى.
المهم أن أولئك القوم عرفوا كيف يتعاملون مع الآراء المختلفة, ومع التوجهات المختلفة, وأعطوا فرصةً لكل قوةٍ أثبتت وجودها في المجتمع, وبذلك سلم مجتمعهم من التناقض والاضطراب، والتشتت، وأن يقوم بقتل بعضه بعضاً، وبطعن بعضه بعضاً.
المهم أن تلك الأحزاب الأصولية المتطرفة النصرانية، أصبحت ذاتَ تأثيرٍ كبيرٍ وخطيرٍ، وأصبحت تملك مئات المحطات للتلفزة، وآلاف الإذاعات, وعشرات الآلاف من المؤسسات، وعشرات الملايين من الناس الذين يتابعون مطبوعاتها ومنشوراتها، وبثها وإذاعتها, ويدفعون لها الضرائب والتبرعات, ويؤمنون بأطروحاتها ومذاهبها.
وبذلك استطاعوا أن يحفظوا مجتمعهم من الشتات والتفرق والصدام, وأن يستفيدوا من كل الطاقات الموجودة فيه
ثم ليست القضية قضية متطرفين، فنحن نعلم كما أن عند اليهود، وعند النصارى متطرفين؛ يوجد عند المسلمين غلاة, وهذا معروفٌ من فجر التاريخ, كـالخوارج مثلاً، الذين وجدوا حتى في أفضل العصور، وجدوا في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم, وهو يوجدون اليوم, ولكنهم قلةٌ لا يُعبأ بهم, وإنما الأكثرية الساحقة من المتدينين هم من أهل الاعتدال، والتدين الموزون, والفكر المتعقل, والنظرة الهادئة, وإنما حاولوا تعميم هذا اللفظ؛ فأصبح كل متدين في نظر الإعلام العالمي والعربي -في كثيرٍ من الأحيان- يوصف بأنه متطرف أو أصولي, وفي بعض البلاد يكفي أن تعفي اللحية، أو أن تتردد على المساجد لتوصف وتصنف ضمن المتطرفين, ثم تكون عرضةً لكل ما يتعرضون له هم من الأشياء, وشوه الإعلام هذه الصورة عند الناس.
هاهنا أنتقل إلى الهدف الذي أقصد إليه الآن في هذه الكلمة, وهو: مجتمعنا -بحمد الله- أستطيع أن أقول: إنه يخلو من هذه النوعية, وإلا فعلى أقل تقدير أن هذه النوعية لازالت نوعية قليلة، لا يكاد يعلم أو يسمع بها أحد, وفيما يتعلق بمشاهدتي في الشخصية؛ فإنني على صلةٍ واسعة بقطاعٍ عريض من هذا المجتمع, سواءً من المتدينين, أو من الشباب الملتزمين أو من غيرهم.
وليس في منطقةٍ خاصة، بل في كل مناطق هذه البلاد, وأشهد بالله تعالى؛ أنني لم أر طيلة هذه الفترة شابًا أستطيع أن أقول عنه إنه يحمل فكرًا من أفكار الغلاة, أو من يصح أن يسموا بأنهم متطرفون أو أصوليون أو إرهابيون أو ما أشبه ذلك.
يوجد في مجتمعنا -ولا شك- متدينون محافظون على كل قيم الدين وأخلاقه, ويوجد أيضًا المفرطون والمقصرون ولا شك, وهنا يجب أن نتساءل: ما هي العلاقة التي يجب أن توجد بين هؤلاء وهؤلاء؟
لا يجوز أن تكون العلاقة علاقة تنابز وتباعد, فلا ينبغي للملتزم مثلاً أن يكون سريعًا إلى عيب هؤلاء واتهامهم، وسوء الظن بهم, بل ينبغي أن يعطيهم فرصةً للمراجعة والرجوع, وأن يحسن الظن بهم ما استطاع, وأن يبذل لهم النصيحة, ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة, وبالكلمة الطيبة, والابتسامة التي أحيانًا تزيل كثيرًا مما في القلوب, وأن يسعى جهده إلى دعوتهم إلى الله, وتحسين صورة المتدينين في نفوسهم.
وأن يحرص على أن يكون منضبطًا قدر المستطاع في تصرفاته, فلا يبدر منه من الكلام أو الفعل ما يعاب به هو, لأن العيب -أحيانًا- لا يوقف على شخصٍ؛ بل يتعدى إلى عيب الملتزمين, فطالما سمعنا إنسانًا يعيب المتدينين كلهم أو يسبهم لأنه رأى موقفًا من واحد, أو سمع كلمةً من آخر.
حسناً يا أخي! أخطأ شخصٌ تنسب الخطأ إليه؛ لكن لا تعمم هذا الخطأ على كل المتدينين, أو على كل من تسميهم أنت بالملتزمين, فإن الله تعالى يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الزمر:7] والإنسان مسئول عن فعله هو, ولا يجوز أبدًا أن يحمل غيره وزره.
وقد يكون الإنسان موظفًا في المرور، ويتعامل -مثلاً- مع القادمين والغادين والرائحين وهو كذلك, وقد يكون موظفاً يستقبل الجماهير وهو كذلك, وقد يكون مدرسًا وهو كذلك, وقد يكون..
إذاً لا تتصور أن جو المتدينين جوًا مثالياً، إنما هم من المجتمع، فهم كغيرهم, وأنت لو أخذت أي قطاعٍ في المجتمع, كقطاع الصحة, أو قطاع المرور, أو قطاع الشرطة, أو قطاع التعليم, أو قطاع الإعلام, أو أي قطاع، لو أخذته لوجدت أنه يوجد فيه نوعياتٍ شتى, منهم المتدين, ومنهم غير المتدين, ومنهم الأمين, ومنهم غير الأمين, ومنهم ذو الأخلاق الفاضلة, ومنهم من ليس كذلك, ومنهم العصبي, ومنهم الهادئ, إلى غير ذلك.
