إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والعشرون [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور...)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي ذر رضي الله عنه: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحه صدقة، وكل تكبيره صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر رواه مسلم ].

    هذا الحديث النبوي الشريف عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وتقدمت إشارة إلى ترجمة أبي ذر في ذاته وشخصه ومنهجه في حياته، وهنا يقول أبو ذر رضي الله تعالى عنه: إن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، قال: وكيف ذاك؟ قال: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، ولا مال لنا .. إلى آخر الحديث.

    في مستهل هذا الحديث: أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات: من فقراء المهاجرين أو الأنصار؛ قوم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبةً في الخير وغبطةً لإخوانهم، رءوا بعض المسلمين يتساوون معهم في العبادات البدنية من صلاة وصيام، وهذا الكل فيه سواء، ولكن الله امتن على بعضٍ آخر بسعة في الرزق ووفرة في المال يفيض عن نفقاتهم، ولهم فضل أموال يتصدقون بها، وهؤلاء ليس لهم أموال.

    الفرق بين الغبطة والحسد

    يبحث العلماء في الفرق بين الغبطة والحسد، فالغبطة محمودة، وهي مجال للمنافسة في الخير، وهي: أن تتمنى لك مثل ما لغيرك مع بقاء نعمة الغير عليه، أما الحسد: فهو تمني زوال نعمة الغير ولو لم تأت إليك، ولذا يقولون: الحاسد يحارب ربه؛ لأنه لم يرض بقسمة الله في خلقه، والله تعالى يقول: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32] ، والحسد يحمل العبد على أن يحتقر أخاه؛ لأنه ما تمني زوال تلك النعمة عنه إلا لأنه احتقره واستصغره مع تلك النعمة واستكثرها عليه، ويقولون: أول معصية وقعت إنما هي الحسد الذي جر إلى الازدراء، والازدراء من الناحية الأخرى أنتج كبراً، والكبر أدى إلى المعصية، والمعصية طردت من رحمة الله، وذلك في خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: فعندما أراد الله سبحانه وتعالى خلق آدم قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:31]، فقالوا على سبيل الاستفسار والاستيضاح: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، وفي النهاية: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [البقرة:34]، ثم بيّن موجب الاستكبار فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، ادعى لنفسه الأفضلية والخيرية على آدم.

    إذاً: حسد آدم على ما أنعم الله عليه: أن خلقه بيده سبحانه، ثم كرمه ونفخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة أن تسجد له، فكل تلك نعمٌ متضافرة على آدم، وإبليس استكثر هذا عليه، فهو يراه وهو يعجن في الطين، ثم يراه يسوى من صلصال، ثم يراه ينفخ فيه، وبين يديه تمت خلقه آدم، فاستصغر آدم واستعظم نفسه، فتكبر وجره الكبر إلى الامتناع عن السجود لأمر الله، وإن كان السجود تحيةً لآدم إلا أنه بأمر من الله، فهو طاعة لله وإن توجه لآدم أو لغيره، والله لا يأمر أحداً أن يسجد لأحد عبادة، وقد كان السجود في بعض الأمم تحية كما سجد أبوا يوسف وإخوته له تكريماً وتحيةً.

    يهمنا أن إبليس حسد آدم، ولما حسده ازدراه، ولما ازدراه تكبر عليه، ولما تكبر عليه امتنع من امتثال أمر الله، فوقعت المعصية، فكانت النتيجة البعد والطرد -عياذاً بالله!

    ولكن الغبطة ليست احتقاراً للمنعم عليه، ولا استكثاراً للنعمة على من هي عنده، ولكن طمع في فضل الله أن يعطيه مثلما أعطى الآخرين، ولا حرج على أحد في فضل الله، ولا يمنع أي إنسان من أن يرجو فضل الله، فالذي أعطى زيداً يعطي عمراً، ولكن حينما يكون القلب سليماً.

    أنواع العبادات

    هؤلاء الفقراء رءوا أن إخوانهم من المهاجرين والأنصار قد تساووا معهم في العبادات، فإذا نودي: حي على الصلاة حي على الفلاح كانوا معهم سواء، بل لعل الفقراء يسبقونهم إلى الصف الأول؛ لأنه ليس عندهم ما يشغلهم، والصوم كذلك، لكن العبادة -كما يقول الفقهاء- تنقسم إلى قسمين: عبادة بدنية، وعبادة مالية، وعبادة تجمع الأمرين وهي الحج؛ فالعبادة المالية مترتبة على وجود المال، فغبطوا أصحاب الأموال، وقالوا: (ذهب أهل الدثور) والدثور: جمع دثر، أي: أهل الأموال، ذهبوا بالأجر كله.