فهذا هو المجتمع أصلاً، وهؤلاء ما خرجوا وما جاءوا من كوكبٍ آخر, إنما خرجوا من هذا المجتمع، ولهذا فيهم وفيهم.., ومن الظلم لهم أن تفترض أنهم يجب أن يكونوا مثاليين, هذا ظلمٌ وصعبٌ ومستحيل, بل ينبغي أن تعتقد أنهم كغيرهم، يحصل منهم ما يحصل من غيرهم، وإن كانوا أفضل من غيرهم من حيث أنهم قد يكونون قابلين للتوجيه, قابلين للإرشاد, قابلين للمناقشة بشرط أن يكون هذا كله من منطلق النصيحة.
وأعني بذلك: أن البعض -أحياناً- قد يلقى من إنسان متدين موقفاً معيناً، فيعلن عليه أنك فعلت، وفيك وفيك...، ويريد من هذا الإنسان أن يقبل منه.
فمن الطبيعي إذا صار مثل هذا؛ أن هذا المتدين قد يظن أن في قلبك حقدًا على المتدينين، وأنك وجدتها فرصةً للتنفيس عما في نفسك, وحينئذٍ لن يقبل منك، وهذا أمرٌ طبيعي لكن لو انفردت به وقلت له بينك وبينه, يا أخي! حصل كذا, وأنا أعتقد أنه كان يجب أن تكون الأمور كذا, وأنت موضع نظر, وربما ينسب إلى غيرك هذا الفعل, وربما خطؤك لا ينسب إلى الملتزمين جميعًا، وإلى غير ذلك, فبالتأكيد سيقبل بك.
وأمس حدثني إنسان أنه رأى موقفاً لم يعجبه من بعض المتدينين، فانفرد بهذا الإنسان الذي أخطأ في نظره، وحدثه، فقال: وجدت تجاوباً كبيراً ورائعاً.
وبالمقابل هناك مسئوليةً كبرى -أيضاً- على كل الأطراف، فيجب أن يكون هناك اتصالٌ بين كل الطبقات والنوعيات, فأصلاً كلمة هؤلاء ملتزمون وهؤلاء غير ملتزمين؛ يجب أن ننظر فيها, يجب أن نكون جميعاً ملتزمين, ويجب أن نكون جميعاً معنيين بأمر الإسلام, ومعنيين بتطبيق أخلاقيات الإسلام وأحكام الإسلام، على أمورنا الخاصة والعامة, حتى ذلك الإنسان المقصر, أليس مطالبًا شرعًا بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ بلى, والله تعالى عندما قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] هل هذه الآية خاصة بالملتزمين مثلاً؟
كلا! والرسول عليه السلام لما قال: {من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه} هل كان يخاطب فقط الملتزمين أو المتدينين؟
لا بل يخاطب كل من يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.
فكل هؤلاء مخاطبون بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، بأيديهم إن استطاعوا, ثم بألسنتهم, فإن لم يستطيعوا -فعلى أقل تقديرٍ- ينبغي أن ينكروا المنكر بقلوبهم, وأن يعلم الله تعالى من قلوبهم أنهم له كارهون, حتى ذلك الذي يقع في المنكر مطالبٌ بأن يساهم في تغييره، ويسعى في إزالته بقدر ما يستطيع.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمد |
إذاً: يجب أن يكون هناك مبادرة من الجميع, بالتعاون على البر والتقوى, والاتصال بين سائر أفراد المجتمع, وما أدري ما هو السبب الذي يوجد نوعًا من الفجوة بين من يسمون بالملتزمين, وبين بقية أفراد المجتمع, لماذا لا يكون هناك اتصال؟
ولماذا لا يكون هناك مجالس؟
ولماذا لا يكون هناك حوار؟
وأنا أعلم أن الكثيرين ممن يقام لهم وزن ويحسب لهم حساب, لديهم استعداد أن يسمعوا أي اقتراح, أو ملاحظة, أو نقد, أو حوار, أو سؤال, أو نقاش؛ حتى يتم الوصول إلى الحق, وحتى نستطيع أن نضمن ولاء الجميع للإسلام, وللدعوة, وللخير وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الإنسان إذا لم يجد سبيلاً للتعبير عن وجهة نظره وعن ملاحظاته؛ ربما يتحول إلى إنسانٍ حاقد, أو كاره, أو مبغض, لمن يسميهم بالملتزمين, أو من يسميهم بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, أو من يسميهم بالمتدينين, أو ما شئت من الأسماء.
لكن إذا كانت القنوات مفتوحة، والمجالات قائمة، وإمكانية الصلة والحديث والحوار ممكناً، فلماذا لا يجربها الجميع؟
ولماذا لا نسعى كلنا جميعاً إلى العمل على ربط كل طبقات المجتمع بعضها ببعض, وتعارف أفراد المجتمع, والاتصال فيما بينهم.
وجرب يا أخي! هذا الكلام الذي أقوله فهو كلامٌ نظري؛ لكن جرب أنت، اذهب إلى من شئت من الناس، من المتدينين, أو ممن لك عليهم ملاحظة, أو ممن تعتقد أنهم ربما يسمعون منك, وحدثهم عما في نفسك، فستجد إن شاء الله تعالى أن هناك تجاوباً، ورغبة في سماع وجهة النظر الأخرى, ورغبةٌ في سماع الرأي الآخر, ورغبةً في تبادل الحديث فيما يخدم المصلحة العليا وهي مصلحة الإسلام.
كل فردٍ منا يجب أن يشعر بأنه مسئول, -وأحيانًا- الإنسان الذي يرى أنه منحرف أو مقصر أو مفرط؛ يستطيع من ذلك ما لا يستطيعه الملتزم -كما يسمونه- أنت بشكلك، وصفتك وطبيعتك، وتكوينك وعلاقاتك وصداقاتك، ربما تطلع على أسرار في المجتمع لم يطلع عليها غيرك, وربما تعرف أشياء ما عرفها غيرك, وربما تدرك أموراً قد لا يدركها كثيرٌ من البعيدين عن هذه المجالات, وربما تعرف الأسلوب المناسب لمخاطبة هذه الفئة أو تلك, فلماذا لا تقيم العلاقة مع الأخيار, ومع طلبة العلم, ومع العلماء, ومع الدعاة, ومع خطباء المساجد, ومع المعنيين بأمر الإسلام, تقيم معهم العلاقة, وتوافيهم بكل جديد, وتبين لهم ما تراه, وتخبرهم بما تعتقد أن فيه مصلحةً، وأن في إطلاعهم عليه مصلحةً, وبذلك تكون مشاركًا في عملية تحقيق معنى إسلامية هذا المجتمع.
أيضاً أنت بحكم موقعك، مسئولاً أو طبيباً أو إدارياً أو غير ذلك؛ تستطيع مالا يستطيعه البعيد, وتطلع على مالا يطلعون عليه, فلماذا لا تحقق معنى انتمائك لهذا الدين من خلال موقعك؟: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17] وإياك إياك أن تعتقد أن إخلاصك لله تعالى في عملك، وصدقك في تطبيق معاني التدين؛ أن هذا يضرك, لا والله الذي لا إله غيره, إذا رضي الله عنك, فلا يضرك أن يسخط الناس كلهم, وأنا أقول لكم أيها الأحبة.. واقعاً عملياً، أعرف مجموعات من الشباب في مواقع كثيرةٍ وكثيرةٍ جداً، عندهم وضوح وصدق وجرءة وعزيمة, هؤلاء، والله حصلوا على رتبٍ وظيفية، لم يحصل عليها جميع زملائهم الذين تخرجوا معهم, ما ضرهم أبدًا، بل حصلوا على أشياء ما حصل عليها غيرهم ممن سبقهم في هذه الميادين.
إذاً: من رضي الله تعالى عنه أرضى عنه الناس, ومن سخط الله تعالى عليه أسخط عليه الناس, وليست العبرة بيومٍ أو ساعةٍ أو شهرٍ أو سنةٍ، العبرة بحياتك كلها، وجرب تجد.
بل لا أقول لك: جرب، لأن المعاملة مع الله لا تحتاج إلى تجربة, أو تشك في وعد الله، حاشاك من ذلك, والله تعالى لا يخلف الميعاد, فاصدق مع الله تعالى، واحرص على أن تستخدم كل وظيفة بوأك الله إياها, حتى ولو كانت صغيرة, افترض أنك موظفٌ صغير في الأشعة أو في الصيدلية أم في الاستقبال، أم في أي جهازٍ معين، سواءً في هذا الجهاز الشئون الصحية أو غيرها, حاول أن تطبق كل ما تعلمه من الدين في مجال عملك, وأن تتعامل بالأخلاق الفاضلة, وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بقدر ما تستطيع, وأن تسدي النصيحة, وأن تحرص على أن تمنع كل أبواب الشر, وأن تفتح كل أبواب الخير بقدر ما تملك, وستجد أن الله تعالى لك بكل خيرٍ أسرع, يعطيك السعادة في قلبك, والتوفيق في حياتك, والسعادة في علاقاتك مع زوجتك, والرفعة بين زملائك, ويدفع عنك كل سوءٍ وشر, وستجد أنك موفقٌ في دنياك قبل آخرتك, وتلك عاجلُ بشرى المؤمن.
فعليك إذا أن تستخدم كل إمكانياتك، وكل صلاحياتك، وكل مواهبك، وكل الفرص التي تتاح لك؛ في تحقيق معنى كونك مسلماً: ومعنى كونك مؤمناً, ومعنى كونك متديناً, حتى لو لم تكن متديناً فيما يراه الناس؛ ولكن أنت مسلمٌ رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً, فواجبٌ عليك أن تحقق ولو قدرًا من ذلك.
وأنت ترى وتسمع اليوم، ولعل آخر ما سمعنا تلك القصيدة الجميلة التي قرأها الأخ إبراهيم، وهي فعلاً قصيدة معبرة، وتعتبر نموذجًا من المشاركات، فكل إنسانٍ من موقعه يشارك, والتي تتحدث عن آلام الأمة الإسلامية اليوم، والتي أصبحت جسدًا ممزق الأوصالِ مليئاً بالجراح, كاد الأطباء أن يعجزوا عنه؛ ولكن لا يأس: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] كلما اشتدت الخطوب كلما زدنا إيمانًا بقرب الفرج من الله عز وجل.
اشتدي أزمة تنفرج قد آذن ليلك بالبلج |
والفجر يطلع حينما يشتد الظلام، فأشد ظلام الليل هو قبيل الفجر, ثم يأذن الله تعالى بصبحٍ جديد للأمة.
إذاً هذه الآم والنكبات والمصائب التي يعيشها المسلمون في يوغسلافيا, والصومال, وأفغانستان, وبلاد المغرب, وبلاد روسيا, والهند، في كل بلاد الأرض إلا ما ندر، وهذه المصائب هي إيذانٌ بقرب الفرج, فهي كآلام المخاض -كما تعرفون- الولادة لها آلام, والأمة اليوم بدأت تعي وبدأت تدرك, وبدأت تتفاعل, وبدأ المسلم يعيش هموم إخوانه في كل مكان، ولهذا أصبحنا ندري بما يقع، أما في السابق فكانت الأمور كلها تقع ولا يدري بها أحد.