    (قال: وكيف ذلك؟) قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يتصدقون بها)، وإذا تصدقوا بفضل أموالهم حازوا على الدرجات العلى في الجنة، ونحن ما حصلنا معهم على شيء.

    الفرق بين النبي والرسول

    هذا الحديث يعطينا صورة لما كان عليه السلف الصالح من المسارعة والمسابقة إلى الخير، وما عجزوا عنه يطلبون بدله، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله!) لاحظوا جاءوا إلى من؟ إلى النبي، فقالوا: يا رسول! ولم يقولوا: يا نبي الله! ونجد أن العلماء يقفون طويلاً عند الفرق بين النبي والرسول.

    بعض العلماء اختصر وقال: النبي والرسول سواء، إلا أن النبي أعم والرسول أخص، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فكم من الأنبياء لم يرسلوا، ولا نعلم عنهم شيئاً؟ ولكن لم يرسل رسول إلى أمة إلا وقد نبئ!

    ويقال: النبي والنبيء كما يقرؤها ورش، فالنبيُ بالتسهيل، والنبيء بالهمز، وقالوا: النبيُ بالتسهيل من النبوة والارتفاع، تقول: نبا المكان ينبو نبواً إذا ارتفع، والنبيء من النبأ، وكلاهما صحيح، فالنبي مأخوذ من النبوة والارتفاع فهو في القمة والرفعة على الأمة كلها، ومن النبأ فهو قد جاء بالنبأ العظيم من الله رب العالمين، فكلا المعنيين صحيح.

    أما الرسول فيقول بعض العلماء في مصطلح الحديث: النبي من نبئ ولم يؤمر بتبليغ غيره، يعني: إرساله في نفسه، والرسول من أمر بدعوة غيره؛ لأن رسول تقتضي رسالة من مرسِل إلى مرسَل إليه، فيكون الرسول عمله متعدٍ لمن أرسل إليهم، فهناك مرسل وهو الله سبحانه، وهناك رسول وهو الذي كان نبياً، وهناك رسالة وهي الكتاب الذي جاء به، وهناك من أرسل إليهم وهم الأمة، والرسالة قد تكون خاصة وقد تكون عامة، كما جاء في الحديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي -وذكر منها- وكان النبي يبعث لقومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة).

    وبعضهم يقول: النبي من جاء بتجديد دعوة نبي أو رسول قبله ولم يأت بجديد من التشريعات، وإنما جاء يجدد دعوة رسول قبله.

    ذكر النبوة والرسالة في سورة الحجرات

    في أول سورة الحجرات نجد قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1]، وفي الآية التي بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ [الحجرات:2]، (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)؛ فالسورة جمعت بين الوصفين، وقدمت وصف الرسالة وجاءت بوصف النبوة، ولكن مع الرسالة: (لا تقدموا)، أي: لا تتقدموا بالتشريع والابتداع والاختراع، ولكن كونوا وراء رسول الله، إذاً: هو رسول في التشريع وفيما جاء به عن الله؛ فلا تتقدموا عليه في رسالته.

    إذاً: الرسول جاء برسالة وكونوا تبعاً له، ولا تتقدموا عليه واتقوا الله، وجعلها مع حق الله: (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)؛ لأن الرسول مبلغ عن الله، والمتقدم على السنة متقدم على الله، كأنه ابتدع من نفسه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

    ثم جاء في شخصية محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه في تكريمه في ذاته فقال: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)، وهنا أدب شخصي وتكريم ذاتي، أما هناك فكان احترام رسالة وتبليغ عن الله، إذاً: الرسالة عن الله، والنبوة في ذاته، فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] .

    ثم رجع مرة أخرى فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الحجرات:3]، فيبين أن التكريم والأدب لأي شيء؟ لأن هذا النبي هو رسول الله إليهم.

    وأحسن ما قيل في ذلك: إن النبي من جاء على سَنَن نبي قبله، والرسول من جاء برسالة جديدة لقوم جدد.

    ونجد علماء التفسير يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نبئ بسورة اقرأ، وأرسل بسورة المدثر: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، فقالوا: هذه ليس فيها تبليغ لغيره، ولكن يبدو -والله تعالى أعلم- أنه أرسل من أول وهلة بسورة اقرأ، لماذا؟ لأنه قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فهو سيقرأ قرآناً، لكن لمن؟! ولذا جاء بعده مباشرة في ترتيب المصحف بعد سورة اقرأ: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، أنزلنا ماذا؟ حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:1] ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] (أنزلناه) يعني: أنزلنا القرآن، (اقرأ) يعني: اقرأ القرآن، والقرآن إنما هو للناس كافة. إذاً: فقد نبىء وأرسل بأول الوحي.

    والذي يهمنا في هذا الحديث تلك المغايرة في الألفاظ، وإن كان من كلام الراوي وليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (جاء رجال إلى النبي فقالوا: يا رسول الله).

    حكم رواية الحديث بالمعنى

    جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما تمسك به بعض العلماء من ضرورة ذكر الحديث بلفظه دون معناه، والجمهور على جواز رواية الحديث بالمعنى لمن يعلم المعنى ولا يغيره، بخلاف القرآن؛ ففي حديث الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء النوم، وفيه: (قل: وبنبيك الذي أرسلت، فقال: وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا، قل: بنبيك الذي أرسلت) ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم ليلتزم باللفظ: (وبنبيك الذي أرسلت).

    ومما ينبه عليه العلماء: أنه إذا ورد اللفظ في الحديث فالأولى المحافظة عليه، وإلا فكلاهما يؤدي المعنى، وهذا مبحث أصولي عند علماء مصطلح الحديث، وذكرنا منه ما يلفت النظر، والحمد لله.

    دقة التوجيهات النبوية للفوز بالأجر من الله

    (قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، قال: وما ذاك؟ قال: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون)، المراد بالصدقة هنا: صدقة التطوع، وتشمل الزكاة ضمناً، ولكنهم غبطوهم على صدقة التطوع، فلما سمع ذلك منهم صلى الله عليه وسلم، وعرف أن هذا يثير الهمة عند المسلم، ويجعله يتطلع إلى مثل ذلك، وهذا من حقه، وفضل الله عظيم، فأرشدهم لا إلى طريقة لوفرة وكثرة العمل ليحصل على المال ليتصدق، ولكن أرشدهم إلى طريق آخر؛ لأن كسب المال ليس بالجهد ولا بوفرة العمل؛ لأن المولى سبحانه قال: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * ولِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:33-35] ، فزخارف الدنيا ليست مقياساً، فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ودرعه مرهون في صاع شعير عند يهودي! وكأنه يقول لكم: إن الدنيا بما فيها ليست هي المقياس؛ ولهذا يقول العلماء: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب (ما لا يتم الواجب)، أي: الذي وجب بالفعل، وما لا يتم الوجوب، أي: الذي لم يجب حتى الآن، ويحتاج في وجوبه إلى شيء آخر؛ فالصلاة وجبت، لكن لا تتم الصلاة، ولا يؤدى هذا الواجب الثابت إلا بالطهارة، فهل تصح صلاة بدون طهارة؟ لا، فلا يمكن لإنسان أن يؤدي الصلاة حتى يحصل على الطهارة، فالصلاة متوقفة على حصول الطهارة، والصلاة واجبة، فتكون الطهارة واجبة؛ لأن الواجب لا يتم إلا به؛ شخص فقير ولا تجب الزكاة عليه إلا بكسب المال، فإذا اكتسب المال وجبت عليه الزكاة، وشخص لم يمتلك زكاة فلا وجوب عليه، فهل نقول: عليك أن تعمل لتكتسب المال لتجب عليك الزكاة؟ لا، فما لا يتم الواجب المستقر إلا به فهو واجب؛ لأن الوجوب مستقر، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

    فهؤلاء لم يجدوا مالاً؛ ولم تجب عليهم زكاة، ولم يطالبوا بالصدقة، فليس بواجب عليهم أن يسعوا ويعملوا ويكتسبوا ليتوافر عندهم نصاب لتجب عليهم الزكاة؛ ولذا لم يوجههم للعمل والكسب، مع أن الإسلام يحث على العمل والكسب وعلى التصدق؛ فوجههم إلى عملة أخرى سهلة غير صعبة، تمشي في جميع الأسواق الدنيوية والأخروية، العملة التي تتداول في جميع الدول العالمية ثلاثة أقسام: عملة محلية إذا خرجت من حدودها لا قيمة لها، وعملة عالمية لها رصيد مائتين في المائة في البنك الدولي، والعملة المحلية هي التي لا رصيد لها، الدولة أنزلتها في الأسواق من أجل أن تسكت الناس وتمشي معهم، والعملة التي لها رصيد مائة في المائة فقط أو أقل من مائة في المائة تمشي، ولكن بعض الدول التي لها تعاهد وصلة مع تلك الدولة التي أصدرتها تتأثر عملتها زيادة ونقصاناً بحسب ضمانها عند البنك الدولي؛ فهذه هي العملة الجديدة التي وجههم إليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعوضهم عما فاتهم.