فمثلاً الذي يجري في البوسنة والهرسك ليس أمرًا جديدًا, خلال الحرب العالمية جرى أكثر منه, ولكن ما علم به أحد، لأن المسلمين كانوا أوصالاً ممزقة، لا يدري أحدٌ منهم بمصيبةٍ غيره, أما اليوم فأصبح المسلمون يسعون إلى أن يكونوا جسداً واحداً, وإلى أن يحققوا معنى الأخوة الإيمانية, وإلى أن يتمثلوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} وبالتالي أصبح هذا الجسد يشعر بالألم ويحس بالوخز، بخلاف الماضي، فقد كان جسداً أشبه بالمشلول، الذي لا يحس بوقع الألم عليه.
ولذلك علينا أن نتعاطف ونتفاعل مع أحوال إخواننا المسلمين في كل مكان, وأن نشارك بقدر ما نستطيع, ولا يحقر أحد منا نفسه, هذا يشارك في التوعية ونشر قضية المسلمين, وهذا يشاركُ بنشر التقارير عن أحوال المسلمين, وهذا يشاركُ بنشر القضية على مستوى معين, وهذا يشارك بجمع التبرعات, وهذا يشارك بخطبة, وهذا يشارك بكلمة, وهذا يشارك بورقة, وهذا وهذا.., حتى نستطيع أن نكون مجتمعاً -فعلاً- يتفاعل مع قضايا المسلمين.
وقد رأيت كثيرًا من المسلمين من البلاد الأخرى، فوجدت أنهم يحملون أرفع المشاعر والأحاسيس تجاه المسلمين في هذه البلاد, لشعورهم بأنهم يتعاطفون معهم, ويتفاعلون مع قضاياهم، وأنهم يصغون آذانهم لكل صوتٍ يستصرخ ويستغيث من أصوات المسلمين، المصاب كبير، والخطب جلل؛ ولكن أعيذك بالله يا أخي الكريم! مهما كنت تعتقد إنك مقصر وعاص ومسرفٌ وضال …إلى آخره, أعيذك بالله أن تسلخ نفسك من جسد هذه الأمة, أو أن لا تتفاعل مع قضاياها, بل يجب أن يكون عندك قلب يتحرق لها ألماً.
فلا يجوز أبدًا أن نعتبر أن مصاب المسلمين أو قضاياهم مسئولية فئةٍ معينة, أو طرفٍ معين, أو أنها مسئوليةٌ الحكومات مثلاً، لا بل هي مسئوليةٌ كل فردٍ مسلم, يشارك ولو بأقل القليل, ولو لم يملك إلا المشاركة بالدعاء, والله لقد رأينا بأعيننا أثر الدعاء في دفع كوارث ومصائب عن المسلمين, وفي تحقيق ألوانٍ من الخير لهم, وما يدريك أن يكون الدعاء أفتك وأمضى من الأسلحة المادية, والدعاء هو العبادة، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنـع الدعـاء |
سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجلٌ وللأجل انقضاء |
ما يدريك أن تكون نجاتك يوم القيامة بسبب ركعتين، قمتَ في آخر الليل قبل أذان الفجر فصليت ركعتين ودمعتَ دمعتين, وقلت: اللهم يا رب إني أسألك لعبيدك المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
ما يدريك أن يكون هذا سر نجاتك؟
فيجب أن يكون عندنا تفاعلٌ مع قضايا الإسلام والمسلمين وأن لا يرضى أحدٌ منا قط بأن يقول: أنا غير ملتزم وأنا لست متديناً, وبالتالي يسلخ جسده من جسد هذه الأمة، لا يتفاعل مع قضاياها, ولا يشارك في همومها، ولا يقوم بواجباتها، لا يدعوا إلى الله، ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر, ولا يسعى في إصلاح, ولا يتصل بأهل الخير, ولا يسعى إلى خير, هذا لا يكون ولا يجوز أبدًا.
أسأل الله تعالى أن يجمعنا جميعًا على طاعته وتقواه، إنه على كل شيءٍ قدير, وأعتذر إليكم إن كان الوقت قد طال بعض الشيء, فالحديث كما يقول الأول ذو شجونٍ، وأسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقًا معصومًا, وأسأله بأسمائه وصفاته أن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيًا ولا محرومًا, وأسأله تعالى أن يكتب لي ولكم الجنة والرضوان إنه على كل شيءٍ قدير, اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: على كل حال, أعتقد أنه من المسلم به أن الإسلام هو دين الله عز وجل، وأنَّ العصمة هي لهذا الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم, فالمسلمون يصيبون بقدر قربهم من الإسلام, ويخطئون بقدر بعدهم عن الإسلام.
والإسلام هو الأمر الذي يجب أن ندعو المسلمين جميعاً إلى تطبيقه والعمل به, وندرك -بديهياً- أن كل خطأٍ فإنما قائماً هو بسبب بعدهم عن المنهج الرباني, فلو حسبنا عدد الصحابة؛ لوجدنا أن الإحصائية تقول: عدد الصحابة الذين حضروا فقط حجة الوداع, كانوا مائة وأربعة عشر ألف سؤالٌ آخر: عدد الصحابة الذين دفنوا في المدينة المنورة مقبرة البقيع محصورةٌ محدودة, وعدد القبور فيها قليل كما هو معروف.
إذاً: أين ذهب هؤلاء؟!
منهم من دفن في الشام, أو العراق, أو مصر, أو تركيا, أو بلاد ما وراء النهر, أو في مناطق من الجزيرة العربية مختلفة كـ اليمن, إلى غير ذلك.
إذاً هذا يدل على أن جيل الصحابة فعلاً كان جيل دعوة, ولذلك ساحوا في الأرض كلها، وكانوا تجديدًا للأمم كافة.
أما اليوم فالصورة عكسية، المسلمون أصبحوا ليست القضية قضية مائة وأربعة عشر ألف، الإحصائيات الرسمية، وهي تحسب المسلمين الجغرافيين، تقول: ألف مليون ومائتا مليون عدد المسلمين؛ ومثل عدد الرمل والحصى والتراب، ولكن كما قال الشاعر:
كثر ولكن عديد لا اعتـداد به جمع ولكن بديد غير متسق |
حارت عقائدنا زاغت قواعـدنا أمـا الرءوس فرأيٌ غير متفق |
يكفينا أن يوجد في المسلمين اليوم، ولو نسبة (1%) ممن يحمل في قلبه هم الإسلام, القضية هي قضية أن يوجد قلبٌ يشتعل بهم الإسلام, وإذا وجد هذا القلب انتهى كل شيء، لأن الإنسان يستطيع أن يعطى مما عنده وينفق مما عنده, هذا إنسانٌ استطاع أن يخدم من خلال موقعه وفى بلده، ونفع وسدَّ ثغرةً لا يسدها غيره, وآخر ذهب إلى بلاد أخرى, وبلاد العالم الإسلامي اليوم كلها تتطلع، و-مع الأسف الشديد- لو نظرنا للنصارى؛ لوجدنا أنهم يأتون عمالاً -أحيانًا- وموظفين صغار، ويضحون بالكثير, ويأتي شباب النصارى ذكوراً وإناثاً في سن المراهقة، ويتركون الحضارة والرفاهية والتنعم وألوان الملذات في بلادهم, ويأتون إلى بلاد المسلمين إلى الصومال مثلاً، أو إلى غيرها, حيث الجوع والعطش والفقر والمرض والخطر ويتعرضون للموت, وقد حدثني أحد الشباب من هذا البلد: الذين ذهبوا إلى هناك، كيف أنهم رأوا أولاداً وبناتاً من أولاد الأوروبيين في سن الثامنة عشرة جاءوا إلى هناك, وتجد أن أصحاب الدماء الأوروبية وهؤلاء البيض، تجد أن أسفل أقدامهم وسيقانهم قد اسود من أثر الشمس والجهد والمشي والتعب, وتجدهم مع المسلمين ومع الأطفال, والذباب, والمرض, والخطر, والتلوث, والفقر, من أجل ماذا؟
يقول الله: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].
الكنيسة ومجلس الكنائس يُجند مئات الألوف من المسلمين، في إندونيسيا, في بلاد المشرق العربي, وفي روسيا، وفي كل مكان, أما المسلمون فلا يزالون يتحدثون عن هذا الأمر مجرد حديث فقط, أو يتكلمون عما فعله الغرب وعما فعله النصارى, أما أن ينتقلوا إلى مرحلة المشاركة, فلا زال الأمر يتطلب جهدًا أكبر, ويتطلب إخلاصًا, ويتطلب مبادرات شخصية من الناس.
لا تنتظر أحداً يا أخي، من تنتظر أنت؟
هل تعلم اليوم أن هناك جهة هي المسئولة عن الإسلام؟
ليس هناك جهة في العالم الإسلامي كله مع الأسف, إنما القضية قضية مبادرات من المؤمنين، أفراداً كانوا أو مؤسسات، أو غير ذلك, مبادرات تأخذ الزمام وتتقدم، وتعلن للمسلمين، وتحاول أن تشركهم في مثل هذه الأعمال، ويبذل كلَّ واحد منا ما يستطيع في هذا السبيل، بحيث نستطيع أن نتغلب على هذه المشكلة.
أحياناً نحس أن هناك جموداً وخموداً في القلوب, على سبيل المثال تلك، الإحصائية التي أعلنت في الجرائد قبل شهر أو أكثر, أثبت التعداد السكاني أنه يوجد في هذه البلاد، أكثر أو قريب من أربعة ملايين إنسان من غير أبناء هذه البلاد, وأجزم أن هناك نسبةً ربما تصل إلى (50%) من غير المسلمين من هؤلاء الناس.
إذاً: مليوني إنسان مقيمون هنا، غالبيتهم ليسو أطفالاً أو صغارًا, إنما هم من الناس الراشدين، الذين يستطيعون أن يفهموا، وأن يسمعوا، ويقرءوا، ويناقشوا, إذاً ما هو مجهودنا مع هؤلاء؟!
ماذا بذلنا معهم؟!
هم في بلادنا, وتحت تأثيرنا، ويشاهدوننا، ونستطيع أن نخاطبهم ونحادثهم ونحاورهم، ونعطيهم الكتاب والشريط, وإذا لم نستطع -على الأقل- نأخذ بيد الواحد منهم إلى فلان وإلى علاَّن، دعه يفتح معه نقاش عن الإسلام, وعن الدعوة, فمن الممكن أن يسلم هذا الإنسان, وإذا لم يسلم؛ فعلى أقل تقدير أثرنا عنده تساؤلات، أو شككناه في دينه, وقد يسلم بعد خمس أو عشر سنين, وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك؛ فمن المؤكد أن مثل هذه المناقشات، ومثل هذه الجهود إذا كثفت وكثرت واستمرت، أقل تقدير أنها سوف تضعف من حماسهم لدينهم, وبالمقابل تجد من هؤلاء مع أنهم في بلادنا من يستميتون لدينهم.
وقبل فترةٍ ليست بالبعيدة، كشف رجلٌ هندوسي هو عبارة عن موظفٍ صغير مستخدم، لكنه تظاهر بالإسلام، وأتى بجوازاتٍ مزورة تدل على أنه مسلم, وهو هندوسي, وكان يجمع التبرعات، ويجمع زملاءه، ويقيم الطقوس، ويتواصى معهم، ويرسل التبرعات إلى بني جنسه في الهند, في هذه المنطقة بالذات، وظل سنتين, من أجل ماذا؟
ما كان للراتب نفسه؛ بل لأنه كان يجمع التبرعات ويرسل بها إلى جمعيات هندوسية, ويكشف.