    ثم قال لهم: (ألا أدلكم على شيء تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من وراءكم، إلا من عمل بمثل عملكم؟)، عندما يقول لهم: أدلكم على شيء تلحقون به من سبقكم، ماذا يريدون أكثر من هذا؟! قالوا: نعم، قال: (تسبحون دبر كل صلاة)، وصلاة هنا نكرة تعم جميع الصلوات المفروضة، ولكن ما دام في أعقاب الصلاة فتكون لصلاة معينة لا على الإطلاق، فبعد الصلوات الخمس المكتوبة: (تسبحون ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وتسبحون تحمدون تهللون، يقول العلماء: هذا من باب النحت، سبّح بمعنى قال: سبحان الله، حمّد قال: الحمد لله، كبّر قال: الله أكبر، حوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، استرجع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه ألفاظ منحوتة، تدل بلفظ على جملة.

    فرح هؤلاء بما وجدوا من عملة جديدة ورصيد كبير جداً، ورجعوا فرحين بذلك، وحينما سمع الأغنياء بعطاء رسول الله لإخوانهم هل قالوا: هذا خاص بالفقراء، أم دخلوا معهم واقتحموا عليهم؟

    وسمع الأغنياء بما أعطى رسول الله لإخوانهم ففعلوا مثلهم، فعاد أولئك الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54]، هذا فضل الله، إن كان الذكر فهو عم الجميع، ولا راجع للمال؟ لأنهم الآن تساووا أيضاً في العبادة: بدنية، فعلية، قولية، والمال هو المتفاضل بينهم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

    علاقة الذكر بالتوحيد

    نرجع إلى هذا الحديث من جهتين:

    الجهة الأولى: تلك الألفاظ الخاصة بمعانيها.

    الجهة الثانية: هذا المنهج، وهذه الطريقة التي وجه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة من الناس، ودخلت معها غيرها.

    أما قوله صلى الله عليه وسلم: تسبحون، أي: تقولون: سبحان الله، وجمع بين سبحان الله والحمد لله والله أكبر، وتقدم قريباً حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض).

    إذاً: تسبحون وتحمدون، وهناك بيّن لنا النووي : أن سبحان الله ثوابها وحدها يملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، وفي الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).

    يقول العلماء في هذين اللفظين: (سبحان الله والحمد لله): هما جماع تنزيه المولى سبحانه وتوحيده، وجمعا غاية خلق البشر؛ لأن الغاية من خلق البشر هي كما قال الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وسر العبادة في تنزيه المولى سبحانه، وتوحيده في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.

    وتوحيد الربوبية: الإقرار لله بالربوبية للعالم، وهذا هو الذي تقر به في كل ركعة عندما تقرأ: (رب العالمين).

    وتوحيد الألوهية: هو إفراد المولى بالعبادة؛ لأنه ما دام أنه رب العالمين، وأنت فرد من العالمين مخلوق لله، مرزوق منه تحت رعايته، فهو الذي يستحق العبادة، ولا يحق لك أن تصرفها لغيره؛ ولذا تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] .

    وتوحيد الأسماء والصفات في: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3-4] .

    فالتسبيح تنزيه المولى عن كل نقص، والتحميد إثبات صفات الجلال والكمال لله؛ ولذا يقولون: مادة اللغة العربية أول ما توضع توضع للمحسوس ثم تنتقل للمعنوي، مثلاً: لو سمعنا الأذان والإذن والمأذون والآذن كلها راجعة لحاسة الأذن؛ لأن المؤذن يلقي الكلمات في أذنك، والآذن يعلمك بإذن الآذن، والمأذون ألقيت في أذنه أنه أذن له وكل هذا راجع لهذه المادة، والمعاني كثيرة في هذا.

    فقوله: سبحان، يقول علماء الصرف: سبحان على وزن فعلان، وأصل الميزان الصرفي: فعل، ويزاد في الميزان بقدر ما يزاد في الموزون: فسبحان على وزن فعلان، إذاً: سبحان من سبح، وزيد الألف والنون فكانت على وزن فعلان، إذاً: المبدأ الأساسي في مادة سبحان هي: السين، والباء، والحاء، سبح، مثل: غفر، تقول: غفران. قالوا: وهذا يظهر قوة اللغة وترابطها وتكوينها من أسر وجماعات.

    فإذا وجدت المادة تتفرع وتتعدد في مسميات، فاعلم أن كل مشتقات تلك الكلمة بينها صلة رحم، فمثلاً: سبح، ما معنى السباحة؟ أن يعوم في الماء، ومتى يعوم في الماء؟ إذا كان الماء غزيراً، ولماذا يسبح في الغزير؟ لينجو من الغرق، فكذلك الذي يسبح الله إما لينجو من مهلكة عدم تنزيه الله أو من ورطة تشبيه أو نقص لله، أو يسبّح الله كأنه يبعد الله ويجنبه من كل ما لا يليق بجلاله عز وجل.

    والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756294766