ومن النصارى أمثال هؤلاء؛ بل الغريب أنهم يتعرضون للمخاطر الكبيرة في سبيل دينهم، ويعقدون الاجتماعات, ويتصلون حتى بأبناء هذه البلاد, ويفعلون أشياء كثيرة، وعندنا الوثائق, مع أنهم يتعرضون للخطر, ولكن عندهم حماس وعندهم استبسال.
أنت أيٌ خطرٍ عليك إذا دعوت إلى الإسلام؟!
وأي خطر عليك إذا وزعت كتاباً باللغة العربية أو بغيرها؟!
وأي خطرٍ عليك إذا وزعت شريطاً بلغةٍ أو بأخرى؟!
وأيُّ خطرٍ عليك إذا أخذت واحداً منهم إلى أحد المشايخ أو الخطباء أو العلماء؛ ليناقشه ويدعوه إلى الإسلام؟
لكن القضية قضية وجود قلب يشتعل بهم الإسلام, وأنا أسألك يا أخي إذا كنت لا تحمل هذا القلب الآن, هل عندك نيةٌ بأن تحمله في المستقبل؟
أقول لك: كم سوف تعيش من عمر؟
ألا تعلم أن العمر واحد, وأن العمر ما يؤكل إلا مرةً واحدة, والفرصة المتاحة لك على ظهر هذه الأرض فرصةٌ واحدة لا تتكررُ أبداً, إذاً ليس أمامك مجالٌ آخر، ولا فرصة أخرى, إذا كنت لا تحمل القلب الآن فسارع إلى الحصول عليه, وهناك أناسٌ ما عندهم قلبٌ أصلاً, ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37]
أي:أنه وجد معه قلب صحيح المضغة موجوداً في الصدر, لكن خواء وهواء، لا يحمل هذا القلب أيَّ شعور, ولا عاطفة, ولا إيمان, ولا تفاعل, ولا تفكير, بل يرى الآيات والنذر؛ فلا يعتبر بها: وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101].
الجواب: الضرورة من المعروف أنَّ لها أحكاماً في الشريعة؛ لكن ما هي هذه الأحكام أولاً؟
وما هي الضرورة ثانيًا؟
هذا بحثٌ أصولي وفيه كتبٌ ومصنفات، ولا أظن أن هناك داعياً للاستطراد والاسترسال فيه, ولكن ينبغي أن نعلم أن الأمة عليها واجب، قبل أن يكون الواجب على الفرد، فالأمةُ بأجهزتها ومؤسساتها؛ مطالبةٌ بأن توفر للفرد من أفرادها العلاج الصحيح الشرعي، الذي يحقق المطلب الصحي أو الحاجة, وفي نفس الوقت يحافظ على دين الإنسان، رجلاً كان أو امرأة وتحافظ على أخلاقه, هذا مطلبُ الأمة كلها وهي آثمة إذا قصرت أو فرطت فيه, بأفرادها ومؤسساتها وأجهزتها العامة والخاصة.
وأقول -كما قلت من قبل-: في بلاد الغرب. حيث توجد قوانين تعتبر أن فصل الرجل عن المرأة نوعٌ من التمييز العنصري, فترفض الفصل، ومع ذلك يوجد عندهم فنادق خاصة بالنساء, وجامعات ومدارس خاصة بالنساء, ومستشفيات خاصة بالنساء, بل يفكرون بأكثر من ذلك.
فالمسلمون مطالبون من باب أولى، أن يشعروا بأن هذه المطالب الجدية الملحة التي تصيح الأمة بها صباح مساء, لا يمكن أن تصم عنها الآذان, ويجب أن نكون كلنا دعاة لمثل هذا الأمر, وأن نتحدث عنه، ونبلغه ونوصله, ونسعى بقدر المستطاع، وليس شرطًا أن الإنسان في يده المفتاح, ويملك كل شيء ويملك قراراً , لكن يستطيع أن يملك -على أقل تقديرٍ- أن يساهم في مثل هذا الأمر، وفي هذا الاتجاه ولو بالكلمة الصادقة القوية المؤثرة المعبرة عما يعيشه الناس, فهذا واجب الأمة.
أما بالنسبة لحال الأفراد، فلو افترض أن إنساناً عنده حالة مرضية؛ إذا استطاع أن يجد امرأة تعالج هذه المرأة فهذا هو الواجب عليه، ولو كانت هذه المرأة غير مسلمة، فالأصل أن يكون العلاج عن طريق امرأةٍ مسلمة, وإذا كان لا يوجد امرأةً مسلمة تعالج هذه المرأة فتتعالج ولو عند امرأةٍ كافرة بشرط أن تكون مأمونة في علاجها، لا يمكن أن تسيء إلى هذه المرأة المسلمة، أو تحقد عليها بما يضرها ويسيء إليها, فإذا لم توجد هذه المرأة التي تعالج المرأة, ينتقل الأمر إلى الطبيب المسلم المأمون, فإن لم يوجد هذا الطبيب, فالحل الأخير هو الطبيب الكافر المأمون أيضًا.
والضرورة لها أحكامها, فإذا كان الإنسان يستطيع أن يعالج زوجته عند امرأةٍ مسلمة ويملك ذلك دون مشقة, لم يكن جائزًا له شرعًا أن ينتقل إلى غيرها، أي إلى رجلٍ -مثلاً- ولو كان رجلاً مسلمًا، فينبغي أن ندرك هذا الأمر.
وفرقٌ بين الأمور التي يواجهها الإنسان وتواجهها الأسر والمجتمعات, فقد يكون التضييق عليه في مثل هذه الأمور صعباً مع وجود الحاجة، وإن كان على ولي الأمر، زوجاً كان أو أخا أو أباً أو ما أشبه ذلك، أن يحرص على ضبط الأمور، وعلى العناية وعلى الرعاية وعلى المتابعة، حتى يطمئن بنفسه إلى أن الأمر تم كله في جوٍ منضبطٍ، بعيدٍ عن كل ما يخدش أو يشين.
الجواب: على كل حال، غير المسلم إذا جاء إلى بلدٍ من بلاد المسلمين ليقوم بعمل, فيجب تمكينه من القيام بهذا العمل الذي جيء به من أجله، وإعطائه الوسائل والأدوات المادية والمعنوية، التي تمكنه من القيام بهذا العمل, هذا مفروغٌ منه, وينبغي أيضًا أن يبذل معه الجهد والوسع في دعوته إلى الله تعالى، سواء بالفعل أم بالقول, والله تعالى يقول: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8-9] فهذه إجابةٌ عامة، وإن كنا نعلم يقيناً أن استقدام هذه الأعداد من غير المسلمين إلى بلاد الإسلام، هو أيضاً من الأمور التي تكون الأمة كلها آثمة إذا كان هناك تقصيرٌ أو تفريط ففي كثيرٍ من الأحيان، من الممكن أن يوجد مسلم يقوم بهذا العمل, مثل ما يقوم به غيره، أو أفضل، أو حتى أقل بقليل، بل إننا -مع الأسف أحيانًا- قد نأتي بغير المسلم بحجة أنه يملك الخبرة, ويملك التجربة, ويملك التدريب, والواقع أن غير المسلم إنما يملك الخبرة والتجربة والتدريب في بلادنا, حينما استقدمناه أول مرةٍ ومكناه, أما المسلم فمتى سيتدرب؟!
ومتى سيملك الخبرة؟!
ومتى سيتعلم، إذا كنا نستبعده أصلاً لأنه لا خبرة لديه؟.
إننا نجد في بلاد الإسلام: أنه حينما يكون القائم علي مؤسسةٍ أو شركة أو جهة نصرانياً فإنه يأتي بقومٍ من بني جنسه، وهذا أمرٌ موثق, وعندي فيه حقائق وأرقام لا تقبل الجدل, فلماذا نجد أن بعض المسلمين يكونون قائمين على مثل هذه الأشياء، أو قادرين على الاستقدام, أو على الإتيان ببعض الخبراء, أو بعمالةٍ معينة, أو بفنيين، ثم لا يهتم الواحد منهم أن يأتي بمسلمٍ أو غير مسلم, بل همه محصورٌ فقط في النواحي الفنية البحتة, نعم النواحي الفنية البحتة لها اعتبار، يجب أن توضع في الاعتبار, لكن ما هو المانع أن آتي بمسلمين أو بمسلمات، وأعطيهم دورة أو دورتين -وهذا يعطى الآن للجميع- تزيد من تأهيلهم وتعطيهم إمكانية أن يمارسوا العمل جيدًا، بحيث يكون في ذلك رفعٌ لمستوى المسلمين حتى في بلادهم, ومحافظةٌ على الأخلاقيات, وتحقيق لمعنى من معاني الإخاء الديني.
الجواب: أولاً يجب السعي إلى فصل الرجال عن النساء في كل المجالات, العلمية والطبية والندوات والتطبيب وغيرها, هذا واجبٌ علينا جميعاً، وعلينا أن نبذل فيه ما نستطيع، سواء كان الواحد منا يستطيع أن يقدم النصيحة, أو كان يستطيع أن يتخذ القرار, أو كان يستطيع أي شيء، واجب علينا أن نسعى إلى الفصل بقدر المستطاع وبقدر الإمكان, وهذا ممكنٌ ولا شك, وإذا تحقق هذا لم يكن هناك -أصلاً- مجالٌ للسؤال عن حضور ندوات مختلطة بين الرجال والنساء, لكن لنفرض أن هذا الأمر لم يتحقق, فأقول: يفتقر الأمر حينئذٍ إلى مسائل:
أولها: أهمية هذه الندوة، فقد تكون هذه الندوة يغني عنها غيرها، أو فيها فائدةً محدودة، فلا داعي حينئذٍ أن نحضرها، بل ينبغي أن يكون تعبيرنا عن إنكار هذا المنكر -أحيانًا- بعدم الحضور؛ متى كان الحضور وعدمه متساويين أو متقاربين، والأمر لا يفرق كثيرًا.
وبالمقابل قد تكون هذه الندوة أحيانًا مهمة، أو يُتَوقَّف عليها على خبرةٍ معينة، أو على ترقيةٍ معينة أو ما أشبه ذلك.
الأمر الثاني: الذي يجب أن يوضع في الاعتبار: نوعيةُ الاختلاط -فأحيانًا- يوجد ندوات فيها شيء مما يسمى بالاختلاط, لكن يوجد الرجال -مثلاً- في الأمام، وتوجد النساء في الخلف, بحيث يكون المكان منعزلاً, ومخرجٌ مستقل للرجال, وهناك مخرجٌ مستقلٌ للنساء, فهذه الصورة -على ما فيها من الخطر، وعلى ما فيها من الضرر، وعلى ما فيها من أنها تكون ذريعةً إلى غيرها, وسبيلاً إلى غيرها- لكنها على ما فيها أهونَ من الصورة الثالثة، التي اطلعت -مع الأسف أنها تحصل أحيانًا, وهي صورةُ الاختلاط الكلي والاندماج الكامل، بحيث تجد الرجل إلى جواره امرأة, ويتبادلون الحديث وغير ذلك, مع أن الواقع أن هذا الجو ليس جواً تعليمياً, ولا جواً تربوياً مهما كان الأمر.
وقد أدرك الغرب أن الاختلاط من أهم الأسباب في التأخر العلمي, ولذلك عمد الآن إلى الفصل بين الجنسين، ويوجد في أمريكا أكثر من مائتي جامعة غير مختلطة, لأنه أدرك أن العلم الصحيح لا يمكن الحصول عليه في جو مختلط, يوجد فيه الرجال والنساء بعضهم إلى جوار بعض, بل هذا الجو مثارٌ للفتنة، وسببٌ للإعراض، وسببٌ للعزوف، وسببٌ في انشغال بعضهم ببعض, وليس جواً تعليمياً ناضجاً.
ونحن نجد اليوم ونعلم أن الإنسان المتدين المستقيم، ذا الخلق الفاضل المتزوج, إذا وجد في مثل هذه الأجواء يشعر بالضيق، ويشعر بالقلق ويشعر بالتبرم، وبالتالي نفسيته غير مؤهلة ولا مهيأة لتلقي العلم، فكيف بغيره من الناس؟
فالله المستعان.
وهل نحن مطالبون بتطبيق النص النظامي حرفيًا؟
أم يكفي إزالة الأخطاء وبأي طريقة؟
الجواب: النظام كما هو معروف، هو من وضع البشر، بخلاف الشريعة فهي من عند الله تعالى, والله تعالى يقول عن القرآن: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] ولذلك الأنظمة الهدف منها الضبط الإداري, ضبط العمل, ومن الممكن أن يكون النظام صالحاً في هذا العام, ولكنه غير صالحٍ في العام القادم, أو من الممكن أن نكتشف أن هذا النظام أصبح غير مناسب, وبالتالي لابد من تغييره، إلى غير ذلك مما هو معروف.
فعلى الإنسان أن يدرك أن النظام له هدفٌ يجب السعي إلى تحقيقه, وهو الضبط الإداري, وضبط الحضور والانصراف, وضبط القيام بالعمل, وضبط احترام المراجعين, وضبط المحافظة على الممتلكات, وضبط حسن المعاملة مع الرؤساء أو المرءوسين، إلى غير ذلك من الأهداف التي يسعى النظام إلى تحقيقها.
فأنت كقائمٍ على موضوع تنفيذ الجزاءات، فيلزمك أن تراعي كل هذه الاعتبارات, وكل حالةٍ تقدر بقدرها، ويجتهد الإنسان المسئول في تطبيق ما يتعلق بها, ومن الصعب أن أقول لك: نعم أو لا.
لأن هذه قضايا عينية, قضايا واقعية تفصيلية, الكلام الذي أقوله فيها، مهما كان سيظل كلامًا عامًا، قد يستخدمه إنسانٌ بصورةٍ صحيحة وقد يستخدمه آخر بصورةٍ عكسية, وبالتالي أعتقد أن مثل هذا السائل ينبغي أن يتحرى، ولا بأس أن يسأل بنفسه بشكل مباشر، فيسأل بعض أهل العلم عن بعض الأمور، وبعض الأشياء، وبعض الجزئيات، وبعض التفصيلات؛ بحيث يملك بعض الوقت قاعدةً منضبطةً مضطردةً يطبقها.
فمثلاً: نحن نعلم جميعًا أن الظلم محرم في جميع شرائع الله عز وجل, بل وفي جميع قوانين البشر، والله تعالى يقول: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة} ويهدد الظالم بالهلاك في الدنيا، وفي الآخرة ويهدد بأنه يسلط عليه من هو أظلم منه, فأحيانًا قد أكتشف يقيناً بأن هذه الحالة ظلمٌ على هذا الإنسان لسببٍ أو لآخر، هنا ينبغي أن أسعى في دفع الظلم, وأحيانًا قد أجد أن هذا الشيء قد يكون إهمالاً أو تساهلاً أو تفريطًا, وأن التفريط في مثل هذا الأمر قد يغري هذا الإنسان بمزيدٍ من الإهمال, أو يغري غيره أيضاً بأن يسعى وأن يفعل مثل فعله, فكل حالة لها حكمٌ، وتقدر بقدرها، وأرى أن مثل هذا الأخ لو اتصل مباشرةً ببعض طلبة العلم، وسأل عن بعض التفاصيل؛ ربما كان أجدى وأنفع.
(توضيح السؤال من السائل) يقـول:
يا شيخ أنا لا أقصد الظلم! وإنما الإصلاح.
الأمر هنا كما ذكرت، أي أن النظام، وضع لضبط العمل، فإذا كان هناك في النظام؛ عقوبة مثلاً على من أخل بالعمل, عقوبةً معينة, وأخل إنسانٌ بحيث أصبح مستحقًا لهذه العقوبة, الأصل هو تطبيق هذه العقوبة عليه، هذا هو الأصل، وليس يعتبر في هذه الحالة ظلمٌ، بل قد يكون هذا الأمر لا بد منه من أجل ردعِ هذا الإنسان كما أسلفت, أو منع غيره أن يحذو حذوه فهذا أمرٌ واضح.
لكن يوجد أحيانًا ملابسات، بحسب ما اطلعت فيه على أجهزةٍ كثيرة, يوجد ملابسات وأحوال تستدعي أن القائم على مثل هذه الأمور التأديبية؛ أن يسأل ويستبين ويطلع على جلية الأمر وعلى حقيقته، فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه في هذه الحالة, لأنه حينئذٍ إما أن يظلم هذا الموظف؛ بأن يكون أوقع عليه عقابًا لا يستحقه، فيكون ظالمًا بهذا الاعتبار, وإما أن يظلم العمل الذي يقوم عليه؛ بتفويت العقوبة للمخطئ الذي يستحق العقاب، وتجريء الآخرين على أن يعملوا مثل عمله, وكلا الأمرين خطأ, فهو مثل الذي يمشي على طريقٍ دحض مزلةٍ وعرٍ، يتطلب أن يكون يقظاً، وأن يحرص على العدل والإنصاف بقدر ما يستطيع.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل لصاحب الفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة, على تفضله بحضور هذا الاجتماع مع أبنائه وإخوانه، فشكر الله له, وجعل هذا العمل خالصًا لوجهه سبحانه وتعالى, ونفعنا بما سمعنا، وشكر الله للمسئولين على حضورهم، ولكم أيها الإخوة أجمل شكر, وإلى لقاءاتِ الخير دائمًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